`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمود سعيد

- تميزت لوحاته بالتركيز على البعد الثالث بإبراز الإضاءة وتجسيد الأشكال والطبيعة الحية والتعبير الحسى الواضح للموديل التى يختارها مثل إبداعه فى لوحات ( بنات بحرى ، بنت البلد ، ذات الجدائل الذهبية ) وغيرها .
الناقد / كمال الجويلى


-الضوء فى أعمال الفنان محمود سعيد ليس ضوءاً تقليدياً.. وإن كان مصدره الشمس أو شمعة أو مصدراً صناعياً .. لكونه آتياً من منابع مختلفة ويسرى فى دوامات الفراغ على هيئة انعكاسات للحزم الضوئية التى تتجمع ثم تتجزأ وبالتالى تتهجن فى وجوه وأجساد ومراكب وسماوات وسحب محمود سعيد بعد أن تشبعت بروح الفنان واندمجت فى ذاته، ونكتشف يوماً بعد يوم أن الضوء حالة باعثة وجاذبة وكاشفة للون وموجاته، فالضوء يكشف لنا الموجات اللونية البصرية للون الأصفر، كما يكشف لنا الموجات اللونية للون الأزرق على سبيل المثال، ومع اختفاء الضوء تدريجياً تختفى معه -بالتوازى- الموجات اللونية الصادرة من اللون نفسه بفعل الضوء المباشر .. لذلك عندما تختفى الشمس لا نرى شيئاً .. وعندما يسطع القمر تبدأ حدقة العين تتسع وتتآلف وتتكيف مع ضوء القمر السحرى الهادىء وتبدأ فى اكتشاف الأشياء بنفس مقدار الأشعة الضوئية للقمر .. وعندما ندخل المدينة فى وجود تباين بين الظلام والضوء، تبدأ العين تتكيف من جديد بقياسات نسب الضوء المتواترة فى المدينة، فقد عالج محمود سعيد الضوء الذهبى فى لوحة الصلاة بذكاء شديد حيث تتابعت الأشعة الضوئية على الأعمدة والعقود فى متواليه ذات إيقاع بصرى موسيقى صوفى مدهش، وومضات الضوء المتراصة على منظومة الأجسام الراكعة فى حوار أفقى ورأسى متجانس .. والمثير للتأمل أن جميع المصلين يرتدون زياً موحداً باختلاف وتنوع الألوان، والجميع يرتدون عمامات بيضاء مسلَّط عليها شهب ضوئية قوية وكون الظلال -عليها- آتية بفعل قوة الضوء إلاَّ أنها تشع طاقة ضوئية، ويأتى ذلك أيضاً بتجاور اللونين الأصفر والأزرق المتباينين والتواتر والتكامل بينهما فى نفس الوقت، ودرجة الأزرق الناتجة جعلت منه ضوءا مقابلاً للضوء الأصفر مما أحدث انجذاباً بصرياً تجاه الرأس، تعبيراً عن الدماغ التى تحمل جهاز الاستشعار المحرك للعقل والجسد .
أ.د./ أحمد نوار
جريدة الحياة - 2004
طاقة الصلاة .. طاقة روحانية تسمو على مادية الإنسان
- هذه اللوحة للفنان السكندرى الكبير محمود سعيد رسمها عام 1946 أى منذ أكثر من ستين عاماً لرجل بسيط فى وضع الصلاة جالس فى سكينة وخشوع وصفاء داخلى رغم مظاهر عاصفة لليلة شتوية بالقرب من شاطئ الإسكندرية حيث افترش لصلاته .. وهذا المنذر بعاصفة أعلى اللوحة وأعلى البحر مخترقاً سماءه هو نفسه ما يوحى وكأنها إشعاعات مضيئة تنفذ عبر السحب تأتى من خلف ظهر المصلى من عمق اللوحة إلى المقدمة كأنها تنطلق به لأعلى بينما هو راسخ فوق الأرض مستغرقاً بين يدى الله.. ليكون فى اللوحة تمثل جميل لحالة بين الحركة والسكونية تفصلهما المياه.. وأيضاً بين الحالة المنبئة بالعاصفة الخارجية والحالة الروحانية الداخلية .
- لتضج اللوحة بطاقة روحانية تسمو على مادية الإنسان الراسخة فى الأرض بطاقة الصلاة وروحانيتها التى جعلت المشهد فى لوحة محمود سعيد يتهادى بين المادية أسفل اللوحة وطاقة الإشعاعات المضيئة أعلى اللوحة .
- وقد استطاع الفنان رغم واقعية اللوحة بكل تفاصيلها من الكشف عن حالة صوفية مخبأة وراء الملابس البالية ووراء استسلام الجسد والكفين وانسدال الجفون فى حالة من الخشوع الروحانى المنسلخ عن مادية أو نتيجة حالة من الانتقال الروحانى بفضل حالة الصلاة وخشوعها المستسلم الآمن .
- وهذه الحالة وهذا الاستسلام الآمن بين يدى الله من الصعب وصفهما أو تصوير تلك الحالة اللامرئية والتى نجد بعضاً من دلائلها من الخارج أما الداخل فهو مغمور فى قلب الصلاة ذاتها وهو أروع من أن تدركه العين تفصيلاً لتترجمها فى ألوان وخطوط لأنه لا يستشعرها إلا المصلى ذاته.. وحين يرسم الفنان هذه الحالة الروحانية فإن مصدره الوحيد هو استحضار ما يستشعره أثناء صلاته والتى تجعله مخلصاً شوقاً وخضوعاً إلى الملأ الأعلى.. وقد كان الفنان محمود سعيد لديه قدر من الروحانية تمثلت فى العديد من لوحات المصلين التى رسمها ومقرئى كتاب الله وحلقات الذكر والدراويش هذا رغم ما كان لديه من قدر كبير من مادية مفرطة فى العديد من لوحات رسمها لموديلاته .
فاطمة على
جريدة القاهرة 31 - 8 - 2010
طاف فى حلقات الذكر وأنصت إلى الترتيل.. دراويش محمود سعيد
- ما بين سلك القضاء وفن الرسم قضى عمره، وبين الطبقة الأرستقراطية التى ينتمى إليها والناس الشعبيين البسطاء من الفلاحين والصيادين رسم لوحاته، سيطرت عليه حالة من التصوف والتأمل فى جماليات الكون والطبيعة والإيمان إلا أن جمال الفتيات السمراوات خلب لب الفنان داخله بأجسادهم الخمرية الذهبية وملامح وجوههن البارزة ونظرات عيونهم الفاتنة، فرسمهن كما لم يرسمهن أحد من قبله أو بعده وبدت فتيات ذوات جمال مصرى شهى الأجواء المتناقضة التى عاش حياته من خلالها انطبعت على إبداعه الفنى وجعلت من الفنان محمود سعيد الأغلى سعراً فى سوق الفن التشكيلى العربى، الرقم القياسى الذى حققته لوحته `الدراويش`عند بيعها فى مزاد نظمته دار `كريستيز` للمزادات بإمارة دبى جعل الكثيرين يعيدون التفكير فى سمات الفن التشكيلى المصرى الحديث.
- ملايين ` الدراويش ` البالغة 2.54 مليون دولار أمريكى والتى جعلت من اللوحة هى أغلى لوحة لفنان عربى حديث على الإطلاق ليست هى الملايين الوحيدة التى تحصدها إحدى لوحاته ، رغم أن القيمة المقدرة للوحة فى البداية كانت تتراوح ما بين 300، 400 ألف دولار ، ففى أبريل الماضى تم بيع لوحته `الشواديف ` بـ 2.43 مليون دولار والتى قام برسمها فى عام 1948، اللوحة تتميز بالمصرية الشديدة وتتضمن مجموعة من الفلاحين يمارسون الرى بالشادوف الذى يرجع تاريخه إلى أيام الفراعنة، كان من المقرر لها فى بداية المزايدة من 150 حتى 200 ألف دولار فقط، اللوحة كانت ضمن 25 عملا فنياً امتلكها محمد سعيد الفارسى الحاكم السابق لمدينة جدة السعودية البالغ من العمر 75عاما، والمشهور عنه ولعه بالفن المصرى الحديث منها خمسة أعمال لمحمود سعيد.
- ولد محمود سعيد فى 8 أبريل عام 1897 بمنزل والده محمد باشا سعيد رئيس وزراء مصر آنذاك، بحى بحرى بجوار مسجد المرسى أبو العباس،أسرته ثريه ألحقته بالمدارس الأجنبية، مدرسة فكتوريا ثم الجيزويت، وبحلول 1914 كان قد أتم دراسته الابتدائية وحصل على شهادة الكفاءة، فألحقه والدة بمدرسة السعيدية بالقاهرة .
- تعلم سعيد الرسم على يد مدرسته أمليا كازوناتو دارفورنو ، ومس بلاك بورن، وبعد أن حصل على البكالوريا من مدرسة العباسية الثانوية عاد للإسكندرية ليتعلم داخل مرسم الفنان الإيطالى أرتو زابييرى بشارع النبى دانيال وهناك تعرف على شريف صبرى شقيق الملكة نازلى وابن خالته أحمد راسم الذى أصدر أول كتاب بالفرنسية عن فن محمود سعيد عام 1937ويعد من أوائل نقاد الفن فى مصر .
- وافق والد سعيد على سفره إلى باريس بعد حصوله على ليسانس الحقوق الفرنسية لدراسة الفن بالقسم الحر بأكاديمية جراند شوميير لمدة عام، وعاد فى عام 1922 ليتزوج من سمية رياض التى رسمها فى لوحاته هى وابنته نادية كما صور أحفاده وأصدقاءه، وكان خالا لملكة مصر السابقة فريدة التى تمت ولادتها فى منزله الذى تحول إلى متحف لمقتنياته بمنطقة جناكليس.
- أول لوحة اقتنتها الدولة منه كانت لوحة `الرسول ` التى صور نفسه فيها ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث،فى الوقت الذى عمل فى سلك القضاء،الذى استقال منه وهو فى الخمسين ليتفرغ للفن تماما، حصل كأول فنان على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون من الرئيس جمال عبد الناصر فى عام 1960، توفى فى عام 1964فى نفس ميلاده عن عمر يناهز الـ 67 داخل منزله الذى يضم اليوم 50 عملاً من لوحاته الفنية .
- سعيد رسم أفراد عائلته منهم لوحة لوجه عمه محرم ( 1918 بألوان زيتية على أبلاكاش ) كما رسم شقيقته فى عدة لوحات منها ( فتاة بمظلة حمراء ) وهى من المجموعات الخاصة التى يمتلكها الأفراد، ولوحة (عازفة البيانو) لشقيقته وأخرى لزوجته ولابنته نادية، رسم أمه وخالته وأصدقائه مثل `أحمد راسم` و ` أحمد مظلوم` كما رسم نفسه عدة مرات فى مراحل عمرية مختلفة، أشهرها لوحته فى المرسم.
-إجماع فنى على قدرة محمود سعيد على التعبير عن الجمال المصرى، رغم أن أسلوبه ينتمى للمدرسة الأوروبية الذى يتميز بالبناء المتوازن وكثافة الألوان والظلال وغموض الإضاءة نظرا لتلقية فن الرسم من خلال مراسم الأجانب فى العشرينيات بالإسكندرية، علاوة على سفره المتكرر لأوروبا من ايطاليا وفرنسا وهولندا وسويسرا وبلجيكا وإسبانيا .
- سعيد دخل عالماً مختلف الرؤى من خلال رسمة لخصوصية الروح المصرية د.أحمد نوار رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق أكد على تأثر محمود سعيد المباشر بها قائلاً : ` لو قارنا لوحات سعيد بلوحات وجوه الفيوم لنرى أنها تتميز بنفس الروح، بل إن رؤيته شملت التقنية العالمية ولكن بروح أصيلة، فهو من الذكاء الذى جعله يضيف العناصر المحلية المميزة للبيئة المصرية، وضرب ` نوار ` مثلا بالفنان أحمد صبرى الذى عاصر سعيد قائلا: أحمد صبرى ذاب فى الشخصية الأوروبية ولم يستطع تأكيد شخصيته كمحمود سعيد فى أعماله، مشيراً إلى تفرد شخصية سعيد وفكرة ولونه الفنى الذى ميزه عن غيره من معاصريه .
- وعن لوحة `الدراويش ` أكد ` نوار ` أنها أهم لوحاته نظرا للبناء الحركى الظاهر بها للدراويش والذى خلق لحظة التألق والتى يتم تدريسها للطلبة بل إن بها طاقة إحساس عالية لا مثيل لها.
- رسم المناظر الطبيعية، شط الإسكندرية، نيل الأقصر، جبال القصير، الريف المصرى، بنفس القدرة على رسم الشخوص المحيطة به والعاملين عنده مثل لوحة `الأسطى فرج `، وإن كان من أهم لوحاته ما رسمها للفتاة المصرية السمراء مثل `بدرية` و `نبوية ` و `نعيمة ` وغيرهن من البنات الشعبيات ذات الجمال المتوحش المصرى والعيون العسلية اللامعة والبشرة الخمرية الساحرة، رسم لهن لوحات منذ عام 1927 وحتى منتصف الخمسينيات، `ذات الرداء الأزرق`، و `بدرية `، ` ذات العيون العسلية `، ` ذات الأساور الزرقاء `، `فتاة بمنديل`، كما رسم بنات بحرى فى عدة لوحات `بنات بحرى` و `جميلات بحرى` ثم جمعهن فى لوحته الشهيرة `المدينة` و `المعروضة حاليا فى متحف الفن الحديث بدار الأوبرا .
- كما رسم بعض الطقوس والشعائر الدينية مثل `الصلاة `، `الذكر`، `المقرئ فى السرادق`، التى عكست حالة التصوف التى عاش بها الفنان برغم طبيعته الأرستقراطية والتى بدت بوضوح فى رسمه لعائلته وأصدقائه، لكن عشقه المجتمع المصرى البسيط جعله يرسم أجمل لوحاته فى الإسكندرية رشيد والمنصورة والريف المصرى، فرسم لوحة `الأسرة ` فى عام 1938 و `الجزيرة السعيدة ` و `الحمار` `قبو باكوس برمل الاسكندرية ` `وفى الخريف ` خلال فترة العشرينيات، و `حمام الخيل بالمنصورة` فى عام 1930، و `الصيد العجيب` و`الصيادون فى رشيد عام 1940، و1941 كما رسم النيل عند الغروب فى الأقصر `عام 1944، والإسكندرية فى الليل`، و `مرسى مطروح عام 1947، وأسوان وعدة مناظر للجبال فى مصر ولبنان وأوروبا، ومن أشهر لوحاته لوحة `حفل افتتاح قناة السويس` التى رسمها فى عام 1947 وهى ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث .
عشق فى الدراويش صوفيتهم.. وعشق
فى بنات بحرى توحشهن وخمريتهن ..
- ورسم للدراويش لوحتين الأولى فى عام 1928 بعنوان `الدارويش دراسة ` ألوان زيتية وهى ضمن المجموعة المملوكة لأحمد مظلوم، والثانية رسمها بعدها بعام واحد بعنوان `الدارويش - المولوية ` وهى كانت من مجموعة د.سعيد الفارسى، الأولى تضم ثلاثة دراويش يطوفون حول نفسهم بالطريقة الصوفية والثانية تحوى مجموعة من الدراويش بزيهم الأبيض وطربوشهم الأحمر الطويل يرقصون داخل تكية الدراويش على شكل دائرى.
- أقام الفنان معارض خاصة خلال حياته منها معرضان بمدينة نيويورك عام 1937، ثم فى أتيلييه الإسكندرية، كما نظمت جمعية محبى الفنون الجميلة معرضا شاملا له بأرض المعارض بالجزيرة عام 1951 ضم 145 لوحة من أعماله وآخر فى متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ضم 120 لوحة بمناسبة حصوله على جائزة الدولة للفنون فى عام 1960، وكان آخر المعارض له بعد وفاته أقامته وزارة الثقافة فى عام 1991 بمركز الهناجر، أما المعارض الجماعية فقد شارك فى الكثير منه أهمها مشاركته فى الجناح المصرى بمعرض باريس الدولى وحصل فيه على الميدالية الذهبية عام 1937، كما شارك فى معرض مصر بمتحف اللوفر، بينالى فينسيا، معرض الفن المصرى بموسكو، وغيرها من المعارض داخل مصر وغيرها.
- يذكر أن مجموعة الفارسى التى تم بيعها فى دبى ضمت 30 عملا لرواد الفن المصرى فى القرن العشرين أمثال محمود سعيد وراغب عياد وعبد الهادى الجزار وحامد ندا وسيف وانلى وأدهم وانلى وادم حنين، وبلغ إجمالى مبيعات المجموعة 6.73 مليون دولار .
أمانى عبد الحميد
2010/11/ 3 - المصور
مقتنيات شيرويت شافعى فى كتاب
- مجموعة من لوحات الفنان المصرى محمود سعيد اشترتها شيرويت شافعى فى تسعينات القرن الماضى من سيدة مصرية تقيم فى باريس .
- ومثلت تلك الأعمال نواة لمجموعة لوحات تمتلكها شافعى جعلت منها واحدة من أشهر مقتنى الأعمال الفنية فى مصر والشرق الأوسط .
- وتروى شافعى رحلتها مع هوايتها فى كتاب مصور من الحجم الكبير صدر حديثاً عن قسم النشر فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة تحت عنوان ` الفن المصرى فى القرن العشرين `.
- الكتاب باللغة الإنجليزية وكتبت له المقدمة الدكتورة منى أباظة، ويمثل سيرة ذاتية للسيدة شيرويت شافعى ورحلتها مع الفن منذ عملها فى التليفزيون المصرى أوائل الستينات وحتى بداية تكوين مجموعتها الخاصة مطلع التسعينات من القرن الماضى .
- ويسلط الكتاب الضوء على أعمال عدد من المبدعين المصريين، ويعد شاهداً على فترة من أزهى فترات الإبداع التشكيلى المصرى، خصوصاً أن شافعى معروفة بقربها من الكثير من الفنانين المصريين وعاينت من قرب لحظات تألقهم وإبداعهم من خلال أحد أشهر البرامج التليفزيونية الذى ظلت تقدمه طوال ثلاثين عاماً وهى فترة عملها فى التلفزيون المصرى.
- تقول شافعى : ` لم يكن لدى أى معلومة أو اهتمام بالفنون التشكيلية، حتى بدأت العمل فى التليفزيون المصرى كمعدة ومخرجة لأحد البرامج الخاصة بالفن التشكيلى فقد كان على أن ألتقى الفنانين المصريين وتسجيل أحاديثهم، ومنذ ذلك الحين بدأ عشقى يتنامى للفن التشكيلى ورموزه ومنهم الفنان محمود سعيد والذى سجلت معه أولى حلقات البرنامج الذى كنت أقدمه حينها `.
- يضم الكتاب صوراً لأعمال لم تعرض من قبل لعدد كبير من الفنانين المصريين .وخلافا للوحات محمود سعيد النادرة توجد أعمال أخرى لمحمود مختار وحامد ندا وراغب عياد والأخوين وانلى وتحية حليم وغيرهم .
- وتروى شافعى فى الكتاب ذكرياتها ورحلتها مع اقتناء الأعمال الفنية منذ أول لوحة اقتنتها للفنان حامد ندا، قائلة : ` أول عمل فنى أقتنيه كان لوحة للفنان حامد ندا، وكنت أعرفه جيداً، لأنه كان صديقاً لزوجى، حينها كنت أعمل فى التليفزيون المصرى، ولم يكن يدور فى ذهنى جمع كل هذه الأعمال التى لدى، ولم نكن نفكر أنا وزوجى مطلقاً فى هذا الأمر، كنا مجرد موظفين لقد بدأ الأمر كله معى بمحض الصدفة.فقد اتصلت بى ذات يوم سيدة مصرية تعيش فى باريس وهى ابنه لأحد الباشاوات المشهورين قبل الثورة، وأخبرتنى أن لديها مجموعة من لوحات الفنان محمود سعيد وتود أن تبيعها لى `.
- وتضيف : ` كانت هذه فرصة كبيرة ساقها لى القدر جمعت ما استطعت من مال وحولته لها فى فرنسا وحين أرسلت الأعمال كانت مفاجأة، لأنى وجدت أمامى مجموعة رائعة، ومن يومها بدأت علاقتى بجمع الأعمال الفنية ولم أتوقف حتى اليوم ` .
- وتوضح : `ومع الوقت تمرست على هذا الأمر وأصبح لدى من الخبرة ما يخولنى الحكم على العمل الجيد أو غير الجيد وما ساعدنى على اقتناء كل تلك الأعمال هو أنى لم أكن أشترى فقط بل كنت أبيع وأشترى ولكنى كنت أحتفظ فى النهاية لنفسى بأفضل القطع التى أعثر عليها `.
- وعن أكثر الأعمال قربا إلى قلبها، توضح : ` أستمتع كثيرا بكل الأعمال الموجودة وأسعد لحظة لى هى التى أجلس فيها إلى جوارها ولكننى أجد فى أعمال حامد ندا ومحمود سعيد متعة خاصة لا تضاهيها أى متعة أخرى، فأعمال سعيد على سبيل المثال، كما يقول عنه الفنان والناقد الراحل رمسيس يونان، تحمل سحراً يتجدد كل يوم فهى أعمال لا أمل من رؤيتها أبداً وأستمتع بها فى كل مرة أنظر إليها `.
- وتضيف : ` لقد بهرنى الفنان محمود سعيد بشخصيته حين التقيت به فى بداية الستينات لأنه كان إنساناً فى غاية التواضع والأخلاق العالية وما زال يبهرنى بفنه وإبداعه حتى اليوم ` .
ياسر سلطان
2011/1/6 - الحياة
تلاوة القرآن الكريم ..شحن القلب والروح
- لوحة `المقرئ فى السرادق` 1960 للفنان الرائد الكبير محمود سعيد 8 أبريل 1897 - 8 إبريل توحى بأجواء روحانية حاملة لصوت يذكرنى بالقارئ الجليل الشيخ محمد رفعت.. اللوحة يتوسطها مقرئ داخل سرادق يجلس فوق دكه مرتفعة مستغرقاً فى التلاوة لكلمات الله الشريفة لنستشعر فيها كثافة روحانية اللحظة.. ويجلس إلى يمين المقرئ مقرئ آخر ينتظر ربما دوره للتلاوة وقد أحنى رأسة كأنه يستمع بكيانه كله وليس بأذنيه.. والى جوار دكه القراءة إلى يمن اللوحة يجلس شيخ آخر وقد أحنى رأسه مستمعاً خاشعاً.
- الشيوخ المقرئون الثلاثة مرتدين للزي الأزهري `الجبة` و`العمامة` وفيهم حالة من الاستغراق الممتع المتأمل لكلمات الله عز وجل.
- المشهد المادى الملموس بكامله ينتقل الى حالة روحانية.. وقد رسم الفنان المشهد فى اهتمام كبير بالعنصر الزخرفى فى الخلفية وجعل دوائر ومنحنيات العناصر الزخرفية تجد لها صدى فى المنحنيات العديدة لأكمام ملابس المقرئون خاصة أكمام ملابس القراء واستدارات عماماتهم كما اعتمد الفنان على الإيقاع الموسيقى المتهادى بتلك الانحناءات الزجاجية طولاً الى أسفل مقدمة الدكة الخشبية الجالس فوقها المقرىء..وليبدو لنا المشهد بكل عناصره يتجاوب ويكمل الحالة الروحانية المتهادية فى نعومة توحى بسلام وانسجام هادى الإيقاع يشمل المشهد بشخوصه وأوضاعهم.. لكن مع التأمل نستشعر أن المشهد والمقرئون يتهادون بين السكون والحركة.. بين سكونية أوضاعهم الجسدية وحركية اتجاهات ملابسهم وانسياباتها وتوقع صدور لفتة منهم أو حركة بين كل سكنه بين آيات الله الكريم.
- مشهد اللوحة يدعو للتأمل الروحى فى امتزاجه بالعنصر الزخرفى للفن الإسلامى رغم شدة الإضاءة الداخلية إلا أن روحانية المشهد تجعل الكلمات تنتشر عبر المشهد حتى نكاد نستشعر إيقاع التلاوة والسكتات بين آيه وأخرى.. وهذا التقابل بين الحركة والثبات والسكون المقطوع ثم المتصل بين تلاوات الآيات نراه يبدو كتفاعل جدلى يمثل جوهرة الوجود أو يمثل تبادلية الظاهر والباطن.
فاطمة على
القاهرة - الثلاثاء 7/ 8/ 2012
إبداعات مصرية .. العائلة
- رسم محمود سعيد لوحة العائلة عام 1936 وهو فى قمة نضجة الفنى ويظهر فيها بجلاء عناصر لغته الفنية و شخصيته المصرية المتفردة وعالمه الفنى شديد الخصوصية.. البناء المعمارى الشامخ والنزعة التحليلية الهندسية لمسطح اللوحة.. الضوء الداخلى الذى يشع من اللوحة معاكسا تلك القتامة التى تغلفها.. الوجوه الأخناتونية والأجساد الصلبة الملفوفة فى استدارات وتكويرات كأنها تماثيل فرعونية قدت من حجر.. ثم تتجلى نفحة العبقرية فى هذه النزعة الحسية التى تتبدى فى هذا الحس الإنسانى الذى تتفجر به شخوصه خاصة من النساء اللاتى يسيطر عليهن شبق ربة الإخصاب ووجد وحنان الأم الراعية والربة الحامية فى آن واحد .
- تصور اللوحة عائلة من أبناء الأرض من الفلاحين .. أب وأم ورضيع .. التكوين الهرمى قاعدته تحتلها الأم الجالسة على الأرض تحتوى رضيعها بين ذراعيها تلقمة ثديها الممتلئ بالوفرة والخير ..وأعلاهما ينتصب الأب سامقا أقدامه على قاعدة الهرم ورأسه فى قمتها وكأنما يمثل التكوين التدرج الهرمى فى العائلة الرجل فى قمة الهرم تليه المرأة ثم الأبناء.
-علاوة على التضاد بين مكانى الرجل والمرأة فى القمة والقاعدة فى التكوين فقد خلق الفنان تضادات أخرى.. فالمرأة فى كامل هيئتها.. الفستان الأزرق والملاءة السوداء ومنديل الرأس وحتى الكردان الذهبى يلف عنقها.. تكويرات جسدها وألوانه الساخنة المضيئة تشي بجسد بض يحاكى فى غضاضته جسد الرضيع الذى تردد تكويراته جسد أمه وتجعل الجسدين يتوحدان فى كتله واحدة .. أما كتلة الرجل فهى منفصلة نسبيا وهو شبه عار إلا من إزار يلف وسطه وطاقية تغطى رأسه وكأنه فى هيئته فلاح أتى إلى اللوحة من رسم حائطى لمقبرة فرعونية.. التفافات جسده المحبوكة وألوانه النحاسية القاتمة تعطى مظهر من يعمل يومه فى شمس مصر الحامية ليكسب قوته بقوة ساعديه، وإمعانا فى تأكيد هذا فقد جعله الفنان يثنى ساعده ويتكئ على إحدى ساقيه كمن يستريح من عناء عمل شاق .
- وبرغم أن الوحدة بين الكتلتين كتلة الأب وكتلة الأم والطفل تأتى من الإطار الخارجى للهرم إلا أن ما يوحدهما بقوة هو ذلك الشعور الحسى الذى يتجلى فى إيماءة رأسيهما ونظرات أعينهم الحانية الموجهة للطفل اللاهي عنهما بطعامه.
- خلفية اللوحة تظهر عالم محمود سعيد فنان المنظر الطبيعى المصرى كما صورة فى العديد من لوحاته.. الخطوط الرأسية للنخيل، تتعارض بحدة مع خط الأفق وتتحاور مع الخطوط المحورية لشاطئي الترعة لتخلق العديد من المثلثات والمستطيلات التى تتناغم لتخلق هذا العالم شبه الأسطورى .
- مثل أى فنان فذ يسيطر باقتدار على لغته الفنية يجعلك محمود سعيد تتجول فى اللوحة كما يريد.. يقودك إلى حيث توجد مكامن التعبير لتتوقف عندها وتنهل من عبيرها.. خطوط القوى الرئيسية يمينا ويسارا تنزلق صاعدة إلى أعلى قمة الهرم حيث رأس العائلة.. من يمين الصورة حيث الجاروف المغروز فى الطين تصعد عبر الفخذ ثم تنحرف مع الساعد لتتوقف برهة عند المرفق ثم تكمل طريقها صاعدة إلى الرأس وهنا تقودها إلى أسفل نظرة العين مرورا ببروز الأنف وتدبيبة الذقن إلى رأس الأم التى تقودها بدورها من خلال استطالتها ونظرتها إلى أسفل إلى حيث رأس الطفل وهنا تجد العين مرادها وتستقر فى هذه المساحة الرحبة وتكتشف أن العين قد تتجول هنا وهناك فى فضاء اللوحة إلا أنها تعود دائما كما لو كانت مشدودة بخيوط لا مرئية إلى الأم والطفل.. هنا إذن يكمن مفتاح اللوحة.. الخصوبة والعطاء والمستقبل الواعد الذى يتشكل.. وهنا أيضا نجد أن المعنى يتجاوز الهيئة المرسومة ليصبح أعم وأشمل .. إيزيس وأوزيريس وحورس.. أو العائلة المقدسة فى رحلتها سعيا إلى الأمان فى أرض الكنانة.. أو قل هو الأمل الأبدي لبنى البشر فى ظهور المخلص الذى يحقق الخير والعدل .
سمير فؤاد
القاهرة - الثلاثاء 11/ 9/ 2012
موديلات محمود سعيد
- إن محمود سعيد يختار ( موديلاته ) وفق نموذج للجمال مستقر فى وعيه، وهو يبحث عن أقربهن إلى هذا النموذج فبينهن جميعاً شئ مشترك متشابه حتى فى مقاييسهن الجسدية، ومن الطريف إن بالإطلاع على بعض الصور الفوتوغرافية لنماذج النساء اللاتى رسمهن محمود سعيد نجد أنه هو الذى أجرى هذا التحوير، هو الذى حولها لتلك المرأة الخارقة ذات النظرة المحدقة التى تعتز بكونها أنثى.. قوية غير مستكينة تحمل روح الطبيعة وعنفوانها.. تلك النظرة الجريئة التى لانجدها أبداً فى تصويره لبنات أسرته وأفراد طبقته الراقية .
- إنه لا يقدم نموذجاً للجمال الإغريقى أو الأوروبى، بل ينتمى لمقاييس إفريقية الملامح، ونسب أجسادهن تقترب من نسب المرأة فى منحوتات تل العمارنة, وتذكرنا بفتيات كهوف أجانتا الهندية وهى تذكرنا أيضاً بتماثيل الحوريات فى النحت الهندى ( نماذج ) تلك التماثيل التى وصفتها الكتابات النقدية الغربية على إنها إباحية لحد بعيد - كما وصفت عاريات محمود سعيد - فى حين أن مفهومها في المعتقد الهندى القديم كان أكثر سمواً وروحانية، فالأديان القديمة عرفت عبادة الخصوبة وكانت تعنى بقضية الخلق والولادة والتناسل، وربط الإنسان البدائى الجنس بقوى سحرية تحميه من الشر والموت والفشل وتجلب له السعادة والرخاء .
-هذه المرأة الساحرة القادمة من أرض الأساطير ومن قلب الخيال الإنسانى القديم والصورة الثابتة للغريزة قد شغلت محمود سعيد ومثلت أيقونة عشقه الأولى التى أبدع أجمل الأعمال وهو متطلعاٌ إليها.
- إن بنات محمود سعيد لسن رقيقات كبنات ` بوتشيللى ` ولا مسترخيات كبنات ` أنجر ` ولا حالمات كبنات `رافاييل`، لكنهن قويات ذاوات إرادة، متحديات وجريئات أجسادهن يشدها عصب الحياة إن فتاته ليست مذنبة كحواء ` مازاتشيو ` بل هى مزهوة بطبيعتها البشرية الأرضية ولا هى متزينة تستعرض جمالها للاستحسان كحواء ` تيتسيانو ` ولا سطحية باردة كفتيات ` تينتوريتو ` ولا هى من سبايا ` روبنز ` .
- إن امرأته لها قوة كقوة الطبيعة وضراوة كضراوتها، فهي ليست دمية جميلة ساذجة كبنات ` بوشيه ` ولا لاهية بمتع الحياة وزخرفها كبنات `فراجونار ` و` رنوار ` إن نساءه لسن بائسات هزيلات كزرقاوات ` بيكاسو ` بل هن نحاسيات لفحتهن شمس جنوبية ` أجسادهن كقوالب قدت من طين جنوبى محروق هن ماكرات كبنات ` جويا ` ، قويات البنية كبنات ` مايكل أنجلو ` ، ناضحات بالخصب كبنات كهوف ` أجانتا ` الهندية ، متوحشات بدائيات كبنات `جوجان ` التاهيتيات. مأسويات حزينات النظرة كبنات `موديليانى` (نماذج ) هؤلاء هن `ربات حسن ` محمود سعيد، ذوات الحسن النافر ، وتلك هى المرأة الشعبية التي تختال بملاءتها اللف كملكة وتدب الأرض بثقة وحضور وتلتمع عينيها بقوة لاتعرف الانكسار ونتأمل نموذجاً لما سبق في عمله ` بنت البلد ` حيث تأتلق في ردائها الذي تهدل كاشفاً عن صدرها.. النظرات مستقرة ثابتة، بنية الجسد قوية ممتلئة، الخلفية سماء تبرق بضوء قمرى، بينما يوحى المشهد بابتعاده من خلال حجم النساء الأخريات على الشاطئ والمراكب، لكننا نشعر أن السماء قريبة يلتمع ضوئها ليباري الضوء المنبعث من جبهة المرأة ولمعان عينيها، تتوازى خطوط السماء مع خطوط غطاء الرأس، العينان تنظران إلى شئ غير موجود، كأنها تنظر لعالم أخر ، وفى حين خفض الفنان حدة الضوء أعلى وأسفل الصورة لتتألق المرأة فى حضورها البهى نراه على جانب أخر يضع بحساب لمسات على حافة رداء المرأة على اليمين ترتبط بلمسات فى غطاء رأسها ابتسامتها ليست ابتسامة فرح لكنها ابتسامة قبول مطمئنة واثقة وروح تمتلك قوة هادئة ناعمة ما تلبث أن تتسرب خلالنا .
أ.د / أمل نصر
صفحة الناقدة على الفيس بوك - 4/ 1/ 2015

لقد كان الفنان `محمود سعيد` ممن لقوا فى التأثيرية اسلوب تعبيرهم الأول، ولكن سفره الى هولندا وايطاليا وفرنسا واليونان كان درساً أعمق بكثير من دراسات المراسم، فلمس عند الإيطاليين من عصر النهضة وخاصة فنانى البندقية وروما اللون واستهواه كثير من أعمال فنانى أوروبا الشمالية الأوائل. كذلك كانت الأضواء المدهشة التى تشع من لوحات رمبرانت لها تأثير خاص، واحس عند سيزان شكل التكوين والتوازن والفراغ والاحجام، كما كان للنحت المصرى القديم والعمارة أثرهما فى تكتيل اشكاله وشخوصه. استطاع محمود سعيد بعد فترة ان يهضم كل هذه المؤثرات ويحقق المواءمة بين إبداعه الفنى ومجتمعه. اى بين ما يملكه من أدوات تعبير ورؤية وموضوعات محلية يصيغها فى قالب معاصر.
وتجىء مجموعته المعروفة باسم (بنات بحرى 1935) ومن (حاملة القلل من النافذة) الى (المدينة) الى (الأسرة)، تلك البانورامات الشعبية الرائعة، وكذلك مجموعته التى تتناول الشعائر الدينية مثل لوحات، `الصلاة والذكر عام 1934- 1936- 1941` وكذلك موضوعات العارى والبورتريه والمناظر الطبيعية... الخ تعبيراً قوياً مصرى الملامح نتعرف عليها من بين العديد من الأساليب والاتجاهات المصرية المعاصرة. تلك الملامح التى انعكست فى أسلوب صياغته وتجلت فى حبه للكتلة وفى متانة الأداء وقوة التكوين، وفى هذا القالب الفنى الذى جمع بين صياغة كبار أساتذة الفن فى أوروبا وبين الصياغة المصرية القديمة. لقد استطاع سعيد أن يصور أعماق مصر وأن ينقل طبيعتها فى لوحاته نقلا شعرياً رمزياً تجلت فيه صور المرئيات خلال أحاسيسه ومن وراء نفسه حول هذه اللوحات البارزة بمواضيعها البانورامية الشعبية المختلفة يمكننا ان نلمس أصداء هذه المواضيع فى رسومه التى سجلها من الطبيعة او من الذاكرة والخيال ومدى علاقته بها. ففى واحدة من لوحاته بعنوان العائلة 1935 نرى أن الكروكى المصاحب لها كان قد أعده الفنان عن نموذج حقيقى عام 1928. دون تفكير، ثم جرى استغلاله فيما بعد فى لوحة متكاملة للعائلة وهو فى هذه الحالة يكاد يكون رسم الكروكى غاية فى ذاته، وهذا يحدث كثيرا على سبيل مواصلة التمرين لدى الكثير من الفنانين، لكن عندما فكر سعيد فى رسم لوحة `العائلة` احضر كروكى الام وقام باستغلاله بأن أضاف صورة الأب الفلاح فى اللوحة المنتهية.. وبمقارنة العملين، الكروكى المنفذ بالريشه والحبر الأسود، والصورة المنتهية يبدو بوضوح الفرق بينهما. فى الكروكى يتجلى حذق الفنان كرسام يعرف كيف يسجل بالخط إحساس اللحظة فى سرعة ودقة النموذج الذى أمامه فى الوضعة والحركة المناسبتين، وهو ما نراه فى وضعه الأم `الفلاحة` وحركتها، وحركة الطفل فى وضعيه المختلفين.
يذكرنا هذا الكروكى الحيوى بالتسجيلات الخطية السريعة الآسرة ` لرفاييل` فى العذراء والطفل`.
أما فى اللوحة ذات التكوين الهرمى، نرى أن وضعه الام أو الفلاحة مشابهة للكروكى الى حد كبير مع إجراء بعض التغيرات أو التعديلات فى الحركة والملامح. كما تبدو مهارة الفنان فى بناء اللوحة من عناصر منتخبة من الطبيعة. وفى مثال آخر لمواضيع او مشاهد من الذاكرة والخيال كلوحات `الذكر والزار والمستحمون`..الخ يستعين فيها الفنان بدراسات تحضيريه منفذة بالألوان الزيتية لموضوعات او مشاهدات سبق له أن أثارت اهتمامه وانفعل بها. عن علاقة هذه اللوحات بالدراسات التحضيرية يقول: `سعيد` لم يكن يمكننى أن أتحمل القيود التى يفرضها على وجود موديل أمامي، كذلك لم أكن أستطيع أن أتوصل إلى وحدة الشكل، لو انه كان هناك موديل أمامى لأرسم ثم ارسم ما يحيط به فى هذه اللوحات - الذكر والزار والمستحمون.. ليس عندى مركز ابدأ منه لانتهى إلى المحيط. أنا ارسم اللوحات دفعه واحدة ابدأ بوضع كتل ألوان. وكلما مرت بضعة أيام اجدنى اصل الى درجة من الوضوح أعلى من سابقتها، وفى البداية يسود الغموض وبالتالى لا أستطيع أن أضع خطوطاً انظر إلى الدراسة التحضيرية `للذكر 1935` و`العمل النهائى` نجد ان اهتمامه ينصب على التعبير باللون والضوء والحركة والحجم ففى هذه المواضيع يقول سعيد ` أنا أبدأ باللون لأننى لا أرى الخط، أرى اللون فقط هذه فكرة وجدتها عند سيزان واقتنعت بها ليس فى الطبيعة خط، هناك أحجام وعلاقتها مع أحجام أخرى قريبه منها هى التى تكون الخط، لذلك نجد أن اكثر الكروكيات أو الدراسات التحضيرية التى رسمها للوحاته مرسومة بالألوان الزيتية لا بالقلم. ففى لوحة ثالثة بعنوان `الصيد فى مرسى مطروح عام 1961` تدرجت عن كروكيات ناقصات واحد بالأبيض والأسود والثانى بالألوان نتيجة انفعال بصرى بقيم اللون والضوء فى مرسى مطروح، اما عن سبب الكروكى الذى يقصد منه أن يتركه ناقصاً أو بدون أن يكتمل وهو أمر ليس بجديد - ذلك لكى يظل فى حالة هيجان او حماس مستمر، ويظل قادراً على الفرح باكتشاف الحلول أثناء تصوير اللوحة، فهو إذا حل كل المشكلات فى الكروكى، فلن يرسم اللوحة، ستكون المسألة بعد ذلك مجرد تقليد أو نسخ مع التكبير لما ورد فى الكروكى، ينطبق هذا التفسير على كروكيات المواضيع بشكل خاص مثل، `بنات بحرى وذات الجدائل الذهبية `... الخ ..أما الكروكيات التى يسجلها من الطبيعة ويقصد منها المنظر الطبيعى على وجه التحديد غالباً ما تكون مشابهة الى حد كبير اللوحة المنتهية فما يضيفه اليها هو التكبير والتوضيح، انظر إلى كروكى الصيد فى مرسى مطروح 1961، والصورة المنتهية للمنظر وحجم التشابه الدقيق بينهما فى التكوين من حيث تماثل كل مفردات الصورة من عناصر ثانوية ورئيسية وكذلك من حيث إيقاع الأضواء فى مرسى مطروح 1961، والصورة المنتهية للمنظر وحجم التشابه الدقيق بينهما فى التكوين من حيث تماثل كل مفردات الصورة من عناصر ثانوية ورئيسية وكذلك من حيث إيقاع الأضواء الموزع فى المناطق المختلفة، صحيح أن الكروكى بطبيعة الحال يتميز بطزاجة اللمسة ودفء الحس وخشونة الملمس والبعد عن التفاصيل، وهو بقياس الزمن علاقات من الأضواء والنغمات اللونية والأحجام، وهذه القيم يحرص على تسجيلها سعيد فى كروكياته حتى لا تكون مشاكل الصورة كبيرة.
أما عن اللوحة المنتهية فهى من حيث البناء محسوبة ومتوازنة إلا أن مقارنتها بأعماله الفنية الأخرى ذات المواضيع تجعلها فى مستوى اقل وخاصة إذا أضفنا انه ليس من طراز مصورى المناظر الطبيعية الأقوياء يوسف كامل، وكامل مصطفى وحسنى البنانى وأدهم وانلى وغيرهم، غير انه من الملاحظ ان محمود سعيد عندما كان يخطط لمنظر طبيعى فى عجالة كان يدون بعض ملاحظاته بالفرنسية على الرسم مثل خواطره الخاصة او تحديد بعض مناطق الألوان.. الخ نظراً لضيق مساحة الوقت لديه ولأنه أيضاً ليس معنياً بتسجيل المنظر تسجيلاً حرفياً.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر

- حين نشاهد لوحات الرسام المبدع: محمود سعيد، يخطر ببالنا أنه تشخيصى يحاكى الطبيعة وينقلها. الا أن الرجال والنساء والأطفال الذين يرسمهم، وحتى الحيوانات والمناظر الطبيعية والنباتات، تبدو كما لو كانت عالما خاصا به، لا يوجد على هذه الأرض، ولا فى هذه الدنيا التى نعرفها. عالم من الأحلام السرمدية، الباقية ما بقى الفنانون المبدعون الخلاقون كمحمود سعيد.
- أشخاصه ليسوا من دم ولحم مثلنا، لكنهم من طينة خاصة ذات ملمس نحاسى وبشرة صلبة لا يمكن اختراقها، وقوة هرقلية وقوام فارع، ونظرة ثابتة ترمى إلى بعيد... أبعد من الأفق. شخصيات أسطورية لا نعرف من أين أقبلت.
- هكذا أستطاع، أن يجعل من الوهم حقيقة، ويجسد اللامرئى ويحوله إلى واقع ملموس نراه رأى العين ولو أننا تأملنا مليا لوحته الصرحية الضخمة ` المدينة ` تواجه زائر متحف الفن المصرى الحديث، وما تحفل به نساء ممشوقات ممعنات فى الطول، ضاربات فى الرشاقة، مع اكتناز فى الأبدان، ذى مذاق مصرى صميم، لاجتذبتنا اللوحة على الفور إلى عالمها السحرى، وذهبنا مع هؤلاء الجميلات إلى حيث لا ندرى.
- بهذا يكون الرسام المبدع: محمود سعيد، أحد زعماء الحداثة، وأحد بناة الحركة التشكيلية فى بلادنا فى القرن العشرين، بذل أيامه وما يملك من جهد ومال وثقافة رفيعة، لكى يبهج قلوبنا ويمتع عقولنا. ولكى نتفاخر مع المتفاخرين فى روما وباريس وعواصم الثقافات المتقدمة بأن لدينا فنانين حديثين ذوى قامات شامخة، لا تقل رفعة عن أجدادهم، يضيفون إلى أمجادنا أمجادا، ويستكملون الطريق الحضارى الذى بدأه المصريون القدماء فعلموا البشرية بتماثيلهم وجدارياتهم، ما هية الفن وكيف يكون.
- من الطبيعى أن يختلف الفن الحديث فى مصر، عنه فى أوروبا وأى مجتمع آخر: شكلا وموضوعا ومضمونا وتوقيتا. لأن ثقافتنا تنبع من أصول مصرية قديمة واستمرار لها. وثقافتهم من أصول أغريقية ورومانية واستمرار لها. كما يختلف التوقيت الزمنى باختلاف سرعة التغير الثقافى. هكذا بدأ الفن الحديث الأوروبى فى نهاية القرن الماضى. حين ازاح الانطباعيون المفهوم الكلاسيكى للحقيقة الثابتة للمرئيات، واخضعوها للتغير الشكلى، تبعا لانعكسات النور والظل، والألوان الناجمة عن سقوط أشعة الشمس. أما فى مصر، فقد بدأت الحداثة فى الربع الأول من القرن العشرين، على يد الرواد المعروفين، الذى كان محمود سعيد من أهم أعلامهم، حين طرح مفهوما ثالثا لحقيقة المرئيات يختلف عن التغير الانطباعى والثبات الكلاسيكى. مفهوم نابعا من تراثنا وثقافتنا وأرضنا. ينطوى على أن للمرئيات والكائنات، جوهراً مغايراً لمظهرها الشكلى البسيط ، بالرغم من ثباته أو تغيره.
- من هنا أضاء محمود سعيد موضوعات لوحاته على هواه. لم يترك الأمر لأشعة الشمس أو سواها لتحليل الألوان وتحديد النور والظلال. وأجرى تحويرات على أشكال المرئيات، من البشر والحيوانات والنباتات ومشاهد الطبيعة. أعاد خلقها من جديد على نسق أصولها، لكنها لا تحاكيها محاكاة المرآة. لأنه يصور الجوهر الدائم وليس المظهر العابر. فحين يرسم فتاة مصرية لا يقصد صبية بعينها، وانما يصور الأنوثة المصرية تمشى على الأرض، فى حالة من الخصوبة والحيوية، تختلف فى جوهرها، عن الانوثة الاوروبية أو فى أى مجتمع آخر. استخلص فى لوحاته الخصوصية المصرية المعروفة بالهوية. فى شكل يناسبها، وتصميم وتلوين غريب على الواقع السطحى البسيط، الذى يبدو لنظرتنا العابرة. وحين يوشى لوحاته بأنماط من الدندشة اللونية، وأسلوب لا تخفى سماته الزخرفية، فالطابع الزخرفى تقليد لفنوننا عبر التاريخ: كمصريين.. وكشرقيين. واذا رسم فى بعض تكويناته حيوانات، فهو لا يقصد حمارا بعينه، وانما يصور الطيبة والاستكانة والاستسلام للأقدار. وفى لوحة ` القطة البيضاء`، أظهر جوهر الطبيعة القططية، بما تحمله من توجس وتحفز وخفة ظل وجمال . لا تخفى علينا الوشائج التى تربط بين سحنة القطة ، ووجوه الصبايا المتبرقعات، وملمس الفراء الذى يضفى على هذه التحفة المحكمة البناء، طابعا غريبا طريفا، يوحى بالنضارة، وبأنه حقيقة ماثلة نعيشها، بالرغم من تغير التقاليد والعادات، واختفاء البراقع ومناديل الرأس و`ملايات اللف`. أما المناظر الطبيعية والمراكب والجبال والأشجار، فكأنما يستحضرها الفنان من عوالم مصرية أيضا. أو يستخرجها من بين سطور القصص الشعبية، والأساطير وحكايات ألف ليلة. ليست الطبيعة الزائلة التى نعرفها، بل طبيعة ثانية هو خالقها ومهندسها يوشيها بكل طريف جذاب من العناصر والألوان. يختصر منها فى بلاغة ويضيف، فنستسيغ لمساته وندرك ايحاءاته، ونشاركه الحلم الذى عاشه منذ استقر على هذا الأسلوب المثير سنة 1927.
- ولد محمود سعيد فى الاسكندرية، وشب فى أسرة ثرية، على مستوى اجتماعى رفيع يقدر الفنون والآداب. تلقى فى يفاعته دروسا فى فن الرسم اشباعا لهوايته المبكرة فى مرحلة التعليم العام على يد فنانة ايطالية تزوره فى منزل الأسرة. وحين التحق بمدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة، لم تنقطع دراساته وممارساته الفنية، واختلف إلى المراسم الخاصة، التى كانت فى منزلة الاكاديميات الأهلية، ثم تردد على باريس - عاصمة الفنون حينذاك - حيث واصل دراساته فى بعض أكاديمياتها وشاهد المتاحف فى معظم بلدان أوروبا، وعشق أعمال عباقرة الفن عبر العصور، والكثيرين من الإنطباعيين والتعبيرين، الذين تأثر بهم وخاض تجاربهم الإبداعية، قبل أن يستقر على أسلوبه الخاص المثير، الذى اشتهر به فى نهاية العشرينيات.
- كانت الثقافة الفنية والممارسة الإبداعية والدراسات الأسلوبية هى شغله الشاغل، بالرغم من عمله الوظيفى فى النيابة العامة وسلك القضاء. لم يتوقف عن الرسم والتلوين واقامة المعارض الخاصة، والاسهام فى العروض العامة والحركات الفنية التقدمية مثل ` جماعة الفن والحرية `. هكذا لم يكن محمود سعيد رساما عاديا بل توفرت له كل عوامل الريادة والعبقرية، سواء فطرية أو مكتسبة. كان واسع الثقافة موسوعى المعرفة، غزير الخبرات متنوعها. لم يستهدف كسبا ماديا، وقد كفاه ثراؤه مؤونة الجرى وراء المال. ولا شهرة وقد انحدر من أسرة ذات حسب ونسب وجاه. انما هى جذوة أودعها الخالق أعماقه، ورغبات عارمة وموهبة، تدفعه دفعا لتجسيد رؤياه للحياة المصرية، وترجمة حيه لكل ما هو جميل ورائع فى عاداتها وتقاليدها، ومشاهدها الطبيعية، ترجم كل ذلك إلى هذه الصور المدهشة، التى تطالعنا فى المتاحف وبيوت المقتنين، لتزيح الستار عن الوجه المشرق للحياة المصرية، كما شاهدها صاحب الخيال الواسع والألوان السحرية، واللمسات المعجزة والتركيبات المعمارية المحكمة. أسلوب لم يسبقه إليه أحد هنا أو هناك.
- انعكست ثقافة محمود سعيد على ابداعه، فننصح بأعماق نفسية وفلسفية، تزداد وضوحا وتألقا كلما ازداد تأملنا لها. تبقى مشعة بالمعانى والمضامين على مر الزمان. وكم طرق الصور الشخصية (البورتريهات)، لكن أكثرها لا يصور الأقارب والأصدقاء، بل نساء شعبيات يتفجرن بالروح المصرية الحقيقية، التى يحملنها منذ آلاف السنين. أنشأ حياة جديدة فى لوحاته هو صاحبها، صادق أبطالها من النساء والرجال وسائر الكائنات، فأصبحت تكويناته هى حياته الحقيقية.
- السنوات العشر الواقعة بين عامى 1927 و 1937، تركت لنا ذروة عطاء محمود سعيد وأروع أعماله. وكأنه ما كاد يكتشف مفهوم الهوية المصرية على طريقته، ويصوغه بهذا الأسلوب الطريف الفريد، حتى مضى يبدع موضوعاته المنوعة فى طلاقة وغزارة، وشقت موهبته الفذة طريقها للظهور والتعبير عن نفسها. من أجمل ما أسفرت عنه تلك السنوات العشر، لوحات: حمام الخيل، المرأة والقلل، الصيد السحرى، جميلات بحرى، و ` ذات الجدائل الذهبية `، رائعته التى لا يخلو من صورتها مرجع فى الفن المصرى الحديث. صور فيها وجه فتاة مصرية شعبية الطابع. تبدو وكأنها كائن من كوكب آخر. عيناها الواسعتان تنظران إلى لا شئ. وجديلتان كأنهما منحوتتان بعناية، فى سبيكتين من الذهب الخالص، تحيطان بشفتين غليظتين ترسمان شبح ابتسامة. تكوين راسخ التصميم، بعيد عن أى تلميحات فجة.
- أبدع فى هذه الفترة، العديد من اللوحات الجذابة محكمة الرسم والتلوين والتصميم. اختتمها بلوحة ` المدينة ` العملاقة. زيت على قماش تتسع إلى أكثر من ثمانية أمتار مربعة. تلخيص بليغ وإعادة توزيع، لعناصر مختارة من لوحات سابقة، بينها `جميلات بحرى` و` راكب الحمار` و` المرأة والقلل `. ربما قصد بها تصوير حياة القاع الشعبى لمدينة الاسكندرية، على أيام السلم والإستقرار قبيل الحرب العالمية الثانية. تميزت هذه الصرحية بالتركيب المعمارى الراسخ، والنظم اللونية المؤتلفة، والايقاع الهادئ لمساحات الظل والنور، والجو السحرى الموحى بأنها صورة لحياة بعثت فجأة من جوف التاريخ. تحمل خليطا من أجواء مملوكية ومصرية قديمة وشعبية حديثة. أو لعله صور الحياة الشعبية، لأعماق الاسكندرية كما أرتسمت فى خياله المرح المبدع. مزيج من حياة الإنسان وكائنات أخرى، لكننا نألفها، ولا ندهش لفرط حيويتها، لو أنها غادرت براويزها وأقبلت علينا.. أو دعتنا لندخل إلى عالمها السحرى، المفعم بالإثارة والطرافة، الذى خلقه محمود سعيد بخياله الخصب.. وعبقريته الفريدة.
- .. محمود سعيد نسيج وحده بين رواد الفن الحديثين عندنا. لوحاته توثيق شاعرى لحياة مصرية، اسكندرية بنوع خاص. لكنها تنضح بروح الأرض والناس فى حقبة زمنية معينة، مقابل تشكيلى لروايات نجيب محفوظ وأشعار فؤاد حداد. حكايات وقصائد تشكيلية، ابدعها شاعر الألوان، ليروى واقعا أغرب من الخيال. ازاح بلوحاته الستار عن الوجه الطيب الجميل لأعماق حياتنا. أسلوبه فى الرسم وصياغته للتكوين، طراز قائم بذاته مفعم بالراحة والاطمئنان، ويثير فينا فضولا رقيقا، نتعرف به على أنفسنا من جديد. نشاهد من خلال لوحاته، حياتنا الانسانية التى تخفيها تفاصيل المشاغل اليومية. وتعيد إلينا تفاصيل أخرى، نسينا جوهرها الثابت، حين تغيرت القشرة الخارجية بفعل التطور الثقافى. لكن الجوهر بقى ليضئ الطريق، أمام أفكار أجيالنا الصاعدة، ويدعم ايمانها بالنفس والحياة، وبأن المصريين باقون ما بقيت الأيام، يمدون الانسانية، بمزيد من الثقافة والجمال.. شأن شعوب العالم. وبأن لنا هوية خاصة كما أن لهم هويات. لا يتغير جوهرها، وان اختلفت المظاهر باختلاف الثقافات..
تلك هى رسالة محمود سعيد.. التى أودعها روائعه الخالدة.،،،

بقلم : مختار العطار
من كتالوج متحف الفن المصرى الحديث 1992 - صندوق التنمية الثقافية - وكتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر ) الجزء الأول
محمود سعيد أول مصور فى تاريخ مصر الحديثة
- من أبرز خصال نفسه التواضع ، وشدة الحساسية ، وحب الناس ، وكلها خصال أعانته فى فنه على التأمل العميق فى كل ما كان يراه ويحيط به ، فعاش مشغولا بفنه فى كل مكان ، وفى كل لحظة من لحظات حياته ، وهو الرائد بفنه وخلقه
- ولد محمود سعيد فى إبريل من 1897 بمنزل والده محمد سعيد (باشا) خلف جامع المرسى أبو العباس بحى بحرى بالإسكندرية وتوفى يوم الاربعاء 8 إبريل من عام 1964 مثل ` رافايلو ` فنان النهضة الإيطالية الذى مات فى عيد ميلاده السابع والثلاثين يوم 6 إبريل عام 1520
- وشيع جثمان فناننا محمود سعيد فى يوم الخميس 9 إبريل من القصر الذى كان يسكنه بسان ستيفانو ، والذى حولته وزارة الثقافة إلى متحف ليضم أبدع بدائعه ، إستجابة إلى دعوتنا على صفحات جريدة الجمهورية فى 11 إبريل و 12 و 26 سبتمبر عام 1964 ، ولا يزال القصر يحمل اسم الفنان الكبير على الرغم من قلة ما يحويه من أعماله التى لا تمثل قدراته الفنية الفذة التى جعلته نجما ساطعا فى سماء مصر الحديثة ، بعد أن أعد نفسه دارسا فن التصوير بمرسم المصور الإيطالى ` ارتورو زانييرى ` لمدة ثلاث سنوات (1915 - 1918 ) ، إلى جانب دراسته القانون بمدرسة الحقوق الفرنسية تحقيقا لرغبة والده .
- وفى عام 1919 حصل على ليسانس الحقوق ، ووافق والده على سفره إلى باريس لزيارة متاحف الفنون ، وكرر زيارته فى صيف عامى 1920 و 1921 وإلحق بأكاديمية ` جيوليان ` التى تأسست فى عام 1860 لتساعد الراغبين فى الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة على الدراسة الاكاديمية ، وكان مقرها فى شارع ` دراجون ` كما تردد على مرسم ` الكوخ الكبير ` فى مونبارناس وكلاهما من المراسم الحرة .
- وفى عام 1922 تزوج من الآنسة سميحة رياض ، وعين نائبا لوكيل نيابة المحكمة المختلطة بالمنصورة ، ودأب والسيدة حرمه على قضاء فترة من صيف كل عام فى عواصم بلدان أوربا ، فزار إيطاليا ، وهولاندا، و بلجيكا ، وسويسرا ، وأسبانيا ، ولبنان ، وإنجلترا ، وباريس ، ووجد فى أمجاد فنون عصر النهضة فى إيطاليا ما أعانه على تحديد معالم مسيرته الفنية ، إلى جانب عشقه لفن النحت المصرى القديم ، وخاصة فى فنون عصر إخناتون بما تظهره من الصدق والصراحة فى التعبير ، بوحى من عقيدة التوحيد .
- وفى مناسبات كثيرة كان يطرى فنون ` فان آيك ` و ` مملنج ` و ` فان درفيدن ` و ` روبنس ` من مصورى الفلاندر ، والهولاندى ` رمبرانت ` والإيطالى ` جيوفانى بلينى ` ، كما كان لا يخفى إعجابه بالصور العارية التى أكثر من تصويرها المصور الفرنسى ` أوجست رينوار ` والإسبانى ` فيلاسكس ` .
- وكان محمود سعيد من أولئك الذين يجيدون الاستماع إلى إلهام أنفسهم ، ويشعرون بمتعة الإنفعال بما يرونه من بدائع ، ويحسنون تفقد وقعها ، وما تتضمنه من قيم جمالية بعناية ، وتفكير عميق .
- عاش محمود سعيد فنانا مرهف الحس من عام 1918 إلى عام 1964 ، لم تقعده فى أثنائها أعباء الوظيفة ومشاكل الحياة العامة عن ممارسة فنه ، وإبداع المئات من اللوحات التى تؤكد صدق هوايته ، حتى بلغ بفن التصوير فى مصر ما بلغه محمود مختار بفن النحت من عراقة وأصالة ، وكان أول من حصل على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون عام 1960.
- وعندما تفقد مرسمه بإذن من السيده حرمه - رحمها الله - وجدت لوحة بيضاء معلقة على حامل الرسم ومعدة لاستقباله - جريا على ما تعود ولكن يد القدر كانت أسبق إليه ، كما وجدت صحيفة الألوان` الباليت` وقد صفت عليها الألوان التى كان يفضلها ، وهى على الترتيب التالى :
أكر ذهبى - كارمين - روزمادار - اخضر برمانينت - أحمد كادميوم - أحمر هندى - أكر أصفر- أخضر اميرالد - طينة الظل - أصفر كروم - بنى فان دايك - أزرق كوبالت - الأبيض بنوعيه.
- من المعروف أن الناقد عندما يتحدث أو يكتب عن فنان تربطه به مودة وصداقة يكون مجاملا ومؤيدا ، ويجنح بطبيعته ، وبغير إرادته إلى الإطراء ، فلا تكاد عيناه ترى إلا كل ما يرضيه ، مهما تملكته نزعة النقد الموضوعى الهادف ، المترفع عن الأهواء ، والمتحرر من كل القيود ، وتكون العلاقة أكثر اتصالا لو أن الناقد يمارس عمليا نفس الفن الذى يتعرض له ، وفى هذه الحالة يكون على دراية تامة بالقيم الفنية التى يحسن تقديرها ، والإحاطة بها وتفسيرها ، ويكون نقده امتدادا منطقيا ، لا لغو فيه ولا خداع .
- وإلقاء الضوء على فن `محمود سعيد ` بعد تسعة عشر عاما على فراقه ، يدعونا إلى أن نذكر أول ما نذكر، أنه بلغ من الشهرة ، وعلو القدر فى فن التصوير ، ما بلغه المثال محمود مختار فى فن النحت ، وتذوق فنه لا يحتاج من الباحث سوى أنه يتريث ، ويحسن تأمل المراحل التى مر بها ، وأن يولى كل مرحلة من الاهتمام والتقدير الصادق ما هى أهل له ، حتى تتجمع لديه حلقات متكاملة عن سيرة الرجل الذى عاش لفنه كل حياته ، لا يشغله عنه شاغل .
- وكان محمود سعيد ينظم روائعه بالرسم والألوان فى أربعة مجالات ، وهى :
- الصور الشخصية
- المناظر الطبيعية (الريفية والبحرية)
- العاريات
- العادات والتقاليد الشعبية
- وفى كل مجال من هذه المجالات روائع تستوقف المتأمل لها ، وتستولى على وجدانه ، وإن اختلفت مواقف بعض المشتغلين بالفنون ، فمنهم من يكبر أسلوبه ، ويعرف قدراته فى المجال الأول دارسا ، ومحللا للشخصية التى يصورها ، ويسبر أغوارها ، ويتعرف على خصالها وطباعها المميزة للأطفال والنساء والرجال، من جميع الجنسيات ومختلف الأعمار، وفى كل منها يكاد الناظر يشعر كأنه يقرأ كتابا مفتوحا .
- وفى المجال الثانى يجد المشاهد للمناظر الريفية ، ومناظر البحر ، وشواطئ الاسكندرية معالم تربطه بالوجود الواقعى ، وأشخاصا يتعامل معهم فى الحياة.
- وفى المجال الثالث نشاهد عرضا لأجسام عارية ، تمثل جمال المرأة السكندرية ، بلون بشرتها الخمرية أو الزنجيات من ذوات البشرة المائلة للسواد ، وجميعها يرجع عهده إلى الثلاثينات والأربعينات ، ولها أنماط وسمات توحد مختلف المدارك الحسية، فى نطاق الواقعية الجديدة (نيورياليزم)، التى تعلق بها ليحقق مشتهياته الذاتية ، بأسلوب أقرب إلى تسجيل واقع الموجودات ، في أوضاع مسترخية ، متنوعة الحركات ، وكان يمارس هذا الفن فى مرسم صديقه المصور اليونانى الجنسية ` انجيلو بولو ` الذى حبب إلى محمود سعيد أن يخوض هذا المجال ليظهر براعته فى تصوير الأجسام العارية ، كشأن كل فنان أكاديمى النزعة ، وكمفتاح للطريق الذى يوصله إلى تحقيق ذاته ، وبأسلوبه المبتكر ، وأظهر محمود سعيد براعته فى تصوير تلك النماذج التى كان يأتيه بها صديقه اليونانى ، وهى التى وصفها صديقنا الفنان محمد ناجى ، بأنها تبدو كالمطاط المنتفخ ، لشدة حرصه على إظهار استدارة الأعضاء ، التى ينساب الضوء على سطحها الأملس متدرجا ، إلى أن يتلاشى فى الظلام المحيط بالأجسام التى يميل لون بشرتها إلى السواد .
- وفى المجال الرابع نشاهد تسجيلا للعادات والمعتقدات ، والتقاليد الشعبية ، مثل ` صلاة الجمعة ` و ` زيارة القبور` و ` حلقة الذكر ` و ` الزار ` و` السوق ` و ` بنات بحرى ` و ` المقرئ ` وكلها من وحى الحى الشعبى الذى نشأ فيه ، على سماع صوت المؤذن للطلاة ، ونداءات الباعة الذين يتنافسون على ترويج سلعهم بأصوات رنانة ، ذات رجع موسيقى مميز ومحبب إلى أسماع الكبار والصغار . وكان لهذه البيئة الشعبية تأثير واضح على فنه فى شتى المواضيع التى صورها مع بداية العشرينات ، بعد أن أكمل تدريبه فى مرسم المصور الإيطالى ` أرتوروزانييرى ` لمدة ثلاث سنوات ، إلى جانب دراسته القانونية بمدرسة الحقوق الفرنسية ، ومن بينها نذكر صورة ` هاجر ` و` الأسطى فرج ` و ` محمد الصغير` و` المنشد فى المقهى ` ، وصورة خالة أحمد مظلوم باشا ، والبارون فوكيه ` ولوحات أخرى كثيرة أتمها بين عامى 1921 و 1923 .
- وكانت أولى محاولات محمود سعيد فى تصوير العاريات لوحة تسمى ` على الوسادة الزرقاء ` ومؤرخة فى عام 1927 ، ولوحة أخرى باسم ` المستحمة ` وبدأها فى عام 1925 ، وأتمها فى عام 1935.
- وبدأ نضجه الفنى يبدو فى عام 1930 ، وأكتمل فى السنوات التالية متجددا ، ومتطورا ، ومتساميا بأسلوبه الواقعى الذى التزم به ، فتارة نراه يميل إلى جانب المتصوفين ، وتارة تفتنه الحياه بحسنها وسحرها ، وتارة أخرى تراه متساميا بعواطفه الإنسانية النبيلة ، ولكنه لم يكن أبدا فاقد السيطرة على نفسه أو نازعا إلى ما ينم عن الفجور .
- ومن الأمثلة الدالة على صدق منهجه الواقعى لوحة ` يوسف وهبة باشا ` 1931 وفى نفس العام نراه مفتونا بقدرته على إظهار محاسن جسم المرأة فى ثلاثة أوضاع ، على لوحة ` المستحمات ` وهو موضوع كلاسيكى تناوله ` بوتيشيلى ` (1445 - 1510) على لوحته المشهورة ` الربيع ` كما تناوله غيره من مصورى القرن السابع عشر مثل المصور الفلامنكى ` بيتر بول روبنس ` (1577 - 1640) ، والمثال الايطالى ` لورنسو برتينى ` باسم الظريفات الثلاث .
- ولكن فناننا محمود سعيد استطاع معالجة هذا الموضوع بأسلوب ينفرد فيه بإظهار الأجسام القوية الراسخة ، والتماثل في حركة الأعضاء ، والتكوين المتماسك ، الذى يشغل حيزا مغلق الحدود ، ليحافظ على وحدة المجموعة ، محققا بذلك القانون المعروف باسم ` دوريفورو` أو حامل الرمح ، فى التمثال الذى يحمل اسم صانعا الأغريقى` بوليكليتو` .
- وبلوحة ` المستحمات ` بدت معالم جديدة فى معالجة أعضاء الأجسام المستديرة ليزيدها أنوثة وحيوية وليونة .
- واستمر محمود سعيد صاعدا بفنه على عشرات من اللوحات التى أتمها فى الثلاثينات ، ومنها نذكر لوحة ` حمام الخيل بالمنصورة ` 1930 ولوحة ` دعوة إلى السفر ` 1932و ` ذات الجدائل الذهبية ` و ` الشادوف ` و ` فاطمة ` 1933 و ` الراقصة ` و ` صلاة الجماعة ` 1934 و ` العائلة ` و ` حلقة الذكر ` وصورة الفنان ` إنجيلو بولو ` والمهندس ` نيقولايدس ` و ` الجميلات الثلاث أو بنات بحرى ` 35/1936 و ` نادية بالرداء الوردى ` و ` المدينة ` و ` القط الأبيض` و ` السيدة فاوستا تيرنى ` 1937 و ` السيدة ماريا كفاديا ` و ` الأسرة ` وحرم الدكتور جواد حمادة 1938 و ` الزار ` و ` الرقص فى الكابارية ` 1939 و ` المقرئ فى السرادق ` و ` سيدة مطلقة من النافذة ` و ` المصور اليونانى ليتساس ` 1940 .
- وفى الأربعينات نجده أكثر إشراقا ، بعد أن تسرب الضوء على لوحاته التى تمثل غالبا المناظر الطبيعية فى مصر ولبنان ، فخفف من ثقل الألوان القائمة التى كان يستعين بها فى الأماكن الداخلية ، بين جدران المراسم ، ومن بين لوحات تلك الفترة نذكر لوحة ` الصلاة ` و ` الصيادون فى رشيد ` و ` الهجرة ` 1941 و ` عقد الكهرمان ` و ` رقص شرقى ` و ` نادية بجوار النافذة ` 1942 و ` على الاريكة الخضراء ` و ` ذات الحلى ` 1943 و ` عارية على الوسائد ` و ` الصيد فى زوبعة على الكورنيش ` 1944 والكثير من اللوحات لمناظر الطبيعة فى لبنان فيما بين عامى 1944 و 1957 و ` ذات الحزام الذهبى ` 1945 و ` العاطل ` و ` نادية بالرداء الأبيض` و` خليج السلوم` و ` ذات الأساور الذهبية` 1946 و ` الوسادة الخضراء` و` جزيرة فيلة بأسوان ` 1947 و ` فتاة على الكرسى ` 1948 و ` مدينة مرسى مطروح ` 1949 و` ذات المنديل الأصفر ` و ` منزل روميل بمرسى مصروح ` و` زاوية الأموات بالمنيا ` و ` ذات الأساور الزرقاء ` و ` المسجد بمرسى مطروح ` 1950 .
- وفى الخمسينات صعد محمود سعيد بفنه فى مجالات متنوعة من التطور والازدهار ، نراها فى لوحة
` المينا الشرقية بمرسى مطروح ` و ` الملاحة والشاطئ بمرسى مطروح ` و ` مناظر فى لبنان ومحاجر حماطة بالبحر الأحمر 1951 و ` نبوية ` و ` الطريق إلى بيروت ` 1952 و ` مناجم الفوسفات ` و ` جزيرة فيلة بأسوان ` و ` ذات الحلق المرجانى ` و ` ميناء بيروت ` و` البقاع بلبنان ` و ` أمومة ` 1953 و ` بعد المطر بلبنان ` و ` ميناء بيروت ` و ` تل الصنوبر` و` البقاع ` و ` تل الكرزل بلبنان` و ` ظهور الشوير ` 1954 و ` منظر بأسوان 1955 و ` دير برمانا بلبنان ` و ` حرم إسماعيل مظلوم ` 1956 و ` القناة الكبرى بالبندقية 24/1957 و ` ضاحية فى استوكهولم ` و ` الجليد فى استوكهولم ` 1957 و ` قرية ظهور الشوير ` و ` حمام كليوباترا بمرسى مطروح ` 1959 و ` حفيدا سميحة وسعد الخادم ` 1960 .
- وفيما بين عامى 1961 و 1964 ، قام بزيارات لجزر اليونان ، وصور الكثير من المناظر البحرية ، منها لوحة لميناء سيرا ، وكان آخرها لوحة صغيرة لباخرة صغيرة بجوار مرساة الجزيرة ، بعد رحلة سعيدة لم تخل من معاناة منبئة بالنهاية المحتومة ، وخاتمة المطاف .
بقلم : محمد صدقى الجباخنجى
مجلة : إبداع (العدد 2 ) فبراير 1983
محمود سعيد فى ذكرى ميلاده المئوى (الرجل - الموقف - الدور)
- عندما تساءل البعض أمام محمد محمود خليل بك صاحب البصيرة الثاقبة والمجموعة الفنية النادرة لماذا لا تضم مجموعتك أعمالا للفنانين المصريين قال:
- سمعت فى يوم ما بفنان مصرى انتحر لأنه فشل فى حل إحدى المعضلات الفنية أو انتحر فى إحدى الأزمات العاطفىة، إن الفن الحقيقي لا يتحقق إلا بتأثير من دافع حيوي كهذا؟
- كان ارتباط الإبداع بمثير متأزم وباختيار سيكلوجى قاس شرط أساسى لبلورة تجربة حقيقية وعدم الوقوف عند حدود التنمية المعلوماتية والمهارية لصناعة الصورة والتمثال، واتباع القواعد والتقاليد الراسخة، أو حتى التلاعب بالعناصر والتكوينات والرموز وموضوعات التعبير لإنتاج مجموعات من اللوحات الجميلة، كان مطلوباً ما هو أكثر من ذلك، أن تشتعل جذوره قدرية لا يختارها الفنان ولكن يدفع إليها بأقداره تعتصره وتمزقه ويتجاوب معها بسجيته وشقائه، ويرسف فى أغلالها كجواز مرور إلى عالم الإبداع الحق.
- وحياة محمود سعيد تمثل نموذجا دراميا لهذه الحالة النفسية الممزقة بين حياة الأرستقراطية والجاه والنفوذ، وهو ابن ناظر النظار الباشا رئيس الوزراء، واختصاص الحقوق، ومهنة القضاء بمتطلباتها المرجعية التى تطوى العاطفة لصالح اللوائح وما تحتويه الأضابير والمستندات من ناحية، وحبه للفن الذى ملك عليه كيانه واستغراقه فى معايشه والتعبير عن أبناء الطبقات الكادحة فى ورعهم وفى جموحهم الحسي وفى كفاحهم وفى انكسارهم وفى شممهم، وفى تأملهم وفى صخبهم، وفى العوالم التى تكتنفهم، الريف والبحر والنهر والمعمار والصحراء.
- كان الفن فى عهده وفى وسطه العائلي خارج قائمة المهن المعتبرة، وكانت عائلته لا ترى فى فنه قيمة إلا من خلال إطراء الأجانب له.
- كان محمود سعيد ينظر من وراء منصة القضاء إلى متهم بالتبديد، وهو يصلى فى ورع يائس فىخط على أوراق القضية خطوطا يسجل بها اللحظة التى تلح على ضميره الفنى الذى ينساب مع ضمير القاضى ليتحول إلى أسطورة من أساطير الوجدان المصري فى لوحة المصلى، وكان يلمح ضوء الشمس يتلألأ على السمك فى أيدى الصيادين فىشع بالضوء كالماس، ويكمن هذا الملمح فى خياله وفى وجدانه وفى حلم المساء وحلم اليقظة يلح عليه حتى يفرغه بأن يهرع مبكرا إلى سوق السمك يسجل على الواقع ما وقر فى خياله منذ الإحساس الأول الذى مرت عليه شهور عديدة، ويدخل فى حمى إفراغ متواصلة إلى أن ينتهى من رائعته الصيادين، يرى فى بنات البلد بملايات اللف والغموض الذى يكتنفهم ترجمة لشخصيات دستوفىسكى الثنائية التى تجمع بين الشيطان والملاك فى جسد واحد، طوف فى متاحف الفن الكبرى وعاصر التيارات المارقة للفن الحديث إلى جانب روائع الكلاسيكية والواقعية والرومانتيكية والتعبيرية والسيريالية، وتتلمذ مع وجهاء جيله فى مراسم الأجانب المنتشرة فى الإسكندرية، ولكنه كان مدفوعا بقوة لبلورة أسلوبه المتفرد، وكأنه يبحث عن حريته المفتقدة فى الوسط المحافظ البروتوكولي الجامد، ولزوميات المهنة المحبطة للإحساس لحساب الدور المؤسسة.
- أعمال من إبداعه سكونية، وأخرى صاخبة، منها المتفجر فى تعبيريته والطافح برمزيته، ومنها البارد الجامد، عوالم عديدة طوف فىها، الشخوص المحافظة والمنطلقة، التكوينات الخيالية التى أحبها أكثر من تكوينات النموذج - الموديل - لإتاحتها مساحة أوسع للخيال والتحرر، وللطبيعة التى تمكن أن يترجم فى مناظرها تعميمات خالدة ومن خلال كل ذلك البحر السكون والصخب، الملوحة والزفارة، والسر والسحر والشجن، الرعب والأنس، الأسطورة والمأساة، الأمل والقدر، تحت أنواء الموج وعويل الرياح، البحر الذى يمثل خيط الربط فى كل أعماله بصورة أو بأخرى.
- لقد أحب محمود سعيد وهو ابن الخاصة، مصر والمصريين، الكادحين خاصة، مثله فى ذلك مثل إبراهيم باشا، ونوبار باشا، ويوسف كمال، وأحمد شوقى، ومحمد فريد، وسعد الخادم.
- لقد أحب المتمردين والمضطهدين من الفنانين رمسيس يونان - فؤاد كامل - منير كنعان - حسن التلمساني - فأنضم إلى جماعتهم - الفن والحرية، جائح الرمال، وشارك فى رعاية الفنانين فى معاوناتهم من المرض والفاقة، ودافع عن حقوقهم بإنسانية ومحبة.
- محمود سعيد ليس رائدا لفن التصوير المصرى المعاصر فحسب، إنه نموذج للشخصية المتفجرة المتفاعلة من مكونات متصادمة متناقضة، تمرد عليها بأن انتزع نفسه من مهنة العظماء القضاء ليتفرغ للفن باقى حياته، فالفن عنده مثل التنفس لا يمكن له أن يحيا بدونه.
- وقد فجر محمود سعيد قضايا كثيرة فى حياته وبعد مماته مما يدل على خصوبة تجربته وقوة سطوتها، فقد كان أول من يعرض لوحات العاري فى قاعات يؤمها المحافظون من لبسة الطرابيش والياقات المنشأة فى تحد غير مسبوق.
- وكان فى ذلك فارسا يتوازى فعله بخلع النقاب على يد هدى هانم شعراوي، وبدعوى قاسم أمين، وبدعاوى التفرنج التى تبناها سلامة موسى والحرية التى دافع عنها طه حسين، وها نحن فى كليات الفنون فى بلادنا وقد تم حظر استخدام الموديل فى دروس الرسم إذعانا لهجوم المتطيرين وأعداء الفن، ونلمح منقبات يرتدين القفازات فى قاعات الرسم والنحت، وفى الثمانينات بعد رحيله بأكثر من عشرين سنة اضطر التعليم فى مصر لمصادرة كتاب أعد لطلاب الثانوية عن التذوق الفنى به عدة مئات من الصفحات وإعدام جميع النسخ، وسحب النسخ التى وزعت على الطلاب لأن حملة صحفىة تبناها زمرة من السلفىين، وكان السبب أن بالكتاب لوحة لمحمود سعيد يصور فىها ساعي البريد وعليها اسم - الرسول - فادعى أصحاب الحملة أن الكتاب قد تجاسر وصور الرسول عليه السلام - بالرغم من أن الصورة تنطق بمحتواها وأن كلمة الرسول تعنى فى اللغة حامل الرسائل، ونشهد الحيرة والتوتر على المسئولين عن قاعات العرض حينما تصل لوحات بها شئ من العرى فى معارض دولية لتعرض فى قاعاتهم، وكأنه مازال عسيرا على معدة الثقافة وهى تتأهب لدخول القرن الواحد والعشرين أن تهضم ما هضمته معدة المصريين فى العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن.
- محمود سعيد رائد مفجر صاحب تجربة حقيقية أشعلها صراع عنيف وإصرار عنيد وحساسية شاعرية مرهفة.
- نال محمود سعيد من عناية النقاد والكتاب والمنظرين المصريين ما لم يحظ به أى فنان أخر ربما باستثناء محمود مختار، وكان أكثر ما كتب عنه فى حياته من نقد ينشر فى الجرائد الإفرنجية، فقد كتب عنه أحمد راسم، ايميه أزار، بدر الدين أبو غازى، حامد سعيد، جبرائيل بقطر، صدقى الجباخنجى، رمسيس يونان، فؤاد كامل، عزت مصطفى، نعيم عطية، كمال الملاخ، رشدى اسكندر، سند بسطا، مختار العطار، صبحى الشارونى، وعز الدين نجيب، تناولوا أعماله من زاويا مختلفة تأملية، تحليلية، اجتماعية، رمزية وسياسية، كما كتب عنه من الوجهة الأدبية كل من `محمد حسين هيكل، مى زيادة، المازنى والعقاد وعبد الرحمن صدقى`.
- المدخل: المثيرات:
- فى جو شهد ترسيخ حركة الانسلاخ عن الجذور التراثية الوطنية الذى بدأ مع الحملة الفرنسية وتواصل بإقحام الأسرة العلوية الحاكمة الذوق الفني الغربى فى الفن والعمارة والأثاث وانتشار الفنانين المستشرقين فى مصر لخدمة القصر والحاشية كمستشارين ومعلمين وموظفىن ومكلفىن بمشاريع كبيرة وصغيرة.
- وكان ارتباط أولئك الفنانين الأجانب بالطبقة الحاكمة يحتم اختيارهم كفنانين محافظين ومهنيين ليس لهم طموحات إبداعية إذ كان مدخلهم تجاريا بحتا.
- ومع تسليط الضوء على أهمية الفنون الجميلة من قبل أهل الاستنارة من النبلاء والمشايخ والأفندية وتأسيس مدرسة الفنون الجميلة فى نفس عام تأسيس جامعة القاهرة.
- وقد أكدت مدرسة الفنون الجميلة بدورها حضانة الفن الغربى من زاويته المحافظة التى تتسم بالواقعية الأكاديمية التى تعلي قيم الانتقاء والدقة والمهارة الحرفىة، حيث ركزت برامج التعليم بالمدرسة على التقنيات والعلوم المؤسسة لها كالمنظور والرسم الهندسي والتشريح والتظليل وتكنولوجيا اليويات والأسطح والأجسام.
- كانت هذه الأوضاع متسقة مع الحالة السياسية والاقتصادية، ومتوافقة مع مستوى الطموح الثقافى إذ رأى محركوه أن مجرد دخول المصريين فى مجال الفنون الجميلة، يمثل نقلة كبيرة فى مواجهة سيطرة الأجانب على الأنشطة الفنية وفى ظل شيوع الاعتقاد بتحريم الفنون أو بالدعوة إلى اعتبارها هامشية.
- وفى هذا الجو خرجت الدفعة الأولى من الرواد من المدرسة وعادوا من البعثات إلى أوروبا مؤهلين بالمهارات الأكاديمية ولكنهم لا يتمتعون بالمكانة الأرستقراطية التى يحملها الفنانون الأجانب.
- وعانى أولئك الرواد من حالة تتلخص فى التعامل مع نوعيين من المصريين، فريق مشجع لهم ولكنه محدود فى قدرته على المساندة، وفريق يتباهى باتصاله بالفنانين الأجانب المقيمين والزائرين وغير المتأهبين لدخول مغامرة مع الفنانين المصريين الجدد.
- ومع روح الوعى بالحرية وبتأكيد الهوية المصرية والمطالبة بالاستقلال ودعوة الاستقلال التام أو الموت الزؤام، التحم رجال المال والأعمال مع رجال السياسة ونبلاء لهم مكانتهم لدعم فكرة الهوية فى الفن وفى الثقافة، وازدهر فى هذا المناخ مفكرون وفنانون وطنيون ذوو اهتمامات شمولية - نهضوية فلمع أحمد شوقي والعقاد والمازني وهيكل والحكيم وسيد درويش وسلامة حجازى وداود حسنى ومحمد عثمان وبديع خيرى وسلامة موسى ونجيب الريحاني وغيرهم، انعكس هذا التيار على جماعة الرواد الأوائل للفنون الجميلة كل بطريقته الخاصة، فبينما وجد أحمد صبرى ومحمد حسن ضالتهما فى مواصلة ما تعلماه فى المدرسة وفى البعثة للارتقاء بصنعة الرسم والتلوين وترسيخ السيادة والتقنية، ونقلها إلى أجيال لاحقة من خلال التدريس اتجه راغب عياد إلى الأوبرا وإلى الأسواق الشعبية هو ويوسف كامل لاستلهام البيئة الشعبية بأسلوب مميز لكل منهما، ويلجأ محمد ناجى الذى علم نفسه خارج المدرسة إلى النهضة المصرية كموضوع والريف مشاركا محمود مختار كل يطور منهجه وأسلوبه الخاص.
- وكما يقول رمسيس يونان `وكأنما المطالبة بالحرية الجماعية، وتأكيد الشخصية الفردية صنوان لا يفترقان` ويؤكد يونان خطورة الانقلاب الخطير فى مجرى تاريخ الفن المصرى الذى قام تراثه فى جميع العهود على تقاليد جماعية وطابع مميز.
- ثم يقرر أن محمود سعيد بلا تردد كان صاحب الشخصية الفنية البارز والأشد استقلالا بين أقرانه حيث انفرد منذ البداية بأسلوب شخصى واضح السمات بالرغم من تأثير الثقافة الغربية عليه ومن إطلاعه الواسع على فنون الشرق والغرب.
- محمود سعيد - السمات الشخصية والمواقف:
- ولد محمود سعيد بالإسكندرية فى ابريل 1897، وتوفى بها فى نفس يوم ميلاده عام 1964 وعاش 67 عاما حافلة بميلاد ونمو وتفجر ونجومية وصراع داخلى وخارجى عارم.
- وقد كان ابن ناظر النظار (رئيس الوزراء) وخال الملكة فريدة ومنتسبا إلى عدد من العائلات النبيلة من أصحاب الجاه والثروة والنفوذ وعاش فى قصر والده بجهة سيدى أبو العباس بالإسكندرية بحرى، ونشأ تحت الرعاية والعناية، وقد نال ما لم يبلغه غيره من الفنانين المصريين من جيل الرواد من مكانه واعتراف رسمى فتصدر اسمه قائمة الرواد مع محمود مختار واحتل المساحة الأوسع فىما كتب عن الفن المصرى المعاصر فى حياته وبعد وفاته، وقد عاش حياة متضاربة - فى وسط أرستقراطي ومهنة بيروقراطية وهواية بوهيمية تسلطت عليه وأسلم نفسه لها، وهى فن الرسم والتصوير التى لم يكن لها مكانة اعتبارية من أى نوع فى عهده وبينما كانت مكانة سعيد تتوطد فى الأوساط الفنية على أعلى مستوى كان تقبل عائلته لفنه مبنيا على أعجاب الأجانب به فقط.
- وقد جاء محمود سعيد مختلفا بشدة عن زملائه من جيل الرواد لأسباب ترتبط بتكوينه الشخصى والعائلي والدراسى والمهنى، فقد سلك مسلكا دراسيا مختلفا إذ التحق بمدرسة فىكتوريا ثم الجيزويت وهو فى سن السابعة حتى الحادية عشرة ثم وفر له والده مدرسة خاصة بالقصر حيث عهد إلى نخبة من الأساتذة لوضع برنامج دراسي على نظام المدارس الحكومية فىما بين عام 1910 إلى 1914 ومن بين المعلمين بلاك بورن مدرسة الرسم والتلوين المائي والسينيورا كازوناتو الفنانة ومعلمة الرسم، وبعد أن حصل على شهادة الكفاءة منازل عام 1912 التحق بالمدرسة السعيدية لمدة عام واحد ثم انتقل إلى الإسكندرية بعد اعتزال والده رئاسة الوزراء وحصل على البكالوريا منازل عام 1915، وفى هذه المرحلة ظهرت ميوله فى الرسم حيث ملأ صفحات الكتب والكراسات الدراسية بالرسوم وكان على السبورة مقلدا أستاذه توفىق أفندي الذى كان يرسم على السبورة فى منزله، كما كان يرسم رسوما ساخرة من أستاذ اللغة الإنجليزية بمدرسة السعيدية ويسرع بالعودة إلى مقعده.
- وحاول سعيد أن يتخصص فى الفن بالدراسة ولكنه اضطر تحت وطأة التقاليد إلى الخضوع لإرادة والده وسافر إلى باريس فى سن التاسعة عشرة ليحصل على ليسانس الحقوق عام 1919، وفى فترة بقائه فى فرنسا لم يتصعلك ولم يعان البؤس الذي لاقاه محمود مختار - كان ميسورا وأمنا ولكنه تعرض بالمتاحف إلى تيارات الفن الحديث وإلى تمجيد الحرية وإلى إصدار ثورة 1919 فى مصر والدعوة إلى البحث عن الذات والاستقلال وبعد الانتهاء من دراسته فى فرنسا التحق بمرسم الكوخ الصغير الذى أسسه المثال الفرنسي انطون بورديل، ثم بالدراسة الحرة بأكاديمية جوليان بباريس حيث تتلمذ على يد الفنان بول البيرلورانس من 1919 إلى 1921، كما عكف على الدراسة الشخصية فى متاحف هولندا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا، وكان لذلك تأثير فى تنشئته مستقلا عن التيار الأكاديمى والأوروبي واللمسات الانطباعية التى هيمنت على مجموعة الرواد وظهرت فى أعماله المبكرة، وغضب أبيه على هذا الاستغراق فى الفن فبادر بتعيينه بسلك القضاء عام 1922 كمساعد للنيابة بالمحاكم المختلطة بالمنصورة - التى أصبحت ملهمته فى هذه الفترة وظل يترقى حتى أصبح مستشاراً.
- ومع تمتع محمود سعيد بثقافة رفىعة المصادر، كان مرهف الحساسية فى احتفاله بالحياة اليومية والفلكلور المصرى.
- وبالرغم من الهدوء الظاهر فى حياة وشخصية محمود سعيد وحرص على حجب حياته العائلية، إلا أن حياته الداخلية قد عانت من الصراع العنيف بين تقاليد مجتمعه وأسرته المحافظة المستقرة وما يترتب على ذلك من قيود - وبين رغباته وتطلعه إلى التحور والتمرد والانطلاق وفى هذا يقول بدر الدين أبو غازى:
- `شاء قدره أن يجمع بين مهنتين كان الوفاق بينهما عسيرا أرادت له ظروف حياته أن يمضى فى دراسته للقانون بينما ميوله تشده إلى دراسة الفن ولكنه طوى فى نفسه هذا الصراع ومنعه حياؤه ومحبته لأسرته واحترامه لتقاليدها أن يعلن اختياره ويثور على الطريق كما ثار كثيرون غيره فى تاريخ الفن واستطاعوا أن يتخلصوا فى البدء من الصراع، كانت صفات سعيد الذهنية واعتداده بنفسه وحرصه على كرامته جعلته يعطى وظيفة القضاء من جهده قدرا كبيرا تمثل فى أحكامه وبحوثه القانونية التى عكف عليها خمسة وعشرين عاما من حياته حتى وصل إلى منصب المستشار فتخلى عن منصبه وأعطى للفن كل وقته`.
- وهكذا قضى محمود سعيد الجزء الأكبر من حياته كشخصية مؤسسة صاحب مسئولية تجاه المستوى الاجتماعي المرتفع للأسرة النبيلة فى سلوكه ومظهره الملتزم والمتحفظ والذى يكبح انفعالاته ويستهلكها داخليا. دون الإفصاح عنها بالمرة.
- وقد ظلت مكبوتاته تجاهد فى التسرب إلى السطح المؤسس الرسمى فى صورة حبه لفن الرسم والهروب من بلاغة الحجة اللفظية الاستنادية ذات المعنى المحدد الجامع المانع فى طموحه ـ إلى اللعب بالأحبار والأقلام فى عمل مسودات تخطيطية ثم الفحم ثم التلوين، وصار أكثر حرية وانطلاقا فى جولاته الأوروبية فى المتاحف الزاخرة بأعمال مثيرة فأصبحت لديه الجوانب الانطولوجية والجوانب المؤسسية التى انسحبت تدريجيا حتى اتخذ قراره الجسور فى هجر مهنة العمر (القضاء) وأن يصبح فنانا متفرغا لفنه، وبمقاييس الوسط الاجتماعي الذى نشأ فىه محمود سعيد ابن رئيس مجلس الشيوخ ونسيب البلاط، وبمقاييس النظرة الاجتماعية الاعتبارية للقاضى فى مواجهة الرسام نستطيع أن نتصور مدى التضحية ومستوى التحدى والضغوط النفسية التى كابدها ليتخذ هذا القرار المدهش الذى مكن الأنطولوجي الامبريقى على اقتحام المؤسسي، وعلى مستوى آخر فإن محمود سعيد قد تنازعته رؤيتان للعالم؛ رؤية محافظة فى تصوير الشخصيات البورتريهات وتتصاعد إلى مستوى المقدس عند تصوير المصلين والقبور وقارئي القرآن...، ورؤية حسية شقية فى تصويره العاري والتلميحات الجنسية الظاهرة الرجولية والأنثوية، وفى الصحة والحيوية فى الشخوص وفى الإيحاءات الشهوانية صراع نفسى بين المحافظة الصارمة والنظام البارد، وبين الحرية والانطلاق - صراع بين الفضيلة وبين المجون.
- وعندما ترك محمود سعيد كرسي القضاء وهو فى الخمسين هدأت نفسه من الصراع الداخلى وتفرغ لفنه، ولكن ذلك قد أدى من الوجهة السيكلوجية الى تحول طاقة الانتباه والمتابعة الموضوعية إلى ازدياد وعيه بالعالم المحيط به، فتراجعت الحيوية الرمزية والإحساس الشعري والسحر الخفى للمناظر والمدينة ودراما الطقس فى الكورنيش وكأن التنازل عن المسئولية المهنية فى سلك القضاء وبين الميول الشديدة إلى الفن كان بمثابة مثير يركب له ضغوطه النفسية على الفنان ولكن نتاجها التعبيرى والرمزى قويا.
- وهناك بعد آخر لشخصية محمود سعيد يتضح من خلال مشاركته فى الحركة الفنية فقد كان حريصا على المشاركة الفعالة على مستويين - أولهما متأثرا بممارسته القضاء من حيث الاهتمام بالأجزاء التى يتألف منها موضوعه وأحكام التكوين والاعتناء بالحقائق المفصحة وعنايته بالحرفىة - كما كان يعتنى بعمله بنفسه حيث شاهده صدقى الجباخنجى `يقضى يوما بكامله فى السراى الكبرى بالجمعية الزراعية الملكية فى مايو 1952، بين لوحاته يثبتها فى أطرها بيديه ويرقمها ويصنف دليلها ويحملها من هنا وهناك كمن يحمل أولاده بين يديه فى لهفة وحنان` ويقول الجباخنجى `رأيته أياما على هذا الحال لا يعتريه ملل أو تعب، وكان منضبطا دقيق المواعيد بسيطا هادئا مثقفا هادئا يقرأ التاريخ والأدب ويستمع إلى الموسيقى الرفىعة، عازفا عن السياسة كما شارك محمود سعيد فى جماعات ثورية فى الفن المصرى الحديث كجماعة الفن الحر التى شارك فى معرضها الأول فى 8 فبراير عام 1940.
- كان يرسم الموديل سبع ساعات يوميا وكان يستغرق فى اللوحة الواحدة أسبوعين إلى ثلاثة وأحيانا عدة شهور - وكانت بوارق الإلهام والمثيرات العابرة تلح على ذهنه لسنوات طويلة يتصالح معها بعمل فنى، وكان ينظر الى المتهمين فى قفص الاتهام بعيون القضاء وبعيون عاطفىة فى آن واحد، وأحيانا ما كان يرسم من فوق منطقة القضاء صورة متهم برئ يصلى فى ساحة المحكمة.
- هذه هى المكونات السيكلوجية لشخصية محمود سعيد: السطح المحافظ الهادئ والفوران الداخلى الصاخب الماجن المفرط فى الصوفىة وفى الحسية فى آن واحد، كإيقاع الزار الصاخب الماجن المقنع بالأدعية والدروشة، والتفكير عن الذنوب بالدوران اللاوعي عند الدراويش والمجاذيب أو بفضح المستور عند بنات بحرى بملايات اللف التى تكشف عن الشهوة المستترة وراء الأحجبة المصطنعة.
- والموقف المتصارع بين الحياة الارستقراطية والأسرة المحافظة والوظيفة الرسمية والمكانة الاجتماعية، والجذور التركية من ناحية، والانحياز العاطفى ناحية الموضوع الرومانسي الشعبى الريفى الذى يحترم المشاعر والاهتمام بالجوانب الحسية والشهوانية ليس وقفا على محمود سعيد، بل ربما كان نمطا متكررا فى تاريخ الفن يمثله تولوز دى لوتريك فى فرنسا، وفى المجتمع يمثله إبراهيم باشا ونوبار باشا وأحمد شوقى وإبراهيم ناجى، حيث جمع كل منهم بين مجموع الصفات المتباينة فى شخصية التركي أو الأرمني المنتسب إلى الخاصة الارستقراطية صاحبة النفوذ أو متخذة القرار ولكن انحيازهم إلى ما هو شعبى ووطنى كان متفجرا ومفصحا كل بطريقته وبلغته ووسائله.
- محمود سعيد بين الشرق والغرب `المصادر الرشيدة`
- يرى رمسيس يونان فى محمود سعيد أنه عن حق بلا تردد صاحب الشخصية الفنية البارزة والأشد استقلالا عن أقرانه، حيث انفرد منذ البداية بأسلوب شخصى واضح السمات بالرغم من تأثير الثقافة الغربية عليه ومن إطلاعه الواسع على فنون الشرق والغرب.
- كان محمود سعيد كثير السفر إلى الأقصر وأسوان وأبو سمبل فى الثلاثينات، وأثاره الفن الفرعونى بشدة، وتمركز اهتمامه على النحت والعمارة دون الرسم الذى يؤثر الهيئة على اللون، إذ شعر محمود سعيد بموضوعاته مجسمة وقد فتنه رأس اخناتون الذى ألح عليه فى رسم شخوصه بل أنه يعتبر شخصا أتونيا من حيث هيمنة الشمس على كيانه التشكيلي كله، وينعكس احتفاله بالنحت والعمارة المصرية على تشكيله لكتل العناصر من ناحية وكأنها تماثيل صريحة تحجر بعضها أحيانا كما فى لوحة القط الأبيض التى تبدو وكأنها تماثيل فى تكوين صامت ثم تصويره وكما فى لوحة المدينة والعائلة والمصلين والشواديف وقد أنتجت كلها فى الثلاثينيات، أما فى لوحة السابحات التى أنجزها فى عام 1934 فىتضح فىها تأثير أفريقى نوبى بشاري حيث تتبدى المستحمات الثلاثة العرايا وكأنهن تماثيل أفريقية برونزية أو أبنوسية بالغ فى تجسيم التفاصيل والانتفاخات على غير عادته فى هذه اللوحة، وعمد إلى تجسيم الكتل البشرية الرأسية فى مواجهة المياه المنسابة أفقيا. الخلفىة الباهتة، كما تظهر مؤثرات الفن الإسلامى فى موضوعاته الدينية - ملامح العقود والأعمدة والنوافذ المزخرفة.
- أما تأثر محمود سعيد بالفن الغربي فقد كان له طبيعة خاصة، ويقول يونان:
- `لا نكاد نرى شيئا يستحق الذكر أخذه سعيد من التراث الأوروبي، حيث أراد فى بداياته التقليد، ولكن طبيعته غلبت عليه فإذا بأسلوبه يتبلور بصورة حتمية لا مفر منها.
- أشاح محمود سعيد بوجهه عن الجمال المثالى وعن الحركات العضلية التى ميزت التيار الفنى الإغريقى الهلينى الذى انعكس على الفن الأوروبي بصفة عامة وعلى عصر النهضة على وجه الخصوص، ونبذ التيارات الأوروبية فىما بعد النهضة كالباروك والروكوكو والرومانتيكية والواقعية والتأثيرية ورفض ما بعدها من تيارات حديثة، بينما أخذ عن الفن الأوروبى أسلوب التصوير ثلاثى الأبعاد بظلاله وأنواره ودرجاته اللونية، كما أخذ عنه القواعد الهندسية فى تخطيط اللوحة ويقول سعيد أنه قد تأثر بفكر سيزان. واقتنع به من حيث أن الطبيعة ليس بها خطوط وهناك أحجام تتحرك وعلاقتها مع أحجام أخرى قريبة منها هى التى تكون الحظ.
- إن احتكاك الفنان الغربي الحديث بالشرق أدى إلى تأثره الشديد بمعطيات الطبيعة المتميزة كما عكس نظرة عميقة للغة الفنية للشرق، ففى القرن التاسع عشر بدأ الكثير من الفنانين والباحثين إلى الانتباه إلى أهمية الاحتكاك بالثقافات الأجنبية كشركاء وتبين لهم أهمية هذه المشاركة، ويقول ارنست ستراوس Ernst Strauss `الحقيقة أن كل مجموعة من الناس تستطيع أن تتعرف على نفسها من الأعمال الفنية للآخرين`.
- ومن التمرد على العمق المنظورى والصياغة الاصطلاحية للتعبير عن العمق عند جيوتو وسيمون مارتيني وفرا انجيليكو وفوكيه.. استوحى سعيد الأوضاع المثالية والتجسيم بدون منظور كالتطريق على النحاس للعناصر والتكوين المسرحى والمسحة القدسية.
- ومن عديد من فنانى النهضة استلهم علاقات تكوينية مثل مجموعة العقود فى مظهر منظورى مائل كما فى الجانب الأيمن من لوحة اناتونيللو داماسينا وعنوانها سانت جيروم فى مكتبه ولوحة البشارة لعدد من الفنانين ومن بينهم ليوناردو دافىنشي ومن لوحات بليني ومساشيو وروينز ورمبرانت استوحى مناهج معالجة الضوء لتجسيم الكتل والحجوم والإضاءة والسحر والرؤى الداخلية وتلخيص نقاط التركيز الضوئي والطاقة النابضة وراء المادة.
- وقد استعار سعيد أيضا عددا من عناوين لوحاته وموضوعاته كالعائلة، والبشارة... سان جورج والتنين والطرد من الجنة، وتقترب أعماله من ستانلي سبنسر من حيث التركيز على الشكل والحركة واختزال التفاصيل مع ما فى أعماله من مسحة ملحمية تتبدى فى لوحة الزار ودراسة الخيول والصيد العجيب والدراويش ومن مارك جيرتلر ألوانه النحاسية اللماعة ورسم الشخوص كالدمى، وطبيعة الحركة فى لوحاته، الوميض اللونى وتقسيم العناصر والتكرار للشخوص مصفوفات شبه فرعونية، كما استلهم من دى كيريكو خلفىاته الموحية، أشرعة المراكب، الدخان الأبيض والظلال الحارقة فى خلفىة الصورة، القطط المجمدة والكلاب التى تسعى فى خلفىة المنظر.
- ويصرح سعيد أنه مر بمراحل عديدة فى تأثيره بالفنانين التشكيليين، بداية من روبنز للحركة والحيوية ورمبرانت؛ لأن قيم الضوء عنده مدهشة، بالإضافة إلى العمق والإنسانية وتحليل الشخصيات، وبعد قليل، وجد `أن روبنز سطحي، أما رمبرانت فعميق، كان الضوء عنده يشع من الداخل، وضحى باللون وأبقى على الأحمر والبنى فقط ثم أحب الهولنديين والبلجيكيين خاصة الأخوين فإن إيك حيث يعتقد أنهما وصلا إلى قمة الإتقان للصنعة أو التكنيك.. وجد عندهما إلى جانب الصنعة والتكوين الشعور الداخلي الشعري... رغم واقعيتهما الواضحة كما تأثر أيضا بالإيطاليين من عصر النهضة وخاصة تأثره بألوان فنانى البندقية، بالإضافة إلى فنانين آخرين.
- موقف محمود سعيد من مصادر إلهامه
- `الحقيقة السيكلوجية أن الفنان كان دائما هو الجهاز المتحدث عن روح عصره ويمكن فهم عمله جزئيا فقط من خلال سيكلوجيته الخاصة، واعية أو غير واعية والفنان يضيف إلى الطبيعة وإلى قيم زمانه قيمة - هى بذاتها تشكل خصوصيته`.
كارل يونج
- الأشكال المعتادة الشائعة التى صورها محمود سعيد فى لوحاته من المظاهر والجمادات والمصنوعات لها قدر من الإيحاء السحري ودلالات رمزية، فهو يحول هذه الأشياء بدون وعى إلى رموز لتكتسب سيكولوجية خاصة تتخطى حدود مظهرها المرئى، وقد اعتقد علماء الكيمياء فى القرون الوسطى بأن أرواحا تسكن المواد كالأحجار والمعادن، وذلك يرجع بأنه كما يوضح يونج إلى العقل الباطن الذى يأتي دوره عند وصول الفكرة المنطقية الى منتهاها، ويأتى دور الدهشة والغموض، حيث يملأ الإنسان المناطق الغامضة والمجهولة بمحتويات من لا شعوره.
- وكما يظهر هذا الإحساس الغامض بأن العنصر المرسوم يحوى أكثر مما تشاهده العين من أعمال جيورجيودى كيريكو الأسطوري الباحث عن التراجيديا والذى يقول عن أعماله الميتافىزيقية `لكل شئ وجهان، الوجه المعتاد، والوجه الشحبى أو الميتافىزيقى الذى قلة قليلة فى لحظات الاستبصار والتأمل الشارد، وإن يضمن عمله الفنى شيئا لا يظهر فى هيئته المنظورة` تظهر هذه الخاصية فى أعمال محمود سعيد حيث أن بعض أعماله تبدو للمشاهد كالأحلام تتصل باللاوعي فنطوف فى لوحاته بالصحراء وبالنيل وبالمراكب الشراعية وبالبحر وفى داخل المساجد فى منظور محكم وضاء بأضواء ساخنة قاهرة وامضة مصادرها غير منظورة، عناصر يومية دنيوية، وعناصر كلاسيكية صرحيه تتبادر الأدوار على مسرح لوحاته.
- ومحمود سعيد يركز على عالمه الداخلى اللاوعى يمثل احتفاله بالعالم الخارجى من اهتمام وبقدر انشغاله بعمليات التوازن والتوحيد والإيقاع من الوجهة البنائية التكوينية وبالخلطات والرقات اللونية وبعملية توليف وبلورة عناصره فى صيغة تشكيلية خصوصية وربطها بما يجاورها وما يحيط بها من صيغ مكانية، فإن الحياة الخاصة باللوحة تنطلق لا شعوريا فى حالة من الإلهام الحذر، وكأنه يتبع نصيحة كاندنسكي بأنه لابد للفنان أن يركز عينيه على عالمه الداخلي بينما يركز أذنيه على العالم الخارجى، ومن ثم فان سعيد يعكس فى أعماله ذلك الجو الهروبي إلى الداخل والى الخيال حيث يعكس خبرته العاطفىة وليست الادراكية للطبيعة فقط.
- ويقسم هيربرت كونHerbert Kuhn الاتجاه الفنى إلى نوعيتين الخيالى الذى يتعامل مع الخبرة غير الواقعية كالحلم، والحسي الذى يتعامل مع المثيرات البصرية بصورة إدراكية مباشرة وملموسة ويقول أن المصريين قد تمكنوا من التعبير عن العواطف الدينية والروحانية بحساسية بالغة منذ أكثر من 4000 سنة، وفى أعمال محمود سعيد امتداد للتعبير عن تلك العواطف بصورة مرهفة شفافة شاعرية.
- ومحمود سعيد قد نجا برجاحة عقله وحساسيته وثقافته من أن يقتنع بضباب الماضى والوقوع فى أثر الملامح التراثية، ولكنه أعطى أحاسيسه إلى أعمق الأصوات الشاعرية فى محيطه البيئى.
- ولعل أبلغ تعبير عن علاقة محمود سعيد بالأساطير يتجلى فى عبارة رمسيس يونان التى يقول فيها: `إن هذا الفنان الذى لم يصور قط الأساطير، هو فى الواقع خالق الصورة الأسطورة فى فننا الحديث`.
بقلم: مصطفى الرزاز
مجلة : إبداع (العدد 4) أبريل 1997
محمود سعيد عاشق الطبيعة وقاضى الفن بين الأرستقراطية والبانوراما الشعبية
- ولد الفنان محمود سعيد بالإسكندرية عام 1897 ورحل عن عالما عام 1964 درس الحقوق ثم إلتحق بدراسات حرة للفن التشكيلى بأكاديمية الجراند شومير عين بالنيابة وتدرج فى السلك القضائى ليصل الى منصب مستشار بالاستئناف ينتمى لأسرة أرستقراطية والدة محمود سعيد باشا رئيس وزراء مصر فى العهد الملكى والفنان هو خال الملكة فريدة زوجه الملك السابق فاروق عاش بالإسكندرية على مقربة من مسجد أبى العباس المرسى وعاش أيضا بالمنصورة فى فترة عمله كقاضى وسافر لباريس وأوروبا ولبنان كما هوى الفن التشكيلى ومارسة وعين عضوا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ومقرر للجنه الفنون التشكيلية ثم تفرغ للفن ويعد سعيد أول فنان تشكيليى ينال جائزة الدولة التقديرية للفنون تعلم الرسم فى مرسم الفنان الإيطالى أرتوزابييرى بشارع النبي دنيال بالإسكندرية حيث تميزت لوحات سعيد بالتركيز على البعد الثالث وإبراز الإضاءة وتجسيد الأشكال الطبيعية الحية والتعبير الحسى الواضح للموديل الذى يختارها مثل إبداعه لوحاته المسماة بنات بحرى وبنت البلد وذات الجدائل الذهبية حيث يعدوا الضوء كونه عنصرا رئيسيا فى أعماله فالضوء فى أعماله ليس بالتقليدى فهو يسرى فى أعماله فى الفراغ على هيئه انعكاسات للحزم الضوئية حيث يجسد حاله خاصه وكاشفة للون وموجاته على مسطح لوحاته حيث يعتبر عاشق بقوة للحياة المصرية الأصيلة فسجل الطبيعة من حولة والطبيعة البشرية خصوصا من حولة حيث سجل العادات والتقاليد جسدها من خلال سلسله من المعارض مختلفة وعديدة فيما بين أمريكا وفرنسا وبيروت والخرطوم وموسكو والسعودية ومصر كما أنه له متحف خاص باسمه بشارع جناكليس بالإسكندرية يحتوى على مقتنيات عديدة للفنان حيث رسم لوحاته بأسلوب فريد يسيطر علية حاله من التصوف أحاطه أحيانا بالزهد والتأمل الكونى للطبيعة المحيطة ومظاهرها المختلفة متأملا إياها ومسجلا انطباعاته الشخصية عنها على مسطح لوحاته كما ذهب سعيد بمحض إرادته إلى عالم مختلف جسد من خلاله رسمه لخصوصيه الروح المصرية متبنيا الملامح الفطرية المصرية البسيطة المميزة للبيئة المصرية ليرسم لنا شط الاسكندرية والأقصر وجبل القصير والريف المصرى بنفس المقدرة الفنية المميزة لرسم الموديل والبورتريه من شخوص محيطه به والعاملين فى قصرة وكل من حوله مثل لوحاته المسماة ذات الرداء الأزرق وبدرية وذات العيون العسلية وبنات بحرى ولوحته الشهيرة المسماة المدينة لينقل لنا المناسبات والعادات والطقوس الحياتية والشعائر الدينية مثل لوحته المسماة الصلاة والذكر ليعكس حاله التصوف التى عايشها الفنان فى مجتمعه المحيطة على الرغم من طبيعته الأرستقراطية والتى تجلت بوضوح في رسمه لعائلته وأصدقائه إلى جانب عشقه للمجتمع المصرى البسيط مثل لوحاته المسماة حمام الخيل بالمنصورة والصيادين فى رشيد وبعض معالم اسوان لنجد الفنان يعانق الطبيعة ويشعر بها بشكل ملحوظ وأيضا يتأثر بها ويجسدها فى لوحاته سواء كانت مظاهر أرستقراطية أو شعبية فكان الفنان انعكاسا لبيئته المحيطة بكل مستوياتها كذلك تأثره بالفاعليات التاريخية المهمة مثل رسمه للوحة حفل افتتاح قناه السويس كما رسم الدراويش والمبتهلين مثل لوحته المسماة الدراويش دراسة ولوحته المسماة الدراويش المولوية حيث رسم سعيد لوحتين لدراويش يتمايلون داخل التكية فى حاله من الحركة بشكل رائع ليصور ويجسد اللون والضوء للمشهد بخصوصيه شديدة كما جسد شخصيه المقرئ أثناء تلاوة القرآن الكريم فى لوحته المسماة المقرئ فى السرادق حيث توحى اللوحة بأجواء روحانية بالغة الفرادة والخصوصية والتى تؤكد على رهافة وحساسية الفنان تجاه عادات وتقاليد بلاده وتأثره بها بشكل مباشر وتفاعله معها أيضا يجسد مشهد اللوحة دعوه مباشرة للتأمل الروحى والوجدانى والتفاعل الملحوظ من قبل متلقى فنه وتفاعلهم معه بشكل كبير ليجد المتلقى نفسه أمام لوحات سعيد فى حالة شعورية خاصة تحمله لمعالم سحرية خاصة للغاية بعالم الفنان وتأملاته وإبداعاته وروحانياته ليجد المتلقى نفسه فى حالة من التفاعل بين الحركة المفعمة فى لوحاته وأحيانا السكون الهادى لتصل إلى حالة من الإمتاع بتلك الأعمال التى توضح النضج المبالغ فيه فى أسلوب الفنان إلى جانب تحيزه القوى للغاية لعناصره وموتيفاته وأيضا شخصيته المصرية المتفردة وعالمه الفنى الخاص وأسلوبه الفريد فى بناءه للوحاته ذات الطابع المعمارى الشامخ والذى يميل إلى البناء التحليلى الهندسى لسطح لوحاته والضوء الداخلى النابع من جنبات لوحاته إلى جانب صياغة الوجه الاخناتونى المميز فى أعماله والأجسام الصلبة الملفوفة فى إستدارات وتكوينات تشبه أحيانا تماثيل أجداده الفراعنة والتى تجدها فى بنائية لوحاته وكأن سعيد جاء انعكاسا مباشرا وقويا لسلسه من المؤثرات المختلفة التى شكلت شخصيته الفنية حيث سيطرت وباقتدار على لغته التشكيلية مما جعله يتقن باقتدار فن التعبير على مسطح لوحاته ليسودها الجمال والخصوبة والأنوثة احيانا حينما يجسد بعض أعماله وأحيانا الأسطورة ليثبت سعيد أنه فنان صاحب حس نافذ وقوى حيث إنتمى للمذهب التأثيرى أحيانا فى بناء لوحاته ثم المذهب الرمزي أحيانا أخرى بحيث سعى للتأكيد على مذهب البانوراميه الشعبية فى بعض من لوحاته أيضا لنرى سعيد فى لوحات أخرى له يسلك المذهب التشخيصى ويحاكى الطبيعة وأحيا نراه يحاكى المذهب الأرستقراطى ليجمع بين مذاهب ومدارس فنية عديدة ومتنوعه لنرى نفسنا أمام فنان مبدع تعكس لوحاته فلسفة وثقافه مشتقه من معانى ومضامين مصرية نابعه من البيئة المصرية الخصبة على مر الزمان لنجد أنفسنا أمام لوحات تتسم بالجاذبية والإحكام من حيث المفردات والصياغات والرسم والتلوين والتصميم وكأنها لوحات تحمل رسائل عديدة لكل من يطالعها .
د. أمجد عبد السلام عيد
جريدة: القاهرة 27 ديسمبر 2021
الفنان محمود سعيد (1897 - 1964) أيقونة سكندرية
- فى كتابه الشهير `مستقبل الثقافة فى مصر` الذى صدر عام 1938 يقول الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى: ` إن نظرة يسيرة فى أيسر الكتب التى تدرس التاريخ السياسى والثقافى فى العصر تبين أن مدينة الإسكندرية لم تكن مدينة شرقية بالمعنى الذى يفهم الآن من هذه الكلمة، دائماً كانت مدينة يونانية بأدق معانى هذه الكلمة وأصدقها وأجلاها، ومن الإطالة فى غير نفع ولا غناء أن نتحدث عن الفلسفة السكندرية التى نشأت عن هذا الاتصال الشديد المتين بين العقل المصرى والعقل اليونانى، والتى كان لها أبعد الأثر وأقواه فيما أتيح للإنسانية من حضارة`.
- ولا شك أن المناخ السياسى الذى كتب فيه طه حسين كتابه كان له تأثيره القوى فى هذه النبرة اليقينية المتطرفة، وهو يؤكد على انتماء الإسكندرية إلى الحضارة الغربية وحدها، بل إنه تجاوز الإسكندرية فاعتبر مصر كلها أمة غربية ليست شرقية، ذلك أن موقفه كان رد فعل عكسى لموقف سلفى ورجعى كان سائد فى مصر آنذاك، يخاصم الحضارة الغربية ويبرئ مصر منه وينادى بالانغلاق على تراثنا الشرقى والإسلامى وحده، تلك الفترة (أعنى أواخر الثلاثينات من القرن العشرين) التى شهدت حالة من الجمود الثقافى والتزمت الفكرى والترهل الوطنى على كافة الأصعدة، وبعد انتهاء قوة الدفع لثورة 1919 وتوقف المد النهضوى الشامل للأمة، واهتزاز ثقتها بنفسها وبقدراتها على التفاعل الحضارى مع العالم، وعجزها عن مسايرة ركب التقدم العالمى دون حساسية أو شعور بعقدة النقص خاصة وأن الأوضاع ازدادت تدهورا؛ بيأس القوى الوطنية فى مصر من جلاء الاحتلال البريطانى، وبتوقيع الحكومة على معاهدة 1936 الجائزة على الاستقلال، فكان كتاب طه حسين دعوة جذرية (راديكالية) للتحرر من هذه العقدة حتى تلحق الأمة بركب التقدم، إنطلاقا من أن ثقافتنا جزء من ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط، فلسنا تابعين لأوروبا التى سبق أن أخذت عنا الكثير، مؤكد فى الوقت ذاته على `أننا نريد الاستقلال العالمى والفنى، هذا الذى يمكننا من أن نهيىء شبابا قادرين على حماية الوطن، أرضه وثروته من جهة، وعلى إشعار الأجنبى بأننا مثله وأنداده من جهة أخرى`.
- غير أن حركة الفن فى الأسكندرية كانت قد تجاوزت بالفعل تلك العقدة بشكل صحى قبل كتاب طه حسين بربع قرن، من خلال إبداعات رجال المسرح والسينما والموسيقا والشعر والصحافة، متمثلين فى يعقوب صنوع ومحمد بيومى وسيد درويش وبيرم التونسى، ورواد الفن التشكيلى: محمد ناجى وجورج صباغ ومحمود سعيد، ونلاحظ أن أغلبهم سبقوا - كل فى مجاله - رواد الفن والصحافة بمصر كلها، ذلك أنهم انفتحوا مبكرا على الثقافة الأوربية ونهلوا من منابعها ومنجزاتها الحديثة، وهو فى الوقت ذاته يؤسسون تربة مصرية صديقة للفن والأدب، مخصبة بتراث الماضى وسمات البيئة الشعبية، يجعلون منها منصات قذائف لإطلاق رياح الوطنية والاعتزاز بالجذور والوقوف بندّية وثقة بالنفس أمام الأجنبى، الذى طالما تتلمذوا على يديه بشكل مباشر ( بالدراسة فى مراسم الفنانين الأجانب فى الإسكندرية) أو بشكل غير مباشر، (بالسفر إلى أوربا والاتصال بمناهل الفن والثقافة فيها) .. وما أن هبت رياح ثورة 19 حتى كانوا فى طليعتها.
- خصوصية الاسكندرية:
- وبعيدا عن التعبير المباشرعن أحداث وطنية، فإن خبرات فنانى الإسكندرية الأول تجاوزت الآنى والعَرَضى من الأحداث والاتجاهات الفنية على السواء، اذ كانت تبحث عن جوهر كلى متجذر ومتجدد فى آن .... جوهر يتسق مع خصوصية المدينة، لهذا فمعرفتنا بها تساعدنا كثيرا فى فهم محمود سعيد وغيره من فنانيها عبر الأجيال.
- فهى مركز الحضارة الهللينية فى الماضى (الإغريقية الرومانية) ودرة المدن البحر أوسطية الجاذبة للباحثين عن البكارة والاعتدال فى كل شئ، وحاملة لمركب ثقافى متميز فى الحاضر، يجمع أجناسا مختلفة، وثقافات شتى، وهؤلاء وأولئك يتعايشون فى انسجام حضارى فريد، على أرضية أصلية محلية، بما تحتويه من بيئات شعبية صميمة تمد جذورها فى مجتمعات الصيد والزراعة والتجارة، لها ثقافتها الدينية التى تتواصل من خلالها فى مسيرة ممتدة - كل الأديان السماوية بغير صراع عرقى أو مذهبى، وتختزن فيضا روحانيا موصولاً بالحياة اليومية بنفس اتصاله بالسماء، ولها ثقافتها المعرفية التى ترتبط بالبحر والقدر والعلم والأخلاق، وكذلك بالآخر الذى وراء البحر فى الدول المطلة عليه، وبالآخر الذى يعيش ويتفاعل معها من أبناء هذه الدول، هنا بوسعنا القول بأن للإسكندرية ثقافة أوسطية بقدر ما هى مدينة أوسطية، ثقافة معتدلة ديمقراطية تعددية لا تعرف التزمت أو التطرف، ترعى فنون القلب والحس، وتفتح بيوت العلم ومنارات العقل، وترعى بيوت المسرح والباليه والسينما والموسيقى والرسم والنحت، بقدر ما تفتح وترعى بيوت الله وأضرحة الأولياء الصالحين، وتمنحهم من القداسة والولاء ما يجل عن الوصف، لهذا فإن أهلها تربوا على الجدل والمناظرة والمجاهرة بالرأى، لكنهم يجعلون للإيمان القدرى استثناء من هذا كله، وتفويضاً مطلقاً لله رب العالمين، فتقودهم الفطرة السليمة السمحة بعقل جمعى لا يعرف التعصب، وتهفو قلوبهم إلى الطرب والمتعة وملذات الدنيا بغير إفراط، كما تهفو إلى بيوت الله وموالد الأولياء ودور العلم والثقافة فيما يتاح من أوقات لهذه أو تلك.
- وعن أصولية الوطن، فقد تجذرت فى الأسكندرية عقيدة الانتماء المصرى والعربى ولم يصرفها اتجاهها غربا فى أى وقت عن هذا الانتماء، ولم تجعلها هموم العيش وصروف الحياة تنكص يوما عن القيام بدورها فى القضايا الوطنية، لكن بعيدا عن قعقعة الشعار وعن العمل التنظيمى الثورى فوق الأرض أو تحتها `لعل ذلك يستدعى بحثا لمتخصص`. هذا فضلا عن أن التركيب السكانى لأهل الإسكندرية لا يمثل عرقا نقيا خالصا يمتد مئات ولا تقول آلاف السنين - فالإسكندرية منطقة جذب تاريخية لأبناء مصر من مختلف الأقاليم، من أقصى الصعيد إلى أعلى الدلتا عاشوا وتأقلموا معا وانطبعوا بطبيعتها، فصاروا بمخزونهم المتوارث تمثيلا للوطن كله بقدر تمثيلهم لمدينتهم.
- أما عن عالمية الإسكندرية، فتتجلى فيما كانت تضمه من خليط الجنسيات والثقافات من دول العالم وهو يشكلون نسيجا متلاحماً ومتناغماً، وفيما كانت تجتذبه من شخصيات المبدعين فى الشعر والرواية والمسرح والموسيقى والرسم والنحت من أنحاء العالم، حيث يعيشون ويبدعون متأثرين بالبيئة ومؤثرين فى أبناء الإسكندرية من شبابها المبدعين فى نفس لوقت، كما تتجلى صفة العالمية فيما كانت تستقطبه الاسكندرية دائما من فرق المسرح والباليه والفنون الشعبية والموسيقى ومن معارض الفنانين وما كانت توفره من بيئة ملهمة للشعراء والروائيين، مما جعلها دائما تعيش حالة العصر الحديث فى أوربا يوما بيوم، وتتابع ما يستحدث بها وتتكلم لغتها بشتى اللهجات لغويا كان أو جماليا.
- بيد أن المعنى الأعمق لعالمية الإسكندرية يبرز فى نزعتها الإنسانية الشاملة، تلك التى توارثتها عن طبيعتها الأولى لدى نشأتها، كعاصمة للعالم أجمع، والتى اكتسبتها من مدارس الفكر الإنسانى ومذاهبه فى العالم القديم، ومن حوارات الفلاسفة والحكماء وإبداعات الفنانين والشعراء على مر العصور، وسواء وعى بذلك فنانوها الرواد فى العصر الحديث أم لا، فإن أعمالهم تنم عن هذا المعنى، فبقدر ما هى تعبير عن الذات المصرية أو القومية، فهى تعبير ورمز للإنسانية جمعاء، حسبما يقول إرنست فيشر عن الفنون العظيمة.
- بدون فهمنا لهذه الجوانب الثلاثة فى شخصية الإسكندرية، يتعذر علينا الإمساك بلب الإبداعات الفنية لرواد التصوير والنحت والحفر فيها ومن تلاهم من أجيال الفنانين، ومن ثم الإمساك بلب الشخصية المشتركة لهؤلاء الفنانين، مما يجعلها أهلا لحمل كلمة `الإسكندرية`؛ إن أعمال ناجى المبكرة خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، تعكس درجة وعيه التاريخى بالحضارة الهللينية، من مناظر مثل حديقة أنطونيادس وتكوينات مثل الفتاة المستحمة وبورتريهات للرجال والسيدات من جنسيات مختلفة بأوضاعها المشابهة للأعمال الكلاسيكية الأوربية، ثم بالأسلوب الانطباعى المتأثر بالتنقيطية، كما عكس درجة عشقه للحياة فى البيئات الشعبية والريفية المحيطة بالإسكندرية، خاصة على ترعة المحمودية، حيث حياة المراكبية والصيادين والزراع والحرفيين ومشاهد الطبيعة والحياة فى القرية بوجه عام، وتعكس أعماله أثناء دراسته فى فلورنسا ولعه بالآثار المصرية القديمة وتأثره المباشر بالتصوير والنحت والعمارة فيها، مثل لوحاته عن طريق الكباش ومعبد الكرنك، وما يحيط بهذه الآثار من حياة ريفية معاصرة، جسَّدها فى عديد من اللوحات خلا أقامته بالأقصر، رابطا بين حياة الأسلاف والأحفاد، مثلما ترى فى لوحة الشيخ عبد الرسول.
- وتعكس هذه الأعمال حجم الطموح المبكر لدى فنانى ذلك الجيل لاستنهاض وعى الأمة بذاتها من خلال إثارة اعتزازها بتراثها وهويتها، وإحياء حلم طيبة بإبراز الشموخ الحضارى لمصر، ولعل الكلمات التى كتبها إلى شقيقته عفت يوما تترجم هذا المعنى حين كتب: `أنك لا تعرفين الحلم الذى أصبو إلى تحقيقه، أريد أن أصبح الفنان القومى لبلادى`. هذا المعنى قد نلمسه بصورة مختلفة لدى بقية فنانى الجيلين الأول والثانى من مدرسة الإسكندرية، ولم يكن ذلك ليصبح حقيقة واقعة إلا من خلال مناخ ثقافى يحتضنه ويغذيه.
- وتشف أعمالهم عن سمة عامة بمدرسة الإسكندرية، وهو البحث عن الهدف المشترك للأمة وإيقاظ الحس الجمعى للشعب، لأن العمل الفنى نفسه هو صوت الوطن، كما تكشف عن سمة أخرى فى هذه المدرسة، وهى جدلية الحس والعقل مع الطبيعة والإنسان وقضايا الفكر، وجدلية العلاقة مع الآخرين، فيما نلمسه من صراحة التعبير والنبرة الجمهورية فى مخاطبة العقل والبصر، بوضوح الفكرة وصراحة اللون والضوء وقوة البناء على قاعدة هندسية وتصميم متماسك ونظام صارم وقدرة فى الوقت ذاته على التمرد عليها جميعا، وفى سياق هذه النظرة الإنسانية الشاملة المحكومة بالعقل والنظام الهندسى وبالرغبة فى التمرد عليها أيضا بحثا عن التجديد والبكارة، نرى ناجى ينتقل بين مصر وقبرص واليونان وإيطاليا والحبشة والبرازيل ويوغوسلافيا معبرا عن الحياة والطبيعة فيها بنفس الحميمية التى يعبر بها عن الحياة على شاطئ النيل، أو قرية أبى حمص، أو البر الغربى للأقصر ...
- محمود سعيد: الحياة .. الحب .. الموت .. وبالعكس!
- أما محمود سعيد فإن خصوصيته الفنية من خصوصية الإسكندرية، ومن ورائها شخصية مصر بكل كثافتها، وربما لم يكن معنياً مثل ناجى بإبراز معالم التراث الحضارى الفرعونى أو اليونانى أو تصوير الشخصيات الأوربية أو التاريخية، ولكن قضيته كانت فى عمق البيئة المصرية والإنسان فيها، فى علاقته بالحياه والحب والموت، أى بدراما الوجود، وفى علاقته كذلك (بالما وراء) تلك المساحة الشاسعة من المجهول، سواء فى الوجود أو داخل النفس البشرية.
- إن سعيد بقدر ما يزداد تعمقا فى صميم الذات المصرية، فإنه يزداد قربا من القيم والمعانى الإنسانية المطلقة فى أى زمان ومكان .. والمفارقة المدهشة أننا نجده قد بدأ مسيرة النضج الفنى فى منتصف عشرينيات القرن الماضى بهاجس الموت، إذا اتفقنا على أن منظومة عالمه الفنى تمثل ثلاثية الحياة والحب والموت، لكنه حينذاك أنجز لوحات عن المقابر، صور نفسه أمامها شاخصا إلى الأبدية، على غرار بورتريهات الفيوم المصاحبة للمومياوات فترة الحكم الرومانى لمصر، وقد يكون هاجس الموت لديه وليد ظروف شخصية من المرض أو الاكتئاب النفسى، لكنها فى المنظور الأخير ترشح بثقافة متجذرة فى وعيه ووجدانه من تراث مصر الحضارى؛ بأن الموت ليس نهاية للإنسان بل هو بداية فى الطريق نحو الأبدية، حتى وإن لم يقصد ذلك فى لوحاته قصدا مباشراً.
- غير أنه سرعان ما استجاب لنداء الحياة، وعبر عنها بتعبيرات قوية تنم عن الإقبال عليها والتفاعل مع عطاياها، من ذلك اهتمامه المبكر بتصوير الجسد العارى للمرأة.
- إن تلك الملامسة الحسية الحميمة للجسد العارى فى لوحاته العديدة ليست مناوشة لنوازع الشهوة فى الإنسان، بقدر ما هى إستجابة لنداء الحياة بمعناها الأشمل من حدود الغريزة، ولعل هذا أحد الروافد العامة لفهم عالم سعيد بل ومدرسة الإسكندرية، وبوسعنا أن نكتشف العلاقة بين تضاريس وألوان هذا الجسد وبين تضاريس وألوان التربة الطميية الخصبة لوادى النيل، وربما نجد نفس العلاقة بين عارياته وبين عاريات الأساطير والملامح اليونانية وأساطير عرائس البحر والنداهات، ولعل أكثر هذه النداهات حضوراً هى فى لوحة `ذات الجدائل الذهبية`، إذ تواجهنا بفتنة طاغية وخطورة كالدوامة البحرية، وحضور زئبقى مخاتل ملئ بالصبوات والنداء إلى ملذات مجهولة، ويتماهى هذا العالم الأنثوى الأسطورى مع مجموعته المعروفة باسم `بنات بحرى` من `حاملة القلل فى النافذة إلى الأسرة` إلى `المدينة` .. تلك البانوراما الشعبية التى تضج برنين طاسات العرقسوس والأساور الذهبية فى أذرع حسناوات الأنفوشى بملاءاتهن التى تظهر من فتنتهن أكثر مما تخفى، وينتشر من أعطافها أريجهن الأنثوى بعبق سحرى مراوغ تحيط به مظاهر وتفاصيل شعبية.
- ويتناغم مع هذا الوتر المشحون بالعاطفة وحب الحياة، ما وصلنا من لوحات عن علاقة الحب بين الرجل والمرأة، أو بين الزوج والزوجة والعائلة ، ففى لوحة `الدعوة إلى السفر` (1932) نجد هذا الوله المشبوب بين الحبيبين، ويصورهما الفنان بأسلوب قريب من التصوير المصرى القديم فى عهد أخناتون، وهو ما يوحى بذلك الحب الروحانى الذى يتخطى الدوافع الحسية إلى عوالم لا متناهية، كما يشير عنوان اللوحة إلى ذلك، وفى لوحة (الأسرة) تزداد عاطفة الحب سموا بارتباطهما بمعنى الحماية التى يظلل بها الزوج زوجته وطفلها مصحوبة بقدر كبير من العطف والحنان، مؤكد بذلك قانون الحياة وشرائع الأديان وفطرة العطاء الإنسانى التى يتميز بها المعنى الأوسع للحب.
- ويتقاطع مع هذا الوتر النابض بالحياة والحب والمجنح بالأسطورة عند سعيد، وتر علوى جياش بالمعانى الروحانية، نتلمسه فى انحناءات ظهور المصلين المتراصة وعقود المسجد فوق صفوف الأعمدة المتوالة إلى ما لا نهاية، وفى تطوحات أجساد وملابس الدراويش فى حلقات الذكر، وفوق دكك السرادقات المزدانة بالزخارف الأرابيسكية الملونة لفن الخيامية خلف قارئ القرآن .. إن هذا التتابع الإيقاعى المنتظم جزء من صميم الوجدان المصرى حين يتصاعد فى مدارج الصوفية، وقد التقطه سعيد وأجاد العزف عليه، حتى حرره من الوصفية المحلية الضيقة وحلق به فى آفاق إنسانية رحبة، إذ يستطيع أن يتواصل مع منطقة الروح والوجدان الإنسانى فى أى مكان من العالم بلغة الشكل المجردة.
- وبين هذين الوترين تتردد أنغام الوتر الثالث فى عالم محمود سعيد، وهو عالم البحر والصيادين العراة برزقهم من السمك، وعالم الفلاحين تحت الشواديف وفوق الحمير ووسط الحقول والترع، فى معزوفة تمجد قيمة العمل والكفاح الإنسانى، ويتصل بهذ العالم تلك اللوحات الغنائية الصداحة من الطبيعة المصرية فى الريف والصحراء والبحر، حيث تتماوج حزم الخطوط ومساحات الألوان وموجات الضوء وتضاريس الأرض والسماء والأمواج فى إيقاعات راقصة حينا ناعسة حينا صاخبة حينا .. وهى وإن كانت مناظر مأخوذة من أماكن معلومة، فإنها صور حية للوجود المطلق فى أى مكان من العالم، تباغتنا بأضوائها السحرية مجهولة المصدر والتى يبدو مصدرها الأساسى هو اللوحة ذاتها.
- ولأن القضية الأساسية لأى فنان ليست `ماذا يقول؟ ` بل `كيف يقول؟` فإن العوالم الموضوعية والوجودية والتعبيرية فى أعمال محمود سعيد قد تظل عوالم افتراضية أو أدبية حتى تجد ما يؤازرها من قيم جمالية فى التشكيل والبناء، وهى ما نلمسها بوضوح فى مجمل لوحاته؛ فبالرغم من اتباعه لأسس المدرسة الكلاسيكية الأوربية فى البناء الهرمى والسيمترية والالتزام بالنسب وقواعد المنظور وقواعد التشريح والتجسيم الاسطوانى بالظل والنور معلوم المصدر، وفى إشراك الطبيعة الخارجية كمكون رئيسى بداخل المشهد كعنصر تعبيرى مكمل .. إلى آخر هذه الملامح المعروفة عن الكلاسيكية، فقد تجاوزها `سعيد` جميعا بمنظوره الخاص .. عن طريق المبالغات والتحريفات المتعمدة لملامح الأشخاص والحيوانات، مما يكسبها نكهة مصرية ساخرة أو خفيفة الظل تتلامس مع المزاج الشعبى، كما تكسبها الألوان الدافئة سخونة عاطفية بمذاق شرقى، وقد تقترب من ملامح مدرسة التصوير فى عصر أخناتون فى بعض الأعمال، وتتماهى الحلول المعمارية لبعضها الآخر مع الطابع الإسلامى، فى لوحاته `الصلاة` و `قارئ القرآن` و `حلقة الدراويش`، ففيها هذا الترديد المتوازى لأقواس المسجد وأقواس ظهور المصلين فى الأولى، وفيها استعارة لأنماط الزخرفة الإسلامية بترديدها السيمترى فى الثانية، وفيها ذلك التعاشق الأرابيسكى والتقاطع الهندسى لحركات الدراويش التى تتسم بالديمومة فى ذكر الله فى الثالثة .. وبخلاف هذه المؤثرات التراثية فقد أضاف إلى الكلاسيكية، مسحة تعبيرية غير نمطية تنتمى إليه وحده، باستخدام الضوء استخداما رمزيا من مصادر غير معلومة، وأضفى على لوحاته نوعا من الروحانية الشرقية ومن الغموض السحرى ومن طابع الأسطورة، مما دعا أعضاء جماعة الفن والحرية بقيادة الفنان رمسيس يونان لضمه إلى معرضهم التأسيسى للحركة السريالية فى مصر عام 1940، ولأن يتخذوا من لوحاته `ذات الجدائل الذهبية` رصيدا إضافيا لهم، بالرغم من الفارق الزمنى الكبير بين جيله وجيلهم، ومن الاختلاف الفكرى والمذهبى بينه وبينهم، لكنهم رأوا فى أعماله ما يضفى الشرعية على تطلعهم نحو المجهول والميتافيزيقا.
- إن محمود سعيد فنان مثالى (بالمعنى الفلسفى لهذه الكلمة)، العالم بالنسبة له قوى خفية مجهولة تمتلك مصائر البشر، والأوضاع فى الطبيعة جزء من نواميس أزلية وأبدية، وكل ما بوسع الإنسان أن يفعله كى يستمر فى الحياة هو أن يبحث عن صيغة للتوازن النفسى معها كما حققته الطبيعة، وهو فى هذا من ناحية أخرى يقترب بتلك المثالية من أدراك ميتافيزيقى للوجود، تتشارك فيه شعوب العالم (متخلفة كانت أو متقدمة) فليست السريالية إلا محاولة عصرية للإجابة على تلك الأسئلة المستحيلة عن مناطق مجهولة فى الوجود، ومن قبلها بآلاف السنين ظهرت اجتهادات الإنسان عبر الحضارات القديمة للإجابة على تلك الأسئلة التى ما تزال قائمة حتى اليوم ... ومن هنا تبقى لمحمود سعيد معاصرته وعالميته المتجددة تجدد الأسئلة البديهية الأولى حول الحياة .. والموت .. وما بعد الموت.
بقلم الناقد :عز الدين نجيب
من كتاب (الفنان المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية)
المصور محمود سعيد
- في عام 1915 كان يجتمع في صباح أيام الأحاد جماعة من الشبان المولعين بالرسم والتصوير في محل المصور الشهير( زانييري) الذي كان يقطن إذ ذاك فوق استوديو
( البان) المصور الفوتوغرافي بالاسكندرية ليتعرفوا علي الرسم تحت إشراف الأستاذ
( زانييري) وكان من بين هؤلاء القاضي هيريروس والمصور سباستي وشريف صبري ومحمود سعيد وغيرهم، ولكن قضت الظروف أن يغلق الأستاذ ( زانييري) أبواب محله بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ وكان ذلك داعية لتفريق عقد هؤلاء الهواة وتشتيت شملهم. وإنه لمن المعترف به بيننا أن محمود سعيد كان الهاوي الوحيد الذي احتذي حذو أستاذنا ( زانييري) وحاكاه في طريقة رسمه محاكاة دقيقة إلي درجة لا تستطيع معها المبالغة في تقديرها خشية أن يترتب علي ذلك معني التقليل من شخصيته والاستخفاف بمقدرته الفنية.
- وقد استمر( سعيد) بعد ذلك يعمل ويجتهد متأثرا بطبعه وبالمحيط الذي نشأ فيه وبالمدارس التي كان يأخذ عنها.. إذ كان ينتهز فرصة سفره إلي الخارج ليزور المتاحف الفنية ويختلط بكبار المصورين في مختلف البلاد الأجنبية وقد كان هذا من الأسباب التي مهدت السبيل إذ ذاك لبعض النقاد أن يرجعوا باللوم علي ( سعيد) بأن فنه قد تأثر تأثراً واضحاً بفن الإيطاليين الأولين. وأعود مرة أخري فأقول: من ذا الذي يستطيع أن يفخر بأنه قوة جديدة لا علاقة لها بالماضي وأنه لم يتأثر بعوامل خارجية مدي تربيته الفنية ؟ فما عقل الإنسان إلا ملتقي آراء غيره ومكان امتزاج أفكارهم. ومن منا بلغ به الغرور يوما أن يدعي استنباط شئ جديد لا يمت بصلة إلي شئ سبقه ؟ دارت عجلة الزمن وأصبح ( سعيد) أبرز مصور مصري عرفته البلاد، وإذا كان إعجابي بفنه عظيما فذلك راجع إلي أنه المصور الوحيد الذي كان في مكنته أن يصل إلي المثل الأعلي في رأيي والذي استطاع أن يبرز الفكرة التي كانت تدور في عقلي وتجيش في صدري وتملأ نفسي عن هذا الفن.
- إن ( سعيداً) مصورا مصري بأدق ما في هذه الكلمة من معني، وليس فنه مصريا لأنه احتذي في طريقة رسمه طريقة القدماء، ولا لأنه سجل علي لوحاته مناظر مصرية معروفة، ولا لأنه أبرز عليها مناظر حريم القصور في العصر الماضي أو مناظر القوافل تسير في الصحراء، ولا لأننا نجد علي لوحاته منظر البياضات الحريرية المطرزة المزركشة الحواشي وهي ملقاة علي المقاعد المصفوفة داخل أحد القصور الشرقية القديمة.. حقا لم يرسم( سعيد) يوما منظرا من مناظر الموسكي، ولم يفكر في إطلاق ريشته لتطبع منظر أحد بائعي البخور في خان الخليلي مثلا أو الأهرام وقت الغروب، ولم يحاول أن ينمق رسمه علي الطريقة الفرعونية ليجعل الرائي لصوره يفكر في مصر وأنه في مصر حقا. كل ذلك لم يحاوله( سعيد). لم يكن فنه كما قلنا مصريا لاشتماله علي المناظر أو المناسبات المحلية التي تمت لمصر بسبب وإنما كان فنه مصريا بما تستلهمه روحه من لون السماء والنهر وما ينبعث منهما من حرارة وقوة، وبما يشع علي قلبه من ذياك الضياء الذائب في أعماق النهر والسماء... وهاتان الخاصتان هما وحدهما اللتان تمكن( سعيد) من تسجيلهما في جو لوحاته المرهوب. فإذا ما أبرز لك
( سعيد) علي لوحة نهرا أو سماء أشعرك بأن هذا النهر وهذه السماء هما في مصر حقا دون أن يلجأ إلي إضافة منظر شيخ معمم أو غادة محجبة ليسجل للمنظر طابعه المحلي.
- إن تصوير( سعيد) يستمد مصريته من صفاء الجو وشفافية الألوان، ومن عظم الكائنات السليمة التي لا يحجبها عن العين غبار أو ضباب ومن ذلك اللون الخمري ـــ الذي يستمد خمريته من الطمي ـــ ذلك اللون الذي ينعكس علي العين من ضياء قطع العين الأرض المغمورة بالمياه، ومن ارتعاش أشعة النور الفسفورية، ومن تلك الأشعة الوضاءة المقرونة بتلك الألوان القاتمة التي نعثر عليها دائما في حواري مصر المكسوة أرضها بطبقة من الطين. إن هذه اللوان هي عينها التي تعلو وجوه النساء الوطنيات اللائي يتصدي ` سعيد` لرسمهن، وهي نفس الألوان التي تتمثل في تجاعيد شعورهن وعلي أهداب أذرعتهن تنبعث من جميع لوحات ` سعيد` عظمة ووقار كبيران، وأنه ليتمثل لك هذا الوقار وتلك العظمة في صورة هؤلاء العذاري اللاتي تفيض الشهوة من هيكلهن، وفي صورة ابنته الطفلة أيضاً، فكان جميع نماذجه تكتم في صدرها خواطر رصينة تحدرت عليها من أجيال عديدة سبقت.. إن جميع صوره مفعمة بوقار شامل وروح مؤثرة، وكأنك تلاحظ فيها إن واحدة منها لا تجرؤ علي أن تتحرك لها شفة أو يهتز لها طرف سواء شارفتك بنعومة نظرتها أو بحدة إمعانها. هذه الصور كلها تستقي حيويتها علي طريقة التماثيل، ولما روعي في رسمها طريقة صنع التماثيل كان لابد أن تشغل حيزاً في الفراغ، علي أنها ترتقب في صبر أن يسمع صدي أسرارها المكتومة يوماً.
- أضحي ` سعيد` مصوراً نموذجياً دقيقاً وظلت صورة مصبوبة في قوالب الفن النموذجي Classique الذي يئس المصورون من الوصول إليه أو اللحاق به، ذلك لأنه من أول عهده بالتصوير قد حافظ علي مبالغته في دقة الرسم كما يحافظ العابد علي عبادته، بينما باقي المصورين مذبذبين فتارة يتمسكون بالقواعد القديمة وتارة يتماشون مع بعض النظريات الفنية الحديثة وأخص بالذكر نظرية الرسم التأثري impressionisme`L أعني الرسم في الهواء الطلق بعيداً عن الغرف المعدة لذلك تحت ضوء صناعي معين. والواقع انه لم يكن من السهل الهين علي مصور حديث أن لا يتأثر بوجهة نظر أصحاب تلك النظرية. فالمصور` كلود مانية Claude Manet ` وجماعة من المصورين الماهرين الذين كانوا مغرمين بانعكاس الألوان المختلفة علي الأجسام كانوا يؤكدون أن أشعة النور علي الأجسام واضحة جلية وبهذا لا يتم للأجسام حدودها الطبيعية ولونها الحقيقي ما دام يكفي لتغيير حدودها ولونها مجرد شعاع يعكس عليها من اعتراض شجرة أو مرور سحابة.
- هذه النظرية لها روعها ولها جاذبيتها وبخاصة عند الذين يلمسون صعوبة الرسم الدقيق والذين يدركون جميع الصعوبات التي يتعرض لها المصور النموذجي عندما يشرع ليرسم رسماً يحاكي الأصل.
- ولكن مما يفخر به أن سعيداً لم يهمل المحافظة علي دقة الرسم بالرغم مما أسفرت عنه هذه النظرية من بحوث جديدة في ماهية الألوان، لان قلبه كان مفعماً بالاطمئنان ونفسه كانت عامرة بذلك الشعور الذي كان يوحي إليه دائماً بأن مفعول هذه النظرية إنما هو مفعول وقتي ولن يؤثر قط في كيان الفن الحقيقي ولن يزعزع أساسه. بالرغم مما أدخل عليها من تعديلات وتحسينات وقتية أيضاً. هذه الثقة التي كانت تملأ قلب سعيد هي من الصفات الضرورية لكل مصور ولا غني عنها لكل واضع لعمل فني وليس ينصب معني هذا القول علي أن صور سعيد كانت شبيهة بالصور الفوتوغرافية الملونة لما يراعي فيها من دقة النسب. وأنه لا يفوتنا أن نثبت أن الصفة الممتازة التي تتميز بها صورة فنية هي ما يلهمه فيها المصور من حياة وما يطبعه عليها من خلق خفي ينطق بطبيعة صاحبها.
- لم يكن سعيد كغيره من المصورين الذين يبرزون بدائتهم في التصوير في جسارة وجرأة لا ينقذهم منها مرور الأيام والخبرة. حقا لم يكن سعيد من هذا الصنف من المصورين فإنه لم يظهر الجسارة أو الجرأة في فنه إلا بعد حياة مدرسية طويلة، وكانت أولي لوحاته كما قلنا تدل علي دقته التامة في التصوير وإن طريقة فنها طريقة نموذجية. لا يذكر هواة المعارض عند ذكر اسم ` محمود سعيد` إلا مجموعة من الصور ذات الألوان القاتمة الثقيلة الوطأة ويشعرون بذلك الانقباض الذي ملأ صدورهم عند وقوفهم لأول مرة أمام بعض الصور التي يلوح أن ` سعيداً ` سن فيها الأشخاص من طين محروق أو حفرها في خشب قديم. ولم يذكر أحد سوي أصدقاء المصور، الذين لازموه من أول عهده بالتصوير، غير إنه كان في فترة من الزمن كأغلب شباب المصورين، مصوراً مرحاً يملأ صوره بألوان بهيجة زاهية وذلك لما تركته نظرية `الرسم التأثري impressionisme ` L` في نفسه من حساسية وميل إلي ألوان ناطقة ملء العين وملء النفس.
- كان ` سعيد ` فى ذلك العصر يرسم مناظر مختلفة وصور أشخاص في الحدائق أو تحت الخمائل أو بين شجيرات الورد الأحمر التي تتناثر منها الاسلال الوردية الذهبية وقت الأصيل، ذلك الوقت الذي يشهده الشعراء والمصورون ليطلقوا أعنة خيالهم في منظر الشمس وهي تنزع إلي المغيب.
- وتلك السهولة التي كان في مقدوره أن يبرز بواسطتها الشبه علي حقيقته كانت وحدها تكفي لأن تقتل فيه كل مواهبه الفنية شأن كثير من المصورين الذين يتنكبون طريق البحث والإطلاع اكتفاء بما لاقت منتجاتهم من الإقبال لدي الجمهور. فكنت تري في صوره دقة ورصانة في تسجيل جميع التفاصيل حتي إنك لتلمح التجاعيد الدقيقة التي تعلو أصابع اليد والتي تكسو الجبهة وتحف العين، ولم يفته ذلك الأثر الطفيف الذي يتركه جري الموسي علي العارضين.
- ومن أجمل هذا النوع من التصوير صورة ` الحاج علي` البواب التي راعي فيها بالذات، علاوة علي ما ذكرنا، شيئا جديداً وروعة خفية لم يسبق له معالجتهما في صوره من قبل، وهما الشيئان اللذان يفعمان جو صوره بتوازن خاص وبرنين موسيقي لا يدرك سببهما إلا كل من أدام إمعان النظر فيهما، فقد عالج ` سعيد` في هذه الصورة مسألة الظلال بطريقة جديدة بعينها تعجب الروائي دون أن يلم بالسبب، ولكن الواقع أن هناك سبباً فنياً يرجع إلي أن المنظر الذي خلف الحاج علي يجلي عن صورة نهر يسير فيه قاربان ذو شراعين صغيرين وانه اتخذ من شكل الشراع صورة مكررة ورددها بتصرف في ظلال الصورة جميعها، فتجد في فتحة صديريته وفي أكمام ردائه وفي أطراف عمامته ما يذكرك بشكل الشراع، كما انك إذا دققت النظر تجد هذه المعالجة بينة واضحة علي وجهه أيضاً، فكأنما هو موسيقي يرجع نغمة حلوة في أنحاء اللحن، وهذه هي الروعة التي تعطي للصورة ذلك التوازن وذلك السحر اللذين يغرق فيهما الرائي إعجاباً وافتتاناً. لم تتميز صور ` سعيد` بإتقان الرسم الذي استطاع أن يطبع عليه اللون المصري فحسب، بل الواقع أن فنه يمتاز عن فن غيره بأسباب عديدة يعز تقصيها جملة إلا في كتاب يخصص في تحليل منتجاته والكلام عن تطورات فنه في مراحله المختلفة سواء أكانت هذه المنتجات صوراً لأشخاص أو لمناظر برية أو بحرية أو لأشياء جامدة وهي ما تسمي بالطبيعة الميتة `Natur Morte `. وأننا لنجتزئ في هذا البحث بالقول أن ` سعيداً قد برع في ` عملية التأليف أعني اختيار المنظر وطريقة تصويره علي اللوحة في اتزان وانسجام، وهذا التأليف هو ما يسمونه بال(Composition) كما أنه يجدر بنا أن ندون مقدرته في وضع الألوان بقيمتها الحقيقية، وهذه هي الميزة التي تظهر قيمة الفنان النابغ من المصور العادى. قف أمام أية صورة تصادفك في حانوت أو في متحف للصور ولتكن صورة حديقة رسمت مثلا وقت الظهيرة تظللها أشجار يمرح تحتها أطفال حول نافورة مياه. أمعن النظر في أجزائها المختلفة تري كأنما ينبعث من الأرض حرارة طبيعية، وتري الأشجار كأنما علاها لون هادئ يعبر عن رسمها وقت الغسق، والظلال باهتة كأنها تستخلص سكينتها من نور الصباح. فالمصور الماهر هو الذي يتجنب ذلك التباين في قوة الضوء والذي يستطيع أن يحافظ علي قوة واحدة للضوء في جميع أجزاء الصورة الواحدة وهذا ما لا يتمكن من أدائه بتلك الدقة إلا القليل النادر من المصورين.
- إن النظريات الحديثة التي ألمَ بها ` سعيد` في الزمن الماضي لم تترك في نفسه أثراً واضحاً كما تركت في نفوس غيره والواقع أن نظرية الرسم التكعيبي Cubisme لم تبق في عقله إلا بعض المؤثرات التي ما كانت لتستطيع أن تحيد به عن الطريق الذي اختطه لنفسه وسلك منهجه وبخاصة ما كان له صلة بالتوازن وبأحجام الأجسام التي لها حيز في الفراغ. والذي يبين ذلك جلياً صورة تلك الخادمة التي تحمل صينية عليها قلتان ويرجع التوازن في هذه الصورة إلي أنها تكاد تشغل فراغ شكل هندسي ( شكل معين). مرت الأيام واصبح ` سعيد` لا يرسم إلا ليرضي نفسه وبعض أصدقائه فكان يشتغل بالفن للفن حتي أن بعض المعجبين من النقاد الأجانب قالوا انه ` مصور للمصورين`. لم يتأثر ` سعيد ` بنقد النقاد واستمر يرسم طوع غريزته ووحي فنه، ولم يرسم حسب طريقته ليقال انه مخالف لغيره بل لأنه كان يرضي الجانب الفني الذي يتماشي وشخصيته القوية.
- وقد هز بذلك كما قلنا، نفوس المصورين بصورة التي انتهج فيها منهجه الخاص وإلهام روحه اللذين اكسباه إعجاب النقاد من أجانب ووطنيين. ومن دواعي الغبطة والاستبشار أن اصبح كثير من شباب المصورين المصريين يعترفون بزعامة ` سعيد` ويهتفون بها ويتوجون بفنه هامة الفن، ومن بين هؤلاء الأستاذ الفنان سند بسطا المحامي الذي ارتقي بفن ` سعيد ` إلي العلا في مقال له نشرته جريدة الأهرام عام 1933 نقتطف منه ما يلى.....` وإذا تكلمت عن الفنانين المصريين فإنما أبدأ بزعيم النهضة في هذا المعرض وهو الأستاذ ` محمود سعيد` إنني لم أحظ بمعرفته ولكنني شديد الإعجاب بفنه ويشاركني في هذا الإعجاب أصدقائي من الفنانين الأجانب، ففنه دائم التطور والتقدم بل اعتقد إنه أقوي مصورينا يعجبني فيه قوة الابتكار وبعد صوره عن الابتذال والتقليد فهو قدير في إظهار نفسية من يصورهم وما احتوت عليه نفوسهم من طباع وشهوات الخ`...... والواقع أن صور ` سعيد ` ليست من الصور التي تحتاج إلي شرح ودفاع إذ أنها مليئة بحياة تكفي للدفاع عن نفسها، وبينما يجذب فنه نفوس البعض بتلك القوة الخفية وذلك السحر الذي يسيل منه إذا بنا نري عين هذه الصورة بعيدة عن مس أوتار قلوب البعض الآخر.
- فى فن ` سعيد ` شئ خفي آخر يستوقف النظر كذلك الخفاء الذي يتميز به فن المصور الأسباني Greco ذلك الفن الذي لا وسط لتذوقه فإما أن تحبه وتغرق في حبه وإما أن تبغضه وتمعن في بغضه. ولكننا نحب فن ` سعيد ` كما يحب لون النيل الذي يعجز الوصاف عن وصفه لاشتماله علي خليط من ألوان الطمي وأشعة الشمس وصفاء السماء، وبهذه الألوان القليلة يعتبر ` سعيد ` من أمهر المصورين لأنه استطاع أن يجعل هذه الألوان نفسها تهتف في صوره بنغمات شجية تمس القلب وإن شئت فقل أنها نغمات حزينة تحاكي وقع أقدام محبوبة في إذن واله بعد أن ودعته الوداع الأخير. إن عجينة الألوان التي يرسم بها ` سعيد ` هي عجينة حارة كأن عليها طبقة من الصدأ كتلك التي تعلو التماثيل التي تهزأ بالسنين والأجيال. ونحب أيضا فن ` سعيد ` لاشتماله علي روح شهواني خفي فتري في معظم لوحاته ذلك الشئ الذي لا يمكن وصفه والذي يضغط علي القلب فيجعلنا نذكر لذاذات الحياة حتي أمام تصويره لصور المقابر التي يشيع في جوها حزن كشعور المحب حين يستروح شذا عطر يذكره بأوقات هناءة مضت وتنبعث منه نغمات تزحف ببطء علي الروح كأنها قبلة قاتلة.
- ولقد أبدع أيضا في تصوير تلك القسوة التي تزين عيون بعض العذاري حين يضطرم جسمهن بشهوات غامرة لا تشبع. ولن أنسي صورة تلك المرأة التي كانت في جمالها أشبه ما تكون بغزال شارد فأذكر ملامحها والسخرية تبدو علي شفتيها والأشجار من حولها تبكي والسماء في صفائها ينحدر منها لعاب الشمس كنقط الطل المترقرقة فوق الأزهار في الصباح، وكان لهذا التصوير أريج أخضر يتضوع منه عبير أوراق ندية.
- انظر إلي تلك الغادة التي تسدد إلينا سهام اللحظ ولا تري صعوبة في جرح قلوبنا بتلك النظرات المعطرة بالقسوة والدهاء، انظر إلي لحظها الساخر في حنانه المدلل بسواد إنسانة وما أشبه سواده بحظ المصور، انظر إلي أهابها الناعم المزري برونق الزهر.. انظر إلي يديها وإلي ذلك الخاتم الذي لا يزيد بنانها جمالا، انظر إلي أظافرها الوردية كأكمام الورد في الصباح، انظر إلي كل ذلك ونبئ إذا كان في مقدور مصور أن يبرز مثل هذه الصورة لو لم يكن قلبه مفعما بالعاطفة الجامحة ولو لم يعبد تلك الغادة التي تهجم نظراتها علي روحه بغرام ينسي آلام الحياة.
- كما أني أذكر صورة تلك ` الزنجية ` وما يحوطها من شهوة وإغراء، أذكرها وهي تنظر إلينا وسآمتها تئن كأريج زهرة تذبل ببطء في هواء حجرة يسبح فيها صمت الوحشة، فنري أنها تشعر أن حياتها تذهب هباء كتلاشي الأمواج علي الشاطئ، هذا الشاطئ الذي كان يذهب إليه المصور ليغسل ذكري عهود غابرة. كما أني أذكر صورة تلك الخادمة ( هاجر) وهي جالسة علي الأرض تفكر في حياتها التعسة فتحس أنها اتعس حالا من حسناء ذهب بجمالها تشويه الشيخوخة ودمامة الهرم، فيخيل إلينا أنها كلما وقفت أمام المرآة ورأت غضون وجهها وهزال ثدييها المتدليين علي ثنايا جسمها العديدة سقطت الحسرة في قلبها وتنفست البرحاء علي نضرة مضت ، وغض أهاب جف وتشقق.
- ومما يجدر أيضا أن هذه ` القوة الكاركاتورية ` التي نجدها في لوحاته الأخيرة نجدها أحيانا في لوحاته القديمة أيام كان يشع في صوره النور الذهبي والنسيم المنتشر والألوان الزاهية، فكان ` سعيد ` يسجل في ملامح الشخص الذي يرسمه شيئاً من أخلاقه ويطبع عليها ذلك الطابع الذي يخلده الزمن في المستقبل. صورني ` سعيد ` عام 1914 صورة كانت مثار ضحكنا وهزئنا فكانت في نظرنا العابث كأنها صورة المحكوم عليه بالإعدام وحول عينيه تلك الهالات السوداء، وعلي فمه تلك التجاعيد التي تتركها الأيام القاسية علي سيمائنا، وكثيراً ما هزأنا بسعيد في ذلك العهد من أجل هذه الصورة ومن أجل صور أخري تشابهها. ولكن من المدهش حقا أن هذه الصورة الغريبة أصبحت تشبهني تمام الشبه وأصبح الأمر لا يحتمل الضحك بل مما يدعو إلي الإعجاب والتقدير. وإنني لأعترف اليوم في احترام وتبجيل بأن ` سعيداً ` لم يشوه الوجوه إذ ذاك جزافا أو أنه ما كان في استطاعته اتقان رسمها اتقاناً تاماً، وإنما كان يقصد إلي ذلك عمداَ كأنه كان يحاول أن يسجل الملامح التي سيكشف عنها مرور الزمن المخبوءة اليوم تحت نضارة الشباب فقط.
- لذلك أرجو وألح في رجائي أن يلمس ` سعيد ` في هذه الأسطر القليلة مبلغ أسفي علي عدم تقديري لفنه إذ ذاك، وأملي أن يعثر علي الإعجاب الذي يعطر قلبي كلما أشاهد ما أبرزته يداه من تحفة الثمينة. أرسل إلي ` سعيد ` أخيراً صورة ` حديقة مهجورة ` قد علقت هذه الصورة أمامي علي الحائط من غير إطار لغلاء الخشب في هذه الايام.

بقلم : أحمد راسم
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
رواد الفن التشكيلى فى مصر محمود سعيد
- بنات بحري يتفجر فيهن سحر الأنوثة وعبق البحر.. أشرعته البيضاء نصال تتحدي القدر والعدم، قواربه تفرض وجودها فوق الأزرق اللانهائي. أجساد النساء العارية تسمع من بشرتها رنين النحاس وصهيل الخيول الجامحة، وفي عيونهن السميكة حواء أو الأنثى وتسمع من شفاههن نداء جنيات البحر...
- 8 إبريل موعد الميلاد والرحيل علي ضفاف البحر المتوسط وفي حي الانفوشي وبالقرب من مسجد أبي العباس وياقوت خرج إلي الحياة علم الإسكندرية في الثامن من إبريل عام 1897، هكذا كان ميلاد محمود سعيد وفي نفس اليوم الثامن ونفس الشهر رحل عن الحياة عام 1964عاش علي ترابها سبعة وستين عاما بالتمام ولقد سبقه إلي الخلود بنفس التوقيت العجيب( رافاييل عبقري عصر النهضة فقد كان علي موعد مع القدر في السادس من إبريل في عيد ميلاده السابع والثلاثين عام 1520) كان والده ناظر النظار رئيس الوزراء محمد سعيد باشا يري فيه خليفة له في النظارة فألحقه بكلية فكتوريا عام 1904 حتي 1908بعدها اكتفت الأسرة بتحصيله الدرس في المنزل ونظرا لذكائه الشديد فقد حصل علي الابتدائية `منازل` سنة 1911ثم حصل علي الكفاءة بتفوق في العام التالي وفي عام 1915 حصل علي البكالوريا من مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وكان ترتيبه الثاني، أرسلته الأسرة إلي باريس لدراسة الحقوق حيث قادته موهبته إلي زيارة المتاحف الهامة حيث شغف بالفن، وفي عام 1919 حصل علي ليسانس الحقوق الفرنسية من أكاديمية باريس. عاصر محمود سعيد في فرنسا انتهاء الحرب العالمية الأولي وشاهد المجتمع الفرنسي يمور بالتغيرات في مختلف نواحي الثقافة والحياة وشهد إشراقة الفن الحديث وثورة 1919 التي احسها كل مصري والتي شحذت كل الهمم الوطنية والفنية.
- للفن قصة بدأت موهبة محمود سعيد في الظهور في سن مبكر ولكن اهتمامات الأسرة كانت في اتجاه آخر مما زاده إصراراً وحباً للفن. كان محمود سعيد يرسم داخل كتب الدراسة يجسم بالخطوط أشكالاً بسيطة وسمع عن فنانة إيطالية خريجة أكاديمية فلورنسا الشهيرة ـــ تفتح مرسمها للتدريب فالتحق بمرسمها وهي الفنانة كازاناتودي فورنو وكان ذلك عام 1912 حيث وجد عدداً من الطلبة المصريين والأجانب، وما لبث ان انضم بعد ذلك إلي مرسم زانييري وفي هذه الفترة زامل شريف صبري وجورج خوري وسيباستي، وهيربروس وغيرهم في هذه المراسم تعرف محمود سعيد علي شيء عزيز ملأ فؤاده واخرج حياته من برودة القصور إلي معترك الفن وكانت أخبار خريجي مدرسة الفنون ومعارضهم تنبعث من القاهرة شعلة رائعة حيث لمعت في تلك الفترة أسماء مختار وناجي وراغب عياد ويوسف كامل ومحمد حسن.
- المتاحف الفنية أيضا مدرسة عظيمة
- سافر محمود سعيد إلي أوروبا عدة مرات حرص خلالها على رؤية أعمال عتاولة الفن المشهورين فزاد من نهمه وعشقه للفن فما أن تخرج من أكاديمية باريس وحصل على ليسانس الحقوق سنة 1919 حتى سارع بالالتحاق بمرسم الكوخ الكبير الذي أسسه انطوان بورديل ثم أكاديمية جوليان حيث تتلمذ علي الفنان الفرنسي الشهير بول البير لورانس في الفترة من 1919 حتي 1921 وهكذا قادته المتاحف الفنية إلى حلمه الجميل وقادته موهبته إلي طريق الإبداع.
- عقبات في الطريق
- لم يكن ناظر النظار راضياً عن الطريق الذي اختاره ابنه ولم يعجبه قط أن يصبح ابنه فناناً فما كان منه إلا أن ألحقه بالإلحاح تارة والترغيب تارة أخري بسلك القضاء وعين في عام 1922 مساعدا للنيابة بالمحاكم المختلطة بالمنصورة وظل يترقي في هذا السلك حتى أصبح مستشاراً.
- القضاء والشك والقلق
- نشأ عن الصراع القائم في نفس محمود سعيد حالة من القلق والشك والتوتر النفسي فمن المدهش حقا أن تكون هذه الأحوال من سمات القضاة، فالقاضي غايته اليقين والاستقرار في الحكم بعيداً عن التوتر والانفعال وهذا عكس ما كان ينتاب محمود سعيد، فهذا التوتر وهذا الشك والقلق هي لوازم سيكولوجية تصاحب المبدعين فهي سمة الفنان، وصلب حالته المشحونة بالثورة فهو يعشق الفن وقد فرض عليه القضاء قيوداً تحرر منها نهائيا باستقالته عام 1947من سلك القضاء متفرغا للفن بعد أن قضي ربع قرن من الزمان وهكذا انتصر حبه الكبير، وقد عرف تاريخ الفن المصري الحديث ثلاثة فنانين هجروا القضاء هم محمد ناجي وجورج صباغ ومحمود سعيد. عبر محمود سعيد بمنتهي الصراحة والوضوح عن صراع الشك والتوتر والقلق الذي كان يعيشه دوما، فكتب في تأبين صديقه الفنان الراحل جوزيف سيباستي عام 1961قائلا (صديقي العزيز سيباستي أنا جئت اليوم مع أصدقائك ومحبيك لنعبر بإنتاجك الفني، الذي طبعته بالإخلاص والحب والمرح والجمال فإنني أريد أيضا أن أذكر إعجابي بصفاتك الإنسانية فقد كنت لي الرفيق المثالي والراحة التي لجأت إليها على مدي صداقتنا الطويلة عندما كان ينتابني الشك والقلق فكنت تنعشني بتفاؤلك وحيويتك وإيمانك العميق بالحياة).
- محمود سعيد والمساحة الصامتة
- من الواضح أن محمود سعيد كان يعاني من التوتر والاضطراب النفسي الذي يعاني منه جميع الفنانين علي الرغم من استقراره في الإبداع منذ عام 1947 ولقد أحاط الفنان حياته الخاصة بستار من حديد وما وصل منها إلينا كان قليلا لا يقيم بحثا لباحث فلم يكتب لنا عنها ولم يعلق عليها أحد من أسرته كما أن شيئا هاما لغاية في حياة الفنان وهو اقترانه بزوجته لم يذكر لنا أي مصدر شيئا عنها وعن ظروف هذه العلاقة، عن قوة العاطفة أو ضعفها أو حتي عن قصة حب قبل الزواج فقد ترك هذا الفنان الكبير مساحة صامتة ولكن يكفينا مساحات التوال والألوان وحديثها البليغ وأصواتها الصداحة وهمساتها الناطقة التي نستطيع أن نستكشف منها الكثير من الأسرار.
- عندما يتكلم الصمت!
- يقول الناقد المصري الكبير مختار العطار: عندما نكتب عن اللوحات والتماثيل فإنما نضع الكلمات علي شفاه `عالم الصمت` في بداية حياة محمود سعيد الفنية كان كثيراً ما يعلق إعجابه الشديد بالفنانين روبنز ورمبرانت بأضوائه القوية ولم يكن ميالا للتجاوب من ألوان المدرسة الفلورنسية مثل تتسيانو ورافييل واتجه بإعجابه بعد ذلك إلي فان دايك وفان درفايدن وفيرمير أقطاب المدرسة الفلمنكية، ولقد أعجبه في هذه الأعمال الرصانة والبناء المعماري... وإنني اشترك في الرأي مع الأستاذ بيكار في أن الينبوع الذي ارتوي منه محمود سعيد في مراحله الأولي هو ذلك الفن الفلمنكي المبكر، والفن الإيطالي المبكر قبل عصر النهضة فنجده تأثر بقوة الفورم عند مساشيو وجيوفاني وجينتلي وبليني في الضوء وتدرجه، وأضيف انه سرعان ما تأثر بالمدرسة الفلورنسية التي لم يكن ميالا لها في البداية ـــ تأثر بها في بعث الألوان القوية الدنيوية، وانتقل بعد ذلك إلي التأثر بقوة التشريح في عصر النهضة وهندسة التكوين عند عباقرته المعروفين مايكل انجلو وليوناردو دافنشي ورافييل لم يتوقف تطوره عند فهم وهضم مدارس الفن الحديثة فنجد في لمسات الفرشاة العريضة عنده أصداء التأثيرية... وتميز بخصوصية في التناول وأطلق سراح الألوان القوية فاقترب كثيرا من المدرسة الوحشية بألوانها الساخنة وخلطها بألوان الطينة المصرية وسمرة الوجوه، وعبر أيضا من باب المدرسة التركيبية في تجميع العناصر المختلفة تجميعا مسرحيا جميلا مستخدما عناصر من الحيوان والنبات والطبيعة.. وتوقف عند رصانة المدرسة التكعيبية في التظليل المساعد علي إبراز الشكل وفي توزيع امتدادات التحليل الخطي والمساحي. لكن اخطر ما في فن محمود سعيد وقوته المتفردة في الفن المصري الحديث هو إشراك الحواس في التعجيل بعبور العين والوجدان لسطح اللوحة والنفاذ إلي الحقائق الباطنة التي ترددها ذاته بقوة، من خلال هضمه لمختلف المدارس الفنية بحرية الفهم، لينسخ من ذلك كله تلك الشخصية المتفردة وهذا الطراز الخاص من الإبداع الذي يبهرنا ويجعلنا نصيح أمامه `هذا هو محمود سعيد` تكونت رؤية محمود سعيد الخاصة مع بداية العشرينات كما في لوحة `هاجر` وفي الثلاثينات اهتدي إلي نموذج الأنثى كما في لوحة بنت البلد حاملة القلل التي يلفها ضوء خاص ــ ويميل كثير من النقاد إلي اعتبار الثلاثينات هي اخصب فترات حياته، ويرجع ذلك إلي انه قد اخذ في هذه الفترة يتعقب التفاصيل المثيرة في جسد الأنثى ويرفع عنه القناع ليصل إلي عنصر الجمال الحسي العارم وينقل إلينا نبض الجسد الأنثوي الفائر بالرغبة والقوة والصراحة غير أن هذه السخونة والتدفق لم تكن مقصورة علي الثلاثينات فقد امتدت بعد ذلك لفترات طويلة حتي منتصف الأربعينات ففي عام 1943نجد انه قد جسد في لوحته `ذات الحلي` الممتلئة بتلك الحسية فنجده قد صور نموذج الأنثى وفي عيونها إشراق وذكاء عجيب وتطلع ينم عن فكر وتأمل بعيد.
- أصداء التراث المصري
- في أعمال محمود سعيد الكثير جدا من أصداء التراث الفرعوني والقبطي والإسلامي. فنجد في صورة شفاه نفرتيتي المكتنزة وتحوير الوجوه في المدرسة الاخناتونية في استطالتها وعمق النظرة والألم الباطن الموجود في وجوه الفيوم، والزخرف الدنيوي ودندشة العصر المملوكي وأصداء الرغبة في ألف ليلة وليلة وعصر هارون الرشيد. صور أيضا الأجساد والوجوه الشعبية في سخونتها وفي صراعها بين الفضيلة والمجون واظهر في حيويتها تناقضها مع الصور التي رسمها للشخصيات الأرستقراطية وسيدات المجتمع الباردات.
- ماذا صور محمود سعيد؟ صور الصيادين في صراعهم من اجل لقمة العيش كما في لوحة ` الصيد العجيب` وحياة الريف، الشواديف أمومة ولوحته الشاملة للطبيعة والإنسان والحيوان ونهر النيل والمراكب والخيول `حمام الخيل في المنصورة` كما صور البسطاء المؤمنين بالقدر وبالقوي الغيبية والمكتوب والموت كما في لوحات `الذكر والموت والدفن والصلاة والعاطل` احب محمود سعيد مختلف المناطق التي زارها وصور المناظر الطبيعية بكل الحب والانبهار وأضاف عليها من نفسه والتقي مع فكر الأديب الكبير نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والفكر الجديد في الوطنية التي طرحته بكل قوة ثورة 1919 وأوحت إليه روايات أديبنا العظيم نجيب محفوظ وتماثيل محمود مختار ولوحات راغب عياد وناجي بالشخصيات الفرعونية وفي ذات الوقت كان مطلعاً علي الثقافات الأوروبية بموسيقاها وآدابها وفنونها.
- بنت البلد
- أشار محمود سعيد عام 1960 إلى نقطة الصراع المتناقض في شخصية بنت البلد المصرية بقوله: (في رأيي أن بنت البلد المصرية تجمع بين الإنسانية والحيوانية، بين الصفاء الروحي والاشتعال الجنسي، بين المرح الباسم والحزن القاتم، إنها وعاء كبير تغلي فيه المتناقضات وتتصارع فيه الأضداد). ولذلك فانه كان يصورها بمزيج من الألوان القاتمة التي تهاجمها الأضواء متدرجة حتى تصبح ناصعة مبهرة أشبه بومضات النور المباغت الذي يفاجئ سطوح الأجسام وكأنه يومض عليها لأول مرة كاشفا عن روعتها. ويقول محمود سعيد، ان شخصيات ديستويفسكي المزدوجة كان لها تأثير كبير علي تكوين فكرته عن المرأة وخاصة بنت البلد بنت بحري، فيها تكمن قمة الصراع الدرامي الشهير... صور محمود سعيد بنت البلد وجسد فيها زخم الصراع النفسي الطويل بين الاحتشام وبين السفور بين الظاهر والباطن فهي تلبس الملاءة اللف بينما مفاتنها تعبر عن أنوثتها الصارخة فنموذج الأنثي في الأحياء الشعبية ظاهرها الحشمة وباطنها الرغبة المستعرة، وخلف الخمار والبرقع البلدي عيون تنادي وترجو، وأجساد فائرة مكبوتة... وما هذه الصراعات إلا صورة من الصراع النفسي بين النظام والصرامة المقننة وبين الحرية والانطلاق بين المظهر والجوهر الذي عاشه محمود سعيد ذاته لذلك تمثل بنت البلد التجسيد المادي للشخصية والخصوصية في فن محمود سعيد 0
- العاريات ... قنبلة
- تفجر اللوحات العارية بما تحمل من نبرة حسية عالية نداء سبق عصره، فالجسد الإنساني وبالذات جسد المرأة هو عورة والكشف عن المستور فيه جريمة لذلك كان لتناول محمود سعيد لهذا الموضوع وقع القنابل وسط السكون وقد عالجها محمود سعيد بكل الجسارة والجرأة ولذلك كان وقعها مدويا على المجتمع المصري المحافظ وقتئذ. أما من الناحية الفنية فقد أظهر محمود سعيد كأستاذ في التجسيم `فورماتير` ــ صور العاريات ففي هذه اللوحات امسك الفنان بالفورم واللون متزامنا مع عنصري الإثارة والتشويق ولذلك فان دارسي الفن المتعمقين يضعون لوحاته العارية في صف واحد مع أروع أعماله واشهرها في هذه اللوحات صور محمود سعيد جسد المرأة معجونا بطين الوادي ممتلئا بالحيوية والنضارة والمرأة في هذه اللوحات تنتظر الرجل كما كانت مصر تنتظر سعد زغلول وأمثاله من الأبطال والمرأة هنا هي إيزيس تبحث عن أوزوريس علي المستوي الأسطوري الفرعوني القديم وهي كليوباترا ونفرتيتي وغيرهما من بطلات مصر القديمة. الوجوه عند محمود سعيد اكسبها استطالة وتحويراً فهي ليست وجوها عادية فقد أضاف عليها شيئا غزيراً من المتعة والحيوية وقد ساعدت هذه الوجوه على تميزه واختلافه عن وجوه من سبقوه من المبدعين وعن لاحقيه أيضا. تكررت في لوحات الفنان الكبير صور الحمار فهو تارة يطل علينا من زاوية لوحة أو يتوسطها أو يسير بعيدا فهو عنصر أساسي في لوحاته الكبيرة والصغيرة ولونه المفضل هو الأبيض وفي كل الأحوال تنظر إلينا عين الحمار في ترقب باحث وهو بطل احبه الفنان كثيراً فقد كان هذا الحيوان ملازما لظروف الطبقات الكادحة ووجوده وجود رمزي يرمز إلى قوة الاحتمال والصبر وأيضا إلي الوداعة والكفاح. أحب الفنان مظاهر الطبيعة مثل البحر الذي شهد مولده في الإسكندرية وأحب السماء والغيوم لكن البحر عنده غامض بألوانه الداكنة وسماءه ليست شفافة، فهي سماء مادية استخدم فيها اللون بكثافة عالية وخاصة اللون `الالترمارين بلو` وهو نفسه لون المياه العميقة كما استخدم اللون `الأزرق البروسي` في رسم مياه النيل كما في لوحته الرائعة `حمام الخيل في المنصورة` وصور الجبال ومناجم الفوسفات ورشيد وشواطئ مطروح العجيبة والمنيا والبحر الحمر وأسوان وكشف لنا في المنظر الطبيعي زوايا جديدة قد ألبسها ثوبا من شخصيته ولفت أنظارنا إلي جمالها.
- التجريد 00 والعزف بدون نوتة
- فى حوار شائق عام 1960بين محمود سعيد وبيكار على صفحات `آخر ساعة` وأيضا الناقد الكبير حسن عثمان في جريدة `المساء` شبه محمود سعيد الفنان التجريدي بعازف البيانو الذي يدرب أصابعه وأذنه على الآلة قبل أن يفتح النوتة أو قبل العزف السيمفوني. فهو مجرد تسخين استعداداً للعمل الكبير الذي يجمع بين القيم التجريدية والإنسانية معا في تناغم أصيل وأضاف قائلا `أن أصلح وظيفة للفن التجريدي هي السجادة والزخرفة لان اللوحة التجريدية تفتقر إلى القيم الإنسانية الموجودة في الفن منذ ما قبل التاريخ` ويضيف أيضا `أن الفن التجريدي هو انسحاب من الحياة.. هروب.. انتحار للتخلص من المسئولية الفنية القاسية التي يحتاجها بناء اللوحة وهروب من المعاناة والتمكن هو فن هروبي. `هكذا كان محمود سعيد قد أصدر حكمه بالإعدام على التجريد. أما عن الأسلوب والشخصية الفنية فقال `أن الفنان لا يبدأ بالبحث في الأساليب بقدر ما يجد نفسه قد توصل إلى طريقة للتعبير أثناء استرساله مع شحنة التعبير التي اكتسبها من موضوعه، فهو يجد أكثر مما يبحث.
- محمود سعيد والفن الحديث
- في عام 1933صور محمود سعيد لوحة صغيرة أسماها `ذات الجدائل الذهبية` هذه اللوحة المبكرة اعتبرها الفنانون الشباب في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات عملا سيرياليا معاصرا وعلى رأسهم رمسيس يونان وفؤاد كامل والجزار وندا وحسين يوسف أمين. هذه اللوحة العجيبة مملوءة بالتجاوزات الفنية بداية من اختيار التكوين إلي لون الشعر الذهبي إلي الوجه الغريب ذي الابتسامة التي تخرج إلينا كجنية من البحر تنادينا إلي أغوار عميقة نداؤها لا يقاوم وكأنها `النداهة` في القصص الشعبية التي تخرج للصيادين وتجذبهم إلي أعماق البحر دون عودة في هذه اللوحة صور الفنان وجه امرأة وجزءا من الصدر وخلفها من بعيد تظهر المدينة وترتدي قميص نوم يبرز صدرها المكتنز وقد شدته حبكة القميص، الذي يشبه خزانة حديدية، ونظرا للتحوير في ملامح الوجه ذي الشفاه الوحشية والعيون اللوزية الملونة وبعدها عن التصور الواقعي وتجاوزها للمقاييس والنسب والمبالغة في الفورم ـــ عن فهم ودراسة ـــ فإنني أعتقد أنها صورة حلمية رآها في أحلامه فهي صورة سريالية يكتنفها الغموض وتخطي المنطق، وهي صورة لكيان مادي يأخذها عبر المادة إلي عالم بعيد مجهول. ولقد نبهت هذه اللوحة الأجيال الحديثة إلى ضرورة التعمق في كل عمل من أعمال الفنان والدراسة الواعية له، فعن طريق لوحة واحدة اكتشفت الأجيال كيف كان محمود سعيد سابقا لعصره ومعبرا عنه في آن واحد.
- الفنان والموديل
- من هي ملهمة محمود سعيد ذات الأنوثة الطاغية والوجه الموحى القوي القسمات الواضح المعالم...؟
من هي بطلة أعماله التي أصبحت جوهرة متلالئة في لوحاته...؟ من هي صاحبة النبض الذي أسبغ لوحاته بكل هذه الفتنة النادرة...؟ تقول الست حميدة عن نفسها`.. كنت جميلة سمراء رشيقة، مملوءة صبا وحياة، في السادسة عشر أصبحت موديلا لمحمود سعيد فأفنيت صباي على مهنة الموديل حتى أستطيع مساعدة أسرتي الفقيرة.. في البداية أحسست بخجل شديد عندما بدأت أخلع ملابسي لأول مرة ثم أصبح الأمر ذلك عاديا.. كنت اجلس أمامه سبع ساعات يوميا ـــ وكان يستغرق في العمل في اللوحة الواحدة من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، كان رحمه الله منضبطا ودقيقا في مواعيده، جاهزا بألوانه وفرشاته`. عندما كنت اجلس ليرسمني كنت أحس بالزهو والفخر لأنني كنت أري نفسي بعد ذلك في لوحة جميلة وكم كانت سعادتي عندما رأيت المجلات تنشر صورتي وأيضا على صفحات الجرائد وفي المعارض والمتاحف.
- كان المرحوم محمود سعيد بسيطا وهادئا يغني أحيانا أو يسمع الموسيقي وأحيانا منفعلا متوتراً، كان يدردش معي أثناء العمل وكنت أري وجهه مضيئا بنور وهو واقف أمام لوحته. كلما كنت احن لشبابي اذهب إلى المتحف لأري مراحل شبابي وعمري المختلفة. كانت حميدة هي ملهمة محمود سعيد وبطلة أعماله... واحدة من الطبقة الفقيرة يأخذ منها الإلهام وتأخذ منه المال لتقيم أود أسرتها... كانت راضية كل الرضا فما أحلي عشرة فنان جاد مخلص لفنه وحياته في الحقيقة أن الفنان يحتاج إلى الموديل - ويحتاج أيضا إلى المرسم ولقد كانت حميدة مفتاح فهمه للون المصري ولبنت البلد، أما المرسم فقد كان شيئا في غاية الأهمية في تكوين محمود سعيد وقد كان مرسمه فوق سطح الفيلا الخاصة به في جناكليس بالإسكندرية ولقد آلت ملكية هذا القصر.. أو الفيلا الضخمة التي كانت تتكون من دورين وكل دور ست حجرات وصالة كبري إلى وزارة الثقافة وقد دفعت فيه للورثة مبلغ 170450 `سبعة عشر ألفا وأربعمائة وخمسين جنيها` بعد وفاته كما أهدت أسرته أربعين لوحة وقد تحول هذا القصر إلى متحف يحمل اسمه ويعرض للأجيال فنه العظيم. كان محمود سعيد فنانا مثقفا ـــ يعرف تاريخ وطنه ويقرأ أمهات الأعمال الأدبية ويزور المتاحف الكبيرة ويسمع بيتهوفن وباخ وفاجنر وسترافنسكي وموتسارت، ويقرأ لبودلير وبروست وديستويفسكي وتشيكوف، لكنه كان عزوفا عن السياسة محبا لأبنائه ولأسرته، وقد صور الكثير من أقاربه وأطفاله وأحفاده وفي عام 1964أثناء الإعداد للاحتفال بعيد ميلاده السابع والستين رحل إلى الخلود كفنان عظيم.
بقلم : مكرم حنين
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
الفن المعاصر فى مصر
- وإذا كان فن (مختار) يمثل شعر الصباح، فإن فن ( محمود سعيد) يمثل شعر الليل... ليس الليل بظلمته الحالكة حيث الخوف والجزع، بل الليل حيث تذوب الأشياء لتولد جديدة في الصباح... هنا بناء اللون علي السطح طبقات كأنه النحت البارز أو المينا البراقة أو قطع الموزيك، مزيج من الرسم والحفر والموزيك والمينا عن طريق الألوان الزيتية المعتني بتطبيقها اعتناء الصانع الشاعر الخبير بصنعته اللطيف بشاعريته. يرفض هذا الفنان السطح ذو البعدين، لأن شعوره بالطاقة النابضة من وراء المادة يكور السطح، وينحي المسافة بحساب معلوم: الشعور النابض بلوحته هو الشعور بالطاقة الخفية التي تبدو الأجسام مظاهر لها، وهو يمثل بل يجسد مدركاته الفنية في رموز تكاد تلمس وتوزن. وهو في هذا الوعي المادي الروحي علي حد سواء، متصل بالفكر الفني في هذه الأرض. وهو بعد هذا حريص علي النقاء الهندسي داخل الإطار المختار: فليس هناك رأسي أو أفقي مقوس أو مائل إلا وله في حسابه ميزان وفي إحساسه معادل.
- هذا الفنان الذي بدأ تلقي الفن في شبابه علي أصول تأثيرية من وحي المدينة الحديثة، يثور علي تلك التعاليم المبعثرة للخبرة الإنسانية، والتي تقف بها عند اللحظة في الزمن، والحاسة في الإدراك، والسطح في المدرك... يثور علي تلك التعاليم، ليبني منها خبرة يجمعها ويركزها في اتجاه يخرج عن اللحظة والحاسة والسطح، إلي شعور عارم بالطاقة، حالم بالنور، موصول بلاعقلية اللون، مأخوذ بسحره علي نفس الهدي الشرقي الذي أخرج الخزف والسجاد والموزيك، سواء كانت المدينة أم كان الريف، فموضوعه هو الشعور بالأرض الأنثي الولادة لمختلف الصور والأشكال، والمسحورة بلمسة النور التي يستأثر بها ليهبها أماكن خاصة في عالمه الداكن البراق. وهي الأنثي بعد كل اعتبار، رغم مختلف ما عبر عنه الفنان من شتي الموضوعات، وقد جابهها واستعرضها بمختلف آفاقها؛ من الريف إلي الحضر، من المدفن إلي الصالون من الحب إلي العمل ولكنها دائماً الجسد النابض بالطاقة الخفية، المتموج من الظلمة إلي النور، ومن النور إلي الظلمة مرة أخري، لينوع الأشكال ويجددها. هذا المصور النحات المعماري بناء الصورة، الشاعر بالنور والطاقة، الشامل بتعاطفه الجميع، مثال للفنان في هذا المكان والعصر: واع بعالمية الثقافة غير متخل عن جذوره في ثقافة البلاد. هل هي الكلاسيكية أم الرومانسية، الرمز أم الحساب ؟ لا هذا ولا ذاك علي حدة، بل هي الخبرة المنماة تتقابل فيها الهندسة العامة لاتزان الصورة ويبرز فيها الرمز، ويختلف فيها موضع الانتباه وبؤرة الحماس والإحساس... تلك العيون الشرقية والشفاة المصرية، لاشك أثيره - لدي ذلك الفنان الذي راقب في نشأته العيون فوق النقاب والشفاة من وراءه، وهما بؤرتان استلفتتا الفنان في هذا المكان من قديم.
بقلم : حامد سعيد
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
محمود سعيد ملامح من الإنسان والفنان
- هل تستطيع وهدة الموت أن تفصل بين أفكار تقاربت وأرواح ائتلفت ووشائج ارتبطت على هذا الطريق قبل أن يفترق الشمال ويبدده الرحيل ؟. أليس في هذه الحياة المحدودة بنهايتها الغامضة شئ يستعصي علي الموت.. شئ يبقي في نفوسنا نحن الاحياء من ملامح الراحلين.. شئ يعيش فى الذكريات وتخطه الاقلام، ويرتسم فى الصور التى خلدها الفن فى كل مراحله لتكون معبرا للخلود أو ركيزة للبقاء.. هذه هي سلوانا كلما رحل عنا عزيز.. ملامحه في نفوسنا.. والأماكن التي لقيناه فيها، والايام التي قضيناها معه، ونبرات صوته وحركاته وإيماءاته.. كل ذلك تجمعه الذكري وتصوغه وتلقي عليه أضواء تحفظه من أن يغيب.. لقد ذهب محمود سعيد ولكن هل يمحو احتجابه صورا عزيزة خلفها في نفوس أصدقائه ومحبيه.. هل يفصم عري مكنتها الحياة بينه وبين الناس.. أن الموت الذي فصله عنا يشكل ملامحه في نفوسنا ويضفي علي الاحداث التي ربطتنا به قيم الذكريات، كما أن أعماله التي اختتمت يوم رحيله ستأخذ يوما بيوم عراقة الآثر وجلال البقاء ومزيدا من وضوح الرؤية. لقد عرفت محمود سعيد الانسان قبل أن أعرف الفنان.. عرفته في مطلع عمري من لقاء صامت في حديقة المستشفي الفرنسي بالعباسية.. كان كلانا يجلس علي مقعد من مقاعد الحديقة الخلفية بجوار غرفة الموتي.. وكان مختار جسدا مسجي في هذه الغرفة قد فارقته الحياة منذ ساعات.. وكان سعيد قد قدم من الاسكندرية ليعود مرضه، ففجع بموته وظل بكاؤه لا ينقطع حتي شيعة إلي مقره الأخير.. وعاش مختار ذكري صافية في نفسه.. كم رأيته علي أبعاد السنين تحوم في عينه الدموع عندما يذكره وكم من مرة سمعته يصف لقاءه الأخير معه في الاسكندرية عندما عاد مختار من فرنسا.. وكان محمود سعيد شديد الاعتزاز بنموذج برونزي فريد من تمثال ` عروس النيل` حمله مختار معه من باريس ليقدمه اليه، شديد التأثر من معني الهدية الاخيرة للفنان الصديق الذي لم ينسي في مأساة مرضه المعنويات التي كان حريصا عليها في حياته.. وكم كان عميقا أسف محمود سعيد لأنه لم يقدر له أن يري صديقه في يومه الأخير حين كان جاء لزيارته ومعه لوحة من لوحاته كان مختار شديد الحب لها. كان هذا عصر الصداقات الفنية.. ومن روح هذه الصداقات نشأت الجمعيات الفنية، وأقيمت المعارض ومضت الحركة في بدئها علي الطريق بمحبة ووئام. ولقد عرفت بعد هذا اللقاء فن محمود سعيد ثم أتيح لي بعد سنوات أن أسعد بصداقته، فلمست عنده صور الوفاء التي شهدتها من أول لقاء.. وفاء يمتد من الأشخاص إلي الاشياء، من الأحياء إلي الجماد، فكل من اتصلت أسبابهم به يحفظ لهم أطيب الود في نفسه.. والاشياء التي أحاطت بحياته منذ صباه يحفظها في ألفة ومودة.. بيت أسرته القديم مازال كما هو لم يتغير فيه شئ يشع بأصالة القدم، وقطع الاثاث التي عاشت في هذا المكان باقية في مواضعها منذ سنين كأنها كائنات لا يصح أن تمس.. وتقاليد البيت العتيد يحفظها في ولاء، وبين جدرانه تعيش أجيال من الاجداد إلي الأحفاد..
- وكان محمود يكن لأمه حبا عميقا لم ينفصل عنها وظل حتي وفاتها منذ ثلاث سنوات يعيش معها، ويحلو له أن يقضي إلي جانبها الأمسيات، مهما كانت ارتباطات المساء فإنه لا يغادرها قبل أن تتناول عشاءها وتأوي إلى النوم..
- كذلك كان حبه لابنته وتعلقه بها، ولقد أودع هذا الحب لوحاته الرائعة التي سجل فيها مراحل حياتها.. وعلي الرغم من عزلته وميله إلي الوحدة إلا أنه كان من أكثر الناس مراعاة لمجاملات المودة.. لا يختلف عن معرض أو مناسبة فنية كلما سنحت له الظروف.. وإذا عاقته الأسباب عن مشاركة في هذا المناسبات فإنه يبادر بإعلان مشاركته الوجدانية برسائله البرقية، وخطاباته في عبارات تفيض بالصداقة والود.. وكان من أصدق الناس حكما علي الأعمال الفنية ومن أكثر الفنانين اطلاعا علي مختلف الثقافات.. يطالع في الأدب الغربي كتابات مارسيل بروست ودوستويفسكي وأشعار بودلير كما تسحره موسيقي بتهوفن وباخ وفاجنر وسترافنسكى.
- وهذا المزاج الموسيقي يتمثل في فنه.. في البناء المعماري الرصين، والايقاع التصويري، وشحنة المشاعر وضرام الاحاسيس في وجوه نماذجه والتوافق بين حركة التكوين في اللوحة وبين حبكة الألوان في تلاقيها واختلافها، وفي شبابه كان كثير الرحيل وهذه الرحلات هي التي أتاحت له الارتباط بالثقافة الفنية المختلفة، وكان للبنان في سنواته الاخيرة مكانه الأثير.. يلقي في عزلة جباله وشموخها تجاوبا مع نفسه ولقد صور في السنوات الاخيرة ميناء بيروت في صمت الجلال وإبداع مشهد الجبل من ظهور الشوير ولكن رحلته الأخيرة إلي جزر اليونان سنة 1962 كانت من أسعد رحلات حياته.. رأيته قبل سفرة في مطعم سان جيوفاني ذات مساء.. كانت عيناه ترسلان بريقهما إلي بعيد، في ظلمة البحر كأنها تريان أشياء لا أراها وهو يتحدث عن حلم الحياة في هذه الجزر.. بيوتها البيضاء وطبيعتها الرحبة وسماؤها الصافية.. وبعد أن تحقق حلمه، وعاد من رحلته في خريف سنة 1962 لقيته يفيض بالسعادة، وقد أيقظت الرحلة شحنة من المشاعر في قلبه، ولوحاته التي استلهمها من جزر اليونان هي إنتاجه الأخير الذي سجل فيه سحر رؤاه.
?

- ولقد كان محمود سعيد شديد الحياء.. كان الثناء ومظاهر التكريم تخجله، وكان أيضا شديد الحساسية أغضبه في مطلع شبابه أن يفوز بالجائزة في أحد معارض القاهرة الأولي، وظن أن في الأمر مجاملة من أجل والده الذي كان حينئذ رئيسا للوزراء.. وكان شديد الحرج أن يكون أول فنان تشكيلي يفوز بجائزة الدولة التقديرية سنة 1960 كما كان شديد الضيق من الأضواء التي ألقيت حوله عند فوزه بالجائزة.. الأحاديث الصحفية وبرامج التليفزيون والاذاعة وكم كان يتعجل نهاية مظاهر التكريم والاحتفال حتي يعود إلي عزلته الصامته.. وفي هذه العزلة كان يتغلغل في أسرار الطبيعية، وفي وجوه الناس لتسجيل معانيها.. كانت عيناه تذهلان عن كل ما حوله وتتطلعان إلي الأعماق. ومن هذه الرؤيا كانت الصورة الشخصية في فنه تمثل التطلع البعيد والعمق النفسي، وظلا من الخلود والجلال يحيط بأشخاصه.. عيون متطلعة إلي أغوار بعيدة وشفاه مطبقة لا تشرق الا بابتسام خافت كالابتسام المصري القديم.
- وقلما يخرج الوجه في لوحاته عن هذا الصمت إلا في حالات نادرة منها لوحة المرحوم يوسف وهبة باشا حيث يتحول الابتسام إلي عبوس، ولوحة (عم محرم) سنة 1918 حيث نري الوجه يفيض بالضحك.. ولعل هذه اللوحة من عداد صوره الشخصية هي وحدها التي تنفرد بهذه الظاهرة، قد يكون ذلك لأنه أعدها في مطلع حياته الفنية.. وقد يكون لشخصية العم محرم التي سمعت من محمود سعيد أحاديث طريفة عنه ما أضفي علي الوجه هذه المسحة من الضحك، وخرج به عن صمت وجوهه التي تحمل ظلا من جلال التماثيل المصرية. علي أنك تلمح في صور الاشخاص عنده مصيرهم وكأنه نبوءة تودعها بصيرته النافذة.. صور محمود سعيد حين كان قاضيا زميلا بلجيكيا من قضاة المحكمة المختلطة وبدا في صورته ما ينبئ أنه ينحدر إلي هاوية، وقد عجب من الخاطر الذي أوحي له بهذه الصورة لرجل يشغل منصبا هاما من مناصب القضاء.. ولكن الأيام أثبتت صدق أحساسه إذ عكف هذا القاضي علي المقامرة واستبدت به الخمر، ورحل إلي بلجيكا حيث اشتغل في احد ملاهيها ثم حكم عليه بالسجن، وقضي سنواته الأخيرة يعمل زمارا بأحد الملاهي.. ولذا فإن الصورة الشخصية في فنه لها رؤيا زاخرة بالمشاعر ولقاء بين الفنان والنموذج يستجلي من خلال أعماقه ويودعها ملامحه.. وحتي في تصويره لنموذجه محوطا بمظاهر حياته العادية يلوح تطلعه علي عوالم نفسه وأغوارها البعيدة كما يبدو في لوحة الدكتور جواد حمادة.. وفي فن محمود سعيد دعاء إلي الرحيل.. رحيل من عالم الواقع إلي جو من السحر والغموض.. رحيل نفسي هو صدي لرغبة الفنان في الهروب من واقعه.. تلمح هذه الرغبة في وجوه نسائه وعيونها المتطلعة إلي` دعوة للسفر` نداء خفي يشع منها ويحملها من عالمها المحدود إلي رحلة لا حدود لها.. ويتكرر هذا الخروج من اطار الحياة المحدودة والرغبة في امتدادها في العبادة، فهنا ايضا رحلة اخرى من رحلات النفس في مجاهل الغيب.. وقد تكررت في فنه لوحات `الصلاة`.. وانعكست مظاهر الحماس الديني في لوحات الذكر ويلوح `الموت` رحلة ثالثة بعد رحلة الجنس ورحلة العبادة فى مشاهد من لوحاته وخاصة لوحات عهد الشباب.
- وهذه الرغبة فى الهروب من قيود الواقع تعكس فى مشاهد من لوحاته وخاصة لوحات عهد الشباب. الاحلام فالمشهد عنده يخرج محوطا بجو من السحر، الجبال، ويتطلع إلي شاطئ النيل، ويطل علي مشارف المدن.. ففي هذه اللوحات تحس أنه يستوقف الزمن من الحراك.. فميناء بيريه عند الفجر يخيل إليك عند مرآها ان الضحي لن يدركها ببيوتها وأشجارها يظلها الجبل وكأنه يحجبها عن فناء الزمن ويحررها من سلطانه.. وجبل التلك يتحول إلي عالم من الأحلام ورؤيا من السحر العميق وذلك الشراع تشيع في لوحاته إحساسا بالبقاء والاستمرار والانتصار علي الزمن الذي كان من شواغل نفسه.. لقد ذهب الزمن بالانسان الذي انتصر عليه في لوحاته، وأبقي لنا ملامح صورته، أما أعماقه الفنية فستبقى متسعا للبحث والتأمل الوتيد.
بقلم : بدر الدين أبو غازى
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
لكل فنان قصة .. ابن الذوات الذى عشق بنت البلد
- إذا كانت منارة الإسكندرية قد أصبحت مع الأيام رمزا للثغر، الذي يطل علي أعرق بحار الدنيا، فإن الفنان ( محمود سعيد) استطاع أن يجعل من ( بنت البلد) شعارا حيا ينافس المنارة العتيدة. ويرمز لهذه المدينة المضيافة، التي تفتح صدرها لملايين الهاربين من لهيب الصيف.. تجفف عرقهم بنسائم الشمال التي تحملها أمواج البحر.. لقد أصبحت ( بنت بحري) السمراء الفاتنة. التي يشع من عينيها وشفتيها سحر أنثوي غامض، والتي كان الفنان يري فيها مخلوقا عجيبا يجمع بين الطيبة والشراسة.. وبين الصفاء النفسي والدفء الجنسي.. وبين الرضاء الناعم والحزن القاتم.. أصبحت هذه المخلوقة ـــ التي تجمع بين المتناقصات ـــ ظاهرة تميز فن محمود سعيد ابن الإسكندرية البار.. وابن الذوات الذي ثار علي طبقته، وترك مباهج القصور.. ونزل إلي الشوارع والأزقة، يخالط عامة الناس، يترجم لهجتهم ( الإسكندرانية) إلي خطوط وألوان وظلال.. يفرشها فوق لوحاته. صانعا منها اللبنات الأولي لمدرسة الاسكندرية. كان يري في كفاح الطبقة الكادحة، وخاصة الصيادين في صراعهم الدائم مع الأمواج، وإيمانهم العميق بالقدر و( المكتوب).. وتشبثهم بالقوي الغيبية التي تتجلي في عاداتهم وطقوسهم وأذكارهم.. وفي وقوفهم أمام جلال الموت.. وفي هروبهم من قسوة الواقع إلي الشاطئ ساعة العصاري، بصحبة زوجاتهم وأطفالهم.. كان يري في كل ذلك صورة صادقة للانسان الذي يواجه الحياة، بكل أسرارها وغموضها ومقدراتها. يتحداها بعنف تارة.. ويستسلم لها تارة أخري.. وإذا كان سيد درويش يقف علي الجانب الآخر. يؤدي دوره التاريخي في فن الموسيقي والغناء، ويفتح آفاقا جديدة للقوالب الغنائية يعتصرها من وجدان الشعب، ويلتقطها من أفواه الباعة وشفاة المنشدين.. فإن محمود سعيد يقف في مواجهته ليؤلف معه ثنائيا رائعا، يتبادلان أمتع حوار بين الشكل والنغم.. ويرسيان معا قواعد جديدة لفن له سماته ومذاقه المصري الصميم.
- ولد بالإسكندرية، سنة 1897.. وفي صباه شاهد مظاهر الفخامة والأبهة التي تحيط بأبيه محمد باشا سعيد، الذي رأس الوزارة قبل الحرب العالمية الأولي.. وكان بديهيا أن يسلك ابن الذوات ـــ منذ البداية ـــ طريقا مرسوما يضمن له المستقبل المفروش بالورود.. وكان المدخل الطبيعي لهذا المستقبل هو سلك القضاء. وجريا علي عادة أولاد الذوات في ذلك الوقت. تلقي محمود سعيد علومه الأولوية في منزل الأسرة، علي أيدي مدرسين خصوصين.. ثم التحق بكلية فيكتوريا، ثم بالمدرسة السعيدية ثم بالمدرسة العباسية الثانوية.. وبعد حصوله علي شهادة البكالوريا، التحق بمدرسة الحقوق الفرنسية، وحصل منها علي (الليسانس) سنة 1919. وبدأ صعود السلم الوظيفي من أولي درجاته حيث عين وكيلا للنيابة بالمحاكم المختلطة.. وصار يتدرج في مناصب القضاء، حتي أصبح مستشارا بمحكمة الإسكندرية المختلطة.. وقدر للصبي ـــ ابن رئيس الوزراء ـــ أن يعاني منذ مطلع حياته مرارة صراع داخلي، فرضته عليه ظروف الطبقية.. صراع بين ما يخططه له أهله من منهج حياة... وبين ما يشعر به في قرارة نفسه من حب للخلق والابداع.. فمن ناحية مستقبله، سلك الطريق الذي يرضي أهله.. ومن ناحية ميوله، استطاع ان يوفق بينهما وبين رغبات أهله، بتردده علي مراسم الفنانين كازوراتو دافورنو وأرتورو زانييري، يتلقي علي أيديهما مبادئ الفن.. ثم يعبر البحر من وقت لآخر ـــ في العطلات الصيفية ـــ لزيارة متاحف أوروبا، ولأداء بعض الدراسات في مراسم جران شومييه وأكاديمية جوليان بباريس، وليتتلمذ بعض الوقت علي الفنان الفرنسي المعروف بول ألبير لوران..
- واستطاع محمود سعيد بنفاذ بصيرته وإرهاف حسه ـــ أن يضع يده علي سر الخلود في تراث أجداده، المتميز بقوة البناء والاستقرار والرصانة والوقار، والذي يثير في النفس أعمق الأحاسيس الصوفية النبيلة. ويطعم بها أعماله، التي تعتبر قنطرة تربط حضارة الشرق والغرب.. ومعبرا يوصل الشاطئ المصري بالشواطئ الأوروبية.
- ومضي محمود سعيد في عمله المزدوج ـــ كفنان وكمستشار قضائي ـــ إلي أن بلغ الخمسين من عمره، وعندئذ أحس بأنه لم يعد يحتمل ازدواج الشخصية. فقرر الاستقالة من منصبه القضائي، والتفرغ للفن.. فكان أول فنان يعين مقررا للجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب.. وأول فنان تشكيلي يحصل علي جائزة الدولة التقديرية فى الفنون.
- ويطرأ مع الأيام تحول ظاهر في فن محمود سعيد، الذي ظل محتفظا بشموخ قوالبه وصلابة أجسامه.. فقد بدأت ألوانه الداكنة تزيح عنها قتامتها شيئا فشيئا، وكأنها غشاوة تشاؤم تهاوت من أمام عينيه. لتكشف عن عالم متفائل يفيض بالألوان الزاهية الشفيفة التى ظلت تلازمه حتى فارق الحياة سنة 1964.
بقلم : حسين بيكار
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
المعرض الشامل لصور محمود سعيد بك 1921 - 1951
- لو كنت شاعرا لنظمت في وصف فنه ألف بيت ـــ ولكني لا أميل إلي الشعر وإن كنت أتذوق الجميل منه وأتأثر به ـــ أشيد فيها بفنك الذي أخلدته، وشعورك الرقيق، وخيالك الخصيب، إحساسك العالي المرهف، وقلبك الكبير، ولقلت فيك إنك واحد.. وواحد فقط بعقله وحسه وقلبه. واحد ينفرد بالفن العظيم، وعظيم ينفرد واحد، ولكني لا أجيد قرض الشعر، لا لأمدحك وأطربك وأنما لأشبع نفسي بالكلام حبا في فنك وتقديرا لجهدك وايمانا بشخصك... مثال عال قل أن يوجد له مثيل في مصر. ويخطئ من يظن أن الفن قاصر علي طبقة من الناس دون أخري، فهو منحة يمنحها الله ، علت قدرته، إلي من يشاء من عباده، تجري في عروق الجسم مجري الدم، يضئ العقل ويقتات منه القلب فيخرجه الفنان للناس في صور شتي وأشكال متبانية غذاء شهيا لنفوسهم وعقولهم.
- وللمرة الأولى فى تاريخ مصر الحديث يجتمع في معرض فنان واحد مثل هذه الأعمال الضخمة التي يبلغ عددها 145 لوحة ينفرد كل منها بما ينطق بالاعجاز، وتدل جميعها علي أن صاحبها فنان ملك زمام الحياة وأصبحت عناصرها طوع يده يبعثها علي لوحاته تفيض بالشاعرية والعذوبة والجمال المطبوع بطابع ينفرد فيه، وهو يحلل أسرار النفس وطبائع الناس بادية علي قسمات وجوههم في الوان وخطوط بعضها ينطق بالبشرية المكبوته والرغبات الحبيسة في الاجسام، وبعضها يكشف عن العواطف الانسانية العالية، كأنها كتب مسطورة بالالوان الشفافة والخطوط التي لها وقع الشعر الرقيق. ولعلي أريد القول أن العمل الفني يأبي إلا أن يولد بجهد واجتهاد يحمل الفكرة الملهمة التي لا تخلو من حس الطبيعة تتجاوب أصداؤها في أعماق النفس وتترك في القلب النشوة الكبرى.
- إن صلتى بهذا الرجل الكريم قديمة، يرجع عهدها إلي سنة 1933، أعتز بها كما أعتز بأغلي الذكريات، يوم تفضل باستجابة الدعوة إلي إقامة معرض للفيف من الفنانين المصريين تحقيقا لأغراض `المجمع المصري للفنون الجميلة` الذي أنشأته في هذا الوقت كندوة ومرسم حر للهواة ومحبي الرسم، وشاءت الأقدار أن لا يستمر العمل فيه طويلا فأغلقت أبوابه وانتهت سيرته بمعرض اشترك فيه الكثيرون ولاقي نجاحا بما قدموه من أعمال، وكان لسعادة محمود بك سعيد لوحتان أحدهما صورة `فاطمة` المعروضة هذا العام برقم 35 وصورة `القرية` ولا أدرى أين هى الآن.
- وكانت لتلك الاستجابة من جانب فنان عظيم وشخصية لها مكانتها العالية أثر عميق في نفسي، ودار الزمن ومرت السنون كنت أحظي فيها بكلمات التأييد والتشجيع علي ما أصدرته من كتب ساهمت بنصيب في نشر الثقافة الفنية، وحرصت علي أن أقدمها إليه بمجرد إصدارها وفي يوم ذات يوم علمت منه بموعد اقامة هذا المعرض فصرت أترقب الفرصة للقائه، وشاءت الأقدار ان ألقاه في الطريق لاول مرة بعد سبع عشرة سنة فزاد ايماني بشخصية الفنان المتواضعة ورأيته في معرضه يقضي اليوم بكامله بين لوحاته يثبتها في اطرها بيديه ويرقمها ويصنف دليلها ويحملها من هنا وهناك كمن يحمل اولاده بين يديه في لهفة وحنان، رأيته اياما علي هذا الحال لا يعتريه ملل أو تعب فدعوت الله ان يبارك له في صحته ويزيده من العمر ليسعد العالم بفنه العظيم.
- وفى يوم 29 مارس وفي الساعة السادسة مساء شهدت السراى الكبرى بالجمعية الزراعية الملكية حفلا قد اجتمع فيه هذا العدد الهائل من صفوة كبار رجال الدولة وعقيلاتهم تموج بهم الصالة المستديرة الكبري وفى لحظات تزايد عددهم حتي كاد أن يبلغ الألف أو يزيد، وأثرت أن أبقي وحيدا في معرض `صالون القاهرة` أتجول بين معروضاته لكي لا يتحول ذهني وأنا بصدد الكتابة عنه، ولقد ارتضيت لنفسي أن أحرمها من مشاركة هذا الجمع الزاخر رؤية هذا الكنز النفيس. وأثرت أن أرقبهم من بعيد وهم ينتقلون في سكون وهدوء من لوحة إلي أخري كأنهم الفراش في روضة زاهرة، وكنت اغالب الرغبة في مشاركتهم فيزداد يقيني بعظمة فنه ويزداد اعتزازي بأني سأقدر في الغد أن أطوف في هذا المكان الرحب الواسع وحدي لاحدثهم عما رأوا وشاهدوا بالأمس.
- لم اشأ مواجهة هذا العالم الصغير الذي تجتمع فيه ذكريات وتجارب وجهاد ثلاثين سنة الا بعد أن اتخذ لنفسي اهبتها، لأني أعرف الناس بفن الرجل العظيم ـــ ولعلي أدعي ذلك ـــ ولكني أعرف أن النقد أمر شاق يحتاج إلي جهد ومعرفة ودراسة وبعد خمسة أيام من افتتاح المعرض وبعد أن انتهيت من تقديم معرض `صالون القاهرة الثامن والعشرين` نزلت الصالة الكبري المستديرة متهيبا تلك الروعة التي تكاد تحبس الأنفاس في الصدور.. ثلاثون سنة انتظم عقدها حول جدار مستدير كجيد حسناء تزينه اللآلئ..
- لوحات يشع النور من جنباتها كأنه فلق الصباح في هدوئه وصفاته يملأ المكان روعة وجلالا، لوحات اعتمد الفنان فيها علي إظهار التباين بين الظل والنور الساطع والتدرج بينهما بما يزيد من بروز الاجسام بألوان لا حدود لها تجمع بين إجادة التنفيذ وحسن التعبير، فوقع بصري علي لوحة `أسطي فرج` ممسكا بين يديه مسبحته الحمراء كلون طربوشة الطويل وقد جلس ملتفا في عباءته السوداء وقد أخفض بصره بذكر الله ويؤمن ويترحم علي ولده الذي صعدت روحه إلي السماء التي بدت من خلفه زرقاء صافية اللون وقد زينها كوكب يومض بنورة الخافت رمزا إلي روح الطفولة البريئة. أن `أسطي فرج ` كان عزيزا علي نفس سيده الفنان فسجل صورته الحزينة في سنة 1921 لتخلد علي الاجيال تروي قصة الرجل العجوز الذي فقد بصره حزنا علي ولده الصغير الوحيد الذي شاء القدر أن يسلبه منه ولم تكد تكتحل برؤيته عيناه، إنها إحدي لوحات أربع تحمل أقدم تاريخ بين المائة والخمس والاربعون لوحة والبيان الذي يحدد عددها بالنسبة إلي زمنها ومن مراجعتها يتبين لنا ان معروضات السنوات الاخيرة التي تبدأ من سنة 1947 ـــ بعد اعتزاله منصب المستشار ـــ قد تضاعف فبلغت الأربع عشرة لوحة في السنة، أعني أنه لو كان متفرغا للفن طوال هذه السنوات الثلاثين لبلغ عدد اللوحات 412 لوحة بدلا من 145 ولملأت ثلاث قاعات كبري كالتي نراها اليوم ـــ إذا جاز هذا الاستنتاج باعتبار أن الاربع عشرة لوحة هي فقط كل إنتاجه السنوي.
- ويتفرق الناس أشتاتا في فهم فن محمود سعيد بك ولكنهم يجمعون القول علي أنه صاحب فن عالمي يؤثر في نفوس الناس جميعا، وأنه فنان موهوب خلق من أجل الفن، من صفات الفنان أن يكون صاحب قلب رحيم يشع فيه نور العطف والمحبة والعدل وحب الخير، قلب كبير يسع كل شئ ويشعر بكل شئ. ومن هذه الصفات ما للقاضي فيها من نصيب، فلا عجب أن يكون فناننا قاضيا وأن يقضي في سلك القضاء خمسا وعشرين سنة بالكمال والتمام بدأت في سنة 1922 وانتهت في سنة 1947، ربع قرن من الزمان ذهب في ذمة الملفات والدوسيهات والتحقيقات وقراءة المذكرات وإعداد الحيثيات وإصدار الاحكام وإبداء المشورة والفتاوي والتشريع والتفسير.. ربع قرن تكتشف فيها طبائع الخلائق فخبر أسرارها الدفينة وعرف طواياها الخفية، وفي هذا المجال يتسع زمام الفنان الموهوب في طريق الابداع والخلق الفني، وما هذه البدائع التي أخرجت في فترات من العمل المرهق المتواصل بفن الهاوي الذي يريد أن يشبع هوايته، بل هي رسالة رسول من رسل الفن يستلهم الجمال من مصادره العليا ويبعثها كالمعجزات من بين يديه تهتف بحب مصر وجمال مصر وخلود مصر، مصر التي لا تزال معطرة بعبير الشرق الساحر بألوانها الدافئة وظلالها الداكنة التي تعبر عن الاسرار الغامضة.
- إن المتطلع إلي هذه اللوحات ليكاد يسمع اهات الشرق تتردد صداها في جوانبها أنغام ومعان شتي في تلك الألوان الصارخة في الظلام الدامس فتزيد من سحرها وفتنتها.
- سألني صديق يحب الفن ويرغب في الاطمئنان إلي معرفته، قال : ما الحكمة في وضع هذه القطة البيضاء في لوحة ` القط الأبيض` رقم 31ـــ وهي من أعمال سنة 1937 ـــ فقلت، ولعلني أصبت شيئاً مما قصد اليه الفنان : ألا تري أنها تملأ فراغا من اللوحة لابد من ملئه... ولكنها لم تضع من أجل هذا الغرض وحده بل هناك علاقة بين هذا الحيوان الاليف وبين ` جميلات بحري` ـــ اللاتي أغرم برسمهن سعيد بك ـــ علاقة وداعة النفس وجمال الصورة، وهناك علاقة أخري تحتم وجودها بالقرب من طعامها المحبوب الذي أتي به الصيادون من البحر. وعلاقة ثالثة بينها وبين الطفلة الصغيرة التي أمسكت بيديها أمها وهي تحاول أن تتجه نحوها... ونظرت إلي وجه صديقي فوجدته مبتسما ابتسامة الرضا وقال : إني أشعر الآن براحة إلي وجود القطة التي كنت أستغرب وجودها من قبل.ةفقلت : وما بالك ببقية الصورة. قال : إنها تحفة رائعة يكاد أشخاصها ينطقون قلت : إنهم لو نطقوا لتحركوا.. ولو تحركوا لزال السحر.. فهم في الاصل كانوا يتحركون أما وهم مصورون علي هذه اللوحة فهم ثابتون في الوضع الذي يندر ان تراه العيون عليه من السحر والجمال والفتنة ليدلنا علي المعني الذي يريده الفنان.
- وأعماله جميعها تتميز بالتكوين الهندسي والتخطيط البنائي القوي، ففي معروضاته الأولي نجده ميالا إلي الرمزية والاوضاع الزخرفية والالوان النحاسية القاتمة، حريصا علي ان يظهر البيئة المصرية في أسلوب مصري صميم بوحي من طبيعة جوها الدافئ وسمائها الزرقاء الصافية، ففي صورة `السابحات` ـــ رقم 85 ـــ نري الخط المستمر في استدارة تكسب أجزاء الجسم جمال الثمار الناضجة والضوء القوي الساطع يسقط علي الأجسام العارية فيزيدها لهيبا ويضئ أجزاءها البارزة ويلقي ظلالها القاتمة فيزيد بروزها بينما نري في لوحة الشواديف ـــ رقم 2 ـــ التكوينات التكعيبية المبسطة التي تشعرنا بالقوة في تلك الآلة اليدوية القديمة العهد التي توارثها الفلاح المصري من قديم الأزل، وذلك الكد والنصب الذي يعانيه طوال يومه لرفع الماء من الجدول إلي القناة الضيقة. وإني لأري في لوحاته أنه يحسب للزمن حسابه، فهو ينظر إلي مستقبل كل فرشة يضعها علي اللوحة. ينظر إلي مستقبلها البعيد يرجو لها الخلود وهو يفيض علي لوحاته من عميق احساسه الشاعري ـــ كالبحر يقذف بأمواجه المتلاحقة ـــ بأسلوب فيه الكثير من معاني النبل، وهو يعالج أقرب المواضع إلي نفوس الناس في صراحة ووضوح وقوة واتزان ومعرفة ودراية وخبرة بأصول صناعة الصور. والفن متأصل في نفس الفنان محمود سعيد، وفي طفولته المبكرة أيقظت فطرته الفنية محاولات كان توفيق أفندي ــــ أحد المدرسين المتعاقدين المستضافين في قصر المغفور له والده محمد سعيد باشا ـــ يقوم برسمها علي السبورة تمثل رجلا رياضيا في وضع جانبي يحمل علما. وكان الرسم يهز نفس الطفل ويثير فيه شعورا غريبا عليه في تلك السن المبكرة، وفي أوقات القيلولة عندما يخلد الجميع إلي الراحة كان الطفل يقف أمام السبورة يبتدع من خياله صورا كما كان توفيق أفندي يرسم في الصباح.
- ولد محمود بك سعيد فى 8 إبريل سنة 1897 في قصر والده بجهة سيدي أبى العباس بالإسكندرية بحري ولا يزال القصر قائما وتشغله مشيخة العلماء ـــ ونشأ تحفة الرعاية والعناية، ولم يكد يترعرع حتي وجد نفسه في محيط من الدراسات المتباينة فقضي فترة في مدرسة فيكتوريا وفترة أخري في مدرسة الجيزويت. ولم ينقض وقت طويل حتي أعاده والده محمد سعيد باشا إلي القصر واعد له مدرسة خاصة له ولاخوته وعهد إلي نخبة من خيرة الاساتذة لوضع برنامج الدراسة علي نظام المدارس الحكومية فيما بين سنة 1910 إلي سنة 1914 ــــ وكان من الاساتذة الدكتور أحمد بك أمين أستاذ الترجمة والاستاذ الخضري مدرس اللغة العربية ومس بلاك بورن مدرسة الرسم والتلوين المائي والسينيورا كازوناتو (وهي إحدي العارضات في معرض صالون القاهرة هذا العام ـــ راجع العدد السابق من المجلة) وهكذا أتم دراسته الابتدائية إلي أن حصل علي شهادة الكفاءة ثم التحق بالمدرسة السعيدية لمدة سنة واحدة1914، وانتقل بعدها إلي الاسكندرية ـــ بعدما اعتزل والده المغفور له محمد سعيد باشا ناظر النظار الرئاسة ـــ والتحق بمدرسة العباسية. وكان معروفا بين أقرانه من الطلبة بميله إلي الرسم وتفوقه فيه، وفي فترة الراحة بين الدروس صعد إلي السبورة ورسم خطوطا كاريكاتورية تمثل أستاذ اللغة الانجليزية مستر روبرتس، وما أن ان شعر بخطوات الاستاذ تقترب من غرفة الدرس حتي بادر بالعودة سريعا إلي مكتبه وجلس جلسة الطالب الوديع، ولمح الرجل صورته وثارت ثائرته وسأل عمن رسم الرسم مرة تلو أخري فلم يظفر بالرد، ولما أعيته الحيلة قال : كنت أود معرفته لاهنئه علي هذا الرسم الجميل.. ولكن حيلته لم تفلح في هذه المرة أيضا.
- وحصل على البكالوريا فى سنة 1915 من لجنة رأس التين، وفي هذا الوقت بدأ يتعلق بفن التصوير وحاول أن يقصر نشاطه علي متابعة دراسة الفن ولكنه اضطرـــ وهكذا قضت تقاليد الأسرة ـــ أن يخضع لارادة والده الكريم.
- وهكذا شق محمود بك سعيد طريقه إلي المجد مدفوعا بالحب الخالص للفن عن طريق الهواية، وتجلت عقلية القاضي والمستشار العادل في الاهتمام بالاجزاء التي يتألف منها الكل علي لوحة أحكم رباطها باعتبارها وحدة لا انفصام لها، كما عرف كيف يواجه الحقائق في غير إبهام أو هروب ويجيد صياغتها ويثبت كيانها. ويمكننا تقسيم هذه الحقبة الطويلة إلي ثلاث مراحل :
ففي العشر سنوات الأولي عالج لوحاته بأسلوب يتعاون فيه الظل والنور هادئا من أجل إيضاح ` الفورم`وتعزيز حقيقة الشكل واظهار مميزاته وابانة خصائصه كما نشاهد في صورة ` أسطي فرج` رقم 99 ـــ وصورة `صورة اخي` رقم 13 و`هاجر` رقم 98 وفي `الخريف` رقم 36 وفي المرحلة الثانية نري تطورا ملموسا في صناعة فن التصوير كما في صورة دكتور حماده بك ـــ رقم 57 والمصور انجلوبولو رقم 48 وفيهما نجد الاتزان والقوة في الخطوط والنظرة الدقيقة والفهم الصحيح لقيم الالوان الهادئة، ونشهد صورة ` بائع العرقسوس` رقم 25 ـــ علي اهتمامه بالاشعاع الضوئي، وهي نقطة تحول واضح في فن مصورنا النابغة وفي هذه المرحلة نري لوحات تتفجر بالحركة والضوء الساطع، وفي صورة `حلقة الذكر` رقم 82 ـــ ديناميكية معبرة عن الفكرة الغلابة والايمان الثابت بالكلمة الواحدة التي تهتز بذكرها الاجسام والديناميزم.. هو القوة المتفجرة الدافعة إلي حركة الاجسام كما نري في صورة `الزار` رقم 5 ـــ ثم بدأ مرحلة ثالثة من سنة 1940 إلي سنة 1950 ويبلغ الفنان في نهايتها أقصي ما يبلغه الاشعاع الضوئي من تأثير علي الاجسام التي تتلألأ بالضوء كأنها الجواهر تخطف الأبصار وتسحر الألباب كما في صورة `حمام الخيل في رشيد` رقم 132 حيث نري الألوان الفضية تنبعث من السحب البيضاء بعد المطر. وجميع أعمال الفنان في مراحلها الثلاث تبرز فيها شخصية ظاهرة جلية تفيض بالعاطفة والحرارة وتنبض بالحياة والحركة، فيها دلائل الفكر العميق والثقافة والاستنارة العالية والخيال الخصيب والبراعة في التنفيذ بألوان لها خصائصها ومميزاتها المشتقة من الالوان الدافئة ونراه يصور الحقيقة بأسلوب لا حشو فيه ولا إدخال. وهو إذ يصور ابنته `نادية` في مراحل طفولتها وشبابها علي أربع لوحات إنما يصورها بدافع أبوته الرحيمة ليكتشف فيها عن إنسانية عالية وعاطفة حب عميق والصورة الشخصية في نظر محمود بك سعيد هي مرآة لنفسية صاحبها، فنراه يحكم وضعها في داخل الإطار إحكاما يثير الدهشة والاعجاب، فالتوازن في التوزيع، والانسجام في الحركة، وارتباط الاجزاء وجعلها في نطاق مغلق الحدود كلها أشياء اختص فيها الفنان العظيم وأجادها بطريقته الخاصة التي تثير الدهشة. ومن أجمل الامثلة من الصور الشخصية المعروضة نذكر اللوحات المشار اليها في دليل المعرض بالارقام 21 ـــ 11 ـــ 18 ـــ 24 ـــ 48 ـــ 50 ـــ 57 ـــ 58 ـــ 67 ـــ 70 ــــ 79 ـــ 71 ـــ أما صورة المغفور له والده ـــ رقم 68 ـــ فمن العجب أن تعرف أنه بدأها سنة 1924 وأتممها في سنة 1949 وأنك لتستطيع أن تتبين فيها أسلوب المرحلة الثالثة، وهي لمسات مشعة وضعها الفنان في حذر ورفق. إن هذا المعرض الضخم الذي أقامه الفنان محمود سعيد بك لبعض من لوحاته التي صورها في خلال ثلاثين سنة قد بث في نفوس شباب الفن وشيخوخة في القاهرة ( وأقول في القاهرة فقط لأن مثل هذه المعارض الكبري الخاصة بعظماء الفنانين لو أقيمت في إيطاليا مثلا لكنت تري كيف تساعد الحكومة في تسهيل وتخفيض المواصلات إليه من كافة البلدان وكيف تنظم الرحلات المخفضة وكيف تطبع الكتب التذكارية من أجله ) روحا قوية أفتقدتها سنوات طويلة، وإني علي يقين أننا سوف نشاهد صدي هذا المعرض في معارض الكثير من الفنانين في الموسم القادم بمشيئة الله ولا يفوتنا أن نذكر أن تلك البدائع الخالدة التي رأيناها بالأمس والتي ستظل صورها عالقة في الاذهان سنين طوال هي من وحي الثغر السكندري، وبمعني أصح هي من وحي ( بحرى) مسقط رأس فناننا العزيز.
بقلم : محمد صدقى الجباخنجى
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
المصور محمود سعيد
- بينما كان محمود سعيد يحتفي وهو مضطجع في فراش المرض بعيد ميلاده السابع والستين، وحوله أسرته، فاجأته المنية ففاجأه زواره القلائل باسدال الستار علي حياته الفنية الحافلة بالانتاج المتواصل. ولن يذهب المرء في نعيه مثل هذه الشخصية الفنية المميزة التي شقت لنفسها طابعها الخاص، وحالت مع غيرها من أقطاب حركتنا الفنية التي بدأت في مستهل هذا القرن ـــ دون الانسياق في ركب الدارج من النزعات الفنية الأوروبية في مصر وقتئذ ـــ لن يذهب المرء في نعيه إلي الحديث عن رقة أحاسيسه، وشدة تواضعه وخجله وإنكاره لذاته في حين تسابق الفنانون إلي الظهور، ولن نفرط في الحديث عن مدي تشجيعه منذ ما يربو علي ربع قرن كل من توسم فيهم أو في أعمالهم دلائل النباهة وبوادر الابداع في الفن، كما لن نسهب في رواية مواقف من حياته الخاصة، فذلك يتسع له مجال آخر، فإن ما يشاء القارئ الوقوف عليه هو الدراية بقيمة هذا الفنان الراحل الذي فقدته البلاد بعد مضي ثلاثة أيام من إحياء ذكري زميله في الفن وصديقه في العمر المصور محمد ناجي، وأن ما سوف تهتم به الأجيال القادمة هو ما أنجزه هذا الفنان، بغض النظر عن عبوسه أو طرافته وصنوف مأكله وألوان طربه، إذ يظل إنتاج الفنان ــ الشاهد الوحيد له علي مرور الدهر فكم من شواهد قبور وارتها الحقب، وضل الناس في الاهتداء إلي أعلامها، وبرغم هذا ظلت شواهد أعمالهم تشير إلي ذكراهم وتعطر سيرهم.
- ولكي يتسني لنا الاهتداء إلي أهمية ما حققه محمود سعيد في التصوير، يجب أن نعيد لمحة من تاريخ العرب منذ القرن العاشر الميلادي، عندما أنشأ جوهر الصقلي مدينة القاهرة، واستمرار حضارة العرب ليس فقط في الاندلس بل في جزر في البحر الأبيض المتوسط ـــ كصقلية وقبرص ورودس وكريت، الأمر الذي جعل من شخصيات المماليك من كردليه نسبة إلي كريت وصقالبة أو قبارصة.. ذخرا في تاريخ العرب لقد انتقلت شخصياتهم أيضا إلي قصصنا الشعبي الملئ بأبطال منهم.
- إن انتشار تلك الحضارة العربية وتدفقها حتي لأقرب الجزر إلي الحضارة الأوروبية، فضلا عن قرب الاندلس لها، قد أستمر حتي نهاية القرن الخامس عشر، وكانت أوروبا حينذاك تستمد إلهامها في نواحي الفنون والعلوم من ذلك التراث الفياض. وما أن نكبت الحضارة العربية في الاندلس في اواخر القرن الخامس عشر، وأعقبتها نكبتها بمصر سنة 1517، حتي تجلت الفنون الأوروبية المستمدة أواصرها من تلك الحضارة.
- ولعل هذا التمهيد التاريخي يجلو لنا صلة إنتاج هذا الفنان الراحل بذلك الجانب من تراثنا القومي، فقد شاء أن يربط إنتاجه ويصله بتلك الحلقة المفقودة التي بترتها أحداث التاريخ ما بين أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر، إذ نراه يحول طاقته إلي الوقوف علي ما أخذه الغرب، ولا سيما المدرسة الايطالية ـــ عن العرب في تلك الفترة الحرجة التي تواري بعدها، أو تدهور، الطراز العربي في الفن.
- لقد عكف علي استنباط تلك الروابط بنوع من الاصرار والالحاح، فلا تقف دراساته للفن الايطالي عند حد نقل بعض لوحات مشاهير الفن في عصر النهضة الايطالية علي النحو الذي سار فيه وحذاه غيره من الفنانين، بل يكاد شغفه باستنباط تلك المعالم الخفية للفنون العربية في التصوير الايطالي يبلغ حد الالحاح والحماسة إلي درجة الاسراف. وقد يتذكر بعضنا مبلغ عنايتة بمشكلات التصوير الايطالي في مناقشاته وسعيه لشرح مفاهيم هذا التصوير ومقوماته، حتي كان السذج يظنون أن جنوحه إلي هذا الطابع من الفن، وسعيه لتحليل أصوله، إنما نجم عن طريق المصادفة لكونه قد درس في أول حياته الفنية علي مدرس إيطالي الأصل، هو زانييري، أو لارتباطه ومصادقته لفيفا من المصورين الطليان الذين كانوا يقيمون بالاسكندرية في الربع الاول من القرن الحالي، وقد تبدو هذه الاسانيد واهية إذا استعرضنا أعماله في الفترة الاولي من حياته الفنية التي ترجع إلي أواخر الربع الأول من القرن الحالي، إذ تبدو لأول وهلة مستلهمة من الطابع الايطالي في التصوير في القرن الخامس عشر، وسواء صور وجوه أفراد من أسرته، أم عبر عن مناظر طبيعية، ففيها يتجلي هذا الاحساس الفريد الذي لا يدركه إلا من شهد تلك الرسوم الحائطية بقصر غرناطة التي تفيض بطابعها العربي من جهة، وتذكره في الوقت نفسه بما آل اليه الفن الايطالي أو الأوروبي بوجه عام بعد القرن الخامس عشر، إلا أن تصوير محمود سعيد لم يقف عند هذا الحد، إذ انتقل بعدئذ إلي ضروب من الايحاءات الشعبية. فصور الريف المصري في شفق غروب الحضارة العربية بالأندلس ومصر، حيث تمتزج الموضوعات الشعبية بأضواء الماضي وكأنها مستمدة في أساطيرنا الشعبية التي خيم عليها الزمن ومفارقات العصر.
- ولقد تبدو لوحاته التي يصور فيها مناظر كالجزيرة السعيدة أو ذات الجدائل الذهبية وكأنها صور انتزعت من جامات متحف العظم بدمشق، أو الجرتلي بالقاهرة، بل يكاد وهو يصور والده جالسا علي مقعد بمكتبته يصور عنترة إذ يعبر عن مشاعره علي النحو الذي كان يعبر به الفنان الشعبي في مختلف أنحاء الوطن العربي في القرون التي أعقبت تدهور حضاراته. وهناك كثير من الامثلة للنماذج والشخصيات الشعبية المصورة علي لوحات زجاجية، تجدها في إيران كما في سوريا والعراق أو مصر وهي إذ تعبر عن طابع فني مميز فإنما تعبر عما تبقي من ذلك الطابع العربي وهو في أوج عظمته.
- ولم يسع محمود سعيد في تلك الفترة إلي الإحياء بخلفية المنظر الذي يصوره بقدر اهتمامه بتنسيق وحداته وكأنها تلك الزخارف الجصية الغائرة التي ترجع إلي العصر الطولوني أو الفاطمي بمصر، فهي إذ تجسم الوحدة الزخرفية تتحدد باستواء أرضيتها.
- وينبغي أن لا نبحث في إنتاج هذه الفترة من حياة هذا الفنان عما يصور لنا الواقع المادي للطبيعة من أحداث عابرة أو طرائف، بل نتدرج في لوحاته إلي صور جردها من الزمان والمكان فأوصلها بفلسفة تكاد تجزم بأنها عربية صحيحة الاصل وبأنه تفهم هذا الطابع في الفن ويتيسر عليه إدراك مقوماته عن طريق قراءاته في نواحي الفلسفات العربية القديمة التي تفرط في الوصول إلي نوع من التجريد في استنباط محركات النفس البشرية وهي في أنقي صورها وأرهفها حسا وبصيرة.
- وقد شاءت الأقدار أن يسند إلي هذا الفنان في أحد الأيام مشروع انجاز لوحة ضخمة تصور حفل افتتاح قناة السويس وفي اشارتنا لهذه اللوحة. نذكر ما كتبه الناقد الايطالي فنتوري في وصفه للوحة المصور الاسباني جويا حين رسم أسرة شارل الرابع، حيث يقول الناقد أن الفنان ـــ إذ عبر عن ملامح وجوه الأسرة الحاكمة ـــ قد التزام الأمانة والدقة في تصوير وجوههم، وقد صور أيضا تلك القسوة الحيوانية التي تتمثل في طباعهم وخصالهم، فأبرزها في هذه اللوحة ولم يتنبه أصحاب اللوحة وقتذاك أو أهل البلاط، إلي ما فضحه فيها الفنان، إذ حازت إعجاب الجميع. ونكاد نقول الشئ نفسه في تلك اللوحة التي عبر فيها محمود سعيد عن حفل افتتاح قناة السويس، إذ تكاد اللوحة تنطق بغلظة الشخصيات المرسومة غلظة تبلغ حد البهيمية، ولكنه قد قنع هذا الشعور أو الاحساس في ثوب الأبهة والترف والانحناءات أو الحشد المتطلع إلي اختطاف لواحظ من الشخصيات البارزة في الحفل.
- ثم تحول محمود سعيد بعد هذه الفترة إلي نهج ثالث قصد فيه وقف جانب من انتاجه علي تصوير افراد من أسرته ولفيف من معارفه وهذه اللوحات ـــ برغم نعومة لمساتها، ودقة تدرج الألوان فيها، بالاضافة إلي استيضاحها ملامح الشخصيات التي أراد تصويرها ـــ تبدو برغم هذا كله غريبة في طابعها، مختلفة عما كان ينجز غيره من الفنانين الأجانب الذين صوروا شخصيات المجتمع المصري حينذاك، فإذا كانت لوحات الأجانب تبدو سائغة للكثيرين، فإن الوجوه المصورة في لوحات سعيد تبدو كما لو أنها رسمت من بلور ملون نقي، ولكنها بعيدة عن الحياة المادية لا يتعين لها وقت.
- ولو أمعنا النظر في تلك اللوحات لأدركنا أن الفنان تعمد فيها تحريف بعض النسب الطبيعية بما يحول التعبير فيها إلي نوع من الصمت الخارق غير المألوف، فلا يكاد المرء يتوسم في سماتها الطبيعة الحية ويحاول أن يفطن إلي الشخصيات الممثلة فيها حتي يحول التحريف المتعمد في نسبتها بين هذا الشعور واللوحات المرسومة، الأمر الذي يضطر الناظر إليها ان يجرد نفسه من عوامل الشوق أو الفرح، والحنين أو الألفة ليسعي باحثا فيها عن قيم خفية غير الدارجة السطحية. ومن النواحي التي اتجه إليها محمود سعيد تعبيره عن نسوة كاسيات أو عاريات. ولقد أسهب النقاد قبيل منتصف القرن الحالي في وصف ما تسني لهذا الفنان من التعبير عن سمرة المرأة المصرية ونضارة بشرتها ، وكأنها قد اكتسبت نضارتها من تعرضها لدفء أشعة الشمس ، بل سخونتها التي تكاد تضفي علي الناظر نسمة حارة من نسمات الصيف. وإذ يصور هذا النقد خيالاً حالماً، يكاد ينقلنا وفقا لهذا الرأي الذي تخالفه إلي العناية بسائر الأحاسيس الدنيوية المسرفة في الايحاء بكل ما يجتذب العين من مفاتن الجسم.
- ونحن نخالف هذا الرأي، لأن الفنان لم يقصد بتصويره هذه الطائفة من اللوحات إثارة النفس بمحاسن المرأة الشرقية، بقدر سعيه لخلق أسطورة من شخصيات. فإذا صورها الفنانون الأوربيون في صفة الجواري، أو الخليلات نراها في لوحات محمود سعيد أمام المرأة الشرقية حين تحررت، بل نكاد نلمس في اللوحات صفات العزم والجرأة مجتمعة، وصفات الأنوثة غير الضامرة ولعله يساير في نهجه هذا ما صوره الطليان خلال القرن السادس عشر أو السابع عشر من نسوة عاريات يمثلن شخصيات من الأساطير اليونانية القديمة فلوحات محمود سعيد في هذا الاتجاه تكاد تذكرنا بما رسم من راقصات عاريات علي الخزف الفاطمي كما تبين ما كانت عليه مقومات الجمال في عصور المماليك من وصف وتصنيف للأعناق والأرداف والاكتاف. ومحاسن الجسم وفقا للذوق العربي.. وأعقب هذا الطابع في التصوير نزوع لتمثيل شواطئ البحر بين الاسكندرية ومرسي مطروح ولبنان واليونان، فيرسم زرقة البحر المتوسط وأمواجه، والجبال مزدهرة الحافة به في لبنان وغيره من بلدان حوض البحر المتوسط، ويصف ذلك كله في لوحات تكاد تكون في بريق ألوانها خزفية الصنع. إنه ذلك الاحساس الذي يجول في نفس كل عربي حين يقف علي شاطئ البحر، وينظر للأفق البعيد يرقب السانحات والبارحات، ويذكر قراءاته في مسالك المماليك. أو رحلة ابن بطوطة فيستعيد في خياله تلك الشواطئ العربية المترامية الأطراف، وهي في عظمة حضارتها فتمتد يد الحاذق، وترسم في نقاء البلور من الزبرجد واللازورد أرجاء هذا البحر الذي كان في يوم ما عربيا، وكأنه صنع من جواهر تتألق في سكون عميق.
- وما من شك في أنه كانت تكمن وراء تلك الشخصية الباسمة الخجولة نفس تخادع ظواهرها في إصرار يبلغ حد التفاني، للوصول في فن التصوير إلي طابع يرتبط أو بالأحري يتمم ما توقف عنده التصوير العربي في أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر.
- وكالناسك الماكر الذي بلغ حدا من الحكمة نراه يداعب الصبية بسذاجة ويلاطف المبتدئين في مسعي الفن برفق ويجالس محبي الوصول في وداعه فيبادلهم طرائف الذكريات، ولكنه يكاد يموه علي علي الجميع خلال أحقاب عمره الذي قضاه في الانتاج المتواصل ـــ يموه عما يحاول تحقيقه في قرارة نفسه من استطلاع إلي إيجاد فن قومي. ولقد حاول في الساعات الطويلة التي قضاها في مسكنه ـــ الوقوف علي أصول صناعة التصوير، ودرس مركباتها وتفاعلها وكيماويات الألوان التي يستعين بها بغض النظر عن لحظات التجلي الجامحة التي تستهوي أحيانا الفنان المبتدئ فتدفعه إلي تسجيل انفعلاته السريعة حسبما اتفق. لقد عكف هذا الفنان علي درس أصول صناعة التصوير، وحذق في براعة فائقة تركيب معادلات لونية لمشاعره المختلفة فنراه يعجن الألوان ويمزجها، ثم يهذب قوامها ويجعلها في رقة نسمة الريح أحيانا ومعتمة في أحيان أخري وبينما نري صور جموع المبتدئين من الفنانين تتآكل وتتشقق بفعل الزمن ولضلالهم في الاهتداء إلي أواصر صناعة التصوير نفسه ، فتتغير ألوانها، وتميل إلي الظلمة والكآبة، وكأن القدم أخذ منها مأخذا، إذن لوحات سعيد تظل مضيئة كالثريات، تكاد تزداد بريقا تتحدي الدهر وتوالي الأيام ، مخلدة بذلك ذكراه شاهدة علي ما بذل في فنه من عزم صادق.
بقلم : سعد الخادم
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
عالم محمود سعيد
- ما الذى يجمع بين محمود سعيد وناجي ومختار وأحمد صبري وراغب عياد وطه حسين والعقاد والمازني وسلامة موسي، كل هذا الجيل من الرواد الذين ظهرت باكورة أعمالهم في أوائل العشرينات من هذا القرن، اي في الوقت الذي اخذت تتصاعد فيه من حناجر الجماهير المحتشدة صيحة : ` الاستقلال التام أو الموت الزؤام `... إن أول ما يبدو هنا في هذا الفوج، تعدد الشخصيات وتنوعها. فاذا كانت هناك خاصة تجمعهم، فهي هذه الصفة بالذات : استقلال الشخصية، وتفرد كل منهم بمنهج فكري مميز، وأسلوب في التعبير مميز، وكأنما المطالبة بالحرية الجماعية، وتأكيد الشخصية الفردية، صنوان لا يفترقان.
- ولا جدال في أن الأدب العربي، وبخاصة في عصوره الزاهرة، قد عرف أساليب التعبير الشخصية ( وإن كنا نعتقد أن الأمر يحتاج لدراسة مع ذلك لتحديد أوجه الاختلاف ـــ التي قد تكون جوهرية ـــ بين مفهوم الشخصية في القديم ومفهومها في الحديث). ولكننا من بلد قام تراثه الفني العريق ـــ في جميع عهوده علي تقاليد جماعية، واستمرت فنونه الجماعية طابعه المميز حتي ظهور هذا الجيل من الفنانين، فلا غرو ان نعد ما حدث في العشرينات، انقلابا خطيرا في مجري تاريخنا الفني لا ينبغي أن نتجاهل شأنه او نغفل مغزاه. وإذا نظرنا الآن في هذا الجيل من الفنانين، لنري ايهم كان صاحب شخصية فنية أبرز وأشد استقلالا، لقلنا بلا تردد: إنه محمود سعيد.
- ذلك أن مختار مثلا ــ بالرغم من أسلوبه المميزــــ قد استوحي فنا قديما جماعي الطابع. وإذا كان لشخصيته دخل دون ريب في اختلافه الواضح مع ذلك عن هذا الفن، فربما كان لتعالي اساتذته الاكاديميين، من طليان وفرنسيين، دخل اكبر. أما الباقون، فلهم أشباه في بلاد أخري، وذلك باستثناء ناجي في مرحلته الحبشية، وباستثناء بعض لوحات راغب عياد الأولي التي تشوبها مسحة كاريكاتورية. وأما محمود سعيد، فهو بالرغم من كل ما كان للثقافة الغربية من تأثير عليه( وهذه صفة يشترك فيها مع جميع أبناء جيله من كبار الأدباء والفنانين)، وبالرغم كذلك من تذوقه ـــ بفضل ثقافته الفنية العميقة الواسعة ـــ للعديد من فنون الشرق والغرب( وهي صفة لم يشاركه فيها غير ناجي)، قد انفرد من البداية بأسلوب شخصي واضح السمات، أن استطعنا أن نرجع بعض عناصره لمؤثرات خارجية ، تعذر علينا أن نجد له شبيها في مجموعه.
- وأغرب ما في هذا الأسلوب، ان محمود سعيد ـــ فيما يبدو ـــ لم يتعمده عمدا، كما كان الأمر في حال مختار، وانما جاءه عفوا. بل ليخيل إلينا أن محمود سعيد قد أراد في البداية التقليد، ولكن طبيعته غلبت عليه، فإذا بهذا الأسلوب يخرج من بين يديه، وإذا به لا يستطيع من هذا الأسلوب فكاكا.. ومن هنا كان طابع ` الحتمية ` الذي تتسم به لوحاته. ومعالم دنيا الفنان تتحدد بما ينبذه كما تتحدد بما يأخذ وما يثبت. فماذا نبذ محمود سعيد؟ لقد نبذ ` الجمال المثالي ` فيما يتعلق بوجه الانسان وبدنه هذا الجمال الذي ابتدعه الاغريق، ثم أخذه عنهم بعض الفنانين الأوروبيين منذ عصر النهضنة. كبوتيتشيللي ورافايللو وبوسان وأنجر مثلا، وكذلك نبذ الحركة العضلية بمفهومها عند الإغريق، والتي أصبحت سمة بارزة من سمات الفن الأوروبي منذ القرن السادس عشر، وبخاصة عند ميكل أنجلو. فلنقل باختصار إنه قد نبذ التيار الهليني في الفن الاوروبي بعامة. كما نبذ جميع التيارات الفنية التي ظهرت في أوروبا بعد عصر النهضة : الباروك والروكوكو والرومانتيكية والواقعية والتأثيرية وما بعد التأثيرية.
- هذا كله قد نبذه محمود سعيد من تراث الفن الأوروبى..فما الذي أخذه إذن من هذا التراث؟ غني عن القول إنه أخذ، أول ما أخذ، أسلوب التصوير الثلاثي الأبعاد، بما يتضمنه من ظلال وأنوار ودرجات ألوان ثم إنه قد أخذ عن عصر النهضة بعض القواعد الأساسية في هندسة اللوحة. ولكنه استخدم هذه الهندسة استخداما خاصا، فلم يجعل منها مجرد وسيلة مستترة للايحاء بالتوازن والانسجام، كما فعل أساتذه الفن الاوروبي، وإنما جعلها نظاما صريحا صارما يفرض علي اللوحة فرضا، وكأنه حكم القانون أو حكم القانون أو حكم القدر، فيذكرنا علي نحو ما بهندسة الفن الفرعوني أو بالأحري السومرى.
- وفيما عدا ذلك، لا نكاد نري شيئا يستحق الذكر أخذه محمود سعيد عن التراث الأوروبي علي ما أثبته الفنان يتجاوز بكثير ما أخذ... فلننظر في عالمه الخاص، عالم محمود سعيد... وإذا أغفلنا مؤقتا مرحلة العشرينات الأولي التي تتميز بعدد من اللوحات موضوعها المقابر، وإذا صرفنا النظر كذلك عن لوحات الصيادين والفلاحين والصور الشخصية ـــ البورتريه ـــ وما شابهها، وهي كثيرة وممتازة في معظمها، فإنه ليتبقي بعد ذلك من إنتاجه الوافر الغزير قسمان تبلورت فيهما بلا جدال أهم معالم فنه.
- القسم الأول بلغ أوجه في أواخر الثلاثينات، متمثلا علي الأخص في ( ذات الجدائل الذهبية) و (القط الأبيض) و (جميلات بحري) و (النزهة) و (المدينة).. وهي مرحلة تتميز بطغيان (الأنثي) عمدا. فليست هي امرأة معينة تلك التي صورها في هذه اللوحات، علي نحو ما فعل في لوحات كثيرة سابقة ولاحقة، وإنما هو قد صور هنا ( الجوهر الانثوي) أو (ربة الأنوثة) إن لم نقل شيطانها.. وهذه (الربة) لا تشبه أختا لها ظهرت في عصور ما قبل التاريخ، وكانت ترمز إلي (الخصوبة) أو تمثل (الأم الكبري) أي مصدر الكون، ولا هي تشبه شقيقاتها ايزيس وهاتور ونوت في مصر القديمة، فهؤلاء كن رفيقات رحيمات وكأنهن البلسم في حياة الانسان، ثم إنها لا تشبه ربات الاغريق المثاليات الجمال ولا مريم العذراء علي نحو ما تخيلها الفنانون في شتي العصور... وقد تذكرنا، في أنوثتها الطاغية، بصورة المرأة في الفن الهندي، لولا أن هذه سخية باذلة، علي حين أن تلك ماكرة داهية. وقد تذكرنا، في شيطنتها الباسمة، بصورة الجوكندة، لولا ما تبديه هذه من تستر وتكتم، وما تبديه تلك من زهو وتحد وخيلاء إنها أقرب ما يكون في صورة من صور الأنثي، تبلورت في بعض قصصنا الشعبي، هي تارة ( ست الحسن والجمال) وتارة أخري ( تلك التي تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم).. وكان من قوة هذا الرمز لدينا، أن اقترب اسم محمود سعيد في الأذهان بصورة (بنت بحري) هذه الصورة الجديدة للمعني الراسخ القديم ــ فلم نلتفت بعد التفاتا كافيا للتطور العام الذي طرأ علي فنه ــــ وعلي رؤياه ـــ في القسم الثاني من انتاجه، ذاك الذي بلغ أوجه في الخمسينات، وتميز بسيادة (المنظر الطبيعي) وبخاصة مناظر الجبال.
- ولا يتضح مغزي هذا التحول إلا إذا تذكرنا أن صورة (المنظر الطبيعي) عندنا قد ظلت طوال قرون عديدة ملتصقة في خيالنا بهذا الشريط الأخضر الضيق ــــ هذا الوادي بنيله وشراعاته وحقوله ونخيله، فنحن بحكم صراعنا الطويل ضد الصحراء، لا نكاد نري جمالا إلا في (الماء والخضرة والوجه الحسن). وبحكم التصاقنا الطويل بأرضنا المنبسطة ونبتها وثمارها، سادت في فنوننا الخطوط الأفقية والرأسية والدوائر. وقد سادت هذه الخطوط والأشكال بالفعل في أعماق محمود سعيد، حتي انتقاله إلي هذه المرحلة الأخيرة، وإذ بكل ذلك يختفي أو يكاد، وإذ بالنور يسطع ويشع بعد انحسار، وإذ بالأفاق تمتد أمامنا بعد انغلاق، فتبرز في فنه بفضل هذا كله ـــ رؤية جديدة، لم نعهد لها مثيلا في أي تصوير مصرى سابق.
- ومن الصحيح أن لوحات هذه الفترة قد استوحي فناننا معظمها من جبال لبنان، ولكن أروع هذه اللوحات جميعا هى، بلا جدال، تلك التى استوحاها من محجر التلك بحماطة الواقعة على البحر الأحمر.
بقلم : رمسيس يونان
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
محمود سعيد والفن المصرى الحديث
- محمود سعيد فنان أجمع الكل علي روعة إنتاجه، وقدرته علي التعبير عن الجمال المصري وصياغته في لوحاته. ومن خلال دراسة أعماله والكشف عن جوانب الجمال في فنه نستطيع أن نتعرف علي تطور الحركة الفنية في مصر.. فتاريخ محمود سعيد هو تاريخ التصوير المعاصر في بلادنا وقد تطور الفنان وتنوعت الموضوعات التي تناولها ولم يجمد أبدا خلال 45 عاما من الممارسة المتصلة للتصوير الزيتي.. خلال هذه الفتره الحافلة بالإنتاج الفني تنوعت موضوعاته. فرسم المناظر الطبيعية والصور الشخصية والناس الشعبيــــين وسجل الموضوعات الشعبية (الذكر). (الصيد العجيب). (الدفن) والحياة الريفية كما في لوحاته (الشواديف) و (أمومة) و (حمام الخيل بالمنصورة) كما تناول الرسم العادي وأبدع فيه.. ولقد عاش محمود سعيد في الاسكندرية وكان أبوه رئيس وزراء أو كما كان يطلق عليه في زمانه ( ناظر نظار) وعاش في حي بحري وتولد عنده في شبابه حب الفن ولكن أسرته وجهته إلي دراسة القانون.. في جو الاسكندرية وبين بنات بحري والحياة المرفهة العائلية.. وبين الفن والقانون عاش فناننا الكبير حتي اعتزل القضاء 1947.. ونال أول جائزة تقديرية في الفنون عام 1960 ثم مات في 8 إبريل 1964 يوم عيد ميلاده السابع والستين..
- مرحلة التكوين الفنى
- في شبابه درس التصوير الزيتي في مرسم زنانيري علي أيدي الأساتذة الأجانب الذين أقاموا في الاسكندرية.. وكان يسافر إلي الخارج في أجازته الصيفية ليطوف بمتاحف أوروبا ويطلع علي آخر ما وصل إليه الفن هناك من تعدد في الأساليب.. وفي عام 1920 رسم لوحته ` الغسيل في حدائق القبة `.. في هذه اللوحة جرب الفنان الطريقة التأثيرية التي كان يستخدمها ` فان جوخ ` في التصوير.. فالالوان ذات سمك وتخانة.. وهي من الأنبوبة مباشرة بغير مزج ولكن تجاور البقع اللونية الصغيرة يوحي بلون جديد هو ما يقصد إليه الرسام.. وهذه الطريقة في التصوير الزيتي كانت دائما أنجح الطرق في نقل الاحساس بحرارة الشمس ووهجها.. ونحن لا نجد بين أعمال محمود سعيد كلها بعد ذلك لوحة أخري عالجها بهذه الطريقة الخاصة لفان جوخ.. هل كانت هذه اللوحة مجرد محاولة واحدة ؟.. أم أنها تجربة في استخدام الأسلوب التأثيري عامة ؟؟ إن هذا الأسلوب يشيع في أعمال ــــ محمود سعيد ـــ الأولي.. ولا شك أنه تأثر خلال رحلاته الصيفية بأعمال رمبرانت أقدم التأثيريين ثم فناني الفلاندر.. وكذلك أعمال الفنانين الايطاليين الأوائل.. فهناك مجموعة من اللوحات اتبع في رسمها طريقة رمبرانت بإظلام الخلفية وإظهار الاشكال الثانوية من خلال هذه الظلمة مع التركيز بواسطة هذه الاضاءة القوية.. ومن أمثلة هذا الأسلوب لوحته التي رسمها لوالدته في هذه الفترة المبكرة من حياته الفنية.
- مرحلة التطلع إلي الفرعونية
- في أوائل القرن العشرين كان الطريق الوحيد لممارسة الفن في بلادنا يمر بالخبرة الأوروبية.. فالاساتذة أجانب والثقافة غربية.. والفن في الغرب له تاريخ متصل.. أما في مصر فمنذ حمل سليم الأول الصناع المهرة إلي عاصمة حكمة في الأستانة عند غزوه لمصر منذ ثلاثة قرون، وحتي أوائل القرن الحالي وجدت هوة لا نستطيع أن نقول أن ثمة فنا تصويريا مصريا قام خلالها، ولكن لم تلبث الثورة المصرية ضد الاستعمار أن اشتعلت عام 1919 وانتشرت في أعقابها مفهومات سياسية دفعت المثقفين إلي الاتجاه إلي التراث والبحث عنه واستخراجه ثم تركيز الأضواء عليه والإعلاء من شأنه.. وهكذا ظهرت الدعوة إلي المصرية والالتفات إلي التراث الفرعوني بغناه الذي لا يحد، وعراقته وأصالته التي سادت خلال الفين من السنين.. وكان هذا التراث منهلا للفنانين ومادة للسياسيين والمفكرين.. هكذا كانت الروايات الأولي للروائي المعاصر نجيب محفوظ فرعونية، والمثال مختار في تمثاله ` نهضة مصر` مثل مصر بفلاحة ترفع النقاب معتمدة علي أبو الهول. ومحمود سعيد استجاب لهذه الدعوة وراح يتطلع إلي الفن الفرعوني محاولا استيعاب قيمة منها.. لكن حظ مختار كان أسعد من حظ محمود سعيد.. ذلك أن الآثار الفرعونية في معظمها مجسمات.. ومختار كمثال استطاع أن يتبلور بسرعة ويرتكز بكل ثقله علي تراث واضح محدد كبير.. أما محمود سعيد فلم يجد في التصوير الفرعوني ما يغنيه تماما عن التطلع إلي التصوير الأوروبي.. ذلك أن المصور الفرعوني كانت مجموعته اللونية محدودة، وكان عمله قاصرا في معظم الأحيان علي تلوين النحت البارز الذي يعمله المثال، أو بتعبير أكثر دقة كان الفنان يلون تماثيله أو رسومه البارزة علي السطح المنبسط.. وكان التجسيم بالنحت عند الفنان الفرعوني. ولم يسلك إلي التجسيم طريقة التظليل أو التدرج اللوني.. كل ذلك يرجع إلي العقيدة التي سادت في تلك العصور.. لهذا كانت مهمة محمود سعيد أصعب من مهمة محمود مختار رغم أن كليهما تطلع إلي تراث واحد.. ومع هذا فقد نجح محمود سعيد في مهمته فهو عندما تخطي مرحلة الأخذ الواعية الإرادية من الفن الفرعوني.. عندئذ قدم أروع أعماله.. في لوحته (الشواديف) نجده يكون لوحته علي أساس التكوين (الهرمي) ولا يراعي المنظور بدقة في حجم الرجلين اللذين يعملان في تحريك الشواديف بعكس بقية اللوحة التي راعي فيها المنظور والبعد والقرب بدقة.. ثم إن رداء الرجال منقول عن ملابس الفراعنة وليس عن الفلاح المصري في القرن العشرين.. لكنه رسمهم في حركة عنيفة وهو مالم يفعله الفنان المصري القديم.. وكذلك (الجحش) الذي في مقدمة اللوحة مأخوذ بنفس وضعه ووقفته تقريبا عن رسوم الفراعنة.. إن هذه اللوحة تمثل خير تمثيل مرحلة التأثر الإرادية الواعية بالفن الفرعوني، وهي ليست نقلا حرفيا فالفنان يستخدم ألوانه الخاصة ويرعي المنظور في توزيع معظم عناصره ويهتم اهتماما متساويا بكل جزء في اللوحة بما في ذلك المنظر الخلفي البعيد ويحكم التكوين ولكنه يشارك في الحياة الفكرية ويتحمس للدعوة لإحياء التراث الفرعوني ويطبق ذلك في فنه بما يتفق وشخصيته الفنية..
- معالم الشخصية المصرية
- بنات بحرى.. والتراث الفرعوني، وخبرة المصورين الأجانب. الواقع . والتراث والخبرة.. عندما جمعها سعيد في لوحاته قدم شيئا خاصا به.. خاصا بمصر في فن التصوير.. لقد حقق تكوينات محكمة للغاية.. ليست حسابية كتكوينات زميلة المعاصر له (ناجي).. ولا تقليدية سبق أن طرقها غيره من الفنانين.. وانما تكويناته بسيطة مدروسة بعناية.. فكل جزء في لوحاته مستريح في مكانه ومريح للعين.. ولوحته الكبيرة ( المدينة) مثال لذلك.. لقد رسمها عام 1937 وجمع فيها.. بنات بحري وبائع العرقسوس وحاملة القلل والحمار والمركب الشراعية. وسنوضح مميزات هذا التكوين عند الحديث عن تكويناته عموما. ولكن المسألة لا تقتصر علي التكوين المحكم، فقد نجح محمود سعيد في أن يضمن لوحاته شاعرية ورقة غير محدودين، وفي أعماله شئ يشبه الشعر، وفي لوحاته ( أمومة) يتضح بجلاء هضمه لخبرة الفنان الأوربى، فأثر الفن الفلمنكى يكتشف من خلالها.. وأمومة العذراء مع المسيح تنكشف من ثناياها، كذلك يتضح هضمه للفن الفرعوني وتمثله له في اتقانه لرسم الحمار.. كل هذا من خلال شخصيته الذاتية.. الأم تحتضن ابنها فوق الحمار الذي يعبر الجسر والنخيل أسطوري كأنه يلبي نداء أغنية القرية الشعبية (يا جريد النخل العالي طاطي ورد السلام) والحقول والسماء وجميع عناصر اللوحة تكتنفها الظلمة التي تضفي عليها شاعرية وحساسية ورقة تجذب المتأمل للاستغراق الممتع.. أما سطح اللوحة ففيه غني يصبو اليه كثير من المصورين المعاصرين فالالوان الوضاءة المشعة تضئ من خلال الظلمة التي تكتنفها.. لقد انتقي لرسم لوحاته لحظة الغسق وهي لحظة تضفي علي الالوان والوجوه والاشكال شاعرية ورقة تدفع المتذوق إلي معايشة الفنان في لحظة إبداعه للعمل الفني.. وفي لوحته (الدعوة إلي السفر) 1932 التي تعتبر بحق أروع أعماله حقق الفنان في الوجهين كل ملامح الشخصية المصرية وما يعتمل في نفوس المصريين من تهيب للسفر ترسب في أعماقهم عن كل الناس بالسفر.. وتقف إلي جانب هذه اللوحة لوحاته. (ذات الجدائل الذهبية) وحاملة ( القلل) فهي قمم محمود سعيد ومن قمم فن التصوير في بلادنا... في هذه المرحلة من فن محمود سعيد اكتشف الفنان اللون النحاسي للبشرة المصرية وحققه في تصويره.. بشرتنا عندما نحيا شهرا أو بعض شهر علي شاطئ الإسكندرية وما يكتسبه لونها من تعرضها للشمس والبحر والهواء وهو اللون الذي اكتسبته بشرة أهالي الإسكندرية الذين يتعرضون للشمس خلال عملهم وكدحهم طوال النهار.. هنا حقق محمود سعيد الشخصية المصرية ونجح في إبراز هذه الشخصية وسجل ملامحها ولون بشرتها.. وحقق العالمية في فنه من خلال هذه المحلية.
- المرحلة الأخيرة لفن محمود سعيد
- لكن محمود سعيد فى مرحلته الأخيرة غلبته نزعة ارستقراطية فاتجه إلي الفانتازيا التي تتجلي في رسم المناظر الطبيعية مثل لوحته (مناجم الفوسفات بالقصير) عام 1963 حيث الزخرفة والخيال.. إننا نجد بين أعمال محمود سعيد لوحة (ضاحية باستكهولم) التي رسمها كما يرسمها أي فنان ولد هناك، ورسومه في رحلته الأخيرة إلي اليونان عام 64،63 تدفعنا إلي الظن بأن الفنان كأن يجتاز مرحلة انتقالية سلك إليها بالمرور بنقطة البداية.. بداية دراسته الفنية علي أيدي الفنانين الأربيين في محاولة للتعرف علي المنبع الذي استلهم منه أساتذة صباه.. ولكننا فقدنا هذا الفنان المبدع قبل ان يتم عبور مرحلة الانتقال هذه.
- التوتر الخصب فى حياة محمود سعيد
- بين القضاء والفن.. بين التصوف والرسم العادي.. بين الحياة الارستقراطية المرفهة وبنات بحري.. بين أوروبا ومصر.. بين هذه المتناقضات عاش الفنان معظم فترة إنتاجه الفني.. وفي عام 1947 تخلى عن كرسي القضاء ولكن هذه المتناقضات لم تخل تماما رغم تغلب الجانب الارستقراطي ـــ بدرجة ما ـــ علي فنه في أخريات أيامه.. ومع هذا كان التوتر الذي تخلفه هذه المتناقضات توترا خصبا للغاية وفي قمة هذا التوتر بين أعوام 1914 ، 1947 أنتج محمود سعيد أجمل وأروع أعماله. ففي أعوام 1924 ، 1926 رسم لوحتي (الدفن) و (الرسول) وبعدها بحوالي عشرين عاما رسم لوحتيه الخالدتين العاريتين (علي الأريكة الخضراء) و (علي الوسائد) ورغم هذا الفارق الزمني الكبير إلا أنه في لوحتيه العاريتين وفي جميع أعماله التي تتناول الطبيعة الحية كان يغطي العورة.. أو يرسم المرأة في وضع يخفي هذا الجزء.. فبقايا التصوف وفكرة العورة لم تفارقه أبدا.. ولوحاته للارستقراطيات رسمها بأسلوب مختلف نوعا عن أسلوبه في رسم بنات بحري والخادمات. فالفنان عندما يرسم بنات طبقته يرسمهن في كامل بهرجتهن. فيظهرن أقل دفئا وأميل إلي الاكاديمية مصورا إياهن كما يردن أن يظهرن ومبرزا فيهن الجمالية الخاصة.. وهو بهذا يقصد إلي إبراز شخصياتهن.. أما في رسومه للنسوة الشعبيات فهو يحقق فكرته الخاصة عن شخصياتهن ، والفنان هو الذي يختار اللحظة والجلسة والتعبير الذي يسجله في عمله الفني فهو يعيش معهن مبرزا اهتمامهن واحتفالهن بالجنس كما يبرز صارخا من خلال ملامحهن الخشنة.. وقد نجح الفنان في تأكيد غجريتهن بما فيها من دعوة وتحد كلوحته (فتاة علي الكرسي) و( ذات العيون العسلية).. إن هذا الازدواج في فنه يوضح مدي ما كان يبذله الفنان من جهد ليعايش نماذجه ويحقق بأسلوبه الخاص مميزاتها مستهدفا نقل ما يحبه نحوها إلي التذوق.. وفي نفس الوقت يوضح مدي التوتر الخصب الذي كان يعتمل في أعماق الفنان.. وأشكال التجسد الفني لهذا التوتر. وبين سفره إلي الخارج، إلي لبنان واليونان وغيرهما من البلدان الأجنبية من ناحية وحياته في مصر. في مرسي مطروح وأسوان والمكس.. من ناحية أخري، نجد الازدواج في رسومه للمناظر الطبيعية.. فهناك بعض مناظر طبيعية رسمها وكأنها بريشة فنان أجنبي كلوحته (ضاحية باستكهولم) عام 1957.. هذا في حين أنه رسم المناظر المصرية بكل دفئها وضوئها وأصالتها.. وفي هذا امتداد لطريقته في رسم الارستقراطيات والشعبيات..
- ثنائية العناصر فى تكوينات الفنان
- تعتمد معظم لوحات محمود سعيد علي التوازن بين شكلين متشابهين.. ثم يربط الفنان هذا التكوين الزوجي بعنصر مفرد، هذا العنصر هو ما يسميه الفنانون بمفتاح اللوحة. ومن المرجح أن هذه الثنائية فى التكوين ليست قيدا صارما إنما هي طابع عام علي لوحاته التي تعالج موضوعات. وأوضح مثال لهذا الأسلوب في التكوين لوحته (السابحات). وهي لوحة تذكرنا في طريقة معالجة الاشكال ببدايات فن التصوير في إيطاليا حيث الاهتمام بالاستدارة والتدرج اللونى، ولم يغط الفنان العورة فيها معتمدا علي غرابة طريقة التشكيل التي نزعت منهن الاغراء الجنسي.. وحلول هذه اللوحة التي رسمها عام 1934 تقوم بوضوح علي الثنائية.. ففي كل جانب من اللوحة يظهر فرع من شجرة رغم اختلاف حجم كل فرع.. والجرة في هذا الجانب تقابلها جرة في الجانب الآخر.. والمناشف واحدة هنا وثانية هناك. والسابحات يظهر منهن اثنتان يديران ظهريهما وتكاد تتقابل أعضاؤهما مع اختلاف قليل في درجة مواجهة ظهر كل منهما لنا.. وفي وسط اللوحة تقريبا ومن أسفلها إلي قمتها تواجهنا السابحة الثالثة وأعضاء جسمها الزوجية تكمل التوازن الثنائي.. اليدان والرجلان والثديان.. الخ.. لقد اعتمد محمود سعيد علي البساطة الشديدة في حل تكويناته مع حذر واع من التماثل الممل. وفي لوحته الكبيرة (المدينة) نجد نفس الطريقة في التوازن.. فالمنزل في أعلي الصورة اليمني يقابله منزل في اعلاها اليسري وشراعا المركب هنا أمامها شراعان في نفس حجميهما تقريبا هناك. وبائع العرقسوس حاملا جرته في يمناها الاسفل يقابله الحمار وراكبوه في يسراها الأسفل وبنات بحري يتوسطن اللوحة ثم بعض العناصر التي تكسر التماثل الممل.
- الحيوانات عند محمود سعيد
- رسم محمود سعيد الحيوانات بطريقة فريدة، متميزة.. ففي لوحته السيرك رسم الحصان واقفا علي قائمته الخلفيتين وأمامه علي البعد راقصة، والفنان يحقق في هذه اللوحة علاقة إنسانية فيها من الجنس شئ كثير بين الحصان الذي يرقص والمرأة التي ترقص.. ونفس الشئ في حمام الخيل، بالمنصورة.. لقد ترجم الفنان إحساسه بالعلاقة بين الحصان والمرأة. وهناك لوحة غريبة رسم فيها الحصان في حركة عنيفة ولكنه أقرب إلي الدمي الخشبية، هي لوحة (ماري جرجس والتنين) أما التنين فظهر هزيلا جدا وأقرب إلي الكاريكاتير... وفي لوحة (القط الأبيض) يبرز الفنان العلاقة بين بنات بحري والقطط في ثنائيات جسمه ووقفته المتحدية للنساء الملفوفات في ملاءاتهن والخط هنا مفتاح اللوحة فهو يقف منفرداً في حين تتزاوج العناصر الاخري. فكل امرأتين متجاورتين والمرأة التي في أقصي اللوحة الايسر يوازنها الرجل الذي يدير لنا ظهره والجالس في أقصاها الأيمن. أما الحمار في رسوم محمود سعيد فهو من عناصره المحببة ويظهر في عدد كبير من أعماله.. وأجمل حمار رسمه في لوحته الشواديف التي يظهر فيها جحش صغير في مقدمة الصورة أبيض مغسولا، مزججا أنيقا وأرستقراطيا ويشبه إلي حد كبير الجحش الذي رسمه الفنان الفرعوني من الدولة القديمة في إحدي لوحات النحت البارز حيث يقف هذا الجحش الفرعوني في مواجهة صف من الحمير. إن اهتمام محمود سعيد برسم الحمار في لوحاته يرجع في الحقيقة إلي أن هذا الحيوان هو أحد العناصر التي حفظها التراث، وبقيت حتي اليوم في حياتنا الشعبية بل ولا تزال ذات أهمية خاصة في حياة المصريين سواء في المدينة أو في الريف.. والحمار عند محمود سعيد فيه إنسانية وأناقة، ورشاقة، وقد رسمه مواجها كما رسمه جانبيا.. لقد تحول هذا الحيوان عند الفنان إلي موضوع تعبيري وجمالي واهتم به خاصا بعد الإنسان مباشرة.
- محمود سعيد والحياة العامة
- إذا عقدنا مقارنة بين ما حققه محمود سعيد بلوحاته وما حققه محمود مختار بتماثيله في الحياة العامة فإننا نجد أن مختار كان أكثر إيجابية، وأشمل فاعلية من محمود سعيد.. وقد يرجع ذلك إلي اختلاف نشأة كل منهما.. فمختار فلاح ومن الريف جاء وشارك في الثورة ضد الاستعمار بنفسه.. أما محمود سعيد فقد سار في اتجاه آخر.. إذ اتجه إلي الشعب وإلي المصرية ليسجل عادات الناس ويبرز الشخصية المصرية. وإذا كان محمود مختار قد شارك بتماثيله في الحياة السياسية فإن محمود سعيد قد شارك بلوحاته في الحياة الفكرية.. وإن إجماع الفنانين والنقاد علي نجاحه وتفوقه الفني بالاضافة إلي استمتاع جماهير الشعب وتذوقها لأعماله الفنية.. كل هذا يدل على مدى نجاحه وعلى مقدار قيمته فى تاريخنا الفنى الحديث.. وقد كرمته الدولة بمنحه أول جائزة تقديرية فى الفنون وبذلك توج على عرش التصوير المصرى المعاصر.
بقلم : صبحى الشارونى
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
المكان فى فن التصوير المصرى الحديث
- محمود سعيد والبحر
- إن ما جلبه لنا محمود سعيد في لوحاته من البحر كثير. وفي مقدمة ما جلبه من البحر في لوحاته ذلك الإيقاع الموسيقي المستقي من تواصل الإصغاء إلي هدير الأمواج المتلاطمة المندفعة أحيانا، المنسابة أحيانا أخري، إلي الشطان الساجية. هذا بالإضافة إلي استشراف المجهول، والانفتاح عليه، من فرط التحاور مع البحر الذي يبدو أمام أنظار الفنان مترامي الأطراف إلي مالا نهاية، فإذا ما أرخي عليه الليل سدوله، زاد اللغز ضراوة، وانبهاما، حتي لو اكتسح سماء الاسكندرية من وقت لآخر شعاع من فنارها العتيد، أو تراقصت الأنوار البعيدة من السفن المسافرة وقوارب الصيادين، مثل أنجم في الأفق وامضة غمازة.
- الإضاءة البحرية
- والإضاءة عند محمود سعيد حتي في غير مناظره البحرية، وعلي سبيل المثال في لوحة (الصلاة ــ 1941) هي في نظري إضاءة رشفتها عينا فنان عاش البحر، وانعكاسات النور والظلام علي مياهه، وارتدادات الأضواء منها إلي الحيز الكوني من حولها كله. ويتجلي ذلك أكثر في لوحتي (الزارـــ 1936) و( العائلة ــ 1938) فالإضاءة في هاتين اللوحتين، وبالأخص الأولي، موجات نورانية تعلو وتهبط في أرجاء اللوحة، محققة عامل الخبرة المتأصل فيهما. ثم لا ننسي الإضاءات الرجراجة المتماوجة، المتراوحة بين إضاءات الأغوار وإضاءات الشواطئ الساجية في وضح النهار في لوحة ( المدينة) ثم في لوحة (القط الأبيض ـــ 1937) نور يضئ وينطفئ، مراوغ أحيانا، مكتسح أحيانا، وأحيانا أخري ثابت ملتصق بالبشرة لا يفارقها، فقد انتشت به وتشربت. ولن يستطيع من لم يعش بالاسكندرية عمرا ـــ بل وبعبارة أدق من لم يعش بالاسكندرية بروحه وقلبه ووجدانه وفكرة ــ لن يستطيع ان يعرف ويستوعب ما الذي نقصده بالإضاءة البحرية حقا. إن الموج عاكس للضوء. ملاعب له ومراوغ، يستضئ بالشمس والقمر، وبالنجوم ايضا، بل وبانوراما أخري بعضها قريب والآخر بعيد، بعضه معروف وبعضه غير معروف المصدر، ويحتفظ ببعض هذا الضوء ويدخره فتسري في أرجاء المشهد البحري إضاءة خاصة به تماما، تختلف عن تلك التي قد توجد في الحقول والبساتين وعلي شاطئ النيل، بل وعن تلك التي توجد في الصحاري أيضا، فإذا ما خيم الليل علي البحر فإن الليل حائط من السواد الصلب، قد يرتفع في دكنته هدير البحر فيزيد من رهبته وجهامته وإما أن الليل ثوب أسود تتخلله آلاف الثقوب المضيئة التي تمضي تشدو شدوا يبدد من القلوب الوحشة، ويدخل عليها سكينة وبهجة. والليل في الاسكندرية خليط من هذا وذاك، والإضاءة البحرية فيها سحر، يتصارع هناك الضياء تصارعا متوازنا، وتفد من الاعماق ومضات خافته.
- الصيد العجيب
- كما هام محمود سعيد بمشاهدة ( الصيادين) يكدون ليل نهار، وقد يعطيهم البحر رزقا وفيرا فيبدو التفافهم حول الشباك العامرة، كما لو كانوا يؤدون طقوس صلاة شكر للبحر الذي إذا اعطي فقد يعطي بلا حسا، وإذا تأبي فقد يكون في ذلك للصياد خراب، ولعل من اجمل لوحات التصوير الحديث في مصر لوحة ( الصيد العجيب) التى سبق أن أوردنا نص ما قاله محمود سعيد عنها في حواره مع الدكتور مصطفى سويف.
- وفى هذه اللوحة كما قلنا من البحر اشياء وأشياء، فليس هناك فحسب الموضوع، بل فيها الإضاءة التي قد تكون قد تسللت إلي اللوحة من كهوف بحرية غائرة في الأعماق، محاطة بالظلال الكثيفة، مما يزيد من الإحساس بقولبية الأجسام البنية، وقيمتها النحتية الراسخة، مستقية قيمتها من التراث الفرعوني علي الأخص ، محتفظة علي الدوام بجوهر فن محمود سعيد المثالي : إلا وهو الزواج الموفق بين الحسية والروحانية، والتوحيد المتوازي بين الثبات والحركة، وليست كل هذه الصفات بمنأي عن مفهوم البحر والإحساس الجوهري به، والاستحواذ علي كنهه وجوهره، البحر ذلك الكيان الذي يجمع بين ديناميكية وستاتيكية لا يهدأ لهما قرار، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر أيما انفصال، فحين يهدأ البحر ينطوي ذلك علي حركة متحفزة ، وحينما يصخب البحر ويجيش بالحركة، فإنما ذلك إيماءة إلي هدوء يوشك علي المجئ. والبحر كائن يصل في حسيته إلي حد الافتراس، ويرقي في روحانيته إلي نشيد كوني مهيب. ولذلك كان البحر على مدى العصور عبدا ومعبودا معا، مرعبا ومعشوقا علي الدوام.
- الدعوة إلى السفر
- ولو ألقيت نظرة متفحصة علي انسياب الضوء علي وجه ورقبة وصدر كل من المرأة والرجل في لوحة ( الدعوة إلي السفر ــــ 1932) سوف تدرك كم كان البحر مؤثرا في حس محمود سعيد اللوني والضوئي، فتلك الأضواء والألوان المنسكبة في اندفاع حان علي الشخصيتين المذكورتين إنما هي محاكاة مبدعة لسريان موجة البحر في تدفقها وانحسارها علي صخرة تبللها وتدغدغها وتمرح منتشرة علي جسدها المتوحد بالخلاء المتوحش من حولها ثم لا تلبث أن تنساب منسكبة علي جوانبها المنحدرة، متمهلة عند ثقوبها ونتوءاتها لتعود من جديد مرة تلو أخري تزحف وتمرح علي هذا الجسد الصخري، بلونه البني المنتشي عند الأطراف والنتوءات بحمرة قانية مشربة علي أي حال بالضياء الوامضة اللامعة، وسوف نري الضوء في لوحة محمود سعيد ( دعوة إلي السفر) يفعل المثل تماما، فهو يندفع وينحسر علي الجيد وأعلي الصدر والوجنتين وسائر الوجه الصخري الصلد، متدرجا من ظلمة الكهوف البحرية إلي وضاءة القمم الصخرية في وضح النهار، وقد أشربت الضياء علي وجه المرأة بغلالة ضبابية من الرذاذ المتطاير والسابح في الأثير حول الصخور0 بينما لو مضيت في تذوقك للوحة التي استعارت عنوانها من عنوان قصيدة للشاعر الفرنسي ( شارل بودلير) لتبينت أن المنظر الخلفي علي الأخص، رغم أنه ركن صغير من قرية صيادين أو من أحياء الاسكندرية الشعبية، إلا أنه صور وكأنه قد رؤي بإمعان النظر من خلال لجين ماء صاف إلي أغوار البحر الحافلة بالمدن الغارقة، المستقرة عند القاع سنين تلو سنين تنتظر دعوة من أحد للسفر إليها، لا بالسفن والمراكب، بل بالغرق عشقا في بدائع مكنوناته ! هذه، علي أي حال، دعوات لا تلبي إلا من خلال الفن الأصيل، مثل فن السكندري محمود سعيد، الذي ترك الوظيفة القضائية ليخلو إلي نداءات السفر البعيد في أعماقه.
- الموج والصخرة
- ولئن بدت حياة ابن العز والأكابر محمود سعيد علي السطح هادئة مستقرة، فقد كان هو الهدوء الذي يسبق العواصف، فذلك الفنان المرهف الحس، ممزق الوجدان مثل بحر صاخب، بين نوازعه الدفينة ورغباته الحقيقية من ناحية، وبين التزاماته الأسرية والقيم الاجتماعية لطبقته من ناحية أخري. وقد استطاع مثل البحر أيضا ولوقت طويل ــ وعلي وجه التحديد إلي حين اعتزاله عمله القضائي بمحكمة استئناف الاسكندرية ـــ استطاع أن يسيطر علي قوتين هائلتين متصارعتين، قوة الموج المتلاطم ورسوخ الصخرة الصلبة.
- إن الهياج وإن كان من طبع البحر، إلا أنه ليس قانونه الأوحد، فالبحر نفسه لا يمكن أن يمضي في هياج مستمر وإلا دمر نفسه، ودمر الوجود كله من حوله. ولهذا فقد تجلت قدرة محمود سعيد ( ليليان كرنوك ــ التصوير المصري الحديث ـــ بالانجليزية ـــ ص 26) في السيطرة المنطقية من خلال تنظيم مبدع للمساحة التشكيلية، وتوزيع شخوصه ذات الطابع النحتي في أرجائها، وروي ذلك كله بإضاءات مغسولة بماء البحر، مشوية بطعم الملح وملمس الصخر، فواحة بزفار القواقع والسراطين والسمك، متسربلة بالطحالب. تحمل علي السطح زواقا يتضاءل إلي جواره زواق العروس ليلة عرسها، بينما تخفي في الأعماق أخطارا يتضاءل أمامها جرائم نزلاء سجن الحضرة كلهم. ومع ذلك تمضي الموسيقي تعز، والراقصة تهز البطن وترقص، وبنات بحري يلتففن بالملاءات السوداء اللامعة، تبين من خطوط الجسد كل ما تظاهرن بالحرص علي إخفائه عن العيون، والحمير المدندشة المدللة تمضي إلي السوق وتعود. وتسير الأمور كلها، علي ايقاع البحر. يركع المصلون ويبتهلون، وينغمس الدراويش في حلقات الذكر. وتبقي النظرة والابتسامة المريبة الشريرة علي وجه ( ذات الجدائل) وتمضي الحياة، موجه تلو موجه، وينبض البحر في النظرات والحركات والعلاقات والأجواء والأماكن.
- عروس البحر
- ويرقى محمود سعيد من ( الفرض) و( نقيضه) إلي ( الفرض ونقيضه معا) من اللحظة الآنية، إلي ( الصيرورة) ويجسم هذه الصيرورة أحيانا في شخوص رمزية، تبقي ارتباطا لا ينفصم عراه بالبحر، أول هذه الشخوص الرمزية وأكثرها مباشرة هي (عروس البحر ـــ 1932) ان وجودها في المكان، بجمالها الحسي، وفتنتها الطاغية، هو الذي أثار في البحر والسماء خلفها كل تلك البروق والرعود والأنواء التي تهدد المراكب بالجنوح والغرق. ان نظراتها الآسرة، المفعمة بالألم المكبوت داخلها، وذلك ربما بسبب تمكن الصياد صاحب المركب الذي تجلس فيه من اصطيادها، هو الذي أثار تلك القلاقل في الطبيعة وحولها. وربما كانت هي التي استجابت للصياد ومكنته من اصطيادها، فلعلها وقعت في هواه ، ثم استبد بها الحنين إلي أهلها والأسي علي فراقهم، فنضحت العينان الرماديتان بلوعة لولا بقية من كبرياء لا ستحالت أدمعا من المقلتين تطفر، وتسيل علي الخدين، أو ربما هي الآن تدبر للصياد انتقاما لزواجه من غيرها ( وهل يستطيع ان يتزوج إلا بأنثي من جنسه ؟!) ولسوف ينزل لحظ عروس البحر الفتاك وجمالها الانثوي الطاغي، بالكون وبالصياد النوائب. ربما، وربما.. فإن التعبيرات المرتسمة علي الوجه وأيضا الجسد المسترخي بطول القارب في شموخ، والمنظر الطبيعي المعبر من حولها تدبر كل هذا يتيح للعقل والقلب اكثر من طريق للتذوق، وهذه اللوحة من أكثر لوحات فن التصوير المصري المعاصر قدرة علي شحن المتفرج بالتأملات والفضل في ذلك للبحر ومعايشته واقعا وخيالا، رمزا وأسطورة وحدثا. بهذه العروس جسم محمود سعيد البحر في سكونه وهياجه، في وداعته ومخاتلاته، في صدره وإقباله معا.
- وقد مهدت هذه العروس لغيرها، فتأتي من بعدها ( بنات بحري) اللاتي رسمهن محمود سعيد في أكثر من لوحة، زرافات ووحدانا، وكل منها قد صعدت بفضل فنه الرمزي إلي مستوي مثالي، حوي واستوعب أكثر بكثير مما تنقله الجزئيات الواقعية إلي العين الرائية، فهي تمضي عبر البصيرة إلي ما هو أبعد بكثير مما يدل عليه القالب الواقعي، الذي افرغت فيه. ( بنات بحري) توغل بعيدا، إلي البحر. ولا يسعك ما أن تقع عيناك عليهن بذلك الغموض الرمزي الذي اتشحن به إلا أن تسمع هدير الموج، وتشم زفارة البحر، وتذوق علي شفتيك طعم الملح. ثم لا يلبث ان ينفتح قلبك مفسحا مع
( بنات بحري) للبحر أن يغمر أحاسيسك ووجدانك. كيف يحدث ذلك ؟ لا أعرف كيف يحدث ذلك.
- البحر لم يعد مجرد موضوع أو محاكاة
- إنها (رعشة الفن) يحدثها في النفس الذواقة (العمل المبدع) ولكن لا تعتقد أنني مجرد متلاعب بالألفاظ ، بل إن هذا ما يستطيع الفن الحقيقي أن يجلبه إلي الكيان الإنساني 0 يكفي أن أقول لك في هذا المقام انظر إلي عيون (بنات بحري) الثلاثة في لوحة عام 1937 ولسوف تجد أنك بالتأكيد أمام ايقاعات موج صاعد هابط في انتظام لا يمكن أن تلتقطه إلا روح فنان مصفاه، ذي فرشاة مدربة، وهذا تأكيد جديد لما سبق أن أوضحناه من قبل بالنسبة للوحات عديدة لمحمود سعيد. ولذلك فانني لن أستطرد في هذا الصدد طويلا، لأنني أعتقد أنك تبينت ما أردت أن أقوله لك. تعال، انظر من جديد إلي لوحة ( الصلاة) المصورة عام 1941 وستحس بان جموع المصلين المنحنين في صفوف مرتبه، ومن فوقهم أعراش الأعمدة المقوسة إنما تتحرك في اللوحة تحرك موج البحر، ثم تأتي الإضاءة لتؤكد في قلبك المقارنة التي عقدناها بين هذا المكان والبحر، والذي أضحي منسابة ايقاعاته في عالم محمود سعيد كله. فلم يعد البحر عند هذا الفنان مجرد موضوع او محاكاة. بل أصبح وجودا لا يتنفس الفنان وإبداعاته إلا من خلاله.
- ذات الجدائل الذهبية
- ثم نأتى إلى أكثر شخصيات محمود سعيد الرمزية إثارة للجدل، واستحقاقا للوقوف بالتأملات عندها. ونقصد بهذه الشخصية ( ذات الجدائل الذهبية 1933) التى تبدو بطغيان فتنتها اشبه ( بدوامة بحرية) تجتذب من يقترب منها، وتبتلعه إلي الأعماق حيث لا نعلم عنه بعد ذلك شيئا، ومنذ أن تحدث الشاعر الرسام السكندري أحمد راسم ـــ المعاصر لمحمود سعيد وصديقة ـــ عن هذه الشخصية في مقاله عن الفنان بمجلة المرأة الجديدة في ديسمبر 1949 حتي مضي النقاد من بعده يقفون بدورهم امامها متأملين محاولين استنباط اسرارها. ومن المعروف أن شخصيات محمود سعيد أغلبها قولبية الطابع، بمعني أنه يمضي يعمل في النموذج الواقعي تحويرات فنية تنتهي به إلي إقامة شخصية صرحية، قومية الأصل، عالمية المآل. ولا شك أن ( ذات الجدائل الذهبية) هي من أكثر نماذج محمود سعيد توفيقا في هذا الإتجاه. ولنقرأ في هذا المقام ما يقوله الناقد الفنان عز الدين نجيب في كتابه( فجر التصوير المصري الحديث) ( دار المستقبل العربي 1982 ص 61) عن ( ذات الجدائل الذهبية) .. إنه يبدأ فيصفها بالنداهة الأسطورية ويقول : ( إن سحرها الأسطوري ليس فقط في عينيها الزئبقيتين كعيون الجن، أو في جدائلها المنسدلة علي كتفيها كأعمدة برج بابل، ولا في شفتيها المكتنزتين كفلقتي رمانة، ولا في عنقها الذي كبرج للأسلحة، ولا في كتفيها الرابضين كجيش بألوية ـــ وهي صفات من نشيد الانشاد ذكرتني بها هذه اللوحة بقوة ولكن وراء هذا يكمن السحر، في ذلك الحضور الزئبقي المخاتل، الملئ بالصبوات والنداء إلي ملاذ مجهولة، وربما كانت الابتسامة المعسولة الشريرة الغامضة علي الشفتين، في العينين، مسئولة عن بعض منه ).
- طغيان الأنثى
- وتنتمى ( ذات الجدائل الذهبية) التي صورها محمود سعيد عام 1933 إلي المرحلة التي أطلق عليها الناقد رمسيس يونان( طغيان الأنثى) وهو يقول عن ذات الجدائل الذهبية فى مقالاته( عالم محمود سعيد) المنشورة (بمجلة المجلة فى مايو 1964) ـ وقد تضمنها كتاب رمسيس يونان بعنوان ـــ دراسات في الفن ـــ الصادر 1969 عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر): نقول (طغيان) ونقول الأنثي عمدا، فليست هي امرأة معينة تلك التي صورها علي نحو ما فعل في لوحات كثيرة سابقة ولاحقة، وانما هو صور هنا ( الجوهر الأنثوي) أو ( ربة الأنوثة) إن لم نقل شيطانها.
- ويستطرد رمسيس يونان إلي اجراء مقارنة بين ذات الجدائل الذهبية وسائر النساء سجلت لوحات الفن صورهن عبر التاريخ ويخلص إلي انها لا تشبه واحدة منها فيقول ( وهذه لا تشبه اختا لها ظهرت في عصور ما قبل التاريخ، وكانت ترمز إلي الخصوبة أو تمثل الأم الكبري أي مصدر الكون، ولا هي تشبه شقيقاتها ايزيس وهاتور ونوت في مصر القديمة، فهؤلاء كن رفيقات رحيمات، وكأنهن البلسم في حياة الانسان. ثم انها لا تشبه ربات الإغريق المثاليات الجمال، ولا مريم العذراء علي نحو ما تخيلها الفنانون في شتي العصور. وقد تذكرنا في انوثتها الطاغية بصورة المرأة في الفن الهندي، لولا ان هذه سخية باذلة، علي حين ان تلك ماكرة داهية وقد تذكرنا في شيطنتها الباسمة بصورة الجوكندة، لولا ما تبديه هذه من تستر وتكتم، وما تبديه تلك من زهو وتحد، وخيلاء). ويخلص رمسيس يونان من تحليله القيم لذات الجدائل الذهبية بحكمه الخاص عليها فيقول: انها أقرب ما تكون إلي صورة الانثي التي تبلورت في بعض قصصنا الشعبي، فهي تارة ست الحسن والجمال وتارة أخري تلك الغولة التي تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم .
- أهى غولة ؟ نداهة أسطورية ؟
- ايا كانت النتيجة التي وصل اليها الناقد الفنان رمسيس يونان في حكمه علي ذات الجدائل الذهبية فهو لا يختلف كثيرا عما يراه الناقد الفنان عز الدين نجيب، وهما يرددان ما سبق أن ارتآه الفنان الناقد أحمد راسم صديق محمود سعيد الشخصي عن ذات الجدائل الذهبية وراح النقاد يكررونه من بعده، إلا أن الذي يكشف عنه هذا الحوار بين لوحة ونقاد، هو مبلغ ثراء هذه اللوحة وقدرتها علي اضمار العديد من التفسيرات بقدر ما تفصح عنه، وهي دعوة إلي كل ذواق ان يقف امام رائعة محمود سعيد هذه ويحاول ان يستجلي لنفسه سراً مكنونا قد يكون قد خفي عن غيره. ونحن نأخذ في هذه السطور القليلة بيد القارئ ونعرض عليه بعض انطباعاتنا عن اللوحة دون أن نفرضها عليه. بادئ ذي بدء، وإذا ما اطلت التأمل إلي وجه المرأة المرسومة، وألفته ، فانك لن تلبث ان تشعر بألفة شديدة نحوها، ولن تفعل مثل من اساءوا فهمها من قبل، بأن القوا عليها نظرة سطحية، واسرعوا بالاعراض عنها والفرار منها فليس الجدير بالاعتبار في الفن تأثير النظرة الأولي، وإلا لأسيئ فهم العديد من روائع الأعمال، وما ذنب هذه المرأة انها باذخة الجمال؟ أليست الامهات في صباهن جميلات ؟ ومنهن من هن آسرات الجمال. ولم يقل احد عن هؤلاء الأمهات انهن غيلان أو شيطانات. هذا الوجه الذي ابدعه محمود سعيد شديد الحيوية، فيه مد وجذر لا يهدأ لهما قرار، وليس ذلك المد والجذر في العينين فحسب بل في حركة الحاجبين الرفيعين (علي عادة بنات بحري ) والشفتين والوجنتين والذقن، وجدائل الشعر المنسابة علي الجانبين. ومرة أخري تسبح بناظريك في هذا الوجه الذي يتفجر شبابا ابديا. ابدأ بمفرق الشعر، وانحدر إلي الجبين العريض الغارق في الضياء البحرية التي تكمل بعد ذلك تأثير الحركة التي لا يهدأ لها قرار في هذا الوجه الصبوح الي الابد، والذي يطرد النظر اليه من قلوبنا كل احساس بالشيخوخة والوهن ـــ انظر كيف انساب الضوء البحري علي البشرة، بشرة ابنة الصياد هذه فأشربت، بسخونة الشمس البحرية واكتسبت لمعانا نحاسيا. انساب الضوء رجراجا علي البشرة السكندرية، تارة يصعد وتارة يهبط كأنه موج البحر الذي لم يفارق وجدان محمود سعيد الإبداعي لحظة. واستطاع همس البحر في هذه اللوحة ايضا ان يحقق لنا انموذجاً مع صرحيته الفرعونية هو دائب الحركة دائب العطاء كلما تجددت الرؤية اليه. هذه هي أميرة الاسكندرية ذات الجدائل التى احرقتها الشمس وحولتها إلي لون الدهب، كما لفحت البشرة بلمسة نحاسية.
- ليست نداهة أو غولة
- تأمل، أيها القارئ الوجه، وأغرق فيه. لا تخش قول القائلين بأنك ازاء نداهة أو غولة، فمثل هذه الأشياء لا وجود لها ولن تقابل مثل هذه المسميات، مالم تكن قد جلبتها معك في أعماقك، وما لم تكن روحك قد أقامتها أمامك. انظر إلي الشفتين المبتسمتين ، وانعكاسات تلك الابتسامة في العينين. ولسوف تجد نفسك تبادل الابتسام بابتسام. وستشعر بقلبك قد اطمأن إلي هذه الرقيقة الحنون. قد تعتبرها اختا اذا كنت بحاجة إلي أخت، وقد تعتبرها زوجة اذا كنت بحاجة إلي رفيقة تدفئ برد لياليك، وقد تكون بحاجة إلي ملهمة توحي اليك بشتي الألحان والكلمات والصو، وعندئذ ستجد في ذات الجدائل طلبتك. ويمكنك ان تسند رأسك المتعب إلي صدرها العريض الدافئ السخي، وسيكفل لك المنكبان الاثيثان الأمن والحماية. ولن تلبث ان تسمع من البحر الساجي صوت الأم تهدهد طفلها الصغير جالبا النعاس والاحلام العذبة إلي عينيه.( العالم مجرد نبضة.. اسرار البحر علي الشطآن تنسي، وكذلك علي الزبد ظلمة القاع). انت اذن لست امام غولة او نداهة بل امام رفيقة حياة تستطيع ان تضع صورتها أو مستنسخا منها بطبيعة الحال في غرفتك وتستمد من صفاء مياه البحر الذي في عينيها، بل ودفقات الموج الساري في ارجاء كيانها كله عزاء ومددا لأيامك ولياليك. وفجأة يومض مرجان الذكري ببريق أرجواني. ولربما ذكرتك ( ذات الجدائل الذهبية) ( بأفروديت) الإلهة الإغريقية، أو ( فينوس) سميتها الرومانية أو (عشتروت) الإلهة الفينيقية. ولا يغير من ذلك ان تكون بشفاه ز نجية وبشرة نوبية خمرية .أليست الاسكندرية مدينة افريقية رغم اطلالتها علي أوروبا ؟ ولنستمع إلي محمود سعيد نفسه يحدثنا عن (ذات الجدائل الذهبية) في كتاب (دراسات نفسية في الفن) للدكتور مصطفي سويف
( مطبوعات القاهرة 1983) يسأل الدكتور سويف: وصورة (ذات الجدائل الذهبية ) كيف توصلت إلي هذه القيم الضوئية التي وضعتها فيها ؟ كثيرون توقفوا عندها بنظرات تتراوح ما بين الاعجاب والتعجب.
- ويجيب محمود سعيد: ( حتي مدة قريبة كانت ألواني وكان الضوء عندي ضوءا داخليا، اشعر به بداخلى، ويحاول الخروج إلي الخارج، كان عندي شعور طوال مدة اشتغالي بالمحاكم اني ارسف في أغلال، وكنت أريد الخروج من هذه الاغلال إلي العالم الحر الطليق). وفي موضع آخر من الحوار يقول محمود سعيد : ( هذه اللوحة من اللوحات التى كنت ارسمها وانا في حالة هيجان شديد، ولم أكن أعمل إلا فيها طوال الوقت).
- إذن، لك أن تعرف أيها القارئ، مبلغ حب الفنان لذات الجدائل الذهبية وانجذابه لها. فقد كانت ملهمته وعزاءه ومدده علي تحمل حياة لم يكن عنها راضياً. وكانت ـــ علي حد قوله ـــ تكبله بقيود كان يتحرق شوقا أن يتحرر منها. وكانت: ( ذات الجدائل الذهبية) الجزء الأسير في نفسه الذي يريد أن يحطم القيود ويخرج.
- قف إذن، أمام ذلك الوجه الذي بني بحيث جعل قادراً علي أن يخترق انفعالات وعواطف شتي، حتي الحزن سوف يمكنك أن تلمس مسحة منه في أعماق تلك العينين الآسرتين، عيني ( أميرة الاسكندرية) كما أحب أنا شخصياً أن اسمي ذات الجدائل الذهبية، الاسكندرية التي بناها الاسكندر الاكبر عام 331 قبل الميلاد لتكون عاصمة لعالم تحكمه الثقافة والفن والحكمة، ما لبث أن تنازعته الأهواء والمصالح ومزقت أوصاله الفتن. كيف إذن لا تأتي العواطف المكبوته في وجه أمير الاسكندرية علي ذلك التوازن والثراء والوقار والرفعة ؟
بقلم : د./ نعيم عطية
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
فجر التصوير المصرى الحديث
- وربما كان محمود سعيد أكثر انفتاحا وحرية في تعامله مع الأكاديمية الأوروبية، لأنه لم يصل إليها عن طريق المدرسة المصرية المتزمتة، بل عن طريق المراسم الخاصة الصغيرة بالاسكندرية قبل العشرينات: مثل مرسم الفنانة الايطالية( ايميليا كازوناتو) ومرسم الفنان( انطونيو زانييري) ثم عن طريق المتاحف الكبري في أوروبا والكنائس والعمائر من طراز القرون الوسطي، وكذلك سياحاته إلي هولندا وايطاليا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا وأسبانيا، وعندما ذهب في الفترة من 1920ـ1921 ليلتحق خلال أشهر الصيف بالقسم الحر في أكاديمية( الكوخ الكبير) ويستمع إلي تعاليم الفنان
( أنطوان بورديل) كان لديه إدراك عام للأساس الجمالي للاتجاه الأكاديمي، فلم يقف أمامه منبهرا أو مسلوب الإرادة، بل يقف وهو يملك قدرا من الاستقلال يسمح له باختيار أشياء ونبذ أشياء أخري.. فيكتسب من خلاصة المدارس الأوروبية المختلفة: الاحساس بالبناء الرصين، والتوازن والحبكة بين عناصر التكوين، وكثافة الألوان والظلال التي تؤكد اسطوانية الأجسام، وغموض الاضاءة وتنوع مصادرها بما يكسب اللوحة بعدا أسطوريا... وينبذ تثبيت الحركة في اللوحة، وحبس نماذجه بين أربعة جدران، مفضلا الانغماس وسط الطبيعة، كما ينبذ الوصفية الفوتوغرافية للواقع، حيث يجعل من مظاهر ذلك الواقع عناصر مساعدة له، في خلق عالم جديد مواز للعالم الواقعي. إلا أن هذه الخصائص لم تتبلور في أعماله إلا في مرحلة النضوج في الثلاثينات، بعد أن تخطي مرحلة التجارب في العشرينات، التي كانت أعماله فيها مزيجا من تأثيرات الفن الأوروبي.. وسوف نجدها في مرحلة النضوج قد ذابت وتلاشت في مسام نسيجة التصويري، وتبلورت من خلاله شخصيته الفنية المتميزة.
- محمود سعيد ما الفن إلا أداة سحرية للسيطرة علي دنيا واقعية لكنها لا تزال مجهولة...
- إننا بدون هذا الفهم لا نستطيع أن ننفذ إلي عالم محمود سعيد وأن نحس رؤاه.. وقد نجد إغراء قويا ونحن نتأمله لعقد مقارنات بين أعماله وبعض الاتجاهات في الفنون الأوروبية التي تأثر بها في مرحلة وضع أساسه الفني، لكننا لن نخرج من ذلك إلا بفكرة أساسية: وهي أنه بناء تقليدي ماهر في السياق الكلاسيكي. لكن البناء الكلاسيكي الذي أقامه محمود سعيد جدير بأن يكون محدود القيمة إذا وقف عند مجرد القيم الجمالية التي تميزت بها هذه المدرسة.. من رسوخ المعمار والتوازن والتماثل والمنظور الهندسي والقطاع الذهبي والتشريح العضلي حسب النسب المثالية الإغريقية (الهلينستية). والتجسيم الأسطواني للأجسام واللون الرصين الذي يؤكد رسوخ الكتل والضوء ذي المنابع الداخلية في التكوين والظلال الكثيفة... ذلك أنه لو اقتصر علي هذه القيم فلن يكون أكثر من فنان أكاديمي بالنسبة للكلاسيكية، أو فنان (باروكي) علي أحسن تقدير.
- غير أن هذا الهيكل المعبدي المكين الذي صنعه سعيد كان مدخلا إلي عالم يزخر بالسحر ويموج بالرؤي الأسطورية، ويحمل نكهة غريبة متميزة لا تشبه غيرها من رؤي الفنانين الأقدمين أو المحدثين، وقد ساعد في هذه الخصوصية تلك الروح المصرية المحلية الصميمة التي استقي منها عناصره التي تذكرنا بها فنون النحت والتصوير والعمارة المصرية القديمة، والألوان النحاسية المتوهجة علي أجسام الفلاحين والصيادين في أعماله، والايقاع الموسيقي المنتظم كالموشحات العربية، وأمواج الإسكندرية المتلاطمة علي شواطئها المرصعة ببيوتها المستحمة ومساجدها وقلاعها الصامدة للأنواء.
- وقد كانت معضلة مستعصية بالنسبة لابن الباشا وأسير قلعة القضاء، أن يعتق من محبسية( الطبقة والوظيفة) ويخرج إلي الحياة العريضة بتفجرها وبخاصة في الطبقات الشعبية.. لكن الحس العارم بالحياة، والرغبة الجامحة في اكتشاف العالم البكر المجهول بالنسبة له ـــ هذين العنصرين اللذين كبتا في أعماقه خلال طفولته وصباه تحت وطأة التقاليد الأرستقراطية ـــ يرجع اليهما الفضل في إطلاق سراحه والقذف به في دنيا الشهوات فيسكر بها، ويتطلع من شاطئه الهادئ إلي الشواطئ البعيدة المجهولة، فيطوف العالم بحثا عن مواطن الجمال في بيوتها الزجاجية( المتاحف)، لكنه لا يحس بالري، فينغمس في نبض الحياة الحارة بين أبناء وبنات البلد في مدينته... إلا أن الحياة تكشف له فجاة عن وجهها الآخر المرعب حين يمرض ويشرف علي الموت.. هنا يقف وجها لوجه أمام المجهول، وعندما ينجو لا يفارقه إحساسه الرازح بالمجهول، ويفيض الشعر من ذؤابة فرشاته. هكذا جاء إلهام لحنه الأول ضمن قصيدة السيمفوني ذي الألحان الخمسة..كان لحنه ذاك في العشرينيات عن الموت والمقابر، ويبقي لنا منه حيا ذلك الوجه الغريب (الذي هو وجهه الشخصي) العائد من عالم المجهول، مغبرا بتراب الأزل كوجوه توابيت الفيوم، لامع العينين بالدهشة والسخرية.
- لكن سطوة ذلك المجهول لا تنسيه شغفه بالجمال الحسي.. وهكذا يترنم في لحنه الثاني بأغنية عاشقة للجسد الإنساني.. وبرغم ما في عارياته من زخم الجنس وعبق الأنوثة وفيض الخصب، إلا أنها تتعدي ذلك إلي رحابة الحياة نفسها.. إلي الرغبة في اكتشاف المجهول والامساك بسر الكون... يقترب في ذلك من أساطير(هوميروس) المتغنية بفتيات طروادة، أو من صور الجمال الأسطوري التي حفل بها نشيد الانشاد.. أنظر إلي(عروس البحر) التي رسمها 1932 بعودها السمهري الباذخ وعينيها المليئتين بالوعود المحرمة، والفتنة غير المستباحة التي لم تعرفها فتيات (رينوار) أو (آنجر) أو (بوتتشللي) ومن ورائها تفجر الطبيعة حدثها الكوني المجهول ببروقها ورعودها وأمواجها الصاخبة ـــ إن رسوخ فتنتها المستتبة وسط هذه الدمامة الكونية، سوف يظل سمة ملازمة لفن سعيد مدى حياته.
- غير أن هذا الهيكل المعبدي الذي صنعه سعيد كان مدخلا إلي عالم يزخر بالسحر ويموج بالرؤي الأسطورية، ويحمل نكهة غريبة متميزة لا تشبه غيرها من رؤي الفنانين الأقدمين أو المحدثين، وقد ساعد في هذه الخصوصية تلك الروح المصرية المحلية الصميمة التي استقي منها عناصره التي تذكرنا بها فنون النحت والتصوير والعمارة المصرية القديمة، والألوان النحاسية المتوهجة علي أجسام الفلاحين والصيادين في أعماله، والايقاع الموسيقي المنتظم كالموشحات العربية، وأمواج الإسكندرية المتلاطمة علي شواطئها المرصعة ببيوتها المستحمة ومساجدها وقلاعها الصامدة للأنواء.
- وقد كانت معضلة مستعصية بالنسبة لابن الباشا وأسير قلعة القضاء، أن يعتق من محبسية( الطبقة والوظيفة) ويخرج إلي الحياة العريضة بتفجرها وبخاصة في الطبقات الشعبية.. لكن الحس العارم بالحياة، والرغبة الجامحة في اكتشاف العالم البكر المجهول بالنسبة له ــ هذين العنصرين اللذين كبتا في أعماقه خلال طفولته وصباه تحت وطأة التقاليد الأرستقراطية ـــ يرجع اليهما الفضل في إطلاق سراحه والقذف به في دنيا الشهوات فيسكر بها، ويتطلع من شاطئه الهادئ إلي الشواطئ البعيدة المجهولة، فيطوف العالم بحثا عن مواطن الجمال في بيوتها الزجاجية (المتاحف)، لكنه لا يحس بالري، فينغمس في نبض الحياة الحارة بين أبناء وبنات البلد في مدينته... إلا أن الحياة تكشف له فجأة عن وجهها الآخر المرعب حين يمرض ويشرف علي الموت.. هنا يقف وجها لوجه أمام المجهول، وعندما ينجو لا يفارقه إحساسه الرازح بالمجهول، ويفيض الشعر من ذؤابة فرشاته. هكذا جاء إلهام لحنه الأول ضمن قصيدة السيمفوني ذي الألحان الخمسة.. كان لحنه ذاك في العشرينيات عن الموت والمقابر، ويبقي لنا منه حيا ذلك الوجه الغريب( الذي هو وجهه الشخصي) العائد من عالم المجهول، مغبرا بتراب الأزل كوجوه توابيت الفيوم، لامع العينين بالدهشة والسخرية.
- لكن سطوة ذلك المجهول لا تنسيه شغفه بالجمال الحسي.. وهكذا يترنم في لحنة الثاني بأغنية عاشقة للجسد الإنساني.. وبرغم ما في عارياته من زخم الجنس وعبق الأنوثة وفيض الخصب، إلا أنها تتعدي ذلك كله إلي رحابة الحياة نفسها.. إلي الرغبة في اكتشاف المجهول والامساك بسر الكون... يقترب في ذلك من أساطير( هوميروس) المتغنية بفتيات طروادة، أو من صور الجمال الأسطوري التي حفل بها نشيد الانشاد.. أنظر إلي(عروس البحر) التي رسمها 1932 بعودها السمهري الباذخ وعينيها المليئتين بالوعود المحرمة، والفتنة غير المستباحة التي لم تعرفها فتيات( رينوار) أو ( آنجر) أو ( بوتتشللي) ومن ورائها تفجر الطبيعة حدثها الكوني المجهول ببروقها ورعودها وأمواجها الصاخبة ـــ إن رسوخ فتنتها المستتبة وسط هذه الدمامة الكونية، سوف يظل سمة ملازمة لفن سعيد مدي حياتة. وهؤلاء الفتيات المستحمات(1934) يطللن علي النهر كصواري سفينة، تطوق أقدامهن خلاخيل فضية، وتمتد سيقانهن كأعمدة رخام مؤسسة علي قواعد، وترتفع أعوادهن كالنخل السامق وأثداؤهن كالعناقيد الناضجة، تحفهن فتنة غافية، لكنها تنطوي علي خداع (النداهة)، إذ تدرك أن عينا متلصصة تلتهمها في الخفاء، فترخي لذلك المتلصص علي الفتنة المحرمة حبال الأمان حتي توقعه في حبالها وتختفي به في أعماق عالمها المجهول... هذه ( النداهة الأسطورية) الشعبية نفسها، نلتقي بها مرة أخري في لوحته ( ذات الجدائل الذهبية)، فتنة أكثر طغيانا، وخطورة أشبه بالدوامة البحرية.. إن سحرها الأسطوري ليس فقط في عينيها الزئبقيتين كعيون الجن، أو في جدائلها المنسدلة علي كتفيها كأعمدة برج بابل.. ولا في شفتيها المكتنزتين كفلقتي رمانة، ولا في عنقها الذي كبرج للأسلحة، ولا في كتفيها الرابضين كجيش بأولوية .. (وهي صفات من نشيد الانشاد ذكرتني بها هذه اللوحة بقوة !)، لكن من وراء هذا كله يكمن السحر: في ذلك الحضور الذئبقي المخاتل، الملئ بالصبوات والنداء إلي ملاذ مجهول، وربما كانت الابتسامة المعسولة الشريرة الغامضة علي الشفتين وفي العينين، مسئولة عن بعض منه.
- هذا اللحن الحسى الأنثوى الأسطورى عزف عليه سعيد كثيرا من معزوفاته المتفاوتة المستوي، ربما كان من أفضلها (الدعوة إلي السفرـــ 1932) التي تذوب في ذلك الوجد الذي عرفناه في ترانيم اخناتون، والتي تحار في معرفة مصدر الدعوة فيها: هل هي من الفتي الريفي ـــ المفترض أنه صاحب المبادرة ـــ أم من الفتاة (النداهة)...التي تميل عليه تفعمه بعطر أنوثتها وغموض ابتسامتها المعوجة ؟... ونحار أيضا كى نعرف إلي أين تتجه الرحلة التي تقدم من أجلها الدعوة.. أهي حقا دعوة إلي سفر معلوم الوجهة.. أم إلي خوض المجهول الملئ بالوعود الخرافية ؟.. وتجئ علي نفس اللحن الأنثوي مجموعته المعروفة باسم (بنات بحري).. من (حاملة القلل في النافذة) إلي (الأسرة) إلي (المدينة)... تلك البانوراما الشعبية التي تضج برنين طاسات بائع العرقسوس، والأساور الذهبية في أذرع حسناوات الأنفوشي بملاءاتهن التي تظهر من فتنتهن أكثر مما تخفي، وينتشر من أعطافها أريجهن الأنثوي.. لكن هذا العبق السحري المراوغ يفسده الزحام الايضاحي الصاخب الذي تصنعه مظاهر شعبية وتفاصيل كثيرة مثل الحمار المزوق والملابس المكرنشة والأشرعة البعيدة، أكثر مما تصنعه ( روح) المكان ورؤي الفنان الداخلية، وهي مرحلة نمطية في أعمال سعيد فقدت كثيرا من سحر عالمه ورؤاه العميقة.
- ويتوازى مع هذا اللحن، لحن ثالث نلمح بداياته عام 1934.. في هذا اللحن يحلق الفنان نحو مجهول آخر، هو عالم الروح، سواء بطقوسه الدينية مثل لوحات ( الصلاة) و ( الذكر) (1934 ـــ 1936 ـــ 1941) أو التأمل الروحي في بعض بورتريهاته مثل (عربي من مريوط 1934) و ( دعاء المتعطل 1946).. وهنا يقوم عنصر العمارة الإسلامية كعنصر ملهم لمعماره الفني، بأعمدته وأقواسه الرتيبة المتتابعة وصفوف المصلين بأقواس ظهورهم المنتظمة في حركة عكسية مع أقواس الأعمدة. ان هذا العنصر الموسيقي في البناء كان إضافة إلي أعماله في تلك المرحلة، ساهم ـــ من خلال التوازن والتعارض والرتابة والحركة الترددية اللانهائية في خطوط الأقواس والأعمدة ـــ في إعطاء الإحساس بالمطلق، كما كان للإضاءة الداخلية المجهولة المنبع وظلالها الكثيفة المبهمة، سحرها العميق في لوحة (الذكر) بالذات، ساعدت علي تأكيد الحركة العنيفة المتماوجة في أجسام الذاكرين وعلي إضفاء المسحة الأسطورية. اما لحنه الرابع فهو مكرس لمشاهد العمل.. وأولي لوحاته من إنتاج 1933 بعنوان( الصيد العجيب).. نري فيها مجموعة من الصيادين شبه العراة يجذبون شبكتهم التي تفيض برزقهم الوفير. هذه اللوحة تجسيد نموذجي لكل قيمة التصويرية الكلاسيكية من رسوخ البناء والتماثل والتوازن الهندسي ومثالية نسب الجسم، مع قدر من التحوير، والإضاءة الداخلية والظلال الكثيفة التي تؤكد اسطوانية الأجسام.. لكن هذه القيم البنائية ليست هي ما يعطي هذا العمل سحره.. إن هذا السحر يكمن في الحركة الدائرية اللانهائية للصيادين، وتطلعهم إلي المجهول.. إنها الحلقة الأبدية المحكومون فى محيطها والتي تجعلهم دائما في قبضة هذا المجهول: إن أعطاهم فخير ونعمة، وإن كف عنهم فلا حول لهم ولا قوة 00 !
- ونجد تجسيدا أكثر قوة لهذا اللحن في لوحة ( الشواديف ـــ 1934).. بهذا التكوين الهرمي الذي تكونه نقط ارتكازه الثلاثة: الفلاحان والمرأة التي يتعلق بذيلها الجحش الأبيض الظريف... ويتم الصراع بين عنصرين نقيضين: عنصر التوازن الذي يؤكده رسوخ هذا الهرم الوهمي ومظاهر الطبيعة في الخلفية بثباتها وامتدادها الأفقي الثقيل، وعنصر الحركة الدينامية الذي تحققه الشواديف ومعاناة الفلاحين... هكذا تبدو استمرارية هذه الشواديف وكفاح الانسان مع الطبيعة حكما أبديا صارما، تؤكده تلك الضواء السحرية المنبثقة عن نسيج هذا العالم.
- ويأتي اللحن الخامس والأخير في هذا القصيد السيمفوني مع بداية الخمسينات، عندما اتجه الفنان إلي المناظر الطبيعية كغرض قائم بذاته، وليس كخلفية لتكويناته الآدمية.. في هذه المناظر يصل اللحن إلي القرار الهادئ الوئيد، محفوفا بومضات خافته من أطياف السحر القديم، وقد بدا للفنان أن اختراق المجهول أمر بعيد المنال، فقنع بواقع عيني يستطيع امتلاكه والسيطرة عليه، ويتيح له إمكانية التأمل العميق في ذلك الكون الغامض.. غير أنه بين الحين والآخر تهب علينا من عالمه الخارجي الجديد هذا ــ لفحة من الجمال الأسطوري القديم، تتصارع فيها الضياء الكونية كانعكاس لصراع جبابرة لا تراهم العين، تفجر الشهب والبروق فوق البحيرة الساكنة، كما في لوحة (ميناء بيريه ـــ 1963)، أو تهب علينا لفحة من جمال وحشي تبدو فيه الصخور حمما بركانية حمراء تتصارع فوق جبال من الثلج الأبيض، كما في لوحة ( محجر التلك بالبحر الأحمر ـــ 1951).
- إن محمود سعيد فنان مثالي ( بالمعني الفلسفي لهذه الكلمة).. العالم بالنسبة له قوي خفية مجهولة تملك مصائر البشر، والأوضاع في الطبيعة جزء من نواميس أزلية وأبدية، وكل ما بوسع الإنسان أن يفعله كي يستمر في الحياة هو أن يبحث عن صيغة للتوازن النفسي معها كما حققته الطبيعة.. وهو في هذا يعكس علي أي حال الثقافة التقليدية التي كونت جزءا هاما من الوجدان المصرى على امتداد الأجيال. وهى ثقافة ساعدت الأوضاع الاجتماعية علي تعميقها، حتي أصبحت ضمن العناصر التي تكون ما يطلق عليه
( الشخصية المصرية). وكان من الطبيعى للوصول إلي هذا الوجدان أن يستلهم سعيد ـــ ولو بغير عمد ـــ التراث الفرعونى والقبطى والاسلامى وبعض الفنون الشرقية، إلى جوار الكلاسيكية الأوروبية، فهي جميعا تتفق فى نزعتها المثالية ومعمارها الهندسى فضلا عن حسيتها وروحانيتها.
- وإلي جانب هذه السمات المشتركة بينه وبين تلك الفنون، فقد حقق لنفسه خواص بنائية جديدة، مثل لجوئه إلي التحوير والمبالغة أحيانا في أشكاله وخطوطه، والمبالغة في استخدام الاضاءة الداخلية بشكل مباشر كأنها توجه من كشافات قوية، وتكراره لبعض الخطوط والأشكال وترديدها في اللوحة بشكل منتظم مثل القافية الشعرية. وقد ساعدته هذه العناصر الثلاثة ـــ التحوير والاضاءة والتكرار ـــ في ربط التكوين بشكل محكم، وتحقيق ايقاع منتظم، فضلا عن تحقيق شئ من روح الأسطورة، ومن السحر الكامن في جذور الوجود الإنساني نفسه، والذي يولد في وقت واحد إحساسا بالعجز ووعيا بالقوة، خوفا من الطبيعة مع القدرة علي السيطرة عليها، وهذا هو الجوهر الأصيل لكل فن.. كما يقول فيشر.
- لكن ثمة خاصية أخري كان لها أكبر الأثر في ديناميكية أعماله، وفي انقاذها من الجمود الأكاديمي أو المثالى: ألا وهي وحدة النقيضين: بين الثبات والحركة.. ذلك التفاعل الجدلي الذي يمثل جوهر الوجود وسر تقدمه.. وهذا ما يضفي علي أعماله دائما صفة المعاصرة، ويجعله يبدو قريبا من أكثر التيارات حداثة، وتمردا، كما سنرى ذلك مع جماعة ( الفن والحرية).
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
الفن المصرى المعاصر
- ونتحول الآن إلى ناحية التصوير. وفي مقدمتها روائع محمود سعيد فما أذكر أني جئت إلي ردهة معرض من معارض الفن السنوي. وأدرت الطرف حولي في نظرة عابره إستعراضية. إلا وجدتني كمن تجذبه يد خفية إلي ناحية معروضاته. والواقع أن فن محمود سعيد ذو قوة غريبة سحرية، وذلك بما انطبع عليه فنه من الخصوصية. فهو دائما يعبر عن مزاج خاص، والنزعة الغالبة عليه هي النزعة الحسية. والاستاذ محمود سعيد في موضوعاته وطرائق معالجته لها وتعبيره عنها لا يعرف الترفق، بل تطالعك منها دفعة الحيوية الطبيعية. وهو لا يكاد يدانيه أحد من مصورينا في قوة التشكيل وإبراز السمات والأسارير. وتراه حريصا كل الحرص علي بيان الأحجام في موضوعاته، واحكام التوازن بينها في الفضاء المكاني ثم هو يغلو في التجسيم حتي لتبدو صورة أقرب إلي التماثيل. وتكوين لوحاته متين وهو تكوين في العمق، وليس علي السطح. الناظر إلي معروضاته ينسي أنه يتأمل صورة منظورة، وذلك أنك تحسها احساسا يشبه الإحساس الجسدي بالواقع الملموس. وهو لا يسمح لواحد من شخوصه بأن يقطع الاسباب التي تصل طبيعته إلي الارض التي هو مجبول من طينتها. مهما يبلغ من السمو الروحاني. فالنفوس كلها عنده مصبوبة علي السواء في أجساد طبيعية تعمرها طبائع بشرية، وهي في الغالب الأعم تتنفس عن عبير غريب المزج من الرغبة المكبوته، بما يصاحبها من ظلال الكآبة العميقة العريقة في قرار الطبيعة المصرية.
- ولعل في إيراد الأمثلة علي فن محمود سعيد ما يغني عن المزيد في الإفاضة والتطويل. ولا شك في أن الاختيار من هذه الثروة الطائلة مما يضع فيه قول الفرنسيين: ` الحيرة في الخبرة ` ولكننا نستخير الله ونبدأ الامثلة بصورة هي أقرب ما يكون إلي قلب الفنان خاصة، إلي قلوب الناظرين أجمعين، وهي صورة ابنته في حداثة سنها: ` نادية ` الصغيرة، في ذلك الجو الأزرق الحلو وهي أشبه بالدمية العروس في ثيابها الحريرية، تطالعك في عينيها غرارة بريئة، ويقظة صبيانية متطلعة. عند قدميها لعبة خشبية لها رأس عبد زنجي وفي الناحية الأخري عند رأسها قفص معلق، وراء قضبانها الدقيقة عصفور أصفر اللون جميل. وهكذا اصطلح كل شئ في الصورة علي إظهار الطفولة في قيمتها الجمالية المحببة.
- ثم نتوغل في اختيارنا إلي ما بعد هذه السن إلي صنوف النساء من شقراء ملغزة إلي سمراء مشبوبة اللون متوقدة. ونحب ان ننبه هنا إلي أن تصاوير محمود سعيد للنساء لايصح أخذها علي أنها مجرد ملامح ومشابه لمن يرسمهن، بل علي أنها تحليل نفساني عميق يكشف عن قرار وعي الباطن فالمرأة ` ذات الخصل الذهبية ` مثال للمرأة وقادة الذهن، مشبوهة الحس، متفتحة العينين لما حولها، عميقة الحب للحياة، منهومة إلي التهامها، لا يخطئ الناظر إليها ذلك السخر من التقاليد الذي يرف علي شفتيها، وتلك النار التي يضطرم بها جسمها من شهوة عارمة لا تنقع ولا تشبع، انها قمينة بأن تسفك الدم وتضرم الحريق وتجر إلي الدمار في سبيل المتعة العاجلة بالحياة غير نادمة ولا متحرجة، ثم ` الدعوة إلي النزهة وهي لوحة من أجمل اللوحات المؤلفة، تمثل موقفا للغرام ساذجا، بين قروي وقروية، لا تري منهما غير الوجه والنحر، ولكن الصلة بينهما ظاهرة، والتعاطف ملموس، والجو مشبع بالحنان والغزل، وهيهات لقلم الكاتب مهما أوتي من البيان، أن يصف سحر هذه الألوان، وتلك الخطوط التي تستقيم وتنحني في أتم ألفة ووئام، وجملة القول في مجموعة النساء في تصاوير محمود سعيد إنها غنية بذلك المعني المفزز الذي يبلبل النفس ويضطرب له الحس فهو ـــ غير منازع ــــ أقدر الفنانين عندنا واعمقم في تصوير الغرائز الأولى.
بقلم : عبد الرحمن صدقى
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
دراسات نفسية فى الفن
- ( حديث بين الباحث والفنان محمود سعيد) سجل الحوار عام 1962
س : اقترح أن نبدأ بأن تختار أنت بعض لوحاتك وتحدثني عنها، كيف صورتها ؟ اعتقد أن هذه البداية سوف تسلمنا بالتدريج الي كل الموضوعات التى يلزمنا ان ننظر فيها .
ج : لا مانع عندي خذ لوحة `الجزيرة السعيدة` هذه صورتها بدون اعداد سابق، أي بدون تخطيط وبدون اسكتش. حدث ان نزلت الي الحديقة صباح أحد الأيام وأنا لا أعلم مسبقا أني سأنتج، لكن عندما حل آخر النهار كنت قد صورت هذه اللوحة.. ومع ذلك فللوحة جذور بعيدة في نفسي، فقد فكرت في الريف كثيرا، وفي المنصورة والمناطق المحيطة بها بوجه خاص، وذلك نتيجة لرحلاتي المتعددة الي المنصورة لمدة ست سنوات متوالية، أيام كنت أشتغل في سلك القضاء.. وكنت أطيل النظر من خلال نافذة القطار الي هذه الأراضي خذ لوحة أخري `حمام الخيل` هذه صورتها أيضا بدون اسكتش. لكن في هذه المرة كنت أعرف منذ البداية ما أنوي أن أفعله. كنت أريد أن أرسم طلخا. وفي هذه الفترة كان يسيطر علي لونان: البني والأزرق خذ لوحة ثالثة `الصيد العجيب` كنا في رحلة علي الساحل بين أبو قير ورشيد، وتوقفنا قليلا وسط الطريق. وجدنا مجموعة من الصيادين راجعين ومعهم السمك الذي اصطادوه. وكان منظر السمك في الشمس يشع بالضوء كالماس. وكان مليئا بالحيوية بصورة أخاذة وانبهرت بهذا المشهد. ووقفت اركز النظر عليهم لمدة طويلة.. وتمنيت لو كانت معي أدواتي لكنت سجلت عندئذ بعض القيم عن الشمس والضوء.. ومرت الأيام بعد ذلك... وبعد مرور سنتين أو ربما ثلاث سنوات عاد الي الانفعال نفسه فجأة.. فخرجت وقصدت الي سوق السمك في الأنفوشي مبكرا صباح أحد الايام، وبقيت هناك أشاهد السمك بينما يخرجه الرجال من الماء..في ذلك اليوم عدت الي بيتي وعملت اسكتش صغيرا. وبعد ذلك بدأت التصوير في اللوحة... مكثت أعمل فيها حوالي أربعة شهور وأذكر أنني كنت طوال الوقت في حالة هيجان شديد. وانتهت اللوحة بشكل بعيد عن الاسكتش وهناك عدة صور من هذا الطراز، كنت أرسمها وأنا في حالة هيجان شديد. ولم أكن أعمل الا فيها طوال الوقت: صورة `اللي بيستحموا`، `والعائلة`، `وذات الجدائل الذهبية`، وكلها أنتجتها في فترة واحدة، حوالي سنة 1932 خذ لوحة رابعة `العائلة` كنت أعيش حينئذ في جو ولادة حقيقية، كانت زوجتي تضع لنا مولودا... هذه الصورة لها اسكتش. الا أن للاسكتش هنا حكاية أخري: فقد رسمت اسكتش الام وحدها أولا دون تفكير في استغلاله فيما بعد في لوحة متكاملة للعائلة لكني عندما فكرت في رسم صورة ل `العائلة` أحضرت اسكتش الأم وقمت باستغلاله بأن أضفت صورة للأب، ووضح ذلك في الاسكتش الثاني الملون.
س : أريد أن أسألك هنا عن علاقة الاسكتش باللوحة النهائية، هل يمكنك أن تحدد لى هذه العلاقة ؟
ج : كثيرا ما أرسم اسكتشات دون التفكير في مستقبلها، دون التفكير في أنها ستنتهي الي لوحة. في هذه الحالة يكاد رسم الاسكتش يكون غاية في ذاته. وهذا يحدث كثيرا علي سبيل مواصلة التمرين، لابد من استمرار التمرين لكي أعرف كيف أرسم بسرعة وبدقة. والاسكتش الذي أقصد منه أن أنتهي به الي لوحة لابد أن أتركه ناقصا، بدون تكميل، ان تركه ناقصا يتركني في حالة هيجان أو حماس مستمر....وأظل قادرا علي الفرح باكتشاف الحلول أثناء تصوير اللوحة.. واتخيل أنني اذا حللت كل المشكلات في الاسكتش فلن أرسم اللوحة، ستكون المسألة بعد ذلك مجرد تقليد لنفسي، مجرد نسخ مع التكبير لما ورد فى الاسكتش.
س : يبدو من الحديث أن عندك نوعين من الصور: صور لها اسكتشات وصور ليس لها اسكتشات ؟
ج : عندي فعلا نوعان من الصور، لكن من زاوية ثانية غير زاوية الاسكتشات. عندي صور أرسمها من ذاكرتي وخيالي فقط. وهذه تسعدني جدا، تعطيني شعورا بأنني أمارس عملية خلق فعلا، وأجد عندي حرية حقيقية في `التكوين`... في هذه الصور لا أستطيع أبدا أن آتي `بالموديل` لأضعه أمامي وأتتبعه اثناء الرسم... من هذا القبيل لوحات `الذكر`، `والزار`، `واللي بيستحموا`... في هذه اللوحات لم يكن يمكنني أن أتحمل القيود التي يفرضها علي وجود موديل أمامي.. كذلك لم أكن أستطيع أن أتوصل الي `وحدة الشكل` لو أنه كان هناك موديل أمامي لأرسمه ثم أرسم ما يحيط به ... في هذه اللوحات ليس عندي مركز أبداً منه لأنتهي الي المحيط .. أنا أرسم اللوحة كلها دفعة واحدة، أبدأ بوضع كتل، ألوان، وكلما مرت بضعة أيام أجدني أصل الي درجة من الوضوح أعلي من سابقتها. في البداية يسود الغموض، وبالتالي لا أستطيع أن أضع خطوطا.
س : ما معني هذا ؟ هل للخط دور قائم بذاته ؟
ج : رسم الخط يكون تأكيدا للوضوح الذي وصلت اليه في نهاية المطاف.. ولذلك تجد أن أكثر الاسكتشات التي رسمتها للوحاتي مرسومة بالألوان..لا بالقلم. أنا أبدأ باللون لأني لا أري الخط، أري اللون فقط هذه فكرة وجدتها عند سيزان واقتنعت بها.. ليس في الطبيعة خطوط، هناك أحجام تتحرك وعلاقتها مع أحجام أخري قريبة منها هي التي تكون الخط .. الواقع أن الخط تجريد .. ولذلك يستعين الفن التجريدي بالخط بشكل واضح. طبعا يستثني من كلامي عن رسم الاسكتشات بالألوان الاسكتشات التي أرسمها بسرعة أثناء اهتمامي بشئ أو مشهد أريد أن أسجله لكي أتذكره فيما بعد.
س : هل ترسم بعض اللوحات بناء علي طلب يأتيك من شخص أو من هيئة ؟
ج : هذه لوحة `مرسي مطروح` رسمتها بناء علي طلب.. يوما من الأيام اتصل بي صديق يعمل في ميناء الاسكندرية وطلب مني أن أزوره في مقر عمله ليريني مشروعا جديدا لمبني الميناء فزرته .. وهناك رأيت عمائر ونحتا وموزاييك.. إلخ وطلب مني أن أرسم صورة تليق بأن تعلق في المكان. ولما حاولت أن اعتذر ألح، فقبلت ، وطلبت اليه أن يمهلني للتفكير... ثم استقر رأيي علي أن أرسم مرسي مطروح .. وقد سبق لي أن رسمت مرسي مطروح كثيرا، ربما خمس عشرة مرة أو اكثر ــ وقد كنت كثير الزيارة لمرسي مطروح ... وكانت تعجبني ــ بدأت أزورها حوالي سنة 1935. وما يدهشني في مرسي مطروح هو لون البحر. زمرد وفي وسطه أزرق... لم أر في أي مكان زرته في العالم مثل هذه الألوان.. وهناك العيشة بسيطة ليس فيها منغصات. انتهيت من تصوير هذه اللوحة منذ شهرين، وقد استغرقت مني أربعة شهور ومنذ أن انتهيت أشعر بفقدان الرغبة في أن أذهب مرة أخري الي مرسي مطروح .. ربما لأنني عشت في جوها، في التفكير فيها والانشغال بها أربعة شهور متوالية.
س : هل هذا هو كل ما خرجت به من هذه التجربة ؟
ج : خرجت أيضا بآلام شديدة في عيني. ومنذ ذلك الوقت لم أرسم. حدث كثيرا قبل ذلك أن تعبت عيناي نتيجة للاجهاد الشديدة في التصوير. ربما لأني أكون ــ أثناء التصوير ــ دائم الحركة اقترابا من اللوحة وابتعادا عنها... وربما كان تغيير بؤرة التركيز بصورة عنيفة وبكثرة هو الذي يتعبني جدا (وكنت استمر أرسم حوالي ست أو سبع ساعات يومياً). ومع ذلك فعملية الاقتراب والابتعاد تنفعني جدا. أي لمسة أضعها في اللوحة ابتعد بعدها في الحال لأري تأثير هذه اللمسة في أي جزء اخر في الصورة... وبمجرد ان ابتعد أجد أن عيني تلتقط الجزء من الصورة الذي تأثر بهذه اللمسة.. في إحدي المرات كنت أرسم صورة `بورتريه` لقاضي كان زميلا لي، فوضعت لمسة معينة علي الوشاح وابتعدت لأري تأثيرها، فاذا بي أري أنف القاضي ينحني إلي أسفل، بشكل أظن أنه كان يمكن أن يزعج هذا القاضي عندما يري الصورة، عندئذ أسرعت وأزلت اللمسة، فعادت الأنف الي ما كانت عليه.
س : كيف يحدث أن تقع عينك علي هذا الجزء الذي يتأثر ؟ هل تحاول، بخطوات منتظمة، ان تبحث في جميع أجزاء الصورة ؟
س : لا.. أبدا... انما يحدث ذلك من غير قصد. بمجرد أن أنظر الي الصورة أجد عيني تنجذبان ــ من غير قصد مني ــ الي هذا الموضع الآخر الذي تأثر.. خذ مثلا صورة `مرسي مطروح`. طوال استمراري في رسم النخلة عيناي تتجهان الي الشبك في أعلي النخلة كان يوجد لون أخضر في بني، والشبك كان يوجد فيه لون بني أساسا ومعه قليل من الأزرق المخضر. ربما كان التشابه اللوني أو الشكلي وربما كان التضاد من العوامل التي تجذب عيني الي مواضع التأثر باللمسة التي أضعها.... وربما كان التكامل اللوني هو الأساس.. وربما كانت الاضاءة.
س : وهل عملت `اسكتش` لصورة مرسي مطروح ؟
ج : عملت اسكتشين، واحداً في البداية ابيض وأسود، وبعده واحداً بالألوان... ثم بدأت أرسم في اللوحة نفسها... وأيضا كانت الاسكتشات ناقصة. وأيضا شعرت أن عندي انفعالا بصرياً بقيم اللون والضوء من مرسي مطروح وكان عايز يطلع في لوحة.
س : هل يمكنني ان أقول انه لا توجد مسافة واحدة بين اسكتشاتك ولوحاتك، ولكن تختلف المسافات باختلاف اللوحات .. هذا في حالة اللوحات ذات الاسكتشات ؟
ج : انا لا أعتقد أن الاسكتشات التي أعملها لرسم المناظر الطبيعية تساوي في معناها داخل عملية الخلق الفني الاسكتشات التي أعملها لرسم المواضيع.. لأن اسكتش المنظر الطبيعي يبقي علي حاله وما أضيفه في اللوحة هو التكبير والتوضيح، وليس هذا هو الحال في اسكتش المواضيع. خذ مثلا `منظر طبيعي في لبنان` الاسكتش ملون، رسمته من الطبيعة، أكملته بعد هذا وأنا بعيد عن المنظر الطبيعي نفسه، ثم كبرته بعد هذا فكانت هذه اللوحة، وليس فيها خلق بدرجة واضحة. خذ لوحة `الصلاة` رجل كان متهما أمامي في قضية تبديد، جلس وهو لا يفهم شيئا من المرافعات التي تجري حوله. جلس بهذا الشكل، وراح يصلي لله.. رأيت هذا المنظر فرسمت له `اسكتش` سريعا وأنا علي منصة القضاء.. بعد ذلك استخدمت هذا الاسكتش بأن أحطته بخلفية من خلقي أنا. خذ صورة `العائلة` الصورة نفسها فيها ألوان غير الألوان التي تجدها في الاسكتش... المنظر نفسه لم أشاهده في الطبيعة، انما شاهدت جزءا منه فقط وهو الأم والطفل، وهو الجزء الذي يظهر في الاسكتش الأول، ثم أني أنا الذي خلقت بقية الموقف.. ولذلك وجدتني وأنا أرسم الصورة نفسها لا أنقل من الاسكتش.. وأضفت ألوانا جديدة... ثم ان الاسكتش فيه أخطاء في التشريح ... لكن هذا لا يهمني، ما يهمني من الاسكتش هو التكوين فقط .. وعند التنفيذ أصحح أخطاء التشريح ... وفي هذه الصورة تجدني أبدأ من الخلفية ثم أتقدم الي الأجزاء حتي أصل في النهاية الي رسم أدق التفاصيل.
س : هل تستمر علي نفس القدر من الحماس منذ بداية رسم الصورة حتي الانتهاء منها ؟
ج : أشعر بالحماس الشديد، وبالاندفاع في أعلي درجاته، وبالمتعة أيضا أثناء المراحل الأولي للخلق (بشرط أن يكون خلقا فعليا لا مجرد من اسكتش مكتمل) وكلما تقدم بي العمل أشعر أن هذا الحماس والمتعة المصاحبة يتضاءلان شيئا فشيئا.. ثم تنتهي الصورة فأنتهي منها.
س: في حديثك عن لوحة `الصيد العجيب` تقول أنك انبهرت بالمشهد.. ثم مرت سنتان أو ثلاث سنوات وفجأة عاد اليك نفس الانفعال ؟
ج : نعم.. وحدث أيضا فيما يتعلق بلوحة `الذكر` شاهدت الذكر.. حلقة ذكر.. وبعد مدة.. حوالي سنتين بدأت أرسم لها `اسكتش` .
س : لماذا أنقضت هذه المدة دون أن ترسم هذا المشهد أو ذاك ؟
ج : ربما كان انشغالي بالقضايا في عملي في المحكمة لم يكن يسمح لي بفراغ البال المطلوب.. وربما كان الانفعال بالمنظر شديداً ويحتاج الي فترة لكي أهضمه.. أو استوعبه. كنت أشعر طوال الوقت برغبة واضحة في أن اخرج الانفعال ده في لوحة.. لكن يظهر أني لم أكن أعرف كيف أحل المشاكل اللازمة لاخراج اللوحة الي حيز التنفيذ.. هذا حصل بالنسبة لصورة `الذكر` وبالنسبة لصورة `الصيد العجيب`.
س : وصورة `ذات الجدايل الذهبية` كيف توصلت الي هذه القيم الضوئية التي وضعتها فيها ؟ كثيرون توقفوا عندها بنظرات تتراوح بين الاعجاب والتعجب ؟
ج : حتي مدة قريبة ألواني وكان الضوء عندي ضوءاً داخلياً، أشعر به بداخلي ويحاول الخروج الي الخارج .. كان عندي شعور طوال مدة اشتغالي بالمحاكم أني أرسف في أغلال .. وكنت أريد الخروج من هذه الأغلال الي العالم الحر الطليق .
س : لماذا ترسم ؟
ج : كأنك تسألني لماذا تأكل ؟ ولماذا تشرب ؟ ولماذا تعيش ؟ ... لا أعرف. ولكن اذا توقفت عن الرسم تصبح الدنيا لا طعم لها ، والحياة لا طعم لها.. كأني ميت.. في حين أن أجمل أوقات الحياة هي أوقات الخلق.
س : هل تأثر الرسم عندك باطلاعاتك الأدبية ؟
ج : اعتقد أنه تأثير.
س : تأثير نوعي محدد ؟ يعني هل نستطيع أن نتكلم عن تأثير محدد علي صورة بعينها ؟
ج : لا..لا أظن .. أظن أنه تأثير عام. اعتقد أن دستويفسكي وبودلير من أهم الشخصيات الأدبية التي أثرت فيه... ان غرامي بدستويفسكي يتركز أساسا في شخصياته المزدوجة، الشخصية شيطان وقديس في نفس الوقت... رمسيس يونان كتب مقالاً نقدياً بعدما رسمته الجدايل الذهبية` أثر في بحيث أني امتنعت تماما عن أن أرسم هذا الطراز من الرسم بعد ذلك.
س : من من الفنانين التشكيليين تتلمذت عليهم ؟
ج : مررت بمراحل عدة... في البداية كنت أحب أن أري أعمال روبنز غظصشغج للحركة والحيوية .. رامبرانت Rembrandt لأن قيم الضوء عنده مدهشة، بالاضافة الي العمق والانسانية، وتحليل الشخصيات... بعد قليل وجدت أن روبنز سطحي، أما رامبرانت فعميق، كان الضوء عنده يشع من الداخل، وضحي باللون، وأبقي علي الاحمر والبني فقط ثم بدأت أحب البدائيين، خاصة البدائيين من الهولنديين والبلجيكيين، وبالأخص الأخوين فان آيك Hubert and Jan Van Eyck في اعتقادي أنهما وصلا الي قمة الاتقان للصنعة أو التكنيك.. وجدت عندهما الي جانب الصنعة والتكوين وجدت الشعور الداخلي الشعري .... رغم واقعيتهما الواضحة.. تأثرت ايضا بالايطاليين من عصر النهضة.. وخاصة فناني البندقية وروما تأثرت باللون عندهم..في نفس الوقت الذي كنت أمر فيه بهذه المراحل كنت كثير السفر الي الأقصر وكنت كثيرا ما أشاهد الآثار الفرعونية، وكان لهذا أثره علي ... شاهدت معبد أبو سمبل سنة 1935 أو 1936 وانفعلت بشدة... الرسم الفرعوني نفسه لم يؤثر فيه لكنه النحت الفرعوني هو الذي أثر في والعمارة الفرعونية كذلك.. لأني أحب الشكل ربما أكثر من اللون .... أنا أشعر بموضوعاتي مجسمة.... في القرن التاسع عشر. أحببت كورو Corot وفان جوخ Van Gogh ودي لاكروا De la Croix وسيزان Cezanne
س : والمحدثون ؟
ج : لا أحد يعجبني ...لا تعجبني حركات التشويه الحديثة... وبيكاسو Picasso يغير خط سيره كثيرا.
س : وماذا عن المعارض التي اشتركت فيها ؟
ج : أول معرض اشتركت فيه أقيم سنة 1919.. واشتركت في معرض مع مختار سنة 1920 أو 1921 تحت رعاية جمعية محبي الفنون الجميلة، باسم `الصالون` واشترك يوسف كامل وراغب عياد، ومحمد حسن.. في ذلك الوقت كان يندر وجود معرض آخر للتصوير والنحت غير `الصالون`.
س : ماذا كان موقف الرأي العام منكم ؟ أو موقف الرأي العام المثقف ؟
معظم النقد كان ينشر في الجرائد الافرنجية التي كانت تنشر في مصر في ذلك الوقت أما الجرائد العربية فلا تنشر أي نقد، ولكن قد تنشر بعض الاخبار... لكن حوالى سنة 1928 بدأ بعض الكتاب المصريين يكتبون كتابات نقدية عن هذه المعارض.. من هذا القبيل محمد حسين هيكل.. ومى زيادة... وسند بسطا، وبرما المازنى والعقاد أيضا... لكن لم يكن نقدهم نقدا فنيا.. كان معظمه نقدا أدبيا أن صح هذا الوصف.
س : ختاما ، هل أثقلت عليك فى هذا الحديث ؟
ج : العكس هو الصحيح... أود أن أشكرك على اهتمامك بهذا النوع من الدراسة وأنا شخصيا أجد متعة فى الحديث عن خبراتى الفنية.
بقلم: د./ مصطفى سويف
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
محمود سعيد وعالمه الأسطورى
- محمود سعيد` أول رائد كبير للتصوير المصري الحديث وستظل مكانته الفنية أعمق أثرا من جميع التيارات التي أرادت أن تسود الحركة الفنية منذ مطلع هذا القرن بما تنقله معاهد الفن الجميل عن الأكاديميات الاوروبية لتطمس به كل تراث قديم أو حديث لا يعرف غير انطلاق الخيال. خلص التصوير من نزعاته السطحية وأعاد إليه تلك النظرة الشاملة في مشاكل التكوين ــــ كوحدة مستقلة ــــ وعلاقته بأغوار النفس، مما كان له أكبر الأثر في تنشئة جيل من الفنانين كان يمكن أن يضل طريقه في خضم الأغلال الحرفية وجمود التفكير الجزئي الذي يحد الفن في مجال التقليد والانطباع السريع، ولولاه لتأخر ظهور جيل آخر يثبت اليوم دعائم الفلسفات المتحررة للفن المصري المعاصر. أنه وريث التقاليد، ينهل مما يشاء من منابع التراث المحلي والعالمي، فنلتقي معه ـــ في لمحات عميقة ـــ بالفنون المصرية وبصور الايطاليين الأول وعصر النهضة وفنون الأراضي الواطنة وبعمالقة الفن عبر الأجيال بين الكنائس القوطية ومتاحف العالم، في مزيج عجيب يعمق من أصالته وحدة فنية متكاملة. ولا شك في أن لهذه الثقافات الرشيدة ولأسفارة الطويلة الأثر الحاسم الذي أنضج مواهبه ويسر أمامه السبيل إلي تأمل صفوة آثار الفن فمكنه من تخليد ما يجول بأعماق نفسه. بيد أنه لم يكن سبيلا إلي الهرب من التفكير في مأساة العيش بل كان طريقا صوفيا إلي دفن الحنين والأحزان، وهو من هذا الجانب أعمق ـــ لمن يتأمل فنه ــــ من مجرد الوقوف عند مظاهر المجون العابر أو جمود العقيدة المجدب، تلك العقيدة التي كان دائم التطلع إليها ـــ ويقررها فيما بينه وبين نفسه ـــ جعلها تفرض حمايتها علي كل ما في فنه من معان خاصة كثيرا ما نلمح فيها نظرة المستمتع تشرح صدورنا بما تشعه من انسجام مع الحياة، الا أن وراء هذه النظرة نفسا آسية تحكي لنا ـــ في يقين ـــ لواعج العشق بذلك الجسد المجهول يتوقد كسراج الياقوت أو كوميض الزمرد أو كشهاب الذهب. وما اللون الأزرق عنده ـــ في رمزيته وبداوته وعمقه عمق السماء الذي كثيرا ما يخيم علي عالمه الفني ـــ إلا دفء الحياة يدعونا إلي التشبث بها ـــ إن أملا أو وهما ـــ من أجل بصيص من ضياء ذلك النبع المقدس.
- ولئن تراءت لنا ـــ في صور( سعيد) ـــ صلابة النحت الغائر البارز بالمعبد المصري القديم، أو شبه لنا أننا نستعيد الوجوم والشجن من أقنعة الغيوم والايقونات البيزنطية، أو استحوذ علينا سحر المآذن ونقوش القباب ورشاقة العصائب الكتابية، إلا أن للفنان قلقه وعشقه الخاص دون شك كما له أسلوبه التصويري المحض، يتوافق ويتجانس في حدود الضرورة التي تلزمه بأن يستنبط بعدا نفسيا أو يستشعر عمقا مأساويا يوقظ الوعي بالوحدات المنفردة وعلاقتها بصياغة الأثر الفني في تكوينه المعماري العام الذي ينتقي( سعيد) عناصره وشحنها بما يبدو فيها ـــ غالبا ـــ من شغف بالاطراد المنطقي والايقاع المنتظم الوتيرة المتماثل المتساوي القسمات الرابط لهذه العناصر الفريدة في مجموعة متماسكة تتوازن فيها كل حركة من جسم وكل خلجة من ضوء وكل لمسة من خشونة أو ليونة، فما من عنصر الا ويساهم في ثبات البناء واستقراره كما أن له وظيفته المحددة لتأدية المعني المستتر المقصود حتي ليسري الامتزاج العميق لتلك العلاقات الصوفية مع إرادة الفنان الصارمة كأنما تريد قهر المجهول وراء القبر، بيد أن الفنان ينتصرـــ في بعض لوحاته ـــ للرمز.
- والكناية حتي حدود التكثيف والتجريد العقلي وعندئذ ينبلج ذلك الشمول العضوي والسر القاتم المكتوم الذي تحدثه نغمة الحداد الداخلي رغم الضوء البراق واللون الحار الشبيه بالرنين الذي ينبثق عند ( ليجيه) ورغم ما يسبغه من استدارة الأبدان العارية في تكوير الأشداء والأفخاد الفاجرة علي نماذجه التي تفيض صحة وعذوبة ـــ وهي بعض ما ترسب لدي( سعيد) من لهيب البشرة ووهج رائحته عند( رنوار) ـــ وكأن فناننا يريد أن يتمثل فيها الشوق الملح والوصال العنيف كلما سقط منها ظل ارتفع إليها عمود من الضياء، دون أن يكون لكل ذلك تأثير مسرف علي
(سعيد) بفضل وجود ذلك التعادل المحكم المهدئ المتصل في فنه بل وفي حياته. ومن خفايا الخطوط اللولبية وظواهر الانثناءات المتقابلة ومؤثراتها الحسابية المتعددة علي الجسوم والحجوم والسحن والفراغات، وعلي فيض ظلالها المستقيمة يمد( سعيد) لوحاته برقة موحشة وصفاء صحراوي وكيان بللوري مصقول ويتحرر (سعيد) من قيد النموذج الذي يثقل المخيلة ويفر إلي نبع قلبه ليبوح له بما وراء النموذج حيث تلتقي الهندسة الليلية ـــ ذات الظل الديني المختلط بالغرين ينتصب ليلتقط بعض أسرار المطلق ـــ مع الوجوه الأليفة التي تتجسد في سكينة ومهابة ونلقاها كل يوم علي هذا الوادي الذي تحتضنه الصحراء تسفح أعمارها أو تغالب اقتراب القدر المنذر بابتسامتها المريرة وسعيها الدائب إلي صيدها العجيب.
- وتلك الظلال المقرونة دائما بالحس الجنائزي والتي تريد أن تضغط كل شئ وتحجب كل نور كأنما يريد بها (سعيد) أن يستكشف أرضا بكرا ترضعه رحيق الحياة الأولي لا ينزع فيها إلا إلى ما يمسك عليه أمنه وسره وسحره فيما يشيع في جوانب فنه من الوسامة والتوسل والوداعة والوقار، الشموخ رغم الظلال، الراقدة، وليس ما يحبه أو يفزع منه (سعيد) سوي الظلال الراقدة علي ثراها، وكأنها الستار الكثيف الخفي ــــ في تجربة البداوة الانسانية ـــ الذي لا يرتبط بغير ذلك النور القاتم الذي نلقاه بعد المغيب يشق ليل النفس الحالك ويتسلل ليزحف علي سماء صافية أو ملبدة ـــ هيهات أن تهتكها النقوش والتزاويق والزخارف الهندسية، وتتجسم عوالم ( سعيد) بل أصنامه الفسفورية ـــ ملء العين ـــ وكأنها قدت من خشب عتيق أو طين محروق أو نحاس يغالب الزمن، تضطرم بذكري شهوات تظل تحدق فينا حتي يستخلص لنا ( سعيد) من غضونها الحريرية وشقوقها الحيوانية مناطق الصمت الأبدي التي قد تمتد جذورها إلي عصور ما قبل الديانات القديمة. وليست اللغة التشكيلية عند( سعيد) ما يدور بخاطرنا من كلام وأقوال منظومة فالقالب التشكيلي المصبوب في فنه لا يستنجد بمعناه الاصطلاحي بل هو ــ في حد ذاته ـــ اللغة العليا التي نستطيع أن نتهامس بها ـــ وحدها - ونستجيب لها ونتراحم معها بل وتشعل النيران في أعماق أعماقنا، فثمة نداء خفي يهيب بنا في قرارة فن ( سعيد) إلي نقطة السكون، وعبثا يحاول الفنان كل يوم سبيلا آخر حيث يتجول قلبه ـــ دوما ـــ في كل مكان، فكل القسمات التي تصدر عن أعماقه أن هي إلا ملامح الخلجات النفسية المستورة تتجه عند( سعيد) ـــ غالبا ــــ إلي مصادر الصراع والحركة الكادحة نحس فيها بخفقان التجربة والمعاناة ونصيخ السمع فيها إلي مونولوج داخلي يفيض بخلجات المشاعر الخفية، الأحاسيس الغامضة تزداد غموضا كلما أمعنا فيها النظر ويستحيل تفسيرها فكل تفسير يحتاج إلي تفسير. وكلما بدا لنا هذا القالب بلا علامات أو حدود كانت تجربة ( سعيد) وتجربتنا معه من أوقع وأشهي اللحظات التي تمتزج فيها منابع الوحشة والاشتياق إلي الدار، إلي الأركان، إلي أنوار المشكاة الخافتة، ورمز التجاوب الدائم بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا كائنات فريدة تتناسل وتتفاعل وتستشعر وتفكر. وهنا بين أنغام ( بيتهوفن) العنيفة التي تتمثل فيها بطولة الإنسان في مأساة وجوده الضائع وفي خضم ألحان( فاجنر) الرهيبة التي تحمل أصول الإنسان المتجلية في حريته وتفوقه يجد( سعيد) الكمال اللانهائي الذي ينشده في مجال إبداعه الخاص.
- ذلك هو عالم (سعيد) الذي يدور في الأعماق ـــ نقطة التحول في تصويرنا الحديث ـــ تظل به نفوسنا تراودنا الانعتاق من خضم التعاليم المدرسية والخروج إلي عالم الفن والحرية... عالم النضرة والنماء وتجدد الحياة، المزيج الفريد من الرؤي الشعرية تجتاز البلور في تضاعيف لوحاته العريقة لتخلق تقاليده الخاصة وتكسبها طابعها الاثيري، وتقودنا إلي التأمل فيما وراء الاشياء والتغلغل إلي اصولها البعيدة واستكانة أسرار محركها الاول الذي أنبثقت منه كل بذور الحياة. أما حكمة الفنان الكبري التي ترتسم علي وجهه المشرق والتي تعودنا كل صيف أن نتلقاها منه لتنتقل من فنان إلي فنان ومن جيل إلي جيل، فقد تمثلت في قوله: ليس من الأهمية بمكان أن يتمسك الفنان بأسلوب ما بل يفوق ذلك أهمية ما يبذله الفنان من جهد، في تفاعله مع العالم المحيط به، لكي يشق لنفسه طريقا يواصل السير فيه حتي يلائم بينه وبين شخصيته.. يجب أن يسمح لكل فنان بالتعبير عن نفسه تعبيرا حرا طليقا إذ إن سيادة اتجاه فني واحد فى بلادنا خرافة.
بقلم : فؤاد كامل
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
الصلاة
- بقلم من الصلب . مداده من بحر الحياة الأحمر القاني .خط محمود سعيد خطا عميقا.
- خط الحياة . حياة فن التصوير في مصر المعاصرة علي كف القدر الأزرق
- من ثلاثين عاما خلت، كانت تضمني جمعية الرسم والتصوير في المدرسة السعيدية. كنا جماعة صغيرة وعلي رأس الجماعة أستاذ. أستاذ ساخط علي الفن وعلي تعليم الفن، عاد لتوه من بعثة لدراسة فن التصوير في انجلترا وقد زاد سخطه علي ما تعلم هناك .
- كنا أيضا ساخطين، بالعدوي ، ربما.. بل كنا أشد سخطا من الأستاذ، حداثة السن، الحماس، ربما.. كان الأستاذ يقول: مدارس الفنون عندنا وفي الخارج لا تعلم الفن بل إنها لا تعلم طالب الفن إلا وصفات معروفة وتعطيه (روشتات) محفوظة لرسم أي شئ وبأسهل طريقة.
- الأكاديمية الميتة والتأثيرية التي أندثرت في أوروبا منذ زمن طويل والتي زحفت كلها علينا مع الوافدين الاجانب والمبعوثين المصريين.. كانت هذه هي كل ما يصبو إلي أن يصل اليه الفنان عندنا في ذلك الحين.
- ولكن جماعتنا الصغيرة كانت تبحث عن شئ آخر إذ كانت تسمع شيئا آخر. ان ( كوز الذرة) الأخضر عندما نكشف عن حباته البيضاء بنزع جزء من غلافه الخارجي الأخضر نري ذلك الشكل المخروطي المعماري البناء الذي رسمته صفوف الحب المتراصة ــــ تعلو حبة حبة وتصغرها قليلا ـــ وتجاور حبة حبة أخري وتكاد تماثلها إلا قليلا والكل في صفوف متراصة صاعدة متوازية ولكنها ليست متوازية تمام ـــ ترتفع صفوف الحب صاعدة تساند بعضها البعض متمايلة أحيانا متغيرة في الحجم والشكل أحيانا أخري ولكن طبقا لقانون ووفقا لنظام وتظل صاعدة وحجمها يضمر وتصغر وتدق حتي تصل القمة فتلتقي كلها في وحدة ثم تتلاشي ــــ ثم تبدأ حركة أخري مغايرة للأولي.. حيث تنبثق خيوط دقيقة خضراء ثم ذهبية ثم فضية وأخيرا حمراء... تنبثق تلك الخطوط بحركة متفجرة ومغايرة تماما لحركة الحب الرتيبة المتصاعدة ولكنها مكملة لها ومتوجه لها.. بل هي صلتها بالحياة.
- ثم تختلف الحركة والشكل مرة أخري.. ذلك الغلاف الأخضر غلاف ` كوز الذرة ` الخارجي.. إنه نسيج دقيق من الأخضر والفضة يحتضن الكتلة كتلة ` كوز الذرة ` ويغلفها يكاد يستشعر حبات الذرة من تحته. تختلف الحركات الثلاث ولكنها تتكامل وتتحد في وحدة واحدة وبناء معمارى واحد. ايقاعات مختلفة احتواها نغم متكامل تقسيم وترتيب عجيب. حركات متكاملة تكملها حركات أخرى متكاملة.
- هندسية واضحة ولكنها تعيش وتتنفس وتنبض لأنها من الحياة.. نظام محكم من الفكر الصافي تظلله هندسية رائعة ويغذيه فيض كبير من الحب الانساني. ذلك هو اللحن الكبير الذي انتشت به ` الصلاة ` ايقاع رائع بين الرأسي والمنحني. صفوف متراصة من الأعمدة الرأسية تتلوها صفوف أخري متراصة من الأعمدة الرأسية.. الصفوف تتكرر وتتغير والايقاع يتكرر ويتغير ولكنه يتغير بحساب وفي همس.. في همس صاخب.. تعلو تلك الصفوف من الأعمدة وتتوجها حزم من الأقواس تتشابك وتتعانق ثم تفترق.. ثم تلتقي ثانية.. انحناءات الأقواس تؤكد رأسية الأعمدة، ورأسية الأعمدة تعطي القوة لانحناءات الأقواس.. ظلال الأعمدة التي حركها سقوط النور فوق سطح الأرض لتؤكد أفقيته.. تؤكد مرة ثانية رأسية الاعمدة.. ظلال هامسة منسابة يتخلل انسيابها حب رقيق صاف.. ينتشر فى رفق ولكن فى غير خجل ليضفى علي الرأسية والأفقية والانحنائية شيئا آخر.. غير هندسيتها.. تلك الظلال الهامسة هي طريق الحب ـــ هي طريق النور تنحدر عمائم المصلين البيضاء تتهادي في قوس خفيف ـــ من أقصي اليسارـــ في طريق النور في تبادل ـــ في توافق مع النور ثم ترتفع ثانية تلك العمائم البيضاء لتنحدر مرة أخري في قوس آخر حتي أقصي اليمين ثم تتردد قليلا ثم تنضم وتتقارب فتغزر ثم تسرع حركتها لتلحق بنهاية اللحن حيث تتلاشي مع الأعمدة الرأسية في البهو الكبير بينما أجسام المصلين فى انحناءاتها الخفيفة تردد إيقاع الأقواس العليا فى خشوع.
- كان اللقاء مع ` الصلاة ` منذ ثلاثين عاما هو لقائى الأول مع محمود سعيد تأكد لي فيه ما سمعته وما رأيته فى `كوز الذرة الأخضر` وفتحت لوحة `الصلاة` لى وللجماعة الصغيرة بابا جديدا للرؤية وطريقا عريضا للعبور.. إنها الكلاسيكية والرومانسية معا.. الهندسة والحب فى وحدة لا تتجزأ.
بقلم : راتب صديق
من كتاب محمود سعيد( تأليف الناقد / عصمت داوستاشى) 8- 4-1997
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث