عبد الهادى محمد عبد الله الجزار
- ساهم الفنان عبد الهادى الجزار مع زملائه أعضاء جماعة الفن المصرى المعاصر فى تحويل الاتجاهات الأكاديمية للفنانين الى الاتجاهات الحديثة وقد بدأ انتاجه الفنى بمرحلة اهتم فيها بتصوير تخيلاته عن عالم الإنسان الأول عند بدء الخليقة مستخدما القواقع كرمز للحماية ثم انتقل الى المرحلة الوسطى فى فترة انشغل بالتعبير عن الحياة الشعبية فى مدن مصر وكان من أهدافه وأهداف الفن المصرى المعاصر فى تلك المرحلة الابتعاد عن الشكل الأكاديمى الغربى ، تحقق نوع من التفسير عندما عبر عن الأساطير والأفكار المتوازنة و الأحلام التى يعيش فيها أبناء الطبقات الشعبية أما المرحلة الثالثة والأخير فكانت تصور خيالاته عن عالم الفضاء بأسلوب سيريالى وتعبيرات المرحلة الوسطى هى أخصب مرحلة فى الشكل و الأصالة عند الفنان .
صبحى الشارونى
- فى المرحلة الهامة من تاريخ الجزار بدأها من سنة 38 الى سنة 46 ظهر مميزات شخصيته كفنان وسجل فيها أروع الأحاسيس الفنية وكانت عن الكون والإنسان كيف نشأ وكيف عاش فى هذا الوجود على مر العصور مع الطبيعة المجردة فاخرج أعمالاً فنية نادرة كانت موضوع الدهشة فى الاوساط الفنية فى مصر والخارج بل ومحل اعجاب وانبهار وتقدير النقاد العالميين فى الفن أمثال فيليب دارشكوت بلجيكا ودلهم فيولا بالنمسا ومربيل فى فرنسا وراسل وريد فى انجلترا وأخيراً سارتر الذى ابدى اعجابه وانبهاره بأعمال الجزار عندما زار معرض الفن الحديث واجتمع فيه بالفنانين العرب اثناء زيارته لمصر مع سيمون دى بفوار . - بانتهاء المرحلة الاولى كان الجزار يبلغ من العمر 21 عاماً انتقل الى مرحلة اخرى فى ظرف قاسية وقد نضج فيها فكره وعقله وتفتح على مأساة بلده وهى مقسمة نهباً بين الاستعمار والاقطاع وكانت تتمثل أمامه فصول هذه المأساة وهو يعيش فى حى السيدة زينب يرى طوائف الناس فى سذاجة بريئة وتتجمع الحشود وهى تمشى فى بحر من الغموض تلفها ثياب من التقاليد البالية والمتناقضات ويعود الجزار الى منزله لا ينام يستعرض ما رآه وكانت مرحلة حاسمة لمواجهة الموقف وكان لابد ان يحدث شىء فلم يقبل الفنان الثائر الشاب أن يكون مهادنناً فى فنه مع هذه الاوضاع السائدة فى مجتمع ذلك العهد ـ قدم الجزار مادته الفنية للدفاع عن القضية من نفس صور هذه الحياة وعرضها فى بلاغه فنية معبراً عنها ومستعرضاً ومفسراً العوامل والبواعث المسببة لها مستنداً فى ذلك الى اسلوب تحليل نفسى عميق يذكرنا بأسلوب بوش ، بروجل وجريفالد بل ربما كان فى ذلك ابلغ . - واشتغل بكل أحاسيسه لحل رموز التناقض وعالم الروح والمجهول واهم لوحاته ( القدر والمقسوم ، فرح زليخة ، أبو أحمد الجبار ، المجازيب ، قارىء البخت ، العائلة المجنون الاخضر ، العروسة ، السيرك ، الكرسى الشعبى ، الرفاق على مسرح الحياة ) . - الى ان رأى مرحلة تحقيق الحلم ورأى مواكب لرحلته الثالثة مرحلة احداث ثورة يوليو سنة 1952 فرأى مواكب النصر ومواكب العلم وهى تسير فى عهد الفضاء فى الجامعة ومواكب العمال تسير نحو المصنع وفى السد العالى رأى الفلاحين وهم يخرجون من وراء أسوار الاقطاع ويدخلون الأرض الخضراء فأخرج انتاجاً خالداً كريماً رزيناً رائعاً يمثل انفعلاته بهذه الاحداث من هذه اللوحات الخالدة (النصر ، الحلم ، بورسعيد ، العدالة ، الميثاق، السد العالى، عهد الفضاء واخيراً السلام) بل وقف قبله بقليل فى اشرف مكان وهو يتسلم جائزة الدولة التشجيعية يقول كلمته الخالدة لوحته الاخيرة السلام .
حسين يوسف أمين
- يظل عامل الزمن هو المصفاة الحقيقية للإبداع الفنى ، والمعيار الدقيق فى الحكم على قيمة الفنان .، وبعد أن أصبح لمصر تاريخ فنى حديث، أخذت تتضح العلامات المميزة فيه للأجيال الجديدة . - ولقد تبوأ فن عبد الهادى الجزار موقعاً فريداً بين فنانى جيله ، فمنذ وفاته فى مارس عام 1966 شغل إنتاجه الفنى دوائر المهتمين من الفنانين والمثقفين والنقاد سواء كانوا مصريين أو أجانب ، وتتابعت الدراسات الجادة والرسائل الجامعية التى تتعرض بالبحث والتحليل والتقيم واستكشاف جوانب جديدة لهذا الإنتاج الذى أنجزه الجزار خلال حياة فنية قصيرة لم تتعد عشرين عاما . - ورغم أن الجزار قد لقى أثناء حياته نجاحاً فنيا سريعاً ، وتقديراً أدبياً متصلاً تمثل فى العديد من الجوائز التى كان آخرها جائزة الدولة التشجيعية ، الا أن القيمة الحقيقية لفنه لم تتضح إلا خلال السنوات الأخيرة ، من خلال تأثيره على الأجيال التى تلته واتخذت منه أبا روحياً. - ولقد تهيأت عوامل عديدة أتاحت لموهبة الجزار أن تتقد وأن تؤتى ثمارها ، ويأتى لقاؤه بالمفكر الفنان حسين أمين فى مقدمة تلك العوامل ، فالموهبة لا تنمو إلا بالرعاية وحسن التوجيه ، وحسين يوسف أمين كان يملك القدرة والثقافة التى أهلته لأن يقوم بتجربته الرائدة فى تنمية مواهب من انتقاهم من بين تلاميذ مدرسته وكان لشمولية نظرته وعمق فهمه لدوره التربوى أثر كبير على إنضاج موهبة الجزار ودفعة للأمام منذ مرحلة مبكرة من حياته حين اختاره لعضوية جماعة الفن المعاصر التى كونها عام 1946، تلك الجماعة التى كانت أفكارها من أهم المؤثرات فى تشكيل أسلوب الجزار ورؤيته الفنية . فجاء عمله الفنى تجسيداً لمثالياتها فى التعبير بعمق عن الشخصية المصرية الصميمة وما تطويه داخلها من أصالة ، وتأكيد الصلة الوثيقة بين الفكر والفن ، واعتبار العمل الفنى كالأدب وسيلة لنقل فلسفة ما ، والانحياز للاتجاه السيريالى الذى يهدف إلى الكشف عن سر الحياة وسر علاقاتنا فيها . وبالإضافة إلى تلك الحدود التى رسمها فكر الجماعة فى بيانها الأول كان هناك ذلك الإيحاء القوى بالمجهول ، وذلك العبق السحرى الذى ظل يبثه الجزار فى أعماله مهما اختلفت مواضيعها والذى يوقظ فى النفس الإنسانية أعمق الأحاسيس والمشاعر. - وكان المناخ الفكرى والثقافى الذى عايشه الجزار وتفتح وعيه الفكرى عليه فى بداية حياته الفنية ذا أثر هام على تكوين شخصيته الفنية، فلقد كان الوسط الفنى حينئذ يموج بالأفكار الجديدة ، وكانت هناك جماعات فنية متتالية تطرح أساليب ورؤى جديدة . فمصر بعد فترة سبات حضارى استمر قرونا كانت عطشى للفن والثقافة والإبداع، فلم تكد تبدأ الحركة الفنية الحديثة فى العشرينات من هذا القرن حتى توالت على مساحة الإبداع جماعات فنية عديدة وتصارعت تيارات بعضها كان آتيا من ناحية الغرب ـ الذى كان هو نفسه يشهد توالياً مثيراً للأساليب الفنية ـ وكان البعض الآخر يدعو إلى العودة لتأمل الطبيعة والإخلاص لها بغية اكتشاف أسرار تركيبها والنسج على منوالها ، كما كان البعض يوجه الأنظار نحو أهمية التراث المصرى والفن الشعبى ، ولقد تفتحت موهبة الجزار فى أتون الصراع بين الأفكار والأساليب فى مناخ يتصف بالجدية والحيوية . - كما كان متمثلاً أمام الجزار ما قدمه جيل الرواد من إنتاج فنى يشكل بداية حلقات التصوير المصرى المعاصر ، ولاشك أنه استوعب هذا الإنتاج واستفاد منه فى صياغة أسلوبه ، مما أهله لأن يكون حلقة جديدة وجزءا لا ينفصل من تاريخ الفن المصرى المعاصر . فقد كان هناك راغب عياد أول من وجه الأنظار إلى جماليات الفنون الشعبية، كما كان سباقا فى التعبير عن شتى مظاهر حياة المصريين البسطاء، وكان هناك محمد ناجى الذى أكد على أهمية الإتصال بالتراث الفنى المصرى ، وأخيراً كان هناك محمود سعيد الذى أشاع فى أعماله روحاً مصرية خالصة ، واهتدى إلى صيغة تتسم بالاستقلالية ، وللدارس المدقق أن يلحظ ذلك التقارب الشديد بين فن محمود سعيد وفن الجزار ، ولم يكن غريباً أن يعجب محمود سعيد وهو فى قمه إبداعه بأعمال الجزار فيقتنى منه لوحة ` أدهم ` عام 1951 فلقد جمعت بين الفنانين نزعة استقلالية ، وروح شرقية ترنو نحو الغموض ، وتعبر عن السحر الكامن وراء عناصر المجتمع المصرى الصميم . - وكان إحساس الجزار بخطورة مرضه ، فى رأينا سببا فى ذلك الطابع المأساوى لإنتاجه ، فلقد أدرك منذ وقت مبكر أنه قريب من الموت ، فجعله ذلك أكثر شفافية ، وأرهف حاسته الفنية وصبغها بصبغة حزينة، وجذبه نحو العالم المجهول الذى لا يدرى كنهه أحد . لقد التقت فى نفسه عناصر استمدها من نشأته فى أحضان الطبقات الشعبية المستغرقة فى عالم الروحانيات والتى تستمد قوتها من عناصر ميتافيزيقية ودينية ، وإحساسه الشخصى بنهاية قريبة ، كل ذلك دفعة نحو عالم غامض فأصبح أسيراً له ، محاولا الغوص فيه والتعبير عنه ، فلقد كان يستهويه ولم يكن ناقداً له أو محاولاً تغييره كما تصور العديد من الدارسين لفنه . فنحن نزعم أنه كان يهفو إلى هذا العالم ، يؤكد زعمنا كتاباته الغامضة المنشورة فى هذا الكتاب ، والتى تقدم لنا روحاً هائمة فى عوالم عجيبة ، وعلى الرغم من أن مرحلة الجزار الأخيرة جاءت محاولة للثورة على فكرة الموت ، وتبدت فى لوحات الماكينات وعصر العلم ، إلا أن الفنان لم يستطع التخلص من هويته، فعلامات الموت واضحة على الأشكال والعناصر ن والغموض ما زال يفرض نفسه على الجو العام للوحات . لهذا تظل أعماله الأولى فى الأربعينات والخمسينات أصدق تعبيراً ، وأكثر دلالة على شخصيته الفنية الفريدة ، وتظل لوحات مثل ( دنيا المحبة - فرح زليخة - المجنون الأخضر - شواف الطالع - رسم تحضير الأرواح ) علامات مميزة على الإنجاز الحقيقى الذى أضافه الجزار للتصوير المصرى المعاصر . ذلك الإنجاز الذى يقدم نموذجا لفن مصرى تضافرت عناصر عديدة فى تكوينه ، لكنه يظل فى النهاية ذا طابع يعبر عن روح البلاد ، ويلقى الضوء على جوانب خافية من وجدانها العام . كما يبرهن فى الوقت نفسه على قدرة المصريين - لو تهيأت السبل وتوفرت الامكانيات - على تقديم رؤى فنية جديدة تتصف بالعمق والأصالة تؤهلها لأن تكون إضافة حقيقية لتاريخ فن الإنسان .
د / صبرى منصور
القاهرة أغسطس 1989
الجزار والضوء الساحر ..
عندما نتأمل أعمال الفنان الراحل `عبد الهادى الجزار 1925-1966` نكتشف تفرده بين الفنانين من أبناء جيله وإستمرار تفرد إبداعاته حتى الآن، لقيمته الفنية العالية وتوهجه الفكرى الذى استلهم عناصره أو جذوره من البناء التشكيلى للوحة فى الفن المصرى القديم ، وغوصه فى العادات والتقاليد الاجتماعية وخاصة حياة الطبقات الفقيرة التى اعتادت على إقامة طقوس السحر والشعوذة وما لذلك من معالم وأدوات وعناصر تضفى على البيئة مناخاً غامضاً سحرياً بالإضافة إلى الأزياء والأبخرة التى تزيد من عمق الغموض فى المكان والزمان وفى النفس ، وعلى امتداد المسيرة الإبداعية كان الجزار وطنياً من الدرجة الأولى وأفرز انتماؤه إبداعات فنية رائعة وغير مسبوقة نذكر منها (السد العالى 1964-حفر قناة السويس 1965-السلام 1965) ، وقد تعاظمت قدرات الجزار الفكرية والفنية فى تكامل وترابط، وأثرى الحركة الفنية بإبداعات أثرت فى تحريك الإبداع الفنى -فكراً- قبل الممارسة .. وكان رساماً ماهراً .. حوَّل الخامات التقليدية كأقلام الرصاص والفحم والحبر الشينى إلى قيمة نابضة بقوة التعبير والتوهج الرمزى الممتد لكل أعماله الفنية ، والضوء عند الجزار آتٍ من ثقافته الحية النابعة من الموروث الشعبى والحس الوطنى الصادق دون افتعال ، وعندما نقترب من لوحة السد العالى التى شكلها على هيئة وجه إنسان ممتد إلى السماء .. وبصره شاخص فى الأفق المفتوح .. وقابض على شفتيه، كاشفاً عن إرادة غير مسبوقة الكوامن والطاقة، نسج الجسم بأجزاء من الشرائح المعدنية المتراصة والمترابطة والمتكاملة والمتنامية كأنها لباس جلدى معدنى متصل بأسلاك رفيعة كقنوات للتوصيل الكهرومغناطيسى صادرة من توهجه وتفاعله وإصراره على تحقيق الحلم وتحويله إلى نبض مضىء ملموس يتسرب إلى حياتنا حاملاً معه النور إلى القرى والنجوع والمدن والطرق والمصانع، إنها إرادة الإنسان.. استطاع الجزار أن يعيش حلماً قومياً للوطن .. واستطاع أن يعيش الشبكة المذهلة للمشاعر والأحاسيس التى تدفقت فى عروق وشرايين سواعد الآلاف من المصريين الوطنيين الذين خاضوا ملحمة البناء والفخار والعزة المتمثلة فى هذا المشروع العملاق والذى أنشئ فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فضوء الجزار ضوء حى يسرى فى دماء الوطن ، استطاع الجزار أن يبدع للتاريخ أعمالاً فنية عبقرية كونها فريدة ومتميزة وكونها تحمل فكراً صادقاً .. ولد الجزار أستاذاً وفناناً مبدعاً واختطفه القدر فى ربيعه الواحد والأربعين ليترك لنا إبداعاً حياً ممتداً عبر السنين والأزمنة .
أ.د./ أحمد نوار
جريدة الحياة - 2004
عبد الهادى الجزار ... أنشودة المشروع القومى
قد شهد عام 1964 احتشادا ضخما لعدد كبير من الفنانين حول ` المشروع القومى ` متمثلاً فى تسجيل مراحل العمل فى السد العالى ومنطقة قرى النوبة قبل أن تغرقها مياه بحيرة السد ، مستجيبين لدعوة د. ثروت عكاشة الذى كان يحقق بذلك توجه النظام إلى ربط المثقفين والمبدعين بمنجزات واهداف الدولة وشارك فى هذا الاحتشاد فنانون من كافة الاتجاهات والمدارس الفنية ، استطاع المناخ العام للمشروع أن يفجر لدى كل الفنانين كثير من الرؤى الإبداعية كل بأسلوبه الخاص.
وفى لوحة السد العالى للفنان عبد الهادى الجزار نقرأ مثاليات العصر الذهبى للنهضة والمشروع القومى المصرى فى مفردات الفنان التى استخدمها فى تلك اللوحة ، فنرى ذلك التصميم والتحدى والإرادة والتطلع للمستقبل المشرق تتجلى فى رأس إنسان عملاق وجهه يشبه وجه الرئيس جمال عبد الناصر ويغطى تلك الرأس قناع صلب كفرسان العصفور الغابرة ، شفاف كقناع رواد الفضاء الذين اهتم بهم عبد الهادى الجزار فى الكثير من أعماله وشغلت مخيلته تلك الفكرة البديعة عن امتلاك الإنسان السيطرة على العلم وتمجيد العمل ومثالياته فى مفرداته التشكيلية وجزءاته التى شيد بها وجه العملاق الرابض ، نراه ذو رقبة طويلة مغطاة بالعدد والأدوات المستخدمة فى تشييد السد العالى .
نرى كذلك ملامح من نهر النيل على امتداد أفق اللوحة ، رجل وسيدة من أبناء الوادى ، ثم يمتد التكوين الآلى نازلاً من الرقبة العملاقة وهو ملتحم بها فى سريان متسلسل من وشائج آلية : صنعت إيقاعاً بصرياً قوياً ومتماسكاً فى بنيان العمل الفنى ، ذلك الرابض فى شموخ ينظر إلى أعلى وهو ذو ملامح تنطق بالرسوخ فصلابة الأنف الحاد ، والفك البارز تمنحنا إيحاءً قوياً بصلابة وقوة إرادة هذا المخلوق الذى مزج فيه عبد الهادى الجزار بين الطبيعة البشرية والطبيعة الآلية وجعل رأس الكائن الرابض فى مواجهتنا وأما جسده فيمتد بين الآلآت والأبراج والصخور والجسر مع سريان المدى المفتوح المتطلع إلى النجاح والفلاح والبناء ،، فقد كان مشروع بناء السد العالى فى مصر يرسخ مفاهيم الحداثة والتصنيع والتقدم العلمى وتمجيد الطبقة العاملة ، وقدرة الإنسان الجبارة على الثورة وتغيير وجه الحياة على المستويين الفيزيقى والروحى ، وكما مزج الفنان المصرى القديم بين الطبيعة الإنسانية والحيوانية فى إطار عقائدى وروحى نرى الإنسان هنا وقد امتزج بالآلة فى عشق واعتناق ، فهى أيقونته الجديدة ، وسحره المستقبلى ، وتعويذته المتفائلة هذا العناد والتحدى والإحتفالية المقدسة فى تصوير ذلك المشهد الباهر للإنسان المصرى وهو يصارع وجه الأرض ويزيل جبالاً ويفجر صخوراً ويحول مجرى النهر العتيد ، وكأننا نسمع الأنشودة تتردد فى الأفاق العفية ` قلنا حنبنى وأدى إحنا بنينا السد العالى `.
أعطى عبد الهادى الجزار قرنين صغيرين فوق القناع ` كلمسة أسطورية من العهود البدائية `.
فلم يمزج الفنان بين الإنسان والآلة فقط بل ومنح عملاقة سحراً خاصاً وعلامة ذكورية خشنة أيضاً ، يردد مفردات الآلة وتمجيد مفهوم العمل وجعل الطريق يمتد إلى نهاية الأفق عند نقطة الزوال .
كما نلاحظ ألوان الآلآت والصحراء ومجرى النيل جاءت ألواناً طبيعية مشتقة من ألوان التربة والمعادن الخام.
ركز الفنان على معزوفة الحشد فأبناء الشعب المصرى كثفهم فى بناء السد وذلك واضح من مواقع العمل المجاورة للعملاق، وفى المعبر الذى يصل بين عالمى الحلم والواقع ، الفكرة والتحقق ، عالم الما بين ، عالم التشكل الموار بعمليات الفكر والخلق البديع ، هذا بجانب أن بقية الجسم يتكون من كتل متراصة تشبه كيفية بناء الهرم تعبيرا عن أهمية السد وخلوده كالهرم - فالسد هو هرم مصر الحديثة - كما يعزف عبد الهادى الجزار معزوفة النهوض والتقدم ودور البنية النحتية فى تدعيم التنمية .
وفى لوحة الميثاق للفنان عبد الهادى الجزار : نرى امرأة ترتدى رداء أسود وغطاء رأس أسود مثل نساء صعيد مصر ، غليظة القدمين واليدين خضراء اللون لها فروع مثل الشجرة ، لها تاج على صورة النسر ورمز الجمهورية فى مصر فى ذلك الحين ، ترتدى قلادة تمسك فى يدها اليمنى الميثاق ويدها اليسرى فى وضع القسم ، يجثو عند قدميها فلاح وعامل ويقف إلى جوار الفلاح أبو قردان وإلى جوار العامل ما يشبه الآلة أو السلاح الآلى وتمتد خلفه التروس والأشكال الصناعية ، فى الخلفية دبابة ورجلى دين - مسلم ومسيحى - تمثال ، ثم مجرى مائى به سفن ، والمدن على ضفتيه ، ونرى شكل شبكى إلى جوار الفلاح الذى يعلق الفأس على كتفه.
الأرضية فى مقدمة اللوحة السمراء كلون الأرض الزراعية وفى الخلفية صفراء كالرمال يوجد فى كفى الفلاح زهرة وقوقعة ..يوجد فى يد العامل مفتاح معدنى والخصائص التعبيرية للخطوط ،قوية مكثفة تتجه فى الغالب إلى المحور الرأسى للوحه وهو المرأة الواقفة ، تلك الخطوط تتخذ شكلاً منحنياً فى أغلب اللوحة.
ترديدها يصنع موسيقى الخطوط فى ملابس المرأة الواقفة مع المنحنيات فى ملابس الفلاح مع ملابس العامل ، حيث التقاء الخطوط عند المحور الرأسى فى وضع يشبه وضع العبادة ووضع السيدة يشبه الكاهن الذى يقيم الصلاة ويمسك الكتاب المقدس فى يد ويمنح البركات بالأخرى .` فالقاعدة الذهبية المتحققة هنا هى أنه : كلما كان الخط المحيط مميزا وحادا ووتريا ( نحيلا ومرنا وقويا ) ، كان العمل الفنى أكثر اكتمالاً ..
تثبت الخطوط هنا وترسخ فتوحى بالسكينة والهدوء والقداسة ، وامتداد جسم السيدة من أعلى اللوحة وحتى الأرضية ومثلة المحور الرأسى للوحة ككتلة محورية تتزن بكتلتين يمنى ويسرى متساويتين تقريباً، والإيقاع الكامن فى تردد الخطوط الرأسية الصاعدة إلى أعلى والممتدة فى خلفية اللوحة إلى ما لانهاية يؤكد الجو الأسطورى والنظرة الشديدة التمسك بالميثاق والإيمان به إلى حد العبادة .
تتعدد الخطوط وتتحرك فى اللوحة فى استمرارية من أسفل إلى أعلى عن طريق امتداد الفروع من رأس السيدة دونما انقطاع إحاطة الخطوط بالعناصر واشتمال الخطوط على محتوى هو الشخصية الرئيسية فى اللوحة مع العامل والفلاح ورجل الدين ، تربط الخطوط بين مفردات اللوحة بروابط مثلثه الشكل صارمة الاتصال ، و الأشكال فى هذه اللوحة طبيعية ( بشر - حيوان - مجرى مائى ) ، وتساعد التماثلات فى القيمة واللون والمواضع المكانية بين ملابس الشخوص فى اللوحه على خلق علاقات تكوينية تشكل النمط المهيمن على العمل الفنى وهو تلك السيدة : فى جسم السيدة مسطحات مائية مثلثة : مثلث متساوى الساقين ثم ينشأ عند رأسها مثلث متساوى الأضلاع هو فروع الشجرة على جانبها مثلثين آخرين هما العامل والفلاح وهى تقف على أرضية شبه مثلثة تذكرنا بالتل الأزلى حيث بدأ الخلق.
والحيز أو الفضاء : يتشكل الحيز أو المكان فى ضوء الموضوع الذى تشغله السطوح البسيطة المستوية للعناصر الأساسية للوحه والتى تتباين فى حجمها وتميل بفعل اللون والظل إلى السكون والرسوخ للونها الداكن فى تقابل مع الخلفية الفاتحة الباردة مما يؤكد قوة وحضور الشخصيات الرئيسية وتوحى العلاقة المكانية بين موقع الثلاث أشخاص فوق التل والخلفية فى أسفل ، ويطالعنا المنظور الذى استخدمه عبد الهادى الجزار حيث تميل خطوط النهاية إلى التلاشى عند الأفق بينما نرى عناصر التعبير بارزة متقدمة إلى الأمام .
الإضاءة مركزة فوق جبين السيدة وفى يدها حيث الميثاق وفى الخلفية حيث الامتداد اللانهائى لمجرى المياه ( قناة السويس) وتمثال يشبه الرئيس جمال عبد الناصر.
الألوان فى اللوحة هى الأسود والرمادى للملابس والأرض والأخضر لوجه ويدى وقدمى السيدة ، مجرى المياه درجة فاتحة من الأزرق ، ضفتى مجرى المياه درجة أصفر فاتح يحتوى على أبيض بنسبة عالية ، الألوان الباردة والداكنة فى اللوحة تؤكد الجو الأسطورى الساكن المهيب ، لون بشرة السيدة تعبير وجهها يعطى إحساساً بالبرودة والتجهم والحزن كالكهان والسحرة فى الأساطير القديمة .لا تمثل العناصر السابقة التى عرضناها والخاصة بالخط والشكل والحيز ، أو الفضاء ، واللون ، وغيرها كل العناصر الخاصة باللوحة ، أو العمل الفنى فى فن التصوير فهناك ،أيضا الملمس والتكوين ، والأسلوب والحركة وعناصر أخرى عدة وينظم ذلك كله.
التصميم الكلى ، والذى هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى التأليف ، أو التركيب الأوركسترا لى بين العناصر داخل العمل وكيفية صناعة عبد الهادى الجزار للنمط التشكيلى ، فالنمط يمتلك الشكل ويجسد تناقضاته داخل ذلك التماثل البالغ الخاص به ، والمتعلق بالقيمة أو اللون .ويحدث ذلك أيضا باعتباره ?
هذا النمط - يتعارض أو يتناقض مع أنماط أخرى ولا يمكن أن يوجد نمط بمفرده ، فالأنماط يقابل بعضها بعضاً ويتحرك النمط فى اتجاهات خاصة محدثاً حركات، واضحة ظاهرة ، أو ضمنية مستترة إنه ينشط باعتباره سلسلة من الأسطح التى تتقدم متحركة ومحدثة تناقضات مكانية، وإدراكية فى هذه اللوحة التى كرست هذه السيدة الكاهنة التى تحمل الميثاق وكأنه كتاب مقدس وكل عناصر العمل التى ذكرناها تضافرت وأخرجتها فى تلك الصورة الأسطورية وهذه الإشارة التى تعتبر الميثاق اعتناقاً وعقيدة وكتاب مقدس تعطينا صورة واضحة لهذا الجيل من التشكيليين الذى تأثر بإنجازات الثورة واعتنقها.
هبه الهوارى
نهضة مصر - 8 /12 / 2011
ودن من طين.. وودن من عجين )عبد الهادى الجزار- زيت- 1951)
لم يكن ولاء المصور `عبد الهادى الجزار` للروح الشعبية يمنعه من الثورة على سلبية الجوعى والتعساء، واستسلامهم للوهم واليأس والمصير المجهول..، حتى أن هذه الشحنة النفسية (الساخطة) فجرت طاقاته الإبداعية الضارية؛ التى دغدغت الواقع- المتصدع- أصلا- لكى تعيد بناء المرئيات برؤية متأججة بالعضب.
وقد استمد مفرداته الفنية الغريبة- آنذاك- مما ترسب فى `قعر الدنيا` من الكائنات المنسية على هامش التاريخ والجغرافيا.. التى كانت لم تزل تتسلق ببطء شديد كاليرقات على جدران الزمن المفاجئ.. الذى لامكان فيه لأنصاف الأحياء؛ حتى سقطت من حسابات الحاضر والمستقبل معا...
ودن من طين.. وودن من عجين
ولما كانت البيئة هكذا.. والبشر مثل هؤلاء.. لذا فقد كان ضروريا أن يختلف المنطق باختلاف الرسالة، وكان ضروريا- أيضا- أن يبحث الفنان عن حلول مختلفة فى التشكيل، ولهذا.. فإنه لم يعد يكتف بالوقوف طويلا عند حدود التعبير بالرمز أو الإسقاط.. وإنما قرر أن يتجاوز النظريات السائدة فى الجمال والفلسفة.. واختصر حدود المضامين؛ واصلا- فى بعض الأحيان- لدرجة الترجمة الحرفية ( أو التجسيد الحرفى) للمآثر والأمثال الشعبية الساخرة، أو الساخطة.. (التى أصبحت- بعناصر التشكيل- أقوالا حية، أو أمثالا مصورة) عندما وصل إلى ذروة اليأس من أن يفيق هؤولاء التعساء من غيبوبة العجز والخنوع.. الذى أوصلهم إلى حافة الموت، ولم تنفعهم تعاويذهم (المثبتة على حواف الأرائك- التى تشبه التوابيت) فى دفع الأذى، أو جلب الخير، أو الحظ...، والوحيد الذى تمرد على سكونية انتظار الموت، أو الفرج من عند الله.. تقرفص كالكسيح على طاولة صغيرة من الخشب؛ بأربع بكرات؛ يزحف بها فى حيز ضيق لايتجاوز الأمتار القليلة؛ هو كل عالمه، مستندا على كفيه اللذين تفلطحا وتشققا كالأرض البور؛ التى انقطعت عنها موارد الحياة منذ زمن بعيد، وقد فردهما على ركبتيه؛ فى انتظار من يضع فيهما كسرة خبز، أو قطعة من نقود..، وقد تكوم على نفسه لا يسمع بأذنه- الحية- صياح الديك، والدعوة إلى النهوض والعمل..، مما جعل الفنان يلصق له `فردة` ثانية على صدغه؛ ليعلن أنه- والذين تمددوا خلفه- من نوع الكسالى والأغبياء الذين ينطبق عليهم المثل الشعبى الساخر: `ودن من طين.. وودن من عجين`.
أما `الديك` الذى أصابه اليأس- أيضا- من جدوى الصياح.. فقد طوى جناحيه، ووقف حائرا، متفقدا.. يحاول أن يعرف ما إذا كانوا من نوع البشر (الأحياء) أم أنهم مجرد تماثيل من `الطين` أو `العجين`. وأسهم الشكل المخروطى المنتهى بالهلال (الذى يشبه قمم المآذن) فى التأكيد على أن هؤلاء الكسالى من نوعية `المقاطيع` الذين يتكومون كالنفايات على أرصفة المساجد والأضرحة وعتبات `آل البيت`.. فى أنتظار ما سوف يتصدق به المارة أو الزوار.
وهكذا..، فإن المصور لم يلجأ إلى التورية أو الإيحاء، وإنما قصد مباشرة إلى المعنى الصريح. وكأنه- فى نهاية المحاولة- أغلق نافذة الأمل، وختم على قفلها بالطين؛ حتى يوفر على الآخرين عناء التجربة مع الذين لا جدوى من المحاولة معهم.
هذا..، وقد توافقت الرؤية الفنية، وأسلوب معالجة الأشكال مع المحتوى النفسى والفكرى للتكوين؛ الذى اعتمد على المبالغة فى ضخامة أطراف الشحاذين، واختصار الكثير من التفاصيل الجزئية، والاهتمام بالبعد الثالث (التجسيم)؛ الذى ساعد على تأكيد الإحساس بسكونية هذه الأجسام المتيبسة؛ التى لا تقوى على الحركة. وأسهمت غيومية اللمسات اللونية المتداخلة فى إضافة المزيد من العمق إلى جو اللوحة المغلف بحس `ميتافيزيقى` مبهم؛ يجعلنا نشعر أن هذه الكتل `البشرية`- الجافة- توشك أن تتشقق وتنهار.
صفوت قاسم
عبد الهادي الجزار و استشراف المستقبل
- في لوحته الماضي والحاضر والمستقبل ، التي أنتجها في عام 1951 ، من الألوان الزيتية على سطح من مادة السيلوتكس ، وأبعادها 95 سم × 62 سم يصور عبد الهادي الجزار رحمه الله محيطاً كثيفاً من الدلالات والقراءات ينطق به كل عنصر من عناصر اللوحة بسطوع ، هو يضعنا على الحافة الجليلة الفارقة ، أن نكون أو لا نكون ، أن نختار ، ألا نقف في عالم الما بين ، ألا نظل قابعين في برزخ المراوحات البغيض ، أن نستمسك بالوجود ولحظة الوعي و الوميض ، أن نثور وننهض ونحلق نحو النور ، يسقط لعنته على تلك المخلوقات المنسحقة وأولئك البشر المساكين ، فهم معلقون بين السماء والأرض ، مساقون نحو المجهول بخوف من وهم وغيام ، مشدوهون يحملون أولادهم وأشياءهم ، معلقة أبصارهم بجدران السجن المحيط ، سكنت الريح وخيم الظلام وانغلقت العقول ، يربض فوق الصدور هواء ثقيل سممته عطانة الفساد ، يحجب النور دخان كثيف ، عمت الشكوى وساد الوجل وانهمرت الدموع ، موكب يسعى نحو القبور .. كل من بالقلعة واقع تحت وطأة الخوف ، من يخرج فهو محمول إلى التراب ، امرأة تلتصق بالجدران وتخفي وجهها قابعة في رعب ، بلغت القلوب مبلغ الزيغ ، نعق طائر الليل بنذر اليأس ، شقق العطش قلوب الشجر فانذوى و ذبل و استكان للوجوم ، و غيض الماء ، و بات كلُ في سؤال ، استغاثات ونداءات وتشبث وهزيم ، يا من تملك سر الأرض ، يا من تحوي معنى الخلق ، يا محزون ، يا مهموم ، يااااااا مكبل ... أفق ... استيقظ بالله ... أين قوتك وجسدك الخالد فينا عبر السنين ؟ أين ذلك العهد الذي قطعناه ؟ أين سر الوادي الخصيب ؟ أين وهج الصحراء فيك ؟ أين قطرة حابي المقدسة تسري في الأصلاب و تحيي المروءة ؟ ما بالك يا زينة الأرض يا سند الضعفاء وشفاء المكلومين مالك معصوب الرأس مغيب الوعي ؟ ما أصاب عروقك التي سقتها أنوار طيبة ؟ أين طير الحق يرفرف إلى جوار عينيك يزدان به صدغك العفي ؟ أين أبا زيد و قد كنت تحفره فلا يفارق ؟ أين العلامة ؟ أين البشارة ؟ أين بهية ؟
- يربض ذلك الفتى المعصوب الرأس في وجوم ، يرسمه عبد الهادي الجزار وقد تملكت رأسه الظنون وطافت بها المخاوف وكبلها فزع قديم ، اعتنقته ثلاث أحجبة وكبلته وخنقت صوته الصداح ، تربطها سلسلة غليظة كرسها الجزار للناظرين ، يطل من داخل بناية كالقلاع القديمة ، هي سجن ، هي تيه من كتل صماء كئيبة ، صورها الجزار في بناء حلزوني وإيقاع رتيب مقبض ، يدق هادراً في خطوات المساقين نحو المجهول ، في أولئك الخارجين من الناحية الخلفية المظلمة ، في امتداد طابور المقهورين ، واكتمال ضربات الولوج في الظلمات المهيمنة على الكتلة الكبرى للقلعة والفتى المنتظر ، هو ساكن غير قادر على الحركة ونصفه الأسفل لا يظهر لنا ، على الرغم من ضخامة بنيته وصحتها ، يحملق مشدوهاً إلى مفتاح الفرج .. الخروج .. ولا يمد له قبضتيه العفيتين وأصابعه الغليظة المترددة ، تشده صفوف البشر المغيبين المنسحقين تحت وطأة الغيوم ، تلاحقه اللعنات والخرافات والقيود ، يضع له الجزار ذلك المفتاح في طبق قريب ، يهزه وينكأ جرحه ويوقظه ويدفعه دفعاً نحو امتلاك ناصية الخلاص ، يفتح به المغاليق ويفك أغلال الفتى المسجون ، يقدم له الجزار ما يفض به أسر الماضي البغيض ، ما تنفرج به مزاليج الجهل والخوف والعماء ، ما تنجلي به غيامات العقل وتنكشف به أثقال رازحة تقبض الروح وتمرض الجسد ، يظهر فى ما وراء الرابض أناس غير محددي الملامح مساقون نحو شئ ما كالمريدين يلتمسون البركة من الولي ويتعلقون بالشفاء ، يدخلون أفواجاً يبتلعهم الظلام ، فيأتي غيرهم والإيقاعات المشئومة تترى وتصاعد في جنبات الغيب الرهيب ، امرأة وطفل ينتظران ، أناس آخرون يحاولون ويلهثون يتسلقون السور بمشقة ويتهافتون نحو المصير المحتوم ، نحو الانضمام لذلك القطيع الملعون ، يتدافعون من الهاوية مستجيرين بالبنية الصماء ، وجه الفتى فى اللوحة ينضح بالتأمل والنظر إلى البعيد المجهول ، يقدم الجزار استشرافاً لمستقبل يلوح في الأفق ، خلف تلك القلعة البائسة ، يرسم فتاه و قد ولى ظهره للماضي ويمم نحو الحرية نحو الخلاص نحو النور ، المفتاح قريب ، الخروج وشيك ، الإرادة تنبض في الكيان الناهض ، الشروق يلوح في الآفاق ، فقط يمد الفتى العملاق يده ويمتلك مفتاح الغد المنير ، حين أشاح بوجهه عن البناء القديم وكل ما يحويه من بشر و كائنات وظلمات و آلام ، ثم سمى الفنان لوحته بالماضي والحاضر والمستقبل أي أننا نتلقى ثلاثية ما .. عنصران أحدهما حاضر ماثل أمامنا فى صورة الفتى المفتول العضلات ، المغيب الرأس ، والآخر يقع خلفه يحمل علامة الماضي المفارق في جسم السجن والحصار الأليم ، وأما ثالث الأيقونات التي أوجدها الجزار لفظاً وأخفاها تشكيلاً وكثفها في رمز المفتاح وهو جوهر مضمر يهم البطل أن يمد إليه يد النهوض والتحقق والتوثب في تكثيف بليغ لمعنى المستقبل ، وقد تحرر من الجهل والخوف والإرث المعتم . قبض الجزار على لحظة في الزمن ، موقف قدري مصيري ، ومضة من الوعي الحاد والوقوف على نصل الاختيار ، إن الجزار يترك لنا الخيار في تلك اللحظة المكثفة ، إما العودة والاستسلام أو المضي قدماً نحو كسر القيود والوثوب نحو الأفق المفتوح ترك لنا القرار مع ذلك الفتى المسحور ، في ذا المفتاح العلامة .. تتفتح به سبيل النور.
د.هبة الهوارى
إن الدراسة الفنية المنظمة التى تلقاها (الجزار) قبل وأثناء وبعد تخرجه فى الكلية ثم التحاقه بالعمل بها معلما، فضلا عن انتمائه لجماعة - الفن المعاصر - بقيادة مفكرها حسين أمين وعشقة للتراث المصرى القديم وللبيئة الشعبية.. هذه العوامل أفادته كثيرا فى مراحل إبداعه المتنوعة. فهو كان يدرس دائما الأشياء من الطبيعة بإتقان ودقة، يتجلى فيها صبره واخلاصه لعمله.. حتى أن بعض اللوحات كانت تسبقها دراسات تفصيلية بالقلم الرصاص، أو الحبر الصينى عن الطبيعة قد تستغرق وقتا طويلا قبل الإعداد لها. لم يكن (الجزار) عبدا للطبيعة ولم يحاكيها، بل كان متحررا من سيطرتها، ممسكا بدقائقها فى نفسه، كان يعمل بإرادة حرة واعية، ولم يترك شيئا للمصادفة.. كما لم يلجأ إلى التأثيرات المبهمة دون قصد، وإنما كان يتعمق فى تفصيلات عمله إلى الحد الذى أتاح له مرونة كافية فى التعبير، وقدرة على تفسيره الظواهر من خلال رسومه - كان داعيا إلى ضرورة توفر الوحدة والتجانس فى العمل الفنى.
هذا النمط من التفكير الذهنى التأملى يفسر طبيعة اتجاه الفنانين المتزاملين فى (جماعة الفن المعاصر) حامد ندا، والجزار، رغم تناولها الموضوع الشعبي فى الفترة من 1948 - 1959.
وقد شكلت نتاجات (الجزار) فى نهاية الأربعينات أهم ملامح رؤاه الفنية وأميزها وهى المرحلة التى تعرف بـ (ميثولوجيا الحياة الشعبية)، كانت مدخلا نحو عالم جديد … هو فى - حقيقة الأمر - واقع لمجتمع تعس ومريض ومتواكل يعتقد فى القدرية والغيبيات، يرتمى الإنسان فيه بين أحضان السحر والشعوذة والخرافة.. يتخذ من التعاويذ والاحجبة مبررا للدفاع عن النفس ضد أى مكروه، ومن قراءة الغيب وسيلة لكشف المجهول، من واقع هذا العالم استلهم الفنان صوره وعناصره ورموزه وشكل منه مادته الفنية فى قالب كوميدرامى مأساوي أحيانا ولوحات مثل (فرح زليخة 1948) و (محاسيب السيدة 1953) و (شواف الطالع 1953) و (النذر 1958) و (الليل والنهار 1958) ولوحات أخرى كثيرة ذات صبغة اجتماعية يوضح منها الفنان موقفه بلهجة فنية شديدة الاستنكار عالية النبرة.
(الواقع أن الجزار لم يكن أول من تناول المواضيع الشعبية فقد سبقه غليها كل من (ناجى) و (محمود سعيد) و (راغب عياد) إلا أنه يختلف عنهم فى الصياغة شكلا ومضمونا استنادا إلى حساسية رد الفعل الذى عنده تجاه الواقع الإجتماعى ووجهه نظر سيكولوجية، مما كان يتطلب من الفنان فهم الرموز التى تعكس العلاقات والقوى الخفية التى تحكم المجتمع المصرى، واستخدام هذه الرموز نفسها فى كشف تلك العلاقات والقوى والهزء بها فى نبرة تشكيلية خشنة عنيفة تخلو من المحسنات البديعية، تصدم الشعور البرجوازى المرهف وتحاول إيقاظ وعى الناس وقيادته نحو امتلاك مصيرهم(1).
وهذا ما فعله حامد ندا والجزار على وجه الخصوص ابتداء من 1947 حتى 1959 حيث تفرقت بهما السبل بعد ذلك، حيث اختار الجزار فى مرحلة أخرى فى سبيل الفن الذى يعبر عن منجزات الثورة مثل تأميم قناة السويس، والميثاق، والسد العالى، والسلام، باحثا عن شكل ناجح للتواصل بين الفنان والجماهير، ورغم أن هذه المرحلة مختلفة عن طبيعة المرحلة السابقة فإن الحكم عليها من حيث القيمة يصبح ضربا من (التهويل) لأننا أمام فنان ملتزم بقضايا مجتمعه يعبرعن وجهيه الشعبي والإيجابي بحرية تامة وبأسلوب خاص. وهو حين يعالج موضوعات مرحلته لم يعالجها بمفهوم دعائي أو تسجيلي، بل بمفهوم درامى أسطوري - إن صح التعبير - يسمح للرمز والسحر بمكان بارز(2)..
انظر لوحتي (السد العالى 1964) و (السلام 1965).
الرسم عند الجزار:
كان الجزار يبدأ رسومه من أرضية واقعية، فكل عناصر لوحاته موجودة فى البيئة المحيطة به ربما بكل صورها، ثم يحيل هذه العناصر من مشخصات إنسانية وتيمات شعبية عن طريق تحويرها وتجميعها وصياغتها باستخدام الخط واللون المخفف إلى واقع جديد ذى سحر خاص هو الواقع الفنى. وتشهد على ذلك رسومه التى أنجزها خلال عمره الفنى مراحله الفنية المختلفة وخاصة مرحلتي (ميثولوجيا الحياة الشعبية والإنسان والآلة)، أنظر إلى اللوحات المرسومة (تحضير الأرواح 1953).. (عالم الأرواح 1953).. (وجسم هابط من السماء) و (الإنسان والميكانيكا 1964) و... هذه الرسوم تعد على درجة عالية من المهارة ليس فى طريقة أدائها واتقانها وحسب، وإنما لجاذبية هذا الحشد الرائع من العناصر والكتل والخطوط التى يصعب حصرها لتداخلها وامتزاجها مكونة تشكيلا أسطوريا عملاقا.. وهو الأمر الذى يجعل بعض الرسوم (التخيلية) تعادل فى قيمتها أى عمل تصويرى، وإن كانت المقارنة غير وارده.
لقد أمضى الجزار من وقته الكثير فى إعداد الرسوم التى كان يوليها أهمية خاصة لا بوصفها تحضيرا تقليديا للوحاته، وإنما باعتبارها قيمة فى حد ذاتها، لأنه من خلالها وعن طريقها يمكن تنمية القدرات التخيلية وتنظيم الطاقات الإبداعية، وتوضح الرسوم التى أشرنا إليها هذا المفهوم حيث استنفدت غرضها باكتمال نضجها.وتأكيدا على ذلك، إذا ما طابقنا بين الرسوم التى سجلها الفنان أثناء زيارته للسد العالى عام 1963، ودراساته التخيلية الدقيقة التى فجرتها لديه رؤية الآلات العملاقة والماكينات الضخمة، وهيمنة المكان وبين لوحته الشهيرة المسماة (السد العالى 1964) سوف نجد تشابها كبيرا ليس فى التكوين، ولكن فى المفردات والعناصر الواقعية التى استوحاها من طبيعة المكان والمشروع الضخم و أفادته منها فى إنجاز تلك اللوحة التى تعبر عن النهضة الصناعية وأفادته منها فى هيئة وجه لعملاق يتطلع فى شموخ، مرتديا خوذة رجل فضاء، وقد تشكل عنقه وصدره من مئات التفاصيل الدقيقة للآلات فى جو معقد التركيب يبدو كما لو كان غابة صناعية.
د. رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر
قراءة فى لوحة (سيرك الجزار) .. والنُّصُب الخرافى للدنيا
خلال النصف الثانى من خمسينيات القرن العشرين.. كان `الجزار` قد وصل إلى نهاية مشوار البحث المتواصل فى قاع المجتمع الشعبى، عندما أحس أن دوره الاجتماعى- كمصلح- قد انتهى.. بعد أن تبنّت شعارات الثورة (1952) وجهات نظر المفكرين والمثقفين والفنانين الثوريين.. فتحرّر الفنان من مسئوليته- النفسية- عن إيقاظ الوعى، وكان لابد أن يبحث عن روافد أخرى لإلهام مرحلة فنية جديدة، صاعدا فى رحلة البحث من قاع المجتمع الشعبى إلى قمة التأمّل الفلسفى للمتناقضات.. فى لوحات رمزية اختلط فيها الواقع بالخيال، والمنطق باللامعقول.. مُغلّفة بحس ميتافيزيقى تشاؤمى، رغم ما انطوت عليه من بهرجة لونية وحركة (مثل ما نرى فى لوحة `السيرك`- 1956) التى استلهم فيها تشبيه الحياة بصراعاتها وتناقضاتها بالسيرك. أما الموت الذى ظل هاجسه ملازما له على مدار عمره القصير (بسبب ما كان يعانى من علّة فى قلبه تهدد حياته) فقد جعله مدخلا للمشهد، متمثّلا فى ذلك القط الأسود الرابض متربّصا بجوار شجرة جرداء نبتت فى صخرة طوطمية (بما عليها من رسوم لتعاويذ وتمائم)، فى مواجهة تابوت حجرى انتصب على قاعدة سوداء، بجوار رجلين.. وقف أحدهما يقدم عرضا خطرا، ممسكا أفعى خضراء داكنة (كمن يقبض على الموت راجيا العيش- او الحياة) وقد نقش على صدره وشما لأسد مستوحى من التراث الشعبى، دلالة على قوته الهرقلية.. التى ربما تنتهى بِسُمّ الحية المتلونة، ووشما آخر لنخلة مبسطة تشير إلى ما يريد- أو يحتاج- من زاد، يحلم أن يستمد منه قوة الأسد، علّه يقدر على حسم الصراع المرير مع الموت (الثعبان). ووقف خلف ظهره رجل آخر عارٍ، ينظر ذاهلا إلى رمز الموت (القط الأسود) [وربما يكون الفنان قصد أن يشير إلى نفسه؛ حيث وضع أمامه حاملا للرسم ذو قوائم سوداء عليه لوحة ورقية بها رسم تجريدى مبهم، وعلى الأرض رسم خطى بالأسود لشكل إنسانى مُبالغ فى تحريف ملامح وجهه، يبدو كأنه خرج من حطام أشكال لوحة الجرنيكا]. أما المستوى الثانى- فى العمق- فقد اشتمل على رسوم وصور لأشكال تعكس علاقاتها أبعادا ودلالاتا رمزية، حيث انتصب قرب اليسار بناء مركّب من ثلاث طوابق لجذوع إنسانية تنتهى برأس `جِنّيّة`، شعرها الأحمر الطويل تدلّى حتى وصل إلى جذعها السفلى، ربما أراد أن يرمز بها للدنيا بتقلباتها (التى ربما تشبه- من وجهة نظره- طبيعة المرأة)، وقد أمسكت بكفّى ذراعى جذعها السفلى سيفا- للترهيب، وأمسكت بكفىّى ذراعى جذعها الأوسط فونوغرافا عتيقا- للترغيب (أو الغواية)- أما ذراعا جذعها العلوى بلونهما الأسود.. فيشيران- رمزيا- إلى قبضتى ملاك الموت. وتحت قدمى ذلك المركّب البشرى العجيب بَرَك رجل عار البدن على أربع كالحيوان، وقد اشرأبّت رقبته الاسطوانية الطويلة، ورفع وجهه الجانبى المحوّر الذى ارتسمت عليه علامات الذعر والاستجداء تحت السيف المحمول على كفّى ذراعى الجذع السفلى للمراة الخرافية، بينما وقف خلف البناء الآدمى صبى يرتدى جلبابا أسودا قصيرا، ممسكا ساقيها؛ ليوحى أن الفنان لا يتوسّم فى المستقبل أية بارقة [وبدت علاقات الأشكال الثلاثة اشبه بلعبة أكروباتية فى سيرك الحياة، الرجل اللاهث اسفل جدار الزمن، ينتظره الموت المحقق.. إن لم يكن بالسيف ككان بغيره (ذراعى ملاك الموت- الأسودين)، أما الصبى- رمز المستقبل- بجلبابه الأسود.. فقد أوشك على اليأس وهو يجاهد لكى يحول دون انهيار جدار الزمن المفكك الهش]. وفى مواجهة لعبة الحياة- والموت- قفز الأكروباتى (ببزّته القاتمة، وملامح وجهه التى تشبه `سلفادور دالى`) من فوق الدراجة السوداء التى وقفت ساكنة فى- نهاية السباق- ليركب رسما خطيا لحيوان أقرن بوجه آدمى، مستسلما للوهم، شاخصا ببصره إلى المجهول. ومثلما بدأ المشهد بالموت.. انتهت به رقعة اللوحة، حيث يرقد طابور من التعساء بأردية بيضاء كالأكفان، وكأنهم فى نهاية فناء سيرك الحياة وقعوا ضحايا لعبة القدر، وقد ارتصّت جثامينهم المتكررة الرتيبة فى مسار نصف دائرى، ليصيروا جزءا من الدورة الأبدية التى لم تكتمل ضحاياها بعد (وربما لن تكتمل- لأنها أبدية). وأطل من فوقهم طابور المتفرجين خلف منصة نصف دائرية- أيضا- بثياب الحداد، يودعون ضحاياهم. وفى أقصى العمق أُغلق المشهد بصف من البنايات كالمقابر، بينما امرأتنان متشحتان بالسواد وقفتا أمام أحداها رافعتين أذرعهما كالنائحات .
بقلم :صفوت قاسم
- ولد عبد الهادى الجزار فى حى القبارى بالاسكندرية فى مارس عام 1925 وعاش فى حى السيدة زينب حيث التقى استاذه الرائد حسين يوسف أمين بمدرسة الحلمية الثانوية ليصبح موجهه وراعيه ومؤسس جماعة الفن المعاصر التى انضم إليها الجزار مع ندا وسمير رافع وأحمد ماهر رائف وإبراهيم مسعوده عام 1946م وتخرج الجزار من مدرسة الفنون الجميلة عام 1950 وعين معيدا بقسم التصوير وفى الفترة من 1958 إلى 1961 قضى سنوات البعثة بإيطاليا حيث تخصص فى الترميم وتكنولوجيا التصوير ثم عاد ليواصل تدريسه بكلية الفنون الجميلة وليتألق كمبدع نادر المثال فى الحركة الفنية المصرية وعلامة على البحث فى الهوية الوطنية فى الفن دون افتعال أو تصنع يحصل على الجوائز والتكريم والاعتراف والمحبه من المسئولين ومن زملائه وتلاميذه لدماثة خلقه ورقة طباعة وعمق نظرته وتواضعه.
- وفى 7 مارس عام 1966 فجع المجتمع الفنى بوفاة الجزار إثر عملية جراحية فاشله وهو فى بداية الاربعينيات من عمره وفى ذروة تألفه الابداعى.
- يقف الفنان عبد الهادى الجزار فى موقع شديد الخصوية والأهمية فى حركة التصوير المصرى الحديث والمعاصر ، فهو صاحب رسالة وإنجاز غير مسبوق تميز بالصدق وبالانعكاس الطبيعى والتلقائى للظروف والملابسات التى عاناها طوال حياته من ناحية، ولاحتكاكه الثقافى بالرائد المربى حسين يوسف أمين الذى أحتضن موهبته وزملائه من أعضاء جماعة الفن المعاصر منذ كان فى المدرسة الثانوية من خلال نادى الفنون بمدرسة الحلمية الثانوية حيث ظهر نبوغ الجزار وأمن برسالته وطريقه وكان لاعتقاله مع أستاذه عام 94 بسبب لوحة وجبة الجياع بمثابة منبه لشعوره بمسئولية قومية فى التعبير عن الطبقات المطحونة الكادحة وأهوال ومساخر حياتهم اليومية وكان الجزار رغم هدوءه ورقته البالغه، مشحون بالعواطف الدرامية والتصورات الأخلاقية ذات الطابع الفلسفى، ومن ثم فقد رسم فى منتصف الخمسينات لوحات ورسوم تضمنت صيغ مكتوبة لأشعار عامية كالاهازيج ، والحكم العامية ذات الدلالات المآسوية.
- فى أعمال عبد الهادى الجزار نزعة سيريالية غير خافية، بالرغم من الإختلاف المذهبى فى توجهة نحو التعبير عن المجتمع وليس عن الذات الباطنة، فى أعماله يميل إلى أعلاء قيمة الغيبيات الهذيانية للسلوك الغريزى لأبناء الطبقة الشعبية الذين تحركهم القدريات الميتافيزيقية كبديل للعمل وللمعرفة، وهيمنة المصير الغامض والخوف الدائم على قدر الإنسان من السحر المشعوذ تارة ومن الكائنات الروبوتية المركبة التى ينصبها الإنسان على أرضه الجرداء فى المراحل الأولى من أعماله أو تلك التى تأتى من السماء ومعها شرور غير منظوره والتى هيمنت على أعماله الأخيرة كما أنه على المستوى التقنى البنائى للصورة قد تأثر بالسيرياليين من حيث لجوئه إلى فكرة تداخل العناصر وتخليقها بعضها من البعض وجمودها وتحجرها تارة ونبضها بالحياة تارة أخرى. وفى فكرة الربط فى لوحاته بين كائنات من أجناس متباينة تتعايش فى عالم مفرغ الهواء، لا حوار ولا تواصل بينهما ، فضلا عن الجمع بين أمكنة وأزمنة متباينة فى نفس رقعة اللوحة الحياة والموت والبعث والتاريخ والحاضر عالم السماوات وعالم البحار والعالم الأرض الملموس والاثيرى. كلها أطباق سيريالية هيمنت على أعماله بصورة مختلفة.
- استثمر الجزار تأثير` المونوتيب` لتحقيق بقع لونية وتأثيرات ملمسية غير متوقعة، ثم ينسج عليها شبكات خطوطه بعد أختيار الوضع الأمثل لموضوع تعبيره الذى تحدده احياناً تداعيات تلك العلاقات التبقيعية والتمويهات اللونية ، حيث يتصيد منها ما يؤكده ليصبح وجهاً أو رأساً أو أطراف أو صخرة هائلة. وقد كان لهذه التجربة دوراً محورياً فى طريقة تحريك خيال الفنان اعتباراً من 1964 ، فإن مجموع التفصيلات الميكانيكية والمعمارية، كتراكيب الماكينات والصناديق المتراكمة والأسوار والمعابر والعناصر العضوية التى تتغلغل بينها كالأمواج أو كالامعاء ، وفقرات عظم الحيتان والفقاعات ، ومساحات الأسلاك والتروس التى تزحف على جبهة وحول أذن البطل الرمزى للسد العالى ، وتتشابك مع الكتل الإنشائية من الزوايا والأذرع، كلها نتائج للتمويهات اللونية التمهيدية، التى تضع الأساس لخياله، فيؤكد بعضها ويضيف إلى بعضها الآخر إضاءة وظلال ومسامير وروابط ، ثم يستخدم خبراته الكلاسيكية فى الرسم ليعمل حيل المنظور الشاسع فى الخلفية الذى يؤكد صرحية الرمز البطولى، ويصور موجات السحب المتسارعة ليوحى بالدراما الديناميكية فى الجو المحيط، ويستخدم الشفافيات فى إظهار القناع الزجاجى الذى يكسى معظم الرأس والرقبة الطويلة (البايونية) Paionic كما فى لوحة إنسان السد هنا وهناك شخوصا تجرجر ظلالها الطويلة، ثم يعمل شبكات الخطوط التى توثق الكتل بعضها بالبعض، وتكثف مناطق التزاحم، الوجه الكبير الذى يتجلى فى قلب اللوجة إلى أقصاها، مع ركام العناصر الميكانيكية والعضوية التى تحدد الأضلاع الثلاثة لإطار اللوحة ، من أسفل ليؤطر الفراغ الشاسع على الجانبين فى النصف الأعلى، لتصبح اللوحة وكأنها تفصيل مكبر بذكاء وحنكة من عوالم` هيرونيموس بوش`.
- إن التمكن والحنكة عند عبد الهادى الجزار فى لغة التصوير وتقنياته التى كان يمارسها يوميا ويدرسها لطلابه ، مع تطلعه الثقافى ونزوعه التأملى مكنته من اقتحام عوالم الإبداع وتوظيف التحضير العشوائى كمثير تحضيرى لاستدعاء الأفكار والعلاقات البنائية وعزل الملامح والتراكيب ، وهنا يتضح أن الفنان قد استعار من طريقة العمل التأليفية التى اشرنا إليها سلفا فى الرسم حتى وأن لم يبداً بالتبقيعية الممهدة للعمل فقد أصبحت عيناً عقله تتبع بقعأ وهمية أو متخيلة ويغزل عليها ركام العناصر المتزاحمة.
- وفى الأعمال التى ترجع إلى بداية الستينات ظهرت ملامح النزعة الكولاجية فى طبيعة تكوينات لوحاته الصرحية- الميثاق 62 ثم ظهرت فى لوحة السلام 1965 وفى إنسان السد ومن الفضاء 1964 ففى لوحة الميثاق المعروضة بالمتحف على سبيل المثال تقف مصر الخضراء تحمل الميثاق وعلى رأسها شعار الدولة، وكأنها كتلة من المخمل الأسود رصعت بأكف ووجه لأزورديين اللون ، والشعار نحاسى لماع لون بالميناء، وأمامها ينحنى الفلاح يضع فى كف لوزة قطن وفى الكف الآخر حفنه قمح، وعلى كتفه فأس معلق، يظهر الفلاح وكأنه قد قطع فى الخشب ولون وثبت أمام رمز مصر، وفى مواجهتة عامل يحمل مفتاح ربط الصواميل فى زيه الأزرق الرمزى، وهو منفصل ومضاف كأنه ملصق على اللوحة، وفوقه محرك سيارة محدد تماما ومنفصل عن جو اللوحة بتفاصيله الخلو من الألوان، وتحديده الأبيض الذى يؤكد علاقته الكولاجية.
- وخلف هذه الكتلة الصرحية الرمزية المركبة والملصقة مشهد ميناء الإسكندرية، وخطوط الانابيب والسفن، وتمثال جندى رخامى على قاعدة تذكارية ، ورجلى دين مسيحى وإسلامى يحتضن كل منهم الآخر، وأمام الفلاح رسم أبو قردان يقف على صك ملكية كتب بعناية، وعلى عباءة الفلاح كتب الفنان بعناية فقرات من آية الكرسى مطرزة بالقصب على شريط زخرفى، ومن فوق رأس الرمز الدال على مصر ، تتفرع شجرة جافة كثيفة الأفرع يؤكد النزعة الكولاجية الإيهامية - بدون تلصيق فعلى- وقد استخدم الفنان مناظير مختلفة فى رسم العناصر ووضعيتها على اللوحة ليؤكد تعدد زوايا الرؤية.
- أما عندما اتجه الجزار إلى تصوير لوحاته الاخيرة عن الميكنة والفضاء، فقد صور أجسام هابطة من السماء 1964 فى قضاء شاسع بلا هوية أو ملامح جغرافية فقد اختفت موانىء الاسكندرية التى لعبت دور الخلفية فى مشاهدة السابقة، كما اختفت الجدران المطلسمة بالرموز السحرية، وأصبح الفراغ كونى تعربد فيه آلات وأطباق وجبارة تطيح بالبشرية الضائعة، وأبراج عملاقة تتداعى أمام تلك القوى القاهرة الآتية من السماء، استغرق الجزار فى تلك المجموعة من اللوحات فى التعبير عن المجهول الميكانيكى الجديد الذى احتلت شروره موقع الجهالة الميتافيزيقية فى لوحات الحياة الشعبية.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
رحلة عمر قصير
- كان أحد عناصر المستقبل الفنى لهذا البلد يتمثل فيه تطلعه إلى التعبير عن آفاقه ، وسعيه الدائب إلى الكشف عن صيغ جديدة لتجاربه
- وعندما منح جائزة الدولة التشجيعية للفنون هذا العام عن لوحته ` السد العالى .. والإنسان الجديد ` رأى فيه النقاد إشارة إلى رؤية جديدة تعمق أبعاد هذا الفنان الذى تحول بأدواته للتعبير عن العصر الجديد ..
وما كان أحد يدرك وهو يتقلد الجائزة والوسام ، أنه مع المنبة على موعد قريب عبد الهادى الجزار فنان من جيل ` الثورة الثانية ` فى حياتنا الفنية ، تلك الثورة التى انطلقت شرارتها بعد ثورة جيل الرواد فى العشرينات ، ويكاد بدؤها يتحدد مع ميلاد جماعة الفن والحرية وجماعة الفنانين الشرقيين الجدد ، ثار الأولون على ما فعلته النازية بالفن فكونوا جماعتهم قبيل الحرب للدفاع عن حرية الثقافة ووجدوا فى النزهة السيريالية منطلقاً تخيالاتهم ، وشاركهم من فنانى الجيل الأول محمود سعيد ، لقد وجدوا عند ` ذات الجدائل ` ذلك الأنوثة الوحشية السافرة التى طالعوا ملامح منها فى لوحات بول ديلفو فجعلوا منها مركز اشعاع وسط أعمالهم .
- أما الفنانون الشرقيون الجدد فقد أرادو أن يبعدوا بالفن المصرى عن مؤتمرات الفنون الغربية فمنهم من اتجه إلى الأساطير الشعبية ومنهم من عمد إلى ملامح الفن الفرعونى وفيهم من ذهب نحو الفن الفارسى الاسلامى .
- تجارب لم تكتمل ولكنها من نتاج هذا القلق الخلاق الذى حرك وجدان المثقفين نحو البحث عن مدلول وصياغة جديدة للفن والأدب كان التشكيليون خلالها أسرع خطأ من الأدباء .
- فى هذا الجو المشحون بشراءات أفكار لا عداد لها ظهر اسم عبد الهادى الجزار فى حياتنا الفنية مع مجموعة من الشباب قدم معظمهم من أحياء القاهرة الشعبية وخرجوا من الطبقة الوسطى الجديدة ليتلقوا التعليم بالمدارس تجمعوا على غير اتفاق حول استاذ عاد بعد اقامته فى أوروبا وفى البرازيل مأخوذ بأحداث ثورة فى فن التصوير وتحطيم الاكاديمية التعليمية من أجل حرية التعبير ، ونفاذ الرؤية إلى باطن الحياة الشعبية .
- جمع الأستاذ حسين يوسف أمين مريديه من تلامذة المدارس الثانوية التى كان يسلم بها فن الرسم ، ووجه مواهبهم إلى الفن وفتح آفاقهم ، ولعهدهم فى كلية الفنون الجميلة .
- كان من هؤلاء مجموعة من خير عناصر الجيل الثالث من فنانى مصر المعاصرة .. حامد ندا ، سمير رافع ، كمال يوسف ، إبراهيم مسعودة ، محمود خليل ، عبد الهادى الجزار .
- جاء عبد الهادى الجزار محملا بالرؤى التى ملأت نفسه من سنى نشأته بحى القبارى فى الاسكندرية وبحى السيدة زينب بالقاهرة ومعه أحلام طفولة غامضة ورواسب من جو السحر وأخلاط من الأحجبة والتعاويذ . من هذا التفاعل ولدت الصورة الفنية عند عبد الهادى الجزار وظهرت رؤياه منذ أخذ يعرض أعماله الأولى فى القاهرة ، وعنما عرض مع مجموعة زملائه تلامذة حسين أمين فى معارض جماعتهم ` الفن المعاصر ` .
- وفى باريس كان اللقاء الخارجى الأول مع هذا الاتجاه الجارف فى فننا المعاصر حين عرضت أعمال الجماعة فى معرض ` مصر - فرنسا ` سنة 1946 وصوبت انظار النقاد إلى ما وراء أعمالهم من معنى عميق وبدأ الناقد البلجيكى الكونت دار سكوت مراجعة قصة الفنون الحديثة فى مصر والتركيز على أعمال هذه الطليعة النووية الجديدة.
- كانت أعمال عبد الهادى الجزار تدور حول المحور الشعبى وتنقب فى رواسب النفس البشرية وتقدم تغيرات مبهمة مثقلة بالرموز لما وراء السحر والشعوذة والبطولات الشعبية من دلالات تحولت على يديه إلى لغة التشكيل.
- قد تقبض هذه اللوحات النفس بما تحمله من إبهام السحر وغموضه ، وما تضح به الألوان من قتامة داخلية تقترب من الفواجع ، غير أنها تأخذنا بما فيها من ذكاء النفاذ إلى الباطن وبقدرتها رغم مضامينها الأدبية وعنايتها بالسرد الداخلى على أن تجمع كل الأشكال والرموز فى صبغ تشكيلية تدين بألوانها إلى مصادرها الشعبية ويفديها روح الاقدام الجرئ ورغبة الخروج على المألوف والاستحواذ على الرؤى الجامحة .
- بهذا عاشت لوحات الجزار من ` المجنون الاخضر ` و ` أدهم ` و ` زليخة ` و ` القدر ` و ` الماضى والحاضر والمستقبل ` وأثارت ضجة بما أحدثته من هزة فى الرؤى .
- وسافر عبد الهادى الجزار لاستكمال دراسة الفنون الجميلة بإيطاليا ثم بفرنسا وهجر لفترة عالم الرموز الشعبية ليتكلم بلغة التجريد وبعمق تجارب الاداء الفنى فى اختيار اللون ومعالجة المسطحات وتوازن التكوين .
- وبتوالى تمثيله لمصر وف معارض دولية وخارجية.
ويعود الجزار من رحلته فى متاهات عالم السحر والشعوذة والتنقيب فى باطن الحياة الشعبية ، وبهجر أساليب التجريد لأنه يجد فى الفن المشخص لغته التى يستطيع العبير بها عن روح مصر ... ولكنه دائما لا يغادر الرمز الذى يؤكد عمق رؤاه الفنية .. وهو يجنح إلى الرمز فى لوحته ` الميثاق ` التى أعدها بمناسبة انقضاء عشر سنوات على الثورة .. وهو لا يستطيع أن يدعه فى لوحاته التى استوحاها من عصر الصناعة وحولت شعاراته من الوشم والأحجبة والسحالف الى التروس والاسلاك والآلآت المتحركة .. وعلى الرغم من أن الجزار يحاول أن يقول فى لوحاته كل شئ ولا يقنع بالموجز الا أن لمساته الرمزية تحيل هذا السرد التشكيلى الى اشرات تحدد مرامى العمل الفنى وابعاده ، وطريقة تأليفه لاسلوبه واختياره لعناصره من مختلف الصيغ التشكيلية التى استوعبتها ثقافته .. كل ذلك يضفى على فنه قيمة ويعين على تأكيد جوانبه التعبيرية .
- ويحرص الجزار على أن يكون صادقا لثقافة عصر معبرا عن آفاقه فينطلق بتأملاته وتطلعه الى عالم الفضاء والصواريخ يستخلص منه تعبيراته التشكيلية فى صيغ راسخة يغلفها الرمل بغلالة من الشعر الرقيق . ويسعى الفنان الى استكمال ابعاد تجربته ولكن الحياة لا تتمهل به وتختتم قصته قبل أن تكتمل مدارها .
بين مولد عبد الهادى الجزار سنة 1926 ووفاته سنة 1966 رحلة عمر قصير ولكنه استطاع خلاله أن يعيش فى لوحاته - الماضى والحاضر والمستقبل .
بقلم : بدر الدين أبو غازى
مجلة الهلال : يناير 1966
الرؤيا الخاصة والتعبير عن الجماعة
- تجد فى حياة الشعوب فترات تشتد فيها الحاجة إلى تذكر الإبداع الفنى المتميز لأبنائها الراحلين، كما يظل هذا الإبداع بتجدد الأجيال قابلا لإعادة اكتشافه وإدراك زوايا جديدة منه، وإلقاء الضوء على ما خفى من جوانبه، وتلك عملية ضرورية لسلامة المسيرة حضارية، وإتاحة الفرصة للتواصل اللازم بين الأجيال المتعاقبة من أجل استمرارية ونمو الكيان الفني والثقافي للبلاد.
- ومن بين فناني مصر الراحلين الذين يجدر بنا إعادة تأمل أعمالهم - وخاصة في هذه الأيام - يلمع أسم عبد الهادي الجزار براقاً متألقاً، ومشيراً إلي نوعية من الرؤية الفنية النابعة من صميم البيئة الشعبية المصرية، بل إن مجرد ذكر اسم الجزار - عند المتابعين للحركة الفنية المصرية الحديثة - فإنه يستدعي إلي الذاكرة مئات الصور والخيالات والرموز التى استطاعت أن تجسد روح الشعب المصري وتقاليده وأفكاره، كما أنه يستدعي إلي الذهن ذلك الصدق الفني الذي كان يشع من لوحاته ورسومه في فينتقل مباشرة إلي قلب المشاهد، مقدماً الدليل على أن بلاغة الفن وقوة تأثيره لا تكمن فقط في قوالبه الجمالية التقليدية، وإنما في شحنته التعبيرية وما تحدثه من هزة للرائي.
- بين مارس عام 1925 ومارس عام 1966 عاش الجزار حياة كانت - على قصرها - عامرة بالفكر والتأمل والإنتاج الفني الغزير، وكان نموذجاً يحتذى في دماثة الخلق واتساع الأفق، وحين اختطفه الموت - لعلة في قلبه لازمته منذ شبابه المبكر - كان في قمة نشاطه وعطائه الفني، ولم يكد يهنأ على تكريم الدولة لفنه بمنحه جائزتها التشجيعية في فن التصوير عام 1965. وكان لوفاته المفاجئة وقعاً هائلاً في الوسط الفني التشكيلي، فقد كانت خسارة لواحد من أهم فرسان التصوير المصري الحديث وركناً من أقوى أركانه ، ولقد عبر عن مدي هذه الخسارة الناقد والفنان حسين بيكار حين كتب عن الجزار بعد وفاته (كنت أعتبره من أنضج الفنانين المحدثين، وأحدي دعائم الحركة الفنية المعاصرة، ومن أعمق من أمسك الريشة من المصورين فناً وفكراً وإنتاجاً).
- بدأ عبد الهادي الجزار رحلته مع الفن منذ أن كان تلميذاً بمدرسة الحلمية الثانوية بالقاهرة، حيث التقى فيها بالمربي والمفكر الكبير حسين يوسف أمين، الذي كان يتولي تدريس الرسم مركزاً اهتمامه على اكتشاف ذوي المواهب الفنية المبشرة، ولقد أحدث ذلك اللقاء تحولاً أساسياً في حياة الجزار، فقد أصبح الفن هو شاغله ومبتغاه. وحين توسم فيه أستاذه الفطرة الفنية السليمة، وبدأ في الاهتمام به وتشجيعه منذ عام 1938، وعندما يبدأ في تنفيذ تجربته الرائدة والفريدة في تاريخ الحركة الفنية المصرية الحديثة بتكوين جماعة الفن المعاصر، فإنه يختار الجزار ضمن نخبة من تلاميذه الموهوبين: حامدا ندا - ماهر رائف - سمير رافع - كمال يوسف - إبراهيم مسعود - سالم الحبشي - محمود خليل، بالإضافة إلى حسين أمين نفسه الذي غلب عليه طابع الريادة والتوجيه، وتوفير المناخ الثقافي السليم لتنمية قدرات أعضاء الجماعة الفنية والفكرية، وكانت ثقافته العالية، وتفتحه الذهني عاملاً أساسياً في إنضاج شخصياتهم الفنية في عمر مبكر، مما هيأ لهم الفرصة - وبخاصة الجزار وندا - لأن يؤدوا دوراً هاماً ومؤثراً في تطور الحركة الفنية في مصر وإثرائها منذ الأربعينيات وحتي اليوم.
- ومن المفيد هنا أن نوضح أفكار جماعة الفن المعاصر، والمبادئ التي اعتمدت عليها، وكانت بالتالي من أهم المكونات والمؤثرات في أسلوب الجزار وفكره الفني. لقد آمنت الجماعة التي اتخذت شعاراً لها (الفن والمجتمع) بأن الفن الذي كان سائداً حين إنشائها هو فن ناعم ومهادن، وغرضه البهجة والزينة، إذا كان يتلاءم مع عواطف ومشاعر الطبقة المترفة، فكان لهذا فناً ليناً سهلاً لا يعبر عن حقيقة الواقع والتراث، وبعيداً عن الجماهير لا يتفاعل مع أحاسيسها، وهو في النهاية فن خال من هدف بناء، أو مثالية رفيعة تتفق مع جوهر الحياة وتطورها أو تعبر عن رأي. كما تيقنت الجماعة أن هذا الفن قد فقد أهم مقوماته - الحرية والخلق والإبداع - فعجز عن التعبير بعمق عن طابع الشخصية المصرية الصميمة وما تطويه داخلها من أصالة.
- وقد أصدرت جماعة الفن المعاصر بيانين، صدر الأول منهما - وأكثرهما أهمية - بمناسبة إقامة أول معرض لفناني الجماعة عام 1946، وجاء موضحاً للدعامة التي بنيت عليها مثاليتها، وهي الصلة الوثيقة بين الفكر والفن، واعتبار كل من التصوير والنحت والموسيقى كالأدب وسيلة لنقل فلسفة ما، وأن الدافع وراء أعمالهم الفنية هو خلق قيم جديدة تحل محل النسيج الفكرى الكامن وراء فهم الناس للطبيعة وعلاقاتهم فيها على أساس غير صحيح . ولقد أكد البيان على أن الفنان بعيد عن كل القمم التي يأمل الوصول إليها ما لم يطو في نفسه الفيلسوف، وبأن الفكر هو الذي يغذي الإحساس الفني ليطبعه بطابع العصر، فالإحساس المجرد يتصف بالثبات في كل العصور المتتابعة، أما المستوى الفكرى فهو دائماً المتغير، ولذا نجد تغييراً في فنون تلك العصور، فمن سحر الغموض في الفن المصري أو البدائي، إلى روحانية الفن المصرى أو الصيني، إلى مادية الفكر الإغريقي، ثم اختلاط الفلسفة المسيحية والنزعة المادية في الفن الكلاسيكي، وأخيراً غزو الطبيعة وسيطرة العلم، والوعي بالأوضاع الاجتماعية وبمدى ارتباط الفن بالحياة. وتنحاز الجماعة في بيانها إلى الاتجاه السيريالي الذي يأبى في تكامله إلا أن يقف جنباً إلى جنب مع الفكر الحديث، فهو يهدف في نظرهم إلى عكس ما ترمي إليه الفنون السطحية التى تتجاهل سر الحياة وسر علاقاتنا فيها.
-وفي عام 1948 أقامت جماعة الفن المعاصر معرضها الجماعي وأصدرت بيانها الثاني الذي لم يأت بجديد على ما تضمنه البيان الأول، وإنما زاد أفكاره شرحاً وتحليلاً، وأعاد التأكيد على أن الفنان هو المكتشف أو القائد الذي يفتح أمام الإنسان إدراكه ويرهف حساسيته ويعمق نظرته كخطوة للسيطرة. كما عاود البيان كرة الهجوم على الاتجاهات المسايرة للفنون التقليدية التي لا يمكنها أن تواجه روح العصر بتعقيداته ونزعاته العلمية المركبة، وخاصة الفن الكلاسيكي الذي لا تعتبر النظرة العامية غيره فناً، بنزعته نحو تجميل الطبيعة وستر آلام الإنسان وتغطيتها بالمظاهر الزائفة. ودعا البيان جمهور المتذوقين - من أجل فهم سليم للإنتاج الفني المعاصر إلى الإلمام بأنواع الثقافات المختلفة التى تخرج منها المثاليات المتعددة للمدارس المعاصرة التى تتجه وجهة أدبية وفلسفية، فإن هذا الفهم العام هو الذي يؤدى إلي قبول واستيعاب إنتاج كل فنان في مجموعة، وعدم الإحساس بإبهام المعروضات أو غموضها.
- ونحن إذا ألقينا نظرة شاملة على إنتاج الجزار طيلة عمره الفني، سنجد أنه قد التزم بتلك الحدود التى رسمها فكر الجماعة في بيانها الأول، فهناك المضمون الفلسفي والإيحاء السيريالي، ونبذ المفاهيم الفنية التقليدية، والوعي بالأوضاع الاجتماعية، وارتباط الفن بالحياة ، ثم غزو الطبيعة وعصر العلم. كل هذه كانت محاور تجربة الجزار الفنية، مضافاً إليها ذلك الإيحاء القوي بالمجهول، والغموض الذي يسيطر علي الأشكال والعناصر، وذلك العبق السحري الذي ظل يبثه في أعماله مهما اختلفت مواضيعها، والذي يوقظ في النفس الإنسانية أعمق الأحاسيس والمشاعر.
- وهكذا بدأ الجزار تجربته عام 1938 - ومازال طالباً بالمدرسة الثانوية - بأعمال تدور حول فكرة نشأة الحياة، والإنسان وعلاقته بالكون، وعالم البحر والقواقع - وربما كان ذلك صدي لقضائه سنوات الطفولة بمدينة الإسكندرية - وقد أطلق حسين أمين على هذه الأعمال (المرحلة التحضيرية) وضمت لوحات مثل: الإنسان والقواقع 1942، ورجل في قوقعة 1942 والمرأة في القوقعة 1942 وآدم وحواء 1942، وكانت تشى بشحنة تعبيرية متفجرة، وتنم عن شخصية فنية ذات مذاق خاص، وإن جاءت الصياغة والتحويرات التشكيلية للعناصر بسيطة الأداء لم يتم صقلها بعد.
- وفي نهاية الأربعينات بدأ الجزار مرحلة جديدة، استمد صورها وعناصرها من البيئة الشعبية المصرية الصميمة، وتجدر الإشارة إلى أنه عاش صباه في حي السيدة زينب، حيث تتجمع المواكب في مولدها حاملة البيارق والأعلام، أو تتمايل في حلقات الذكر في نشوة مع دقات الدفوف، أو تهيم في عالم سحري، وحيث عالم السيرك والعجائب والخوارق، والنماذج البشرية المستكينة لقدرها، المحتمية بالأحجبة والطلاسم والرموز. من كل هذه العناصر شكل الجزار مادته الفنية وصاغ منها أعمالاً ذات قيمة فنية رفيعة، وكانت قمة إنتاجه الفني وذروة عطائه، والإضافة الحقيقية التي قدمها للتصوير المصري الحديث، وتمثلت في لوحات مثل: الطعام 1948، وفرح زليخا 1948، وعربة السيرك 1951، والمجنون الأخضر 1951، والماضي والحاضر والمستقبل 1951، ودنيا المحبة 1952، وشواف الطالع 1953، ورسم تحضير الأرواح 1953.
- ويبدو أن أعمال الجزار كانت مفاجئة لجمهور المتذوقين بشدة تأثيرها وعمق التعبير فيها، ولعل أصدق مثال على تلك المفاجأة ما كتبه أحد النقاد بجريدة النداء عام 1951 يصف أعمال الجزار بأنها (لوحات تعبر في صدق عن أحاسيس الشعب، ومتاعب الشعب، ولوعة الشعب، وظل المجتمع يتفرج على لوحات الجزار وهو مذهول، كان المعرض أشبه بفيلم سينمائي يعرض صوراً معبرة لا أثر للكلفة فيها، ولا أثر للادعاء والتقليد، ولأول مرة يصفق المجتمع لفنان مصري يفهم الفن على أنه من وحي الشعب).
- والواقع أن الجزار لم يكن أول من دارت أعماله حول مواضيع شعبية، فقد سبقه إلى هذا الميدان من جيل الرواد كل من محمود سعيد ومحمد ناجي في بعض أعمالهما، وراغب عياد في معظم إنتاجه، كما لم يكن الموضوع الشعبي في حد ذاته هو منبع القيمة الفنية في أعمال الجزار، وإنما كان تميزه في طريقة تناوله لذلك الموضوع وفي أدائه الفني له. فقد كان ذا خيال فني خصب، وثقافة فنية عالية أتاحتها مناقشات وندوات جماعة الفن المعاصر، بالإضافة إلى مهارة في طرق الأداء اكتسبها من خلال دراسته الفنية الأكاديمية المنظمة بالفنون الجميلة في مصر وإيطاليا. كل هذه العوامل أدت إلى تمكن الجزار، وامتلاكه ناصية التحوير الجمالي للعناصر والأشخاص، ومزجه في انسجام فني متكامل بين مفردات الواقع وشطحات الخيال.
-ونعتقد أن الصواب قد جانب النقاد الذين نظروا إلى الجزار على أنه فنان سيريالي، تلك الصفة التى كانت تطلق على أى فنان يحمل عمله قدراً من التشويه أو تحريف الشكل الطبيعي، والجزار نفسه ينفي هذا الوصف عنه، إذ كان يعتقد بأنه يختلف عن فناني السيريالية اختلافاً واضحاً، فبينما هم يعبرون باللاشعور، ويعالجون موضوعاتهم بما يقع خلف العقل الواعي، فأنه يتقدم إلى الأمام، ويدرس ظواهر الطبيعة نفسها لتكون رموزاً حسية أقرب إلى الأذهان. وذلك لا ينفى بالطبع أن أعمال الجزار قد حملت في ثناياها إيحاءات سيريالية بل ورمزية وتعبيرية أيضا، لكن فنه يظل بمنأى عن قولبته داخل إحدى المدارس أو حصره في إطار تعاليمها. وهو في رأينا اقرب إلى الإنتماء لاتجاه مصري أرسى قواعده جيل الرواد، وبخاصة محمود سعيد، ونستطيع أن نلتقط بعض ملامحه - رغم أنه ما زال في طور التشكل والتكوين - وأهم هذه الملامح هو التعبير عن المواضيع المتصلة بالبيئة المحلية في صياغة تشكيلية ذات ارتباط وثيق بالتراث الفني المصري، والحوار مع الفكر الفني العالمي دون الوقوع في براثن محاكاته وتقليده.
-وإذا كان البعض قد اعتبر أعمال الجزار أعمالاً سيرالية الطابع والاتجاه، فإن هناك من اعتبرها رسالة إصلاح اجتماعي، مهمتها تصوير سلبيات المجتمع ومساوئ عاداته بغية تطويره وتغييره.
- ورغم اعتقادنا بأن الجزار كان صاحب رسالة فنية في المقام الأول، إلا أنه كان شديد الذكاء حين أدرك أنه في وسط ثقافي قاصر عن أن يتقبل فكرة تقديم الفنان لرؤيته الفنية الخاصة، مهما كانت درجة غرابتها، وشدة قسوتها، دون ارتباط برسالة اجتماعية مباشرة وصريحة، كذلك ربما كان لظهور بعض المقالات التي تهاجم فنه وتتهمه بتكريس الشعوذة والسحر وتمجيد النماذج البشرية الغارقة في الأوهام أثر كبير في اقتناع الجزار بضرورة تغليف أعماله بطابع النقد والإصلاح.
-وربما يفسر لنا ذلك تأرجح أعماله بين التعبير الفني الخالص، وبين التعبير عن مواضيع ذات صبغة اجتماعية ونقدية مباشرة، مثل لوحة الطعام التي سجن من أجلها عام 1948، ولوحة الماضي والحاضر والمستقبل التى أنجزها عام 1951، وقدمها بقلمه في مجلة قصص للجميع فيما بعد قائلاً: (أما الماضي فهو واضح من الجو الخلفي للوحة وهو بين أسوار السجن، وقد أطل سجين على جنازة تسير، كما أطلت امرأة تمسك بيدها طفلاً، والسجين والمرأة والطفل يمثلون جميعاً الحياة الحبيسة المضطربة التي تلتصق بالحاضر، أما الحاضر فهو الوجه الكبير الواضح فى اللوحة، وتبدو فيه عناصر القوة والعزم والإصرار وشرود الذهن في ماض كريه، والتفكير في غد باسم جميل، وبدت شعبية الحاضر من الأحجبة والأقراط المدلاة من أذن الحاضر المعلقة على صدره، بقي المستقبل وهو واضح من المفتاح الموضوع أمام الحاضر، ولعل المفتاح يعطي فكرة عن المستقبل، وما فيه من أسرار وخبايا وخفايا).
- ثم يسترسل الجزار في وصف الفترة الحالكة من تاريخ مصر، حيث كانت الأنفاس فيها مكتومة، والحريات مقيدة، وكل شئ حبيس حكام لا يرعون الله، ولا يحسون بما تعانيه الجماعة، وهو يرجو في نهاية تقديمه أن تكون لوحته قد نابت في التعبير عن إحساس الناس وقتها.
-وهكذا يبدو الجزار وقد آمن بأن الفن يجب أن يتجاوز مجرد التعبير عن الرؤى الفنية الخاصة، ليكتسب بعداً اجتماعياً، فينوب في التعبير عن إحساس الجماعة بالقضايا والأحداث الراهنة. والواقع أن لوحة الماضي والحاضر والمستقبل لو كانت قد اقتصرت على تلك المعاني والدلالات التي أوضحها الجزار في تقديمه لها، ولم تشر إلى أشياء أبعد وأكثر عمقاً، لأمكن الاستغناء عنها بمقال سياسي حماسي ينتهي تأثيره بانتهاء الحدث والوقائع، لكن الجزار صعد بمعانيها درجات أكثر بقاء ودواماً، بتحويلها إلى رؤيا إنسانية شاملة، متصلة بأعمق المشاعر والأحاسيس. وعموماً فقد كانت تلك سمة من سمات أسلوب الجزار، إذ نجده حتى في أعماله المغرقة في المباشرة وتصوير الحدث العابر - كلوحته المعروفة الميثاق عام 1962 - قد أضفى من روحه وذاتيته ورؤيته الخاصة على الموضوع ما أكسبه بعداً جديداً جعله يتعدي التعبير عن الحدث الوقتي. والأمر الذي يستدعى دراسته وتأمله، هو أن الجزار يبدو لنا - حين يتناول الأجواء الشعبية - متعاطفاً مع الشخصيات الغارقة في ذلك الجو الأسطوري الغامض، ويستخدمها كوسيلة لتجسد أحساسيه الذاتية، ويشير بواسطتها إلى المجهول الذي يؤرقه. فقد كانت علة قلبه فيما نعتقد سبباً في إحساسه المبكر بقسوة هذا المجهول. وشبح الموت الذي نجده - ربما رغما عنه - مخيماً على العناصر والأشكال، بل إنه في عديد من لوحاته ورسومه يتناول موضوع الموت بشكل مباشر وصريح، بعد أن كان يومئ إليه من بعيد، كما في رسمه عالم الأرواح أو اللانهاية ورسمه المعروف تحضير الأرواح اللذين أنجزهما عام 1953. ويؤكد لنا هذا الاعتقاد أن الجزار كانت له تهويماته الخيالية، وأفكاره الفلسفية حول موضوع الموت والمجهول والقدر، وفي عديد من رسومه وفي بعض لوحاته نجد كتابات شعرية قريبة من شكل المواويل والأزجال الشعبية وتدور أفكارها حول الموت والمقدر والمقسوم، كما أنها ذات طابع خيالي مأساوي، وربما افتقدت تلك الأشكال الشعرية إلى النضج الأدبي أو المقدرة الشعرية، لكنها تحمل أفكاراً لا تقل في غرابتها عما تحمله رسومه وعناصره التشكيلية، وتلتقي الضوء على رؤيته وحلمه الخاص، فهو يقول مثلاً في نشيد طويل وغريب أسماه نشيد الخنافس:
- ورا الحيطان السود ويا محاسبهم
- ممدودة رمتهم
- أشكال حناجرهم جوه الودان مصدية
- سامع تراتيلهم
- نشيد الخنافس مع دبان الهوى الأخضر.
- وقد بلغ الجزار قمة إنتاجه الفني في تلك الأعمال التي امتزجت فيها رؤيته الخاصة بذلك الإلهام الفني الذي استوحاه من الحياة الشعبية ومعتقداها التي توارثها العامة في مصر وأشربتها روح الجماعات الشعبية على مر الزمن. فمعتقدات الطبقة الشعبية في التوسل ودفع البلاء واستجلاب الخير، وعادات الفرح والممات هي عادات مصر الفرعونية مع تغيير طفيف، ذلك التغيير الذي لم يتناول سوى الطلاء الظاهرى، ولم ينفذ إلى ما وراء الجوهر أو هذه القوة الخفية التي تتحكم في سلوك العامة ومصيرهم، فأصبحت فلسفة حياتهم العملية ومنبع إيمانهم الفطرى. ولقد استنبط الجزار أسرار تلك القوة الخفية ومظاهرها، بل كما أسلفنا كان جزءاً منها، فجاء تعبيره الفني معبراً عنها مشيراً إليها حتي في أكثر مواضيعه التصاقاً بالتعبير المباشر.
-وعلى الرغم من صعوبة المفاضلة بين لوحات الجزار التي أنتجها في الفترة من عام 1948 وحتي منتصف الخمسينيات - ذروة عطائه وخياله الفني - إلا أنه يمكن تناول ثلاث لوحات تمثلت فيها السمات الأساسية لاتجاهه وأسلوبه. ففي لوحة دنيا المحبة نجد التصميم البسيط المتميز بالرصانة والاستقرار، والعناصر الموزعة باتزان ودقة، ولا مجال هنا لاستعراض علاقات تشكيلية ممعنة في الغرابة والتحديث، وإنما المساحات تملؤها الشخصيات والأشكال بطريقة روعى فيها التماثل. فيحيط بالشخصيتين الرئيسيتين اللتين تتوسطان اللوحة ثلاثة عناصر من اليمين - المرأة الواقفة والأريكة والحية - ومن الناحية اليسرى ثلاثة عناصر أيضا - المرأة العارية والأخرى الساجدة والطير، وجعل الفنان بؤرة اللوحة عند وجهى الشخصيتين الرئيسيتين، تبدأ من عندها عين المتلقي لتتجول في سلاسة ويسر في أرجاء العمل، وتكتشف عناصره الفرعية لتعود فتستقر عند الوجهين اللذين حملهما الجزار - عن طريق النظرة والملامح - أبعاداً درامية وإيحاءات غامضة. كل ذلك في جو خيالي جسدته تلك الرسوم على حائط الغرفة والسيدة العارية والواقفة تواجه المجهول، يتسرب الضوء ليغمر العناصر بنور لا نعرف مصدره. وهنا كما أوضحنا - يبدأ الجزار من أرضية واقعية، فكل عناصر اللوحة موجودة في البيئة المحيطة ربما بكل تفاصيلها، لكن مقدرته تبدت في كيفية تجميعها وصياغتها على نحو أحالها إلى واقع جديد ذي سحر خاص، هو الواقع الفني.
-ومن أكثر أعمال الجزار درامية وقسوة فى تعبيرها لوحته المسماه فرح زليخا، فالتحوير الفني لشخصية زليخا تحوير بالغ في بدائيتها، والجو العام للوحة يعكس إحساساً بالسخرية المرة والقتامة، ونشعر كما لو أن طقوس هذا الفرح هي طقوس لاحتفال خرافي مفجع، ساعد على تأكيده الوجوه القاسية المطلة من الحائط في الخلفية، وتلك الفتاة الصغيرة المشوهة الهيئة ذات النظرة الزائغة، والقط الرابض كشاهد على الحدث. وذلك كله في بناء فني متماسك، وصياغة تشكيلية محكمة، وأداء لوني عميق ومتداخل. والعين تأخذ طريقها في يسر وسهولة بادئة بوجه زليخا ثم يدها الممسكة بالزهرة المتوحشة، ونزولاً بالشمعدان فالقط الأبيض والطفلة، وفي النهاية تعود العين إلى الوجه المعبر لزليخا الذي تعكس عيناه خليطاً من أحاسيس الشكوى والاستسلام.
- ولقد حظيت لوحة المجنون الأخضر بشهرة كبيرة رغم صغر حجمها وبساطة أشكالها، وهي منفذة بحساسية مرهفة وعناصرها المحدودة موزعة بمهارة واقتدار، وقد كشف الجزار فيها فكرة الفني والنظري، فنجد فيها عناصره المفضلة التى استخدمها في مرحلته الشعبية كالنموذج الإنساني الفريد، والوحدات الزخرفية ذات الجذور الشعبية - العيون في الكفوف والخط المتلوي - والتجميع الغريب للعناصر لزيادة قوة الإيحاء - القرط في الأذن والزهرة من خلفها - والاستخدام غير الطبيعي للظل والنور، والشكل المتوسل للكفوف، والنظرة الغامضة والموحية للعين، كل ذلك - بالإضافة إلى اللون الأخضر في الوجه - أضفي سحراً وغموضاً على هذا الوجه الإنساني الذي ينقل الرائي إلى دروب عميقة الغور مبهمة المعالم.
-ومنذ بدايات الستينيات، وبعد عودته من بعثته الفنية في إيطاليا، انشغل الجزار بالبحث عن مجالات جديدة يطرقها بفنه، وبدا وكأن المرحلة الشعبية قد استنفذت لديه أغراضها. وقد عاصرته في تلك الفترة وكنت ما أزال طالباً بالفنون الجميلة، وكان دائم الحديث عن ضرورة مواكبة الفنان لأحداث عصره ومجتمعه لينفعل بها ويأتي تعبيره وإبداعه الفني معبراً عنها. وقاده ذلك إلى تناول موضوع غزو الفضاء الذي كان محور اهتمام الناس في مصر والعالم حينذاك. وأتاح له المجال الجديد فرصة كبيرة في استغلال خياله الفني الخصيب وتخليق أشكال وعوالم غير محددة، وتراكيب خرافية لا تنتمي إلى عالمنا الأرضي. فأنتج في عامي 1962 و1963 لوحات: رجل الفضاء ومن عالم الفضاء والحزام المغناطيسي وميلاد كوكب وشئ يحدث في الفضاء.
- ولكن الجزار يعثر على ضالته ، ويجد فرصته الحقيقية لبدء مرحلة جديدة في فنه، حين يقوم بزيارة موقع السد العالي أثناء العمل في بنائه عام 1963، فلقد فجرت لديه رؤية الآلات العملاقة والماكينات الضخمة إمكانية التعبير عن موضوع الإنسان والآلة، وفي خلال الثلاث سنوات الأخيرة من حياته أبدع الجزار مجموعة ضخمة من اللوحات والرسوم، صور فيها الإنسان وقد ابتلعته الالآت والعدد، وأفقدته إنسانيته وبساطته، فهي تحتويه داخل ثناياها المتعددة وتفاصيلها المتشبعة، وهو يبدو من خلالها منسحقاً ضائعاً. لقد حلت الآلة عند الجزار في هذه المرحلة محل الرسوم الغربية والتعاويذ والأحجبة التي صورها من قبل مرحلته الشعبية، فهي العنصر المسيطر على الإنسان والمستحوذ على كيانه ووجوده، ومصدر خوفه ورهبته، كما ترمز إلى عالم المجهول والقدر الغاشم.
- وعندما يتقدم الجزار بمجموعة من لوحات هذه المرحلة (رجال وحديد - الإنسان والميكانيكا - الإنسان والآلة - من وحي السد - رجل العصر) لنيل جائزة الدولة التشجيعية عام 1965، فإنه يصفها بأنها (تمثل العمال المصريين وقد اكتسبوا خبرات جديدة في ميدان التصنيع، لدرجة أنهم أصبحوا متشابكين بالأقنعة والتراكيب الحديدية في المصانع، وتعكس فلسفة التصنيع في عهد الثورة، وتوضح ما يمر به إنسان العصر الحديث من إدراك علمي ووعي بالتركيب الميكانيكي والمعماري لعمليات التصنيع والكهرباء والديناميكا وعصر العلوم، وعلاقة الإنسان بالآلة وعلوم الفضاء، كما تهدف هذه اللوحات إلى ربط التصنيع في بلدنا بعلوم الذرة وعصر الفضاء لخدمة الإنسانية).
- ومرة أخرى نجد الجزار راغباً في التعبير عن قضايا اجتماعية راهنة - وهي هنا حركة التصنيع والسعي نحو التقدم التكنولوجي - لكن إنتاج هذه المرحلة في حقيقة الأمر لم يكن إلا استمراراً لطبيعة رؤيته الخاصة، وإن اختلفت المظاهر وتجددت العناصر، ومازال الخوف من المجهول والقدر وأحياناً الموت هو الإحساس الأقوى الذي ينتقل إلينا من خلال تلك الأعمال.
- ولعل لوحته المعروفة السد العالي 1964 كانت أكثر لوحات المرحلة الجديدة التزاماً بالتعبير المباشر عن موضوع النهضة الصناعية حديث الساعة إبان بناء السد العالي، وهي تمثل وجهاً لعملاق يتطلع في شموخ، مرتدياً خوذة رجال الفضاء، وقد تشكل عنقه وصدره من مئات التفاصيل الدقيقة للآلات، في جو معقد التركيب يبدو كما لو كان ورشة هائلة. ولم تنج اللوحة مع ذلك من لمحات رؤيا الفنان الخاصة، والتى نلحظها في نظرة العملاق المشوبة بالأسى والترقب، وفي الرجل والمرأة - من عالم الجزار القديم - وقد انزويا أمام هذا العالم المعقد في الركن الأيمن للوحة، وكذلك في امتداد الأفق ولا نهائية المنظر، مما يعكس في آخر الأمر إحساساً عاماً لن يكون جد مختلف عن إحساسنا بلوحة المجنون الأخضر.
- وكانت آخر لوحة نفذها الجزار قبل وفاته تلخيصاً لمراحل حياته الفنية الخصبة، ويبدو وكأنه قد أدرك بشفافية روحه قرب النهاية، فقدم لنا جميع عناصره وشخصياته والعوالم التى ارتادها في لوحته الختامية السلام 1965، التي ضمت عالم البحر والقواقع، والشخوص الشعبية، والمفردات المحببة إليه كالقط والحصان، وإنسان الفضاء، وعناصر التقدم العلمي، كل ذلك قد مزجه في مظاهرة فنية فريدة، يظللها جناحان عملاقان، يبدوان وكأنهما يحتضنان حلم الإنسان الخلد بأن يحيا في حب وسلام. كما ألفت اللوحة بين فكر الفنان النازع للخيال، وبين التعبير عن قضايا الساعة، وقد كانت دول عدم الانحياز حينذاك تسعى إلى خلق عالم ينبذ الحروب ويسوده السلام، ويمارس فيه كل إنسان حقه في الوجود والعمل ، كما يجد فيه الفنان - الذي لم ينسه الجزار في لوحته - فرصته في الخلق والإبداع.
- كما كانت لوحة السلام نموذجاً لتجسيد أفكار الجزار النظرية، فقد جاءت في صياغتها التشكيلية نموذجاً لأسلوبه وللغة الفنية التي اختارها كوسيلة لتجسيد تلك الأفكار، والتي تعتمد على البناء الفني البسيط، والقائم على مبدأ التوازن في التصميم، والاعتماد على المنظور والتجسيم الخفيف للعناصر، مع التوزيع المتعادل للألوان ودرجات الأبيض والأسود.
- وعموماً فإن الجزار لم يكن من محبي الخوض في غمار اللغة التشكيلية الصرفة، أو الاستغراق في إيجاد حلول جمالية مبتكرة ، وكان كل ما يهمه من هذه اللغة أن تكون وسيطاً جيداً يفي بغرض التعبير عن الفكرة وتوصيل مضمونها. ولقد ظل محافظاً على طريقته وأسلوبه طيلة عمره الفني. وذلك باستثناء بعض تجاربه في التصوير المسطح، مثل لوحته - شعر شعبي - تصميم لسقف حجرة - 1952 التي اقتفى في تنفيذها أسلوب الفن العربي، فأكثر فيها من الزخارف، وابتعد عن التجسيم، واستعمل الحروف العربية كجزء أساسي في التصميم. وكذلك لوحة دعاء 1958 التى نلمح في صياغتها أثراً واضحاً من أسلوب فن التصوير الفرعوني، وأيضاً بعض التجارب التجريدية التى أنتجها في الستينيات، وكانت قائمة على استعمال الألوان السميكة، وإضافة مواد غريبة إليها كقطعة من الزجاج مثلاً، والاهتمام بخلق الملامس الخشنة على السطح.
- لقد كان الجزار حريصاً على استقلالية أسلوبه الفني، على الرغم من إيمانه بالاستفادة من كل الثقافات والأساليب الفنية المحلية والأجنبية التي يمكن أن تثري فنه دون أن تطغي علي تفرده وأصالته. نستطيع أن نلمح في أعماله بالإضافة إلى تأثراته بفنون التراث المصري - الفرعوني والقبطي والإسلامي والفن الشعبي - تأثيرات أخرى من الفترة المبكرة لعصر النهضة الإيطالي، وخاصة أسلوب المصور بييرو ديللا فرانشسكا الذي كان الجزار معجباً بهندسيته ونظام بناء لوحاته، وكذلك نلمح تأثيرات من المدارس الأوربية الحديثة كالسيريالية والرمزية.
- ومما ساعد الجزار على المحافظة على أسلوبه وطابعه الخاص من الضياع وسط هذه المدارس والطرز الفنية، إيمانه الواعي بالدور الذي يمكن أن يؤديه في ساحة الفن التشكيلي المصري، فقد كان يرى أنه في الوقت الذي بدأ فيه مؤشر الفن في الغرب يسجل تميع الفن الحديث وجموده، فإن الفن في الشرق عامة، وفي مصر خاصة، يتجه نحو التبلور والاستقلالية، متخذاً من جذوره الأولي، ومن الخبرة الفنية عامة أسساً جديدة في روحه وأسلوبه.
- لقد ظهر الجزار في فترة صعبة من تاريخ الفن المصري الحديث، بدأ صحوته في مطلع العشرينيات وهو منقطع الصلات بالماضي الفني لبلدنا، ومتعمداً على ما قدمه جيل تتلمذ على تعاليم المدارس الأوربية القديمة منها والحديثة، سواء في مدرسة الفنون الجميلة أو في مراسم الفنانين الأجانب، ومن هنا تمثلت مشكلة الاختيار والبحث عن صيغة ملائمة للتعبير الفني المعاصر تتسم بالاستقلالية والطابع المصري الأصيل. تلك الصيغة التى استطاع رائد التصوير المصري المعاصر - محمود سعيد - أن يرسى قواعدها والتى أتي الجزار ليساهم في وضع لبنة هامة من لبنات بنائها. ويهمنا أن نشير هنا إلى صلة نستشفها وتجمع بين أسلوب عبد الهادي الجزار وأسلوب محمود سعيد (الذي كان تقديره لأعمال الجزار دافعاً لاقتنائه لوحته المعروفة باسم أدهم 1951 وكانت واحدة من مجموعة أعمال مستوحاة من السيرك الشعبي) والتى تمثل في ذلك الجو العام الذي يغلف اللوحات ويضيف إلى البعد المادي أبعاداً نفسية مثقلة بالأسى، وفي تلك القوة العارمة الغامضة التى تجعلنا على إيمان بأن محاولة إدراكها والإيحاء بها سمة رئيسية في الفن المصري كانت ومازالت موجودة، ويمكن لها أن تكون أحد ملامحه الهامة التى تميزه عن الأساليب والطرز الفنية العالمية. ولقد كان الجزار مدركاً لتلك القوة، قريباً منها وعاملاً - من خلال عناصره المغرقة في المحلية - على الإيحاء بها وتجسيدها.
-إن الإنجاز الفريد لعبد الهادي الجزار في مضمار فن التصوير المصري سوف يكون دائماً قابلاً للدارسة واستكشاف جوانبه العديدة والموقع الذي تبوأه في تاريخ الحركة الفنية الحديثة في مصر يدعونا إلى المطالبة باقتناء أعماله وعرضها بمتحف الدولة، إذ أنها تمثل حلقة هامة من حلقات تطور فننا المعاصر، وتراثاً يضاف إلى رصيد مصر الثقافي. وهذا المطلب هو أقل ما يستحقه من الشعب المصري إبداع الفنان الذي كان شاغله الأول التعبير الصادق عن روحه الأصيلة.
بقلم : د. / صبرى منصور
مجلة : الإبداع العدد (9) سبتمبر 1984.
الجوع .. والقبض على الجزار
- لن أنشغل بهيبتك التقليدية.. الحصان الذى أمتطيه له أجنحة.. عايشت الحياة والموت، فكان الفن مملكة أراها كما أشاء.. عرفت البؤس والقهر والظلم والحرمان.. أطلقت النساء البخور فى جوفى، فانطلقت من داخلى كل الأمنيات.. التعاويذ، والأساطير.. وكل الحكايات الغريبة داهمتنى، فكان الهرب إلى جسد اللوحة لتكتمل الغواية.
- الحديث عن الفنان الكبير عبدالهادى الجزار (1925- 1966) الذى انجذب إلى حياة البسطاء وتناول قضاياهم البسيطة التى تعالى عليها العديد من الفنانين إما بسبب عدم الكشف عن هويتهم، أو ربما لم يكتشفوا ما بها من كنوز شديدة الخصوصية تبحث فى قضية الوجود من خلال هموم شديدة الذاتية ترتبط بمعتقدات متوارثة. استطاع الجزار أن ينفتح على المضامين والدلالات الواسعة لها، من خلال تخليه عن التبعية الفنية لسابقيه بتناولهم للواقع والطبيعة بشكل تقليدى.
- استجاب الجزار للحالة الحسية لغرائزه ليرى من خلالها عالم هؤلاء البشر الذين تركوا أنفسهم أيضا للنداءات الفطرية الغريزية، وشكلوا حياتهم البسيطة عليها، فكان الصدق وتغلب الغريزة على التاريخ سواء لديهم أو فى رؤية الجزار الذى اعتبر الفن حصانا بريا جامحا، القواعد الفنية الصارمة تدجنه. فرفض تدجين الفن وترك لغريزته العنان دون خوف أو حساب، فكانت أعماله منهجا ومدرسة قائمة على المرونة والتفاعل بعيدا عن النظرة الفوقية، أو تأكيد القدرة التقنية. لقد استوعب التجارب المعاصرة بكل ما فيها من حلول، وحين وقف ليبدع ، وجها لوجه أمام التجربة، وانحاز إلى إحساسه الغريزى والفطرى للأشياء دون لف أو دوران على المهارة والتقنية.
- انتصرت الغريزة التى اعتمدت على البساطة من خلال المعتقدات الدينية والشعبية على التاريخ المزيف للحياة. وجاء انحياز الجزار للشقاء الإنسانى، والبساطة والتلقائية التى يعيشها الفقراء والمهمشون فخاطبت أعماله فطرة الإنسان والجانب الصادق بداخلهم، لأن عزفه اللونى والخطى مزج بين الموسيقى الداخلية والروحية لمفردات العمل التى تميزت فى غالبيتها بالرمزية، والتأمل الفلسفى لحياة الإنسان التى بنيت على أسرار الطبيعة التى تتسم بالتلقائية والنقاء والتفرد.
- ولأن هذه البساطة والتلقائية تصل سريعا إلى قلب المشاهد قبل عقله، ولها تأثير السحر عليه، ولأن أى نظام يعرف هذا الأمر لذلك كانت لوحة `الجوع` التى نفذها عام 1949 سببا فى التحقيق معه بسبب ما بها من صدق يخاطب روح المشاهد حيث إنه رسم مجموعة من الرجال والنساء يقفون فى حالة بؤس، وتعبيرات وجوههم تعبر عن حالة التوهان والعوز، وقد ألبسهم الفنان جميعهم ملابس نسائية. وهذه إشارة رمزية قوية، تضاف إلى تلك المرأة التى رسمها عارية تماما، وأمامهم أطباق فارغة، تؤكد حالة الهوان التى يعيشونها، وتعكس مأساة المهمشين أمام النظام الملكى المرفه. هذا المشهد الصادق والرمزية التى لا يختلف على تأويلها اثنان كان سببا فى أن يكون عبدالهاى الجزار أول معتقل بسبب لوحة.
- تخرج عبدالهادى الجزار فى كلية الفنون الجميلة وكان الأول على دفعته عام 1950، وعين معيدا حتى عمل أستاذا مساعدا بالكلية. حصل على العديد من الجوائز منها الجائزة الأولى فى مسابقة الرسم للمدارس الثانوية عام 1942، والجائزة الأولى فى مسابقة للإنتاج الفنى عن لوحة دنشواى 1954، والجائزة الأولى فى مسابقة الثورة عن لوحة الميثاق 1962، والميدالية الذهبية فى صالون القاهرة عام 1962 و 1964، ومن الجوائز العالمية الجائزة الذهبية بصالون الفنانين بروما 1957، وجائزة التصوير الثانية من بينالى الإسكندرية عام 1966.
د. سامى البلشى
مجلة الإذاعة والتليفزيون:2019/7/13
قوة الرمز فى أعمال عبد الهادي الجزار 1925 - 1966
- تمثل أعمال الفنان عبد الهادى الجزار أعمالاً أكثر شفافية وإرهافاً، وقد صبغتها صبغة حزينة جذبه نحو عالم مجهول حيث التقت فى نفسه عناصر استمدها من نشأته فى أحضان الطبقات الشعبية المستغرقة فى عالم الروحانيات، والتى تستمد قوتها من عناصر ميتافيزيقيا ودينية وإحساسه الشخصى بنهاية قريبة.. أو بداية قريبة، فكان الغموض يفرض نفسه على الجو العام للوحاته ..`دنيا المحبة، فرح زليخة، المجنون الأخضر، شواف الطالع، رسم تحضير الأرواح`، حيث يلقى من خلالها جوانب خفية فى الوجدان العام.
- وتمتزج فى أعماله بعض السمات التى استلهمها من الفنون المصرية القديمة، القبطية، والإسلامية بجانب الفن الشعبى والذى هو مزيج من تلك الفنون. وقد استخدم الجزار قوة الرمز للتعبير عن الطابع الشعبى، العادات والتقاليد المترسبة في جنبات الحى الشعبى القديم ، من موالد وأفراح ومعتقدات موروثة من أبنائه ، وما تشمله من ممارسات للسحر وحفلات الزار والذكر ، وألعاب السيرك التى تحوى ثعابين وأحجبه وتمائم ، وأيضا من خلال استماعه للحواديت والأساطير التى تنتقل من جيل لآخر حيث تشبعت ذاكرته بكل ذلك ، فتشكل فى داخله كيان فني لهذا العالم، والدلالات السيكولوجية والعقائدية، الرموز التعبيرية والتى تميل إلى السمة الخيالية وهى السمة الغالبة فى معظم أعماله ، فقد استخدم على سبيل المثال ، القط كرمز للتفاؤل ، والحية رمزاً للشر ، هذا بالإضافة إلى الرموز التى تمثل الإخصاب ومنع الحسد وغيرها ، ظهر من خلال الرؤية الأصلية لأعماله الفنية المبكرة التى تظهر واضحة السمات الشعبية المعتمدة معظم الاعتماد على الرموز الخيالية التى عبر عنها من خلال أعماله الفنية
- فتستمد أعمال الجزار خلودها من عالم المجهول والعقائد والتأكيد على العادات والتقاليد المترسبة فى جينات الحى الشعبى من موالد وأفراح ومعتقدات خاصة بممارسات السحر وحفلات الزار والذكر وألعاب السيرك والدلالات السيكولوجية والعقائدية، مؤكدا قوة الرمز من خلال دراسة الظواهر الطبيعية والنفسية للرمز، والبحث عن جوهر ومكنون الرمز وليس شكله، تآلف الموضوع مع البناء الأساسى للعمل التصويرى، كما يتضمن الرمز عنصر التشويق والترغيب الذى يعتمد على إظهار روح الغرابة والخيال والحلم من حيث الرمز فى ذاته، وأيضا من حيث التفاؤل الكلى للبناء العام فى هذا الشكل المركب كما يتأكد معنى الخلود من خلال تكويناته التى تؤكد على الرصانة وحبكته الدرامية للموضوع من خلال الاهتمام بأبطال أعماله والحفاظ عليها بحجم كبير بالنسبة للشخوص أو عناصر التكوين الأخرى والتأكيد على بعض الأوضاع التى تأثر بها من الفن المصرى القديم، السياسية أو الشكليية أو العقائدية والفلسفية التى عبر عنها الفنان عبد الهادى الجزار- والذى كان ينحاز للفقراء والطبقات الشعبية- فى لوحته الجوع أو الكورس الشعبى والتى كانت سببا فى سجنه من الملك حيث جسد الفقر في أصعب صوره من خلال أبطال لوحته والتى هى أطياف مختلفة من المجتمع المصرى والذين ظهروا مستسلمين للقهر والفقر وقد صبغت وجوههم صبغة حزينة أكدتها العيون الزائغة الحزينة وأطباق فارغة من الطعام. وقد صاغها بتعبيرية عالية من خلال التأكيد على قوة الرمز ودرامية اللون وشفافيته، أما تكوين العمل فيؤكد الرصانة والحبكة الدرامية للموضوع والتأكيد على بعض الأوضاع التى تأثر بها من الفن المصرى القديم، وتظهر أشخاصه دائما مستسلمة لعالم المجهول جاءت متراصه بتكرار تام كالموتى المستسلمين لذلك العالم.
- رموزه و تكويناته رصينة من خلال استخدام بعض التكوينات المعمارية أو بعض العناصر التى تعمل على التفاف عناصر العمل حولها، أو بعض الأشخاص المتراصه بتكرار تام كالموتى المستسلمين لذلك العالم. أما عن اللون فجاءت ألوانه قوية تؤكد مهابة الفعل الطقسى ويتأكد أهمية اللون الأخضر أيضا فى معظم لوحاته كرمز الأخضر السندسى والذى يرمز للجنة فتحقق الخلود من خلال ميثولوجيا الرمز.
- وفى لوحة المجنون الأخضر1951م ذلك الوجه المجدوب الذى يجاور الأضرحة، كرمز لجلب الخير والبركة، وكان إختيار الفنان للوضع الجانبى مستلهما تلك الروح من الفن المصرى القديم ... فهو غير شاغل نفسه بنا لأنه يرى عالماً آخر... يرتدى قرطا فى أذنيه...أما اللون الأخضر والذى يرمز الى الجنة، وقد يكون من الناحية التعبيرية رمز للهيستريا والجنون... وفى الخلفية هالة من ذراعين بكل منهما كف خمسة وخميسة، تتوسط كل كف عين الحسود وهى علامة (الكا) رمز الحماية، أو هى القرين والروح. وكذلك العين والتى تشبه عين حورس، أما اللون الأحمر الذى يكون رمزا للحالة الدينامية التى تؤكد الإثارة والثورة على العالم الواقعى، ويتأكد مفهوم الخلود فى التضخيم المبالغ لشخصية المجذوب ووضعة الجانبى وإضافة الذراعين كرمز `للكا`والاعتقاد فى اعتبارهما رمز حماية لشخصية المجذوب
- ويتحقق مفهوم الخلود فى لوحة تحضير الأرواح 1952م من خلال اختياره للموضوع بعناصره ورموزه التى تأتى من العالم الغيبى فصيغت الأشخاص فى أوضاع غريبة أكسبتها جواً من السحر والغموض، فنرى المشعوذ يرتدى قرطاً فى أذنيه جالساً معطياً لنا ظهره ،ويظهر أسفل الكرسى الذى عليه سلحفاة كرمز للإرادة والصبر وكذلك رمز القط يذكرنا بالقط `باستت`حامى الدار، وتظهر يديه ممدوتين وعليهما رسوم الوشم، ومرسوم على سطح المائدة شكل يشبه العفريت.. وهو رمز لانسلاخ هذا الشخص عن عالم الواقع، وهو فى حالة استسلام وحضور، ونلاحظ الأشخاص جالسين فى أوضاع متراضية، وكأنها فى حالة اطمئنان لتلك الحياة... ونرى الأدوات الخاصة بتحضير الأرواح من أبريق ماء، ووعاء يصب به الماء... ونلاحظ أن العمل يأخذ التكوين الهرمى، فمحور المنضدة يمثل ضلعى الهرم ونهايته، ومن أعلى هى رأس الشخص الجالس فى العمق،وهذا التكوين يحرك عين المشاهد الى أعلى للتأكيد على تخليد الجانب الروحانى .
بقلم : حورية السيد
مجلة : إبداع عدد ( مارس وإبريل - 2023 )
الفنان الثائر.. عبد الهادى الجزار
- فى مطلع شهر مارس.. تحل ذكرى رحيل واحد من أهم بناة حركة الفنون الجميلة فى بلادنا. ففى السابع من مارس سنة 1966، توقفت ريشة `عبد الهادى الجزار` عن الرسم والتلوين. رحل عن 41 عاما قضى أكثر من نصفها متخذا الرسم رسالة اجتماعية وإنسانية، تشعلها وتضرم نارها المقدسة موهبة غزيرة واستعدادات نادرة وثقافة واسعة، فوصل فنه إلى مستوى رفيع، اندمج فيه الشكل بالمضمون الإنسانى العميق. تبلورت عظمته فى ارتباطه بآمال شعبه وآلامه ومخاطبته الجنس البشرى عامة، استخدم الألوان والخطوط والملابس وأدوات الإبداع، كما استخدم الشعر المطبوع ذخيرة لا تنفذ من الكلمات والقوافى والأوزان.. تنويعات من البديع والبيان، يمضى قدماً نحو قلب المتلقى ومشاعره وأحاسيسه ليثير كوامن الفطرة الأولى التى لم تتشح بعد بالقيود الاجتماعية كما يخاطب العقل والذكاء لدى الصفوة. لذلك لاقى ترحيباً وحفاوة فى عيون كل من النخبة المختارة وجمهرة العامة، شأن المتصوفة الذين يتحدثون بالرمز والإشارة. بما يحتمل مختلف المعانى فيدرك حديثهم كل على قدر ما أوتي من حكمة وبراعة في التأويل..
- جمع فى إبداعه بين الشكل المثير والمضمون الخطير فى رموز تجسد لواعج النفس وخبايا الخيال. ما علينا إلا أن نتأمل ظواهر اللوحات حتى نغوص إلى باطنها ونمسك بمرماها ونشارك الفنان معناها ومغزاها ونتبين كم كان إنساناً كبيراً سخياً فى عطائه، مؤرخاً بروائعه لحركة المجتمع المتطلع إلى الحرية والرفاهية والسلام.
- عاش بفنه سنوات الحرب العالمية الثانية. بدأ مسيرته أبانها وهو بعد طالب فى المدرسة الثانوية حيث ألتقى بأستاذه حسين يوسف أمين الذي اتسم بسعة الأفق ورحابة الفكر وموسوعية المعرفة والقدرة التربوية الفذة. أسس جماعة `الفن المعاصر` سنة 1946 من ستة شبان تصدرهم `حامد ندا` و`عبد الهادي الجزار` - تلميذه القديم. أصدروا بياناً يكشف عن هويتهم ويبين أن الفن المعاصر يقف جنباً إلى جنب مع قمة الفكر الحديث ويرمى إلى عكس ما ترمي إليه الفنون السطحية التى تتجاهل سر الحياة. والفن أداة للغزو والمعرفة وقاد لوعي الناس، بعد أن كان في خدمة المطامع المستورة وأداة له وتسلية. وهو عبارة عن نظريات بعضها فلسفى وبعضها نفسى أو اجتماعى، وبعضها فنى صرف. وحين أقامت الجماعة معرضها سنة 1949 لمست أوتاراً حساسة في قلوب الناس مما أقض مضجع النظام الحاكم فساءلت الشرطة أعضاءها وألقت القبض على فناننا الراحل. كانت المرة الأولى التى يلعب فيها فن الرسم والتلوين - فى مصر - دوراً اجتماعياً إيجابياً يمس الضمير العام، فتصادره السلطات كما تصادر الشعر والأدب وتوقف عرض المسرحيات أحياناً. هكذا `الجزار` من القلة النادرة فى حركتنا الفنية. جمع بين `الشكل والمضمون` ليرتقى بالرسم والتلوين إلى مرتبة الفنون الأخرى، كما فعل `محمود مختار` بفن النحت حين أبدع تمثال `نهضة مصر` تقاعس البرلمان عن إقامته، لولا زخم الجماهير وإصرارها بعد ثورة 1919.
- واللوحة الشهيرة التى تسببت فى اعتقال الفنان اسمها `الكورس الشعبى` 69x50سم ألوان زيتية على ورق كرتون. رسمها سنة 1948 فى أيام الغضب والفوران الشعبى الذى ساد البلاد حينذاك. وهى فى `متحف الفن الحديث` تحمل تاريخاً مخالفا لأنها ليست الصورة الأصلية، بل نسخة رسمها الفنان حين طلبها منه المتحف بعد الثورة - كما يذكر الناقد والمؤرخ `صبحي الشاروني` في كتابه عن حياة الفنان وأعماله. ونسخ الفنانين لأعمالهم مسألة منتشرة عندنا - وفى الخارج على السواء. `سيف وانلي` كان يرسم أكثر من نسخة كما أثبتت الباحثة `زينب عبد العزيز` أن الهولندي `فان جوخ` فعل نفس الشئ في بعض لوحاته.
- تصور لوحة `الكورس الشعبي` سبع نساء ورجلاً وطفلاً بالملابس الشعبية، يقفون صفاً فى مواجهة المتلقى. أمامهم على الأرض صحون فارغة وإبريق ماء. فى تكوين يتسم بالسيريالية متمثلة في أوضاع غير منطقية، كالمرأة العاملة بجوارها أخرى محجبة بل منقبة. كما تنم تحويرات النسب عن مسحة تعبيرية تؤكدها الألوان الرمزية التى اشتهر بها الفنان. أما التركيب الدرامى التراجيدي وإيقاع الوجوه والأيدى والأوانى الموزعة بعناية، فتضفى على الصورة جواً حزيناً.
- إننا نقابل بين هذا العمل ولوحات مثل `جيرنيكا` لبيكاسو.. و`إعدام الثوار` لجوياً، من حيث التكامل الفني بين الشكل والمضمون والأهمية التاريخية والإنسانية والقيمة الفنية العالية.
- حتى ذلك التاريخ لم يكن `الجزار` قد اقام معرضاً شخصياً بعد. كان طالباً في مدرسة الفنون الجميلة (1944/1950)، يسهم بلوحاته مع `جماعة الفن المعاصر`. لكنه لفت الأنظار واتخذ مكانه في دائرة الضوء بعد معرضه الشخصى الأول فى قاعة متحف الفن الحديث سنة 1951 كانت المدرسة فى ذلك الحين تسير على المنهج الأكاديمي التقليدي فأتقن الأصول الكلاسيكية في الرسم والتلوين. ساعدته هذه المهارة على التفوق في قسم التصوير من ناحية، والإبداع الحر من ناحية أخرى في ضوء توجيهات رائدة الخارجى حسين يوسف أمين، تردد على بيته ومرسمه بانتظام فى ربوع منطقة الأهرام على ترعة المنصورية اتفق معه فى أن الفن تعبير وتفسير ورأى ومشاركة وريادة اجتماعية. ليس محاكاة وتقليداً وعزلة وفناً خالصاً. والمتتبع لأعماله من بداياته حتى رحيله، يستطيع أن يلمس الإخلاص وصدق التعبير وأصالة التفكير، حتى بعد عودته من روما. التى بعث إليها للدراسة (1958/1961). كل تغيير فى أسلوبه كان نمواً واستطراداً وتعمقاً وتبلوراً لمنهجه ونظرته الفيلسوفية - شأن عظماء الفنانين. ليس تحولاً نزقاً وانجرافاً خلف نزوة عارضة للتجديد من أجل التجديد. نستثنى من هذه الملاحظة لوحات معدودة على أصابع اليد رسمها بأسلوب تجريدى مطلق في آخر سنوات بعثته في إيطاليا. يبدو أنها كانت مرحلة `شك` مؤقتة أو محاولة من أجل تعبير أكثر دقة.. ومعنى أشد إحكاماً. وتأثير أعمق غوراً بالإضافة إلى تجويد أسباب المتعة الفنية التى تشكل احتياجاً رئيسياً عند الإنسان.
- العامل الأساسى الذى حافظ على الشخصية الفنية لعبد الهادى الجزار، هو تعلقه الشديد بمصر وإحساسه القوى بالانتماء وعاطفته العارمة نحو المجتمع. تمسك طويلاً بالرموز الشعبية السحرية ذات الدلالات المنوعة. أما تكويناته الغامضة فاستقاها من قراءته المستفيضة فى علم النفس ونظرية التطور. يبدو أثر ذلك واضحاً منذ معرضه الأول سنة 1951 حيث عرض لوحات `الرجل البدائي` و(رجل فى قوقعة والحياة المنقوضة) وغيرها من الخيالات المجسدة عن بدء الخليقة منذ ملايين السنين. ومن اللافت للنظر أن بعض صور هذا المعرض مرسومة أثناء تلمذته الأولى على حسين يوسف أمين قبل عشر سنوات مؤرخة سنة 1942 أيام أن كان يافعاً فى السابعة عشرة من عمره. تفصح عن موهبته الفذة واحساسه الناضج بالقيم الفنية والإدراك المبكر للمضامين الفلسفية الجادة.
- ظل طوال حياته حريصاً على المعنى والمغزى والمضمون، وتحول سريعاً عن العبث التجريدى إلى التعبير التجريدي قبيل وفاته بثلاث سنوات متأثراً بالضجة العالمية التى صاحبت رحلات الفضاء والأقمار الصناعية سنة 1963 ومن رسومه أسماء مثل معدل التحرك - زيت على سيلوتكس، ومولد كوكب فى نفس العام بنفس الخامات، وقلة من الصور سماها `عالم الفضاء` لكنه لم يكن راضياً عنها تماماً كما أسر لي بذلك شخصياً حين أبديت له تفضيلى للوحاته السابقة.
- روائع عبد الهادى الجزار التى لا تنسى معروفة ومعدودة. منها الرجل الأخضر - زيت على كرتون 63x70سم 1951 صورها متأثراً بالموالد الشعبية والحياة فى حى القبارى بالإسكندرية الذي ولد فيه سنة 1925، وحى سيدنا الحسين بالقاهرة الذى طالما تردد عليه مع صديق عمره الرسام حامد ندا، حيث كانت تنتشر فرق المجاذيب الذين يقضون حياتهم بجوار الأضرحة، يتسربلون بكل غريب من الملابس والخرق ويتحلون بالأقراط والعقود كدرب من التخنس والهستريا، رسم خلف الرجل يدين مرفوعتين فى وسط راحتيهما عيون زرقاء، وهى تعاويذ سحرية عند العامة لدفع الشر والحسد. أما اللون الأخضر الذى يكسو الرأس الأصلع ذا الأقراط فرمز للسلبية والتخاذل. إن قوة التعبير وجاذبية الموضوع وتأثير المضمون. عوامل تكاد تطغى على جمال التكوين وبساطة الإيقاع الذى يعطينا مقابلاً شكلياً لصوت الدفوف المصاحبة للطرق الصوفية.
- بين عامى 1950 و1960، أبدع الجزار سلسلة من لوحات المجاذيب والسيرك والحياة الشعبية العامة في حقبة انتشر فيها الهوس المتستر بمظاهر الدين، والانحدار الأخلاقى بدعوى التصوف ورفع التكليف واستشري الجهل والتخلف وتافه السلوك أبدع على هذا المنوال لوحات مثل بيت الدراويش وآكل الثعابين والعين السحرية ومحاسيب السيدة وقارئ البحت والمولد.
- أما لوحة أبو أحمد الجبار فنموذج جيد لسلسلة صور الحياة الشعبية الهابطة رسمها بالزيت على سيلوتكس سنة 1951 (70x100سم) تكوين عربى شرقى مصرى فى كل من وحداته وتراكيبه وألوانه وزخارفه. يتمدد فى وسطه عملاق هزيل محاط بزوجاته الأربع وأولاده العرايا، يكسوهم جميعاً الفقر والجنون والكسل والخمول. يسخر فيه الفنان من الجهل والقهر الاجتماعى. وقد كرر هذا الموقف الساخر في مجموعة من الأعمال منها `العائلة` و`الفارس` وعربة السيرك والرجل المعلق وتحضير الأرواح واللوحة الأخيرة (55x40سم) من أشهر أعماله بالحبر الشينى. رسمها سنة 1953 فى تكوين مبتكر تتوزعه العناصر مؤكدة مضمون السخرية من المفاهيم المتخلفة التي كانت تتخلل الحياة الشعبية أشار إلى مضمونه بغرائب الزخارف والتفاصيل والعناصر المرتبطة بمعتقدات موروثة، مثل القطط والثعابين والسلاحف والقواقع والعقارب، كما أن المبالغة فى نسب الأطراف المزخرفة بالوشم وجمود تعبيرات الوجوه، يضفى على الصورة طابع التوقع والرهبة والوجل المناسب للموضوع.
- فى نفس العام - 1953، أبدع لوحة أخرى بعنوان `عالم الأرواح` فيها مجموعة من الصناديق الممتدة إلى ما لا نهاية، تحفل بالجثث المغمضة أو المستيقظة مع عدم إغفال الرموز ذات الدلالة كالمسبحة والنحلة والأحجبة وتنويعات من زخارف الوشم على أطراف الموتى، وأستغل أشكال ألواح الخشب والحبال والمسامير في إحكام ترابط التكوين الفنى. كما وزع الإيقاع فى أنحاء اللوحة رأسياً وأفقياً فى توافق موسيقى خزين. تعتبر هاتان اللوحتان من أفضل رسوم الفنان الراحل بالحبر الشيني استفاد فيهما بمعطيات المدرسة السيريالية الأوروبية وما فيها من إغراب ووحشة مع احتفاظه بالهوية المصرية ومخاطبته لكل من خاصة المتلقين وعامتهم، بمدركات بصرية لا تقل قيمة عن رفيع الشعر والأدب والموسيقى.
- إذا كان الديوان أو الكتاب شهادة ميلاد الشاعر أو الأديب فالمعرض الأول هو شهادة ميلاد الرسام. إلا أن الجزار قد ولد قبل معرضه الأول بزمان. كان مقلا في نشر أعماله مع غزارة انتاجه أسهم في معظم. المعارض الجماعية في الداخل والخارج ولكنه لم يقدم أعماله في عرض فردي سوى ثلاث مرات فقط على طول حياته الفنية التى امتدت إلى ربع قرن منذ يفاعته حتى وفاته أولها سنة 1951 وآخرها سنة 1964 قبل رحيله بعامين. برهن بها على أن روعة الإبداع لا تتناقض مع قوة المضمون الاجتماعى أو السياسي بل إن هذه المضامين تثرى العمل الفني وتضفى عليه سحراً خاصاً وقيمة إنسانية ومكانة تاريخية لا تمحى كما تزود الفنان بطاقة تعبيرية وانفعالية وحيل تكنيكية تبهر المتلقين والذواقة والنقاد. ولقد كان الجزار ذا فلسفة وموقف اجتماعى بلا نزاع وبدون افتعال وتصنع عوده أستاذه هذا الموقف الحر الشجاع منذ المعرض الأول لجماعة الفن المعاصر سنة 1939، الذي أقاموه تحت شعار انفجار الخوف كما تعلم منذ فتوته كيف يلتحم الشكل بالمضمون بالأداء بالموضوع لا انفصام لواحد منه عن الآخر لم توهن عزيمته الليالى التى قضاها رهن الاعتقال سنة 1949، فحفل معرضه الأول بعدها بعامين بلوحات الدراويش والمجاذيب وضحايا الفقر والقهر، كذلك المعرض الفردي الثاني سنة 1956، حيث شاهدنا روائعه عن `باندونج` و`الحرية` ودنشواي، أما معرضه الثالث والأخير فكان قبل رحيله بعامين فى قاعة اخناتون المسماة آرابيسك الآن عرض فيه لوحتى الميثاق أو السد العالى التى أقتناها متحف الفن الحديث.
- لم يكن فنانا خاملاً مستكيناً يلهث هواة جمع التحف، بل كان ثورياً مثقفاً موهوباً يلقى التقدير والاحترام بين جمهرة المثقفين وأصحاب الفكر - وهم مفلسون في العادة، لكن لوحاته كانت تجسيداً حقيقياً لأول مدرسة فنية مصرية حديثة تعتمد على تأمل الطبيعة ودراستها بأمانة وملاحظة علاقات النمو في الكائنات الحية واعتبار المدارس الفنية الأوربية مجرد أبجديات تستلهم فن الإبداع المحلى، هكذا امتزجت فى رسومه المثيرة كل من الأكاديمية بما فيها من دقة ومهارة والسيريالية بغرابتها ورمزيتها، و`التعبيرية` بتحويراتها البلاغية وألوانها الانفعالية وعناصرها المبتكرة وتكويناتها الخيالية.
- لوحات تجريدية وأشكال حركية.. ومجموعة من اللوحات المشابهة، أنتجها عبد الهادى الجزار بين عامى 1960، 1961، مستخدماً ألواناً زيتية وخامات مختلفة وعجائن سميكة وأسلاكاً، ولصق قواقع بحرية أحياناً. إلا أن هذه الأعمال تعتبر استثناء فى مسيرته الإبداعية المميزة بشخصيته الفنية المعروفة. لذلك يتعذر - حتى على المختصين من الخبراء والنقاد تميزها فى حشد الإنتاج العبثى فى حركتنا الفنية بعد عشر سنوات من الظهور في أمريكا في لوحات `جاكسون بولوك` سنة 1950 مارسها فناننا لعام وبعض عام ثم اقلع عنها سريعاً وأدخل عليها شيئاً من التصميم والتهذيب والجماليات المقصودة فى مجموعة لوحات القضاء بين 1962، 1963 مثل مولد كوكب ومعدل التحرك.. وبضعة أعمال تدخل فى أطار التجريد التعبيرى ونلاحظ أنه في غمرة تجربته التجريدية، أبدع لوحة الميثاق 132x183سم سنة 1962 بألوان الزيت على الأبلكاش وفاز بالجائزة الأولى فى مسابقة أمجاد الثورة وهى تكوين رمزى سيريالي مثير تبدو فيه مصر كشجرة جذورها فى الأرض وفروعها فى السماء تنشر البناء والتعمير بسواعد أبنائها. ولم يقبل عام 1964 حتى شاهدنا رائعته السد العالي التي أقتناها متحف الفن الحديث صور فيها الإنسان المصري شامخاً قوياً تمتزج ملامحه بملامح وتفاصيل السد العالي وآلاته وأدواته الميكانيكية، حتى ليبدو كائناً أسطورياً يجسد عصر التكنولوجيا. رأسه الذكى يطاول السماء، وتترامى من خلفه الأرض على مدد الشوف.. تنتظر الخير الذى يحييها بعد موات.
- هكذا تتميز أعمال `الجزار` بالدرامية العنيفة والتعبير عن الموضوعات بانفعال قوى وعاطفة جياشة والتكامل بين الشكل والمضمون بدرجة يتعذر توافرها لدى فنان آخر فى حركتنا الفنية المعاصرة، كما أضاف إلى لوحاته ظلالاً من شخصيته الفذة وثقافته المتنوعة حتى ليشعر المتلقى بالألفة نحوها رغم غرابتها. ورغم أنها تدفع إلى التوتر والقلق وإعادة النظر فى معنى الحياة. فهو يخاطب الجماهير بأسلوبها ورموزها وألوانها، ويلمس قلوب مثقفيها وعقولهم ويستهوى الذواقة بالجاذبية والطرافة.
- لم يتوقف طوال حياته عن الارتباط بالمجتمع المحلى من ناحية، والمجتمع الإنسانى العريض من ناحية أخرى - شأن عمالقة الفنانين فى كل زمان ومكان. استطاع بذكائه وقدراته الخاصة أن يضمّر الأبعاد الفنية الشكلية كل المعانى الإنسانية التى تقول ما تقوله روائع الفنون الأخرى، كما فعل سيد درويش فى الموسيقى حين قدم المضامين الاجتماعية والسياسية بألحان جميلة ومبتكرة مازالت تتردد حتى الآن.
- لعل لوحة `السلام` الضخمة التى يقتنيها متحف الفن الحديث بالقاهرة هى أروع أعمال `الجزار` على الإطلاق أبدعها سنة 1965 قبل رحيله بعام واحد أفرغ فيها كل مواهبه ومهاراته ولخص مراحله الفنية التى اجتازها عبر السنين جمع فيها القواقع والأحلام والأساطير وعصر الفضاء بناء هائل شاعرى التصميم يتصدر التكوين. ينطلق منه جناحان عظيمان عن يمين وشمال. تحف به أعلام الشعوب بينما الشعوب نفسها رجالاً ونساء وأطفالاً فى أعداد غفيرة، يصحبون حيواناتهم حاجياتهم كأنما يلحقون بسفينة نوح تنجيهم من الطوفان، وفي أدنى الدرجات العريضة التي تقود إلى المبنى، تستقر منضدة يلتف بها ملوك الدول ورؤسائها، بين مظاهر الفخامة والجلال وفى وسط الساحة محارة عملاقة تضم حوافها على عروس بملابس الزفاف ترمز إلى ميلاد عالم جديد تسوده الأفراح والليالى الملاح. عالم يتأخى فيه البشر من كل الملل والأجناس والألوان مهرجان حافل وتكوين ملحمى يذكرنا بروائع عصر النهضة الأوروبية استخدم `الجزار` كل مكتسباته التقنية وقدراته الإبداعية والأستطيقية ابتداء من حبكة التكوين واستقراره.. إلى تنويعات الإيقاع والملامس والنظم اللونية، والتكوينات الداخلية التفصيلية والحركات الطريفة والرموز العديدة ذات المغزى، حتى أن أحداً لا يخطئ تلقى الإحساس والمعنى اللذين أرادهما الفنان. كلما تأمل المتلقى فى هذه التحفة ازداد اندماجاً بعناصرها حتى يهرول بخياله مع المهرولين ليشارك فى هذا الحديث العجيب.
- لا يمكن لفنان فى نهاية القرن العشرين أن يبدع مثل هذا العمل الرائع إلا إذا كان متصوفاً متعبداً فى محراب الفن.. ورائداً اجتماعياً وإنسانياً عاش واحداً وأربعين عاماً فقط لكنه ترك بصمة مضيئة فى سفر التاريخ.
- كانت له رسالة قبل رحيله فى كلمات تقول: `الفن سلاح الجماهير فى معركتها من أجل الكفاية والعدل`. عبارة تحمل نفس المعنى الذي ردده بابلو بيكاسو حين صور رائعته جيرنيكا سنة 1936،،.
الناقد: د./ مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول )
اكتشاف الجزء البدائى من الإنسانية
-أحدثت أفكار الرائدين `حسين يوسف أمين` و`يوسف العفيفى` وأبحاثهما الجمالية، ودعوتهما إلى تحرير الفن بالتعبير عن وجدان الحياة الشعبية المصرية، تأثيرها على أكثر شباب الفنانين جسارة، من أعضاء `جماعة الفن المعاصر`. فتشكلت رؤية `عبد الهادى الجزار` (1925-1966) فى ضوء `وظيفة الفن` التى تتمثل فى التعبير عن الحقائق الإنسانية، وفى تعميق ارتباط الفن بمجتمعه وبالقضايا السياسية والحياتية. وفى الحقيقة أنه من غير المعقول تصور الفن معزولاً عن نبض الحياة وعن حرارة المشاعر الإنسانية. غير أن تسخير الفن قسراً لخدمة الأهداف السياسية، يقضى على الإبداع. وفى كل الأحوال لا يعنى التعبير عن الواقع، أن ينقل الفنان هذا الواقع كما يراه نقلاً تسجيلياً، وإنما أن يعبر عنه بإحساسه وبرؤيته الوجدانية. أما `الخيال` فيتجاوز الواقع، تبعاً لاهتمامات الفنان فى الحياة، ولموقفه تجاه الحقائق الإنسانية وتجاه المفاهيم الجمالية. ولأن الفنان قد أطلق عنانه للتلقائية حتى يعمل الجزء البدائى من لا شعوره، لذا ملأ مسطحات لوحاته بحشوات سردية قلقة، وفى أجواء مشحونة بممارسات السحر الأسود. ويعثر المشاهد فى لوحاته على رموز للصراع الأسطورى بين `الخير والشر` اتخذت شكل تعاويذ وتمائم سحرية، مثل الكف والعين والثعبان والكتابات وأشكال نباتية وهندسية، والتى بوسعها أن تنفذ عبر الحقائق الباطنة، إذا ما تحولت إلى صور مشحونة بالمعانى الازدواجية. حيث امتزجت الحقيقة بالخيال فى تناقض جوهرى، يعزز الموقف من قيم الحرية والمساواة والعدالة.
- وعندما يتجاوز الفنان محنته بممارسته لعمله الفنى، وبفضل ارتباطه الوثيق بمجتمعه، حينئذ سوف يمكنه الخروج من الطريق المسدود، ويتحول فنه إلى قوة إبداع. أما المعرفة التى يصل إليها الإنسان عن طريق الفن، فهى أكثر عمقاً من المعرفة العلمية. ومن هذا المنطلق يتبلور مفهوم الفن الذى لم يعد مجرد زينة سطحية أو ترفيه، وإنما يمتلك بعداً معرفياً، وله وظيفة نقدية ثورية، بقدر مقدرته على خلق عوالم جمالية وفضاءات للتخيل غير المحدود، تصلح كبيئة مناسبة لتجديد الوعى الاجتماعى، واكتشاف القدرة على الحياة المعاصرة، برفض الواقع البصرى، وإعادة إنتاجه فى صورة فنية. وكان `الجزار` يمتلك خيالاً فنياً خصباً، يربط بين الحساسية وعالمى الشعور وما وراء الشعور. ولولا توافر `الخيال` فى مثل هذا الفن، لافتقد عنصره الجمالى وتميزه الفنى، وسقط فى أسر ذلك الواقع البصرى.
- ويرى بعض الفنانين ضرورة أن يتضمن الفن رسالة أخلاقية، تحث على اتباع النظام، على عكس أعمال الفن الأخرى، التى يحتمل فى رأيهم أن تحدث فى المشاهد اضطراباً عقلياً، أو تثير فى النفس ميلاً للعنف، رغم أن أعمال الفن فى الحقيقة قد أُنتِجت كموضوعات من أجل تأملها والاستمتاع بمرآها. أما الدعوة لنوع الفن `الأخلاقى` فتنتهى إلى ضرورة فرض `الرقابة` على الممارسات الفنية، للحيلولة دون إحداثها آثاراً ضارة. غير أن `الرقابة` على الفنون تسىء للمجتمع، بينما المتوقع من الفن هو أن يؤدى دوراً فى مهمة تطهير النفس من الانفعالات الحادة. كما أن انتقاد الفن لما هو متعارف عليه، فيهدف إلى السمو بما هو شائع من أجل أن يصل إلى المستويات الجمالية. ومن المؤكد أن الجمال قيمة لا تنطبق إلا على المتخيل. وليس من الحكمة الخلط بين `الأخلاقى` و`الاستاطيقى` (الجمالى). فبينما تتعلق قيم الخير بالمجالات الحقيقية، يقصد ب`الاستاطيقى` غير الحقيقى أو `المتخيل` الذى يدعو للتأمل فى صورته. وفى كل الأحوال يحتاج الإنسان إلى القدرة على `التميز الجمالى` حتى يتسنى له إدراك شرور الواقع، وتصور العالم الأفضل. وبقدر تمتع العمل الفنى بالحيوية وبالقيم الجمالية والقوة العاطفية، فسوف يكون من المتوقع تأثيره الأخلاقى فى حياة الناس. أما ` الخيال ` فهو أعظم وسيلة للخير الأخلاقى، ويخطىء الفنان إذا أقام معتقداته فى عالم الفن على أساس الصواب والخطأ.
- ولم تكن لوحات الفنان `عبد الهادى الجزار` مثل لوحة `فرح زليخة` (1948) التى تضمنت رموزاً وتعاويذ سحرية وتمائم وقائية، مثل الكف والعين والقط والكتابات والأشكال النباتية والهندسية، تهدف إلى تحقيق أغراض أيديولوجية، أو تمثل `رسالة` موجهة للتربية الأخلاقية، لأن مابها من صور تخص حقائق مصدرها عالم اللاشعور الشعبى، بكل أسراره الخفية وطلاسمه الغامضة. لقد رسم الفنان هذه الرموز المستعارة من الميراث الشعبى بطريقة مدهشة، بحيث توحى بمعان ازدواجية، تمزج الواقع بالخيال وليست مجرد مواعظ أو تعليمات تحض على سلوك معين. وقد نجح الفنان فى تحويل التناقض فى الواقع البصرى إلى جمال فنى رائع، كما نجح فى استدعاء الصور العالقة بالجزء البدائى من `اللاشعور` لكى يطفو على سطح الذاكرة، فيملأ مسطحات اللوحة فى شكل حشوات سردية مشوقة وصور ساحرة، وسط أجواء مكثفة بإشارات الصمت وبعلامات القلق الدرامى - الحزين - ويقاس مدى صدق `التجربة الفنية` بقدر ما تتسم به من طبيعة خيالية، وحينئذ سوف يصبح فى مقدورها أن تحقق دوراً أخلاقياً. وعلى الرغم من تضمن لوحة `زليخة` لجوانب قاتمة من صور الواقع، فإن بوسع المشاهد أن يعثر فيها على تمثيل مدهش وممتع لتلك الجوانب القاتمة بنفس القدر من الاستمتاع بالجوانب المشرقة منها؛ لأنهما على السواء يدعوان للتأمل الجمالى على نحو خيالى.
- وقد تناول `الجزار` بأساليب الاستعارة موضوعات لوحاته المستوحاة من حياة لاعبى السيرك الشعبى، بعروضهم التى تجوب الشوارع والقرى، لإحياء الموالد بالألعاب البهلوانية والغناء والرقص، ولإسعاد الناس الذين رغم معيشتهم على الهامش فى ظروف صعبة لايعرفون الاستقرار، ومع ذلك يستمتعون بحياة الحرية مع الترحال ويتعلقون بها. هكذا نجد الفنان يستعير من حياة `السيرك` أو المسرح الشعبى المتجول، التشبيهات البلاغية التى تعبر عن معنى الحياة الشعبية بطريقة مجازية، ومن الرموز المستقاة، الوشم المقتبس من رسوم الفنان الشعبى التى ترصد البطولات فى السيرة الهلالية. إلا أن استعراض صور البطولة تخفى وراءها القلق من `التهميش` أو من الكساد والبطالة، مما يعانى منه لاعبو السيرك. ويمكن لموضوعات `عالم السيرك الشعبى` أن تعكس المتناقضات، بين الجوانب المشرقة والمظلمة من الحياة الإنسانية. أما صورة الحمار فى لوحة `عربة السيرك` (1951) الذى خارت قواه وما يزال يعمل، فتحمل نبرة نقدية تستنكر فكرة العمل فى ظروف صعبة. والخلط بين قيمة الفن المتمثلة فى أبعاده الجمالية وقيمته الأخلاقية المتعلقة بالحقائق الواقعية، يفسر سبب إغلاق السلطات لمعرض `الجزار` على أساس اعتبار لوحته `الكورس الشعبى` (الجوع) التى عرضها سنة 1949 وكتب تحتها `رعاياك يامولاى` عملاً تحريضياً. فرسم الفنان صورة للفقراء، وقد اصطفوا بجوار بعضهم البعض أمام صحون فارغة على الأرض، ضعفاء ومنهوكي القوى ومهمشين، تفسر لماذا فرض رقابة على الفن، إذ نظروا للوحة على أنها تدين تخلى السلطة عن مسئولية توفير الحياة الكريمة للشعب، ولذا ادعوا أنه من الواجب من وجهة النظر `الأخلاقية` الحيلولة دون إحداث اللوحة لآثار ضارة. وغالباً تشعر الدكتاتورية بالخطر من قدرة الفن على التأثير فى أفكار ومشاعر الجماهير. أما `الجزار` فينتقد بفنه صور معاناة الفقراء، والعيش فى العشوائيات، والاستغلال والتهميش. ومهما اشتملت موضوعات الفن على مضامين سياسية، فلا ينبغى أن تكون على حسب `حرية الفن المستقل` وضد تفرد إبداع الفنان.
- وثمة مسافة تفصل بين الفن والواقع، هكذا تجاوزت لوحة `تصميم سجادة شعبية` (1949) للفنان `الجزار` حدود المرئى، لتتعمق بحساسية مرهفة فيما وراء الشعارات التى هدفها تقبل الواقع على حاله، مع إغراءات وهمية من صنع وسائل الدعاية والأيدلوجيات المتسلطة. ووراء التحريفات الشكلية والمنظور الخرافى الذى يجمع بين أكثر زوايا الرؤية اختلاطاً، رغبة فى التعايش مع الرغبات المحبوسة فى عالم ماوراء الشعور، والتوق للتحرر من القلق المحتوم، وهذا يفسر طريقة توزيع الفنان لصور `الدراويش` الذين يحتفلون بمولد أحد الأولياء، ويشكلون محيطاً لدائرة، تمثيلاً لحلقة `الذكر` وكأنهم يطوفون حول شىء `غامض` يشبه سمكة جسيمة، أو `تابو` يفرض سلوكاً خاشعاً نحو الانصياع للقدرية. وقطعاً لم يكن `الجزار` ينظر إلى `العمل الفنى` كسلعة، ولم يخضع للوصاية، بل على العكس ظل باحثاً عن الحقيقة القابعة فى أعماق النفس الإنسانية، وفى أغوار اللاشعور الجمعى.
- ولم يكن `الجزار` يرسم فى لوحة `المجنون الأخضر` (1950) وجهاً لمجذوب من المنتشرين على أرصفة الشوارع، وبالقرب من أبواب أضرحة الأولياء، وفى الموالد بملابسهم الممزقة منفلتين عن الواقع وهائمين على وجوههم إنما أراد أن يصور بخياله رمزاً لمعنى `الاستسلام للخرافة والشعوذة` التى مصيرها المعاناة من حالات التشويش النفسى وعن حالة الإنسان المغيب فى كسله وعزلته مرتدياً قناعاً يخفى فظاعة واقعه `الداخلى المظلم` ومتحولاً إلى `مسخ` وهو يسلك سلوك `المجاذيب. ومن خلال هذه اللوحة يرتاد الفنان ينابيع الحياة الشعبية ليستخلص منها رموزه المشحونة بالمعانى الازدواجية، أى أن الواقع حقيقى وفى الوقت نفسه رمزى؛ حيث يرسم `المجذوب` متحرراً من تسلط الذات، فى سبيل `سلام وهمى`. وقد نجح الفنان فى أن يدمج أفكاره ومشاعره الذاتية فى فنه، ليعبر عن `حقائق باطنة` وعن `مسائل إنسانية`. فهل بوسع الفن أن يصبح سبيلاً للتعبير عن الأفكار؟ أو يقدم رؤية نقدية تستدعى إعادة تقييم موضوعات ومفاهيم رسخت فى العقول، حتى كادت أن تصبح أصناماً.
- ولا يقصد بالفن الذى يتميز بنزعته النقدية الساخرة، أن يصل بنقده إلى حد التهكم المبتذل، وإنما غايته إعطاء الموضوعات الفنية نكهتها الإنسانية، حتى تستعيد الإنسانية فطرتها، دون الانزلاق نحو اصطناع وقار مفتعل أو السقوط فى براثن الهزل السطحى أو التافه؛ لأنه بالكشف عن الحقيقة الجمالية عبر صور حافلة بالتناقض يفاجىء الفنان المشاهد بعكس ما يتوقعه بمخيلته، فيدهشه ويهز أفكاره المستهلكة، بفضل المصاهرة بين الواقع والحلم. وإذا عجز الفنان عن عرض رؤيته على نحو مبتكر، فسوف يبقى فنه مجرد تكرار للمألوف حتى العبث.
- والتساؤلات النقدية التى تطرحها لوحة `آكل الحيات` (1951) ل`الجزار` ذات نبرة ساخرة، تجاه الموقف المستسلم للوهن، وتجاه الشعور بخيبة الأمل فى العيش دون شقاء. تلك صورة الرجل الذى يظهر خاملاً، ويقبض بفمه أفعى ومحاطاً من كل جانب بالعلامات السحرية، مثل والوشم والأحجبة والأقراط والمفاتيح والعقارب، فكلها تدل على ممارسة أنشطة مشعوذة، ويقصد منها أن تحمى من المرض أو تقى من الحسد. إذ يعتقد أن وراء الشر قوى لا يمكن الفكاك منها. أما غموض الرمز فيثير الشغف نحو فك طلاسمه، وفى ممارسة عملية حل الألغاز شعور بمتعة. أما الأفعى فى الحكايات الشعبية فتمثل رمزاً لحيل التخفى كما أنها تشفى من العلل. وتشبه عملية الرسم عند `الجزار` ممارسة لأعمال سحرية اتقاء لأذى قوى غيبية شريرة.
من كتاب طليعة التجديد فى الفن المصرى الحديث ( مارس 2016 )
سلسلة ذاكرة الفنون عدد مارس 2016
بقلم : د./ محسن عطية
من كتاب طليعة التجديد فى الفن المصرى الحديث- سلسلة ذاكرة الفنون(مارس 2016)
` الجزار`.. صياغة فريدة لعالم الغيبيات
- بالألـوان لفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربه تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها - أعماله.
- عبد الهادي الجزار (1925-1966) أسم ارتبط بعلامات ومحطات هامة فى تاريخ مصر، حيث سجل بريشته وأحاسيسه ووطنيته لوحات ترتبط بأحداث بارزة منها، ثورة يوليو 1952وما بعدها، حيث عاش تلك الفترة وتأملها وقدم من خلالها أعمالًا إبداعية عديدة منها: `النصر، والعدالة، والميثاق، وبور سعيد، والسلام، فضلا عن قيامه برسم لوحة فريدة ترتبط بحفر قناة السويس بعنوان `حفر قناة السويس` عام 1965 أى قبل رحيله بعام واحد وكانت بتكليف من المتحف البحرى بالإسكندرية بهدف تسليط الضوء على جهد آلاف العمال الذين شاركوا فى حفر قناة السويس.. ساهم الجزار فى مرحلة بناء السد العالى من خلال لوحته الشهيرة `إنسان السد`، هذا بخلاف ما رسمه فى فترة الأربعينات والخمسينات التي عكست شخصيته التشكيلية الفريدة التى أضافت كثيرًا لفن التصوير المصرى المعاصر.. منها لوحات: `المجنون الأخضر، وفرح زليخة، ودنيا المحبة، وتعويذه، وشواف الطالع، الرجل والقط`..أحلام الفقراء
يعد الجزار فنانًا من الرعيل الثانى `جيل ما بعد الرواد`.. إذ كان من أوائل الفنانين بين أبناء جيله الذين سخَّروا ريشتهم لرسم أحلام الفقراء والبسطاء، وأرتبط بالعمال والفلاحين وأبناء الطبقات الكادحة.. لقد كان علامة بارزة من علامات الفن التشكيلى المصرى ولن نبالغ إذ قيل أن اسمه اقترن بفنانين عالميين كُثر.. ولد فى مارس 1925 وكانت نشأته بحى القبارى بالإسكندرية ورحل مبكرًا وهو فى سن الأربعين فى مارس 1966، عاش طفولته ما بين عروس البحر المتوسط وحى السيدة زينب حيث التقاليد والعادات الشعبية والأماكن التاريخية التى ستظل ملهمة للفنانين والشعراء والأدباء، ورغم أنه بدأ دراسته فى كلية الطب لكن سرعان ما تركها والتحق بالفنون الجميلة وتخرج فى قسم التصوير وعُين معيدًا بها عام 1950.
- تدرج بعد ذلك فى الوظيفة الأكاديمية حتى وصل إلى درجة الأستاذ المساعد، وتخصص فى تدريس التكنولوجيا والترميم والفِرِسْك، حتى حصل على الأستاذية فى التصوير من أكاديمية الفنون الجميلة بروما 1954 المعادلة للدكتوراه، ودرس فى معهد الآثار من 1950 حتى 1954، فضلًا عن برامج تدريس الفنون الجميلة فى أكاديميات ومعاهد إنجلترا وفرنسا وإيطاليا.
- تعدد المواهب
- أتقن الجزار عدة لغات منها: الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية، كما درس الهيروغليفية.. وقام بدراسة الموسيقى العربية على يد الموسيقار عبد المنعم عرفه واشتهر بعزفه على آلة العود.. وقام بكتابة بعض القصص للأطفال ورسم رسوماتها الداخلية، كما اشترك فى تقديم البرامج الفنية ومجلة الإذاعة براديو روما، وكانت له عدة تسجيلات من الأحاديث التليفزيونية فى مصر وإيطاليا.. فضلا عن مشاركته فى عدة أبحاث للفنون الشعبية كما كان له باعٌ كبير فى العلوم والرياضيات التى تتحدث عن الخيال العلمى، وبعض التجارب فى الرسوم التجريدية.. وحكى أنه كان يحافظ على تلاوة القرآن وله فى هذا الصدد عدة تسجيلات بصوته.
- الجوائز والتكريم :
- حصد العديد من الجوائز رغم رحيله المبكر، من أهمها: جائزة الدولة التشجيعية عام 1964، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عن رائعته إنسان السد عام 1964، والميدالية البرونزية فى معرض ساو باولو بالبرازيل عام 1957، والميدالية الذهبية فى صالون الفنانين العرب بروما عام 1957، والميدالية الفضية من مدينة بارى الإيطالية عام 1958، وميدالية وشهادة تقدير من معرض بروكسل الدولى فى الفن التشكيلى عام 1958.. وله مقتنيات فى متاحف وسفارات مصر وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا والبرازيل ونيودلهى.
- الوشم والحجاب
- سجل الجزار أعمالاً كثيرة عن الكون والإنسان إذ كان شغوفًا بحل رموز عالم المجهول والروح والتعمق فى الحياة الشعبية والأساطير والخرافات والخيال والغيبيات.. وشكلت رسومات الوشم والحجاب والقوقعة والآلات والأسلاك رموزًا وشعارات كان يستعين بها فى أعماله، تلك الرموز خلقت حالة من الجدل التشكيلى وجعلت أعماله محل بحث ونقد لم يتوقف حتى وقتنا الحالى..عاش الجزار فى عالمه ولوحاته ما بين الماضى والحاضر.. يتأمل وينقب عن المستقبل بكل حواسه وأدواته، ورغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيله إلا أن أعماله ما زلنا نعيد اكتشافها كل يوم ونتأمل زواياها ومداركها وإلقاء الضوء على جوانبها الخفية.. وقد تم رصد أعمال الجزار فى `الكتالوج المسبب` الذى صدر حديثًا احتفاءً بتاريخه واعترافًا بموهبته بوصفه رائدًا من رواد الحركة التشكيلية، ويعد الكتالوج الإصدار الثانى من نوعه لفنان مصري بعد كتالوج محمود سعيد.
بقلم : د./ طارق عبد العزيز
جريدة : الاخبار 1-7-2024
الفنان والصورة : قراءة سيكولوجية
- عسى أن تضئ
- مع الربيع كان الميلاد ..
- مع الربيع كان الرحيل ..
- واحد وأربعون عاما جعلت البعض ينظر إلي حياته القصيرة كمأساة !! وماهي بمأساة ، لأن الجزار عاش الحياة بحب جارف للحياة ، يعتصر رحيقها قطرة قطرة ، فهو يرسم ويكتب خواطر وأشعاراً ، يحاضر ويتعلم ، يتمرد ويشاكس .. ينسي آلامه بصحبة بنيات كزغب القطا ويرحل إلي الفضاء .. إلي نقاء اللون والتعبير.. يملأ الروح بالوجوه ، بخرائط المدن البعيدة ، وبالأسفار المتجددة دائما.
- عما يبحث ؟
- لا أحد يدري .. إن حبه الجارف لأشكال الحياة يطوي هاجساً مريراً تجاه الموت .. إنه ابن موت كما يقولون ، يقبل إقبال نهم لا يرتوي ويتصوف تصوف زاهد يأس من عطاء اللحظة ، والطابع العام لتحولاته ولإبداعه هو السرعة .. سرعة الثائر والمتمرد ، العاشق للحياة والناقم عليها ، الزاهد الطامع في لحظات الغد المستحيل ، حين يعود إلي رحاب أنقي وأطهر ، فدائما يسكن الروح حلم الصعود إلي السماء.
- ابن عروس البحر .. علي حافة البحر عاش يصغي إلي الموج وخرافات الصيادين ، يراقب القواقع تنطوي وتنبسط ، كأنها تموت وتحيا .. فأين يكمن سر الحياة وأصل الأشياء ؟! أسطورة الخلق والخليقة تتسلل إلي روحه صبيا ثم تشرف أسطورة الناس في جنبات الضريح ، المجاذيب والتواشيح ، بسطاء أم هاشم خلعوا أسمال الدنيا وعادوا ثكلي وحزانى.
- من أعماق البحر، إلي ناس البسيطة ، إلي أغوار الفضاء يرتحل الجزار .. من الرمز إلي التعبير، إلي التجريد من قوة الغموض إلي بساطة الوضوح ، يرتحل الجزار بين المعني وبين البلاد..
مرة أخرى .. عما يبحث ؟
- يبحث عن ذاته الحقة .. عن ثورته الحقة .. عن مصريته الحقة .. منذ الكورس الشعبي إلي السد العالي وطوال عشرين عاما والجزار لا يكف عن الثورة والحلم بالثورة .
- عبر ما يزيد عن مائتي عمل فني لا تجد خنوعة اليأس وهزال الضعف وإنما فرشاة ثائر ينكأ دمل الجوع والفقر والخرافة ، يمنح وجه السد العالي ملامح الذات .. ملامح المصري الشامخ ، صلابة حورس وإيزيس ورجال النوبة الذين يشبهون طمي النهر الخالد ويشتهون الجنيات.
- لا تحكي لوحاته عن الهلاوس والملل والفراغ وإنما تستحضر المعني الكامن عبر حضارات مصر.. تستحضر الانفعال الحر بالأشياء وكأنها تميمة ضد أدعياء الحداثة وما بعد الحداثة.
- ترصد هذه المحاولة المتواضعة سيرة فارس خيال .. تكشف صفحات مجهولة وتضيف .. أو تطمح لأن تضيف إلي ما كتب عن مصري ثائر عاشق للفعل والانفعال .
- وقبل أن تهجم الفوضي وتغوص الأقدام في وحل الهذيان نلجأ إلي الكتابة عن الجزار كملاذ أخير وحصين .. لأنه مرآتنا وجذرنا وشعلة الضوء لغد أت . فآن لكتابات الجزار المجهولة أن تري النور وآن لمعلوماتنا أن تنضبط أكثر .. أن تضئ اكثر ..
- تبقي المحاولة دائما مشروعة عسي أن تتجاوز .. أن تقف علي الحافة ثم تنظر إلي بعيد .. إلي أقصي موجه ترتجف فوق سطح البحر، فهذا يعني أن شيئا ما يتخلق وأنه سيأتي من جديد.
- سيرة عاشق الجن
-عاشق من الجن
- تايه في بحور ويصن
- يغسل ذنوبه في تراب العمر
- فتح فرويد كوة في جدار الطفولة البعيدة لليوناردو دافنشي ، من خلال استقراء لوحاته ومذكراته وآراء الآخرين ووثائق عصر النهضة ، إيمانا منه بأن التحليل يعطينا تفسيرا كاملا فيما يعلمنا إياه من أن الكثير من الأطفال _ وربما معظمهم أو علي الأقل الموهوبين منهم يمرون بفترة تبدأ من السنة الثالثة فترة يمكن أن تحدد بأنها فترة البحث الجنسي الطفلي. فدافنشي ابن غير شرعي تعلق تعلقا شديدا بأمه ، وروي عن نفسه ذكري بعيدة لنسر هبط عليه وهو في المهد ، ففتح فمه بذيله وضربه عدة مرات علي شفتيه .
- هذه الذكري أو الواقعة ربما تكون خيالية ، ربما تكون حلما .. لكنها في النهاية قابلة للتحليل الفرو يدي ، الذي اعتبر النسر رمزا للأمومة بشواهد من الحضارة الفرعونية كما اعتبر الذيل صورة بديلة للقضيب. فأم دافنشي التي ربت الطفل وأعطته الحنان تحولت إلي نسر، وبلغت الجنسية الشبقية التي تنبعث من شخصية الأم مداها ، في رغبة أن يري عضوها التناسلي الذي كان يعتقد أنه قضيب .وتتحول هذه الرغبة غالبا بحكم المعرفة التي لا تأتي إلا متأخرة بأنه ليس للمرأة قضيب إلي نقيضها ، وتؤدي الي النفور، الذي يمكن أن يصبح في سن البلوغ سببا في العفة النفسية ، وسببا في العزوف عن النساء ، وسببا في شهوة الجنسية المثليى.
- من الصعب أن نقدم خلاصة وافية لدراسة فرويد ويكفي القول بأنه يرد الاضطرابات الجنسية في حياة دافنشي إلي علاقته بالأم ، كما يعتبر أن الأحداث النفسية الهامة في حياته هي المسئولة عن التجائه الي الفن وإنتاجه لبعض اللوحات خاصة الموناليزا والقديسة آن ويوحنا المعمدان.
- مثل هذه الدراسة ترد عملية الإبداع إلي قدرة الفنان علي الإعلاء والتسامي sublimation إذ يري فرويد أن الفنان شخص انطوائي يعجز بسبب دوافعه المفرطة عن التجاوب مع متطلبات الواقع فيلجأ الي إشباعها بطريقة غير مباشرة .أي أن ثمة حاجزا بيولوجيا أو دافعا شبقيا `يتحول` عن هدفه المباشر الذي يجد اعتراضا في الواقع إلي إشباع غير مباشر ينال استحسان المجتمع .
- إذا حاولنا تحليل مفهوم التسامي أو بمعني آخر تتبعنا مراحل تحققه، فهذا يعني أن علينا أن نمسك بالفرجار ونرسم دائرة ، لأننا كما سيتضح بعد قليل سوف نعود مرة أخري لنقطة البداية .
- في معجم التحليل النفسي (لابلانش وبونتاليس) ورد تعريف للتسامي بأنه يرتكز علي نشاط غريزي يحول عن مجراه نحو غاية جديدة لا جنسية ونحو أشياء مثمنة اجتماعيا. فالعملية الإبداعية تنطلق من دافع شبقي أو رغبات جنسية مكبوته ، لدرجة يكاد معها الفنان أن يصبح عصابياً ، ويكمن الفرق في كون العصاب هزيمة للانا في صراعها مع الهو ، أما التسامي الذي يقوم به الفنان فهو يمثل انتصاراً للأنا بالتضامن مع الهو علي الأنا الأعلي .. انتصاراً مؤقتا !!
- من هنا فإن الفنان يحتفظ بقدر من المرونة يكفل له التحكم في `المسافة` بينه وبين واقعه ، كما أنه يجد السبيل للعودة إلي هذا الواقع . نلاحظ هنا أن فرويد يقرب في مفهومه للتسامي ما بين الفن والعصاب، لكنه لا يرمي من وراء ذلك الانتقاص من قدر الفن ، وإنما يريد فحسب أن ينص علي إمكان تحليل العمل الفني بالاستناد إلي مظاهر الكبت الموجودة لدي الفنان. والتى تتلخص لديه فى دافع شبقى مكبوت.
- والحقيقة أن للعملية الإبداعية مقومات ودوافع أخري لا يمكن قصرها علي إرضاء الدوافع الليبدية ، فهناك الرغبة في الإنتاج التي لا تعد مطابقة للرغبة في التناسل ، وهناك التشوق إلي التعبير عن النفس الذي لا يتحتم أن يكون نزعة نرجسية وهناك الرغبة في نيل استحسان الجماهير ، وهو ما لا يمكن أن نحط به إلي درك الرغبة في نيل الحب لدى الفنان .
- رغم ذلك يبقي تركيز فرويد علي الدوافع الليبدية حيث تحدث لها عملية إبدال أو تحول الي هدف أسمي يتسم بأنه غير جنسي أولا ، وأنه مقبول اجتماعيا ثانيا ، ولكن فرويد لا يوضح لنا كيف يحدث التحول أو ما `القوة` التي تحول الدافع الشبقي عن مجراه . كذلك لا نعرف هل عملية الإبدال تتم بإرادة واعية من قبل الفنان أم لا ؟!
- لا توجد إجابة واحدة يمكن الاتفاق عليها ، إذ أن عملية الإبدال هذه تحدث في `الاشعور` الذى يعتبر مسرحا غامضا مشتركا للحلم والعصاب والفن والفكاهة . والملاحظ أن كلاً من فرويد ويونج يتفقان على القول بأن اللاشعور منبع الإبداع الفني ، لكنهما يختلفان في الحديث عنه ، فعلي حين أن معظم اللاشعور مكتسب شخصي عند فرويد نراه يتألف من قسمين عند يونج : أحدهما مكتسب شخصي والآخر يحمل خبرات الأسلاف ، وهو ما يسميه يونج باللاشعور الجمعي ويعتبره مصدر الأعمال الفنية العظيمة .
- تصل قوة اللاشعور الي درجة أن يصبح الفنان مجرد `وسيط` سلبي تقريبا ، إذ يري يونج أن الفن نوع من الدفع الداخلى الذي يستولى على الكائن البشري ويجعل منه أداة له . وليس الفنان شخصا ذا إرادة حرة يسعي إلي رغباته الخاصة ، وإنما هو شخص يسمح للفن أن يحقق أهدافه من خلاله . وقد تكون له بوصفة كائنا بشريا أحوال وإرادة وأهداف شخصية ، لكنه بوصفه فنانا يعد (إنسانا) بمعني أسمي ، فهو إنسان جمعي يستطيع أن يشكل اللاشعور، أو الحياة الروحية للنوع البشري هذا الإنسان الجمعي collective man الذي يحمل لا شعور البشرية ، والذي يضحي بسعادة الكائن العادي بداخله ، يفعل ذلك لا إراديا لأنه قد تحول الي وسيط أو مجرد `أداة` في يد قوة عليا اسمها اللاشعور الجمعى .
- وهو ما يقرره يونج قائلا بأن للعملية الإبداعية صبغة أنثوية ، فإن العمل الإبداعي إنما ينبع من أعماق اللاشعور، أو إن شئت فقل من ملكوت الأمهات ! وحينما تغلب القوة الإبداعية علي الحياة البشرية ، فإن الإرادة الفعالة سرعان ما تستسلم عندئذ لحكم اللاشعور . فلا تلبث الذات الشعورية أن تتراجع وتستحيل إلي تيار سفلي .لكي تكتفي بمشاهدة ما يجري من أحداث دون أن تكون لها أدني يد في تغييرها . ولنا أن نقارن ذلك بما يقوله الرومانسيون عن الوحي والإلهام وشيطان الشعر فمثلا يروي أن الشاعر الإنجليزي الشهير كولردج كتب قصيدته `كوبلاخان` أثناء نومه كما لو كان مسحورا. وأيضا جوته يقول : الإنسان أسير شيطان يتملكه ويرين عليه حتي ولو وقع في ظنه أنه حر مستقل يملك بحق زمام نفسه . وبعبارة أخري يمكننا أن نقول إن الإنسان لا يخرج عن كونه أداة في يد قوة عليا ، أو هو بالأحري متلق ممتاز لاستقبال شتي التأثيرات الإلهية. ليس هناك فرق كبير بأن يكون الإنسان مجرد أداة في يد قوة عليا اسمها اللاشعور الجمعي كما يقول يونج ، أو أداة في يد قوة عليا لاستقبال التأثيرات الإلهية كما يقول جوته .. أو ما قاله العرب قديما عن وادي عبقر وشيطان الشعر الذي يعتبر قرينا للشعراء يوحي إليهم بما يقولون دون إرادة منهم !!
- وأول نقد يمكن أن يوجه إلي فكرة اللاشعور والإلحاح عليها أنها بالضرورة تعمل علي إلغاء إرادة الفنان إلي حد كبير. بالإضافة الي أن اللاشعور يتحول بهذا المعني إلي علة أولي مفسرة لأفعالنا العادية والإبداعية علي السواء. ولا شك أن المبالغة في التأكيد علي اللاشعور أوجدت طرفا مقابلا يعلي من شأن الشعور في الشعور في العملية الإبداعية ، وبالتالى يعلى ضمنا من الإرادة الواعية للفنان. فمثلاً دي لاكروا يقرر بأن هناك الي جانب تلك القوة الملزمة التى تنفجر على حين فجأة في صميم الحياة العادية للشعور ، عمليات سيكولوجية عديدة تتمثل في الاستعداد المنهجي والخبرات الحسية وشتى المحاولات القصدية أو الإرادية . هو ما يؤكد أيضا بول فاليرى قائلا : إن التجربة لتظهرنا علي أن لدي بعض المراهقين والهواة والنساء من التصورات الخيالية ما تزخر به رؤوسهم ، لكن الشئ الذي ينقصهم علي وجه التحديد إنما هو التنفيذ والأداء .
- يتبلور هذا الاتجاه أكثر من خلال ما يقدمه عالم النفس رانك من تفسير للفن يقوم علي أساس فكرة الإرادة لدي الفنان . فنحن نعرف أنه في الدافع الإبداعي لا تتمثل أرقي صورة لتأكيد إرادة الفرد فحسب بل يتمثل فيه كذلك أعظم نصر للإرادة ، أي انتصار إرادة الفرد علي إرادة النوع الذى يتمثل فى الناحية الجنسية. إن انتصار رانك لارادة الفرد وما يقوله بول فاليري وآخرون عن أهمية الاستعداد المنهجي والتنفيذ والأداء وغير ذلك من العمليات الشعورية ، كل هذا يعني أننا لو أمعنا النظر الي عملية الإبداع لألفينا أنها تنطوي علي كثير من العناصر الشعورية واللاشعورية التي تتداخل وتتشابك فيما بينها حتي ليكاد يعسر علي الفنان أن يحدد لنا بدقة كل من الشعور واللاشعور فى صميم تلك العملية .
- يظل الفنان شاحذا قواه الشعورية واللاشعورية بقدر ما تكون دوافعه متأججة لا تخمد ، إذ تطالبه بنوع من الإشباع حتي لو كان ذلك في التخييل . ومعني هذا أن نجاح عملية التسامي يتوقف علي إيجاد هدف بديل ، وعلي خلق عالم متخيل يستمتع فيه الفنان بالتحرر من قبضة العالم الخارجي ، من هنا يلتجأ الفنان الي الرموز والصور والأفكار والأشياء ليخلق مجالات خيالية أو ميادين وهمية تصبح فيها الدوافع المكبوته عديمة الضرر.وبالتالي تكون الوظيفة الأساسية للفن هي خفض التوترات النفسية وتفريغ الطاقة ، وان كان البعض يري أن تفريغ الطاقه لا يتحقق إلا بالحصول علي الهدف نفسه الذي يطلبه الشخص منذ البداية ، وهنا إذا كان هذا الرأي صحيحا يفقد التسامي معناه لأنه يشترط إبدال الهدف !! وسواء أكان الفن هدفا بديلا أم أساسيا فإنه بالفعل يحقق للفنان لونا من ألوان الانعتاق والتحرر، فكما يقول شارل بودوان : الفن كالحلم من حيث أنه يخضع لتأثير الميول الجنسية والرغبات المحرمة التي تلزم الفرد بأن يختار واحدا من أمرين : فإما الصراع مع العالم الاجتماعي أو التوازن الباطني ، والفن كالجنون من حيث أنه تحرر من العقد الغامضة : فهو انطلاق وتحرير للطاقة أو هو تطهير وإخراج .وكأننا مرة أخري نسمع صوت أرسطو يأتي عبر مئات السنين وهو يحدثنا عن وظيفة الدراما ، وان اختلفت الألفاظ بعض الشئ .
- والمؤكد أن عملية التوازن الباطني والتطهير وإطلاق الدوافع اللاشعورية من مكمنها ، لا تكتسب أهميتها وقيمتها الإيجابية إلا بخلق عالم متخيل يتسم بالموضوعية علي نحو ما ، بحيث يشترك الآخرون في الاستمتاع به ، وذلك يتحقق عن طريق الرمزية أي باستخدام الصور والأفكار والأشكال التي تدل علي المحتويات الأصلية للتخيل أو عن طريق التباس المعني أي باستخدام الصور والأفكار والأشكال التي تدل علي المحتويات الأصلية للتخيل أو عن طريق التباس المعني أي باستخدام صور يمكن تفسيرها علي أنحاء شتي ، وبذلك تطمس دلالتها الأصلية .
- يبقي هناك سؤلان أساسيان حول العالم المتخيل، أولهما : لماذا يتجلي هذا العالم في أشكال فنية مختلفة ومتعددة ؟ فهذا فنان يعاني دافعا غريزيا مكبوتا يتسامي به من خلال إبداع قصيدة ، بينما نجد فنانا آخر يعاني من دافع مماثل لكنه يتسامي من خلال شكل إبداعي آخر كالفن التشكيلي مثلا !! ليس ثمة إجابة واضحة لدي فرويد عن هذا التساؤل.
- أما السؤال الآخر فيتعلق بالعمل الفني ومدي ما يحققه من إشباع بالنسبة للفنان. من الثابت عند فرويد أن التسامي الذي يتجلي في صورة عمل فني متخيل يعتبر كما سبق وأشرنا بمثابة انتصار للأنا بالتضامن مع الهو علي الانا الأعلي . أي انه بطبيعة الحال ليس انتصاراً للأنا الأعلي ، وبالتالي يؤدي إلي الكبت مرة أخري ! وكأن مصطلح التسامي في مراحل تحققه أشبه بالدائرة المغلقة ، تنطلق من دافع مكبوت وتعود إليه ، تحقق إشباعا بديلا أو ناقصا . والتحول من هدف جنسي إلي هدف أسمي يتوازي تقريبا مع ما يسميه البعض بهروب الفنان من قبضة الواقع إلي عالم متخيل يشبع فيه الفنان رغباته ويستعيد قدراته علي الخلق والسيطرة والتشكيل ثم سرعان ما يعود الي الواقع بما يملك من قدرة هائلة علي التسامي والإبداع لكنها عودة مختلفة على كافة المستويات. إنها عودة أكثر وعيا وعمقا .عودة سارق النار وحامل العطايا الإلهية ، القادر وحده علي أن يضئ مساحات العتمة وان يبدد شرور الغرائز.
- ولأن إحساس الفنان بالواقع يظل حادا أليما .. ولأن الدوافع المكبوته تظل متأججة لا تنطفئ ، فإن الفنان يستمر جوالا في سياحة لا تنتهي بين الشعور واللاشعور، بين الواقع والمتخيل ، الممكن والمستحيل ، الزمان والمكان .. ويظل عابرا فى رحلة ليلية خالدة علة يأتي بقبسة من نار أو يكتشف اللغز .. أى لغز ..
- وعندما نطرح علاقة الفنان بعمله ووظيفة الفن من منظور التحليل النفسي ، فليس الغرض التغني بمصطلحات معروفة من قبيل التسامي والصراع الأدويي ، أو استخدامها كمجرد أكليشيه cliche .. فالطرح السابق لا يخلو من رؤية نقدية ، لأنه يهدف بالدرجة الأولي إلي الاستفادة من التحليل النفسي كمنهج في النقد الفني وليس كمذهب يتم التشبث بمقولاته إلي درجة التعصب .علي الجانب الآخر حاول كثير من السيكولوجيين وعلي رأسهم فرويد وإرنست جونز وشارل بودوان وأتو رانك وغيرهم أن يتفهموا الفنان من حيث هو فنان ، المأساة ووهج العبقرية ، التمرد والعزلة ، جوانب الضعف والقوة .
- وتكمن مشروعية منهج التحليل النفسي في كونه يلقي الضوء علي الجانب المعتم .. أو علي الجانب الآخر.. يضع الفرضيات لينفتح أفق النص أكثر، أو ليتسع عمق اللوحة قليلاً. وشئنا أم أبينا ستظل مدرسة التحليل النفسي حجر زاوية في أي دراسة واحدة عن فنان عربي ! ربما تكون
- إن عبد الهادي الجزار فنان صادق ، يستدعي بطوله الفارع وحدة أنفه وقوامه الرياضي وحزن عينيه صورة ما لأحد الفرسان ، أو الثائرين .. بل لا نبالغ وكما ألمحنا في المقدمة تكاد تنغمس حياته بأسرها في أتون ثورة ما. من لوحته الكورس الشعبي والقبض عليه عام 1948 م وحتي لوحته الشهيرة السد العالي وحصوله علي جائزة الدولة التشجيعية ، نلاحظ أن الخيط الرفيع المشترك هو روح الفنان الثائر.
- ولد عبد الهادي الجزار في 23 مارس عام 1925م ، بحى القبارى بالإسكندرية ، في أسرة تنتمي إلي الطبقة الوسطي ، حيث كان الأب يعمل مدرسا بمعهد الإسكندرية الديني ، ثم انتقل فيما بعد للتدريس في جامعة الأزهر، وله بعض المؤلفات الإسلامية منها : `الذخيرة في تفسير القرآن` .
- تذكر زوجة الفنان أن أصل العائلة يعود إلي بلدة برما التابعة لمدينة طنطا بوسط الدلتا وإلي نفس البلدة تنتمي عائلة الأم عائلة حمودة التى كانت مشهورة ، إذ تتسم بالثراء المادي نوعا ما . وكان الأب رجلا عطوفا متسامحا إلي حد بعيد ، منشغلا بعالمه الجامعي وتأليف الكتب الدينية ، مما أتاح قدرا من الحرية لأبنائه لولا سطوة الأم وما تمارسه من دور فعال في حل مشاكل المنزل والأبناء.
- ولقد تأثر عبد الهادي الجزار في صباه المبكر بالأب وبالأم علي السواء ، وكان لكليهما أكبر الأثر في توجيه دفة حياته فيما بعد . فعن أبيه ورث النزعة الدينية العميقة المسيطرة ، والتي تتجلي في سلوكه العام ، فتذكر السيدة زوجته أنه كان ينفر من الحفلات التي يتبادل فيها الأصدقاء المشروبات الروحية وأنه بسبب ذلك عاد مبكرا إلي المنزل ذات يوم وكان هناك إحتفالية تقام له في التليفزيون ؟ وحين سألته الزوجة عن السبب قال لها باقتضاب `الوضع معجبنيش` !! .
- ينمو هذا الحس المتدين ويختمر في حس صوفي رفيع الطراز ، ويتغذي كرافد أساسي من مصادر إبداعه من خلال حياته بالقرب من ضريح أم هاشم وفي حينها ، قريبا من المجاذيب والتراتيل وحكايات الناس البسطاء ، ثم يتجلى هذا الرافد كأروع ما يكون فى مرحلته الشعبية على وجه الخصوص.
- كان الجزار يكتب الكثير من الآيات القرآنية علي سطح لوحاته أو ينتقي بعض ألفاظها كقيمة روحية وتشكيلية متفجرة ، في أوراقه الخاصة كثير من تلك الآيات التي كتبها بعناية علي قطع ورقية مستقلة، والملاحظ أن أغلبها آيات تتحدث عن الملائكة وأحيانا عن الجن . تحكي زوجته أيضا أنه كان يحافظ علي الصلاة وقراءة القرآن ، ولدي الأسرة بعض التسجيلات بصوته.
- ينعكس هذا التدين علي علاقته بزوجته السيدة ليلي عفت التي كانت مدرسة بمدرسة الجيزة الثانوية0 فرغم أن الجزار خلال عمره القصير لم تنقطع صلته بأوروبا حضارة وثقافة وسياحة إلا أنه في علاقته بزوجته كان رجلاً محافظاً ولا أقول متشددا بمعني أنه كان يفضل أن ترتدي الملابس `الحشمة` ولا يحب أن يعرف الناس اسمها0 تحكي الزوجة أنه في أحد الأيام وكان الجزار يجلس مع ضيوفه ، أرسلت الخادمة تسأله ماذا نقدم للضيوف فأخطأت وذكرت اسم الزوجة أمام الضيوف فكان يوما عصيبا علي الخادمة ! ولعل هذا كان وراء تسمية الجزار للبورتريه الشخصي لزوجته باسم ( تأمل) رافضا أن يصرح باسمها علي البورتريه !!
- وفى أحيان كثيرة كان يفضل عدم حضورها للحفلات والمعارض الخاصة به بحجة أنها أماكن لا تناسباها ، ولكنها النزعة الدينية التى يعززها انتماؤه الطبقي وشخصية أبيه العالم الأزهرى ، الذي ظل عطوفا متسامحا حتي بعد رحيل الجزار إذ رفض أن يرث فى ابنه أو أن يصبح وصيا على حفيداته الثلاث ، مفضلا أن يترك الأمر لزوجة الفنان كما ترك أمر أولاده من قبل لزوجته.
- أما بالنسبة لدور الأم وأثرها علي عبد الهادي الجزار في مرحلة التكوين ، فهو دور بالغ الشأن ، إن لم نقل بالغ الخطورة . فالأم سليلة الأسرة الثرية بعض الشئ وربة البيت وزوجة العالم الأزهري ، كانت ذات شخصية قوية مسيطرة ومستقلة إلي حد كبير، وكان عبد الهادي الجزار أكثر الأبناء قربا إلي نفسها فظل طفلها المدلل حتي بعد أن تزوج الجزار.
- كانت تلك السيدة تتسم بالشدة والإيجابية في إدارة المنزل ، لكنها شديدة الحنان والتدليل للفنان ، لدرجة أنها ورغم زواج الجزار كانت تطهو الطعام وتحضره إلي منزل الزوجية !! ولا تخفي غضبها حين تجد أن ابنها قد خرج مع زوجته إلي السينما أو المسرح فتقول لهما : انتو فاتحين البيت ليه ؟!!
- ولا شك أن ارتباط الجزار بها كان مماثلا في قوته لارتباطها به ، وكذلك ارتباطه بأخته الصغري نزيهة ، التي ظلت معه فى منزل الأب بعد زواج الأخوة الآخرين . (الملاحظ أن نزيهة تظهر في أحد أحلام الجزار كما سيأتي) . ولأن الأب كان مشغولا إلا أنه لم يكن يمانع في أن تخرج الأم مع طفليها عبد الهادي ونزيهة إلي السينما أو المسرح أو شراء بعض الطلبات .. وأحيانا زيارة بعض العائلات حيث تتمتع الأم بعلاقات اجتماعية متعددة ، فهي تحب أن تعتني بمظهرها وبنفسها وبالحفاظ علي علاقاتها مع الآخرين ، كما أنها كما تذكر زوجة الفنان كانت تحب زيارة الأماكن الجديدة والذهاب للحفلات الموسيقية والغنائية.
- هذه الملامح الخاصة بالأم وتكوينها النفسي نجدها بوضوح وبقوة في شخصية الجزار الفنان ، الذي الذي شعر بعد زواجه أنه موزع بين أم يحبها ويطلب رضاها وزوجة يحبها هي الأخرى ويطلب رضاها ، لدرجة أن الزوجة كانت تغضب وتشعر أحيانا بالغيرة تجاهها !! وحين يتعقد الموقف وإشفاقا علي الابن تبدأ الأم نفسها في استمالة الزوجة واسترضائها بالمعاملة الحسنة . يشترك الجزار مع أمه أيضا في لعنة المرض والمعاناة ، إذ أصيبت الأم بمرض الكلي ورحلت عام 1957 م . لكن لا نجد في أوراق الجزار الخاصة أو ما كتب عنه ما يشير إلي علاقته بالأم أو تأثره بسبب رحيلها . ربما لتواكب هذا الحدث مع سفره للدراسة إلي إيطاليا بحيث دفن الجزار أحزانه الخاصة في السفر والدراسة ، ربما لهذا السبب لا نجد إشارة إلي الأم التي منحته الحنان والتدليل وحب البهجة والحياة .
- تبقي المراهنة أن ثمة ارتباطا وثيقا كان بين الأم والابن ، وأن ثمة رغبة مكبوتة أو موقف أوديبي تعززه إيجابية الأم بمشاعرها تجاه الابن ، بشكل مبالغ فيه أحيانا . ولأن الأم كانت محبة للموسيقي والمسرح والسينما وكان الابن يذهب معها ومع الأخت الصغري لهذه الأماكن ، لهذا السبب ربما بحث الفنان عن زوجة تشبه في صفاتها الأم وعندها لاحظ أنها لا تحب هذه الأماكن بنفس الدرجة التي يحبها الزوج والفنان ، راح يطلب منها أحيانا أن تذهب معه لهذه الحفلات علي غير رغبة منها، وكأنه يستعيد لا شعوريا ذكرياته الجميلة مع الأم.
- وتذكر الزوجة فى حوار معها أنها لم تكن حسب طبيعتها تستطيع أن تمكث كل هذه الساعات لحضور الحفلات ، فكانت أحيانا تتململ حتي تضطره إلي مغادرة الحفلة قبل الموعد . إنه يستعيد علاقة قديمة مع الزوجة بديل الأم علي مستوي ما من المستويات من خلال مشاركتها له في بعض الهوايات. في المقابل وكما ذكرنا آنفا كان الجزار لا يحب أن يعرف أحد اسم زوجته أو أن تري بملابس غير محتشمة وكأنه يستأثر بها ويمنعها عن كل رجل آخر هو في نهاية الأمر صورة بديلة للأب .. الأب الذي ينافسة لا شعوريا في حب الأم والرغبة في الاستثمار بها. وبالتالي رضخت الزوجة رغم أنها قد تخرجت من الجامعة ومن أسرة تنتمي إلي الطبقة الوسطي مثله ، وقد وصل والدها إلي منصب وكيل وزارة بالتربية والتعليم ، كما أنها تمت بصلة قرابة إلي الفنان حسين يوسف أمين أستاذ الجزار.
- نلاحظ أيضا أن الزوجة التي تخرجت من معهد التربية بكلية الفنون الجميلة عام 1954 م والتي حاولت استكمال دراستها أثناء بعثة الجزار إلي إيطاليا ، آثرت أن تبقي في الظل كأم وزوجة ، وإن كانت لا تنفي تشجيع الجزار لها أن تعمل وترسم ، ولكنه مجرد تشجيع يقتصر علي الرسم داخل المنزل فحسب ، ولم يفضل أن تشارك في معارض أو تخوض غمار الحياة الفنية والاجتماعية.
- وربما ما يدعم وجهة النظر بخصوص الموقف الأوديبي مجموعة من رسومات الفنان ، من مقتنيات زوجته حاليا ، وهي تصور الوجوه الذكورية علي نحو كاريكاتوري وتحمل أسماء غريبة مثل : جبان ، مشمئنط ، حلاليفي ، تعلبي ، بومي ، مجانيني ، بلدي ... وأغلب هذه الوجوه ترتدي الجلاليب ، وفي لوحة أخري تضم تسعة وجوه ذكورية أخري بدون أسماء لكن الملامح تظهر المرض النفسي والعقلي ، فهي مضطربة أو مشعثة الشعر. ضمن هاتين المجموعتين هناك وجه واحد لامرأة مشوهة وكتب أسفل منها `حرباية` .. ألا تعكس هذه الرسومات تصورا داخليا عن صورة الأب المنافس وكأنها تفريغ لطاقة العدوان تجاهه ، ووجه المرأة الوحيد من المحتمل أنه تصوير للوجه الآخر للأم والذي يسميه فرويد Bad Mother لأنه ما لم تستجيب له ، ولم تكتف به دون الأب.
- ليس هناك تفاصيل كثيرة عن علاقة الجزار بوالديه رغم كثرة ما كتب عنه !! كذلك لا نجد أي إشارة لطفولته وسنوات النشأة الأولي ، فرغم أهمية تلك الفترة في حياته كفنان لا نجد فيما كتب عنه سوي سطر واحد يتلخص في أنه ولد بحي القباري بالإسكندرية ثم انتقل إلي السيدة زينب عام 1940 م أو أواخر الثلاثينات في روايات أخري. ومعني هذا أن هناك حوالي خمسة عشر عاما أسقطت من سيرته الذاتية !!
- المعني الكامن الذى يشكل هوية الجزار هو الثورة .. التمرد ضد كافة أشكال التسلط والسيطرة .فليس غريبا أن يكتب أستاذه حسين يوسف أمين مقالا بعنوان `الجزار فنان الثورة` في الذكري الأولي لوفاته ، كذلك يكتب الباحث الفرنسي آلان روسيون مقالا بعنوان `عبد الهادي الجزار: الهوية والثورة` وهو من أهم ما كتب عن الجزار علي الإطلاق. وهذا الحس الثوري لم يخف أبدا عن كثير من الكتاب الذين تناولوا سيرته وأعماله فنجد مقالات تحمل عناوين مثل : عبير الشرق إلي الالتزام .. إلخ
- ولأن هذه المقالات كانت آنية بالدرجة الأولي ، تظل الحاجة ماسة إلي لملمة شذرات حياته وتأصيل المعني الثوري انفجر لأول مرة حين رسم الجزار لوحته الشهيرة الكورس الشعبي أو الجوع عام 1948م وتعرض بسببها وهو شاب في مقتبل العمر _ للاعتقال والصدام مع السلطة.
- إذا تأملنا هذه اللوحة سنجد أنها تحتوي علي مجموعة من النماذج الأنثوية وإن كانت نماذج مشوهة توحي بانعكاس الواقع الردئ عليهن منهن العجوز الفقيرة أو المومس أو المنتقبة ، وكلهن لا يجدن قوت اليوم ولا يعشن حياة كريمة .. هذه الحالة التي يرثي لها تمثل علامة استفهام حول الواقع الذي أوصلهن إلي هذا المصير.. علامة سخط وتمرد ضد .. ضد من ؟ في الغالب ضد النموذج الذكوري الغائب / الحاضر.. فهو خارج إطار اللوحة ولا نجد أثرا له وإن كانت اللوحة تنطق بأن هؤلاء هن ضحاياه .
- وعندما نتأمل المراحل الفنية الثلاث التي درج عليها نقاد الجزار وهي : مرحلة القواقع والمرحلة الشعبية ومرحلة الفضاء أو الإنسان والميكانيكا ، سنجد أن ثمة خيوطا مشتركة بينها ، أهمها هو الحلم بالثورة والرغبة في التغيير والبحث عن إجابات .. ففي مرحلة القواقع يبدأ الجزار تمرده علي الواقع باتجاه الماضي البعيد .. باتجاه الجذور الأولي للأشياء محاولا أن يفك شفرة الإنسان الأول وعلاقته بالكون . إنه تمرد من يبحث عن استكمال المعلومات الناقصة عن هذا الوجود الغامض ، علة يكشف الأسرار الأولي ، يتبدي هذا في لوحات مثل : آدم وحواء ، أو الإنسان والقوقعة ، ولا شك أن القوقعة بديل شهير للرحم ، وهما معا كرمز ومرموز إليه يفسران بداية الوجود .
- وطالما اعتبرنا القوقعة رمزا أنثويا يشير إلي العضو التناسلي للمرأة ، فهذا يعني أن الجزار خلال مرحلة كاملة في مسيرته الفنية ظل مولعا بهذا الرمز الأنثوي ، وكأه يعلن صراحة أو لاشعوريا أن الأم هي أصل الكون وبداية الخلق.. ثمة مجموعة كبيرة من اللوحات والرسومات مختلفة الأشكال والأحجام كرسها الجزار للتأكيد علي أن الإنسان الأول خرج من قوقعة أو من رحم الأم التي هي أصل الوجود ، وهذا ينطوي ضمنيا وعلي الأقل من منظور نسوي علي رفض الجزار المطلق للسلطة الأبوية.
- في مرحلته الشعبية يتجلي أكثر التمرد علي السلطة الأبوية ، من خلال نماذجه الذكورية التي فقدت رجولتها أو كرامتها ، فمثلا في لوحة `أبو السباع` يبدو هذا الفارس وقد عاد مهزوما منكسرا ، ولم يخل أـبطاله الشعبيون عامة من هذا التصوير المخنث أو سلبية الإرادة التي يعانون منها. أما مرحلة الإنسان والميكانيكا فإن الرجل يبدو ضئيلا وكأن الآلة مسخته وألقته في خلفية الصورة ، كأنه يعيش مأساته الأخيرة ويتنحي في حالة اغتراب تام بسبب سطوة الآلة التي هي من صنع يديه !!
- وقد بدأ الجزار تمرده مبكرا برفض كافة الصيغ الأكاديمية في تعلم الرسم ، فنجد الفنان حسين بيكار يحكي أنه دخل عليه المرسم ذات يوم فوجده يرسم العينين والأنف أولا وهو ما يتعارض والدراسة الأكاديمية ، فقام بيكار بتنبيهه للأسلوب الصحيح ، لكنه لم يغير طريقته دون أن يفقد سيطرته علي الشكل ولم يقع في الأخطاء المتوقعة ويقول بيكار: ولكنني سررت من رسمه الذي كان متكاملا ، وتبينت أن عناده مبني علي اقتناع ومهارة واستطاع أن يقنعني أيضا بوجهة نظره في أدب ولعل تمرده علي القيود المدرسية في فن التصوير والرغبة في التجديد وتحطيم المثاليات القديمة يتبلور أكثر من خلال انضمامه لجماعة الفن المعاصر. والغريب أن المتلقي في الغرب لأعمال الجزار حين شارك عام 1954 م في معرض مشترك بباريس رأي في فنه حسا فطريا `ناييف` ووجد الجزار أنه مصنف ضمن الفنانين الفطريين رغم أنه بلغ ذروة الدراسة الأكاديمية المتخصصة ، والحقيقة أنه وإن كان يتعمد التلقائية والخشونة وتحطيم النسب ، فقد فعل ذلك ليعطي أعماله تأثيرا احتجاجا لدي المشاهد وليس عن عجز أو عدم مقدرة علي الرسم المتقن.. فصفة الفطرية تنزع عن فنه أهم ما فيه ، وهو الجانب الفكري والموقف الفلسفي والهدف الاجتماعي .
- هذا علي مستوي فلسفة الفن لديه.. فماذا عن المستوي الإنساني العام ؟ من الواضح أنه كان شخصا انفعاليا إلي حد كبير، فالخادمة التي تذمر وثار ضدها لأنها نطقت اسم زوجته أمام الغرباء ربما تكون نفس الخادمة التي كانت والدته تغضب عليها وتطردها فيضطر الجزار بحنو بالغ أن يأخذها معه إلي الكلية لتظل في انتظاره حتي ينتهي من محاضراته وتهدأ ثورة والدته فيعود بها إلي البيت !! والبشر البسطاء والحيوان الأليف ، عالم ممتد من الكائنات ربما يضم القطط والنمل والنحل.. كان يتعامل الجزار مع هذا العالم بحنان وشفقة لا حد لهما ، تحكي زوجته أنهما ذات يوم كانا يسيران بالسيارة وفي أحد الشوارع رأي صاحب عربة كارو يضرب حماره بشدة فأوقف السيارة ونزل ليعنف الرجل علي سوء سلوكه ثم أعطاه بعض النقود حتي يشتري طعاما لحماره .. وربما آثر هذا الرجل أن يطعم نفسه بتلك النقود أولا !
- وعندما كان الجزار يتجول قريبا من بيته في المنيل ، علي شاطئ النيل قبل عصر الناطحات ، فإذا ما رأي شخصا يمارس هواية الصيد دون أن يرزق بشئ وهي هواية محببة لدي الجزار أيضا كان يبادر بإعطاء هذا الشخص بعض النقود وهذا لا يعني أنه كان رجلا ثريا أو مبذرا وإنما هي رغبة كامنة في الإندماج مع هؤلاء البسطاء ، بدليل أن الجزار في مواقفه الرسمية كان شخصا لا يترك حقه المادي أو المعنوي ، ويرفض الوصاية والسيطرة والتملق ، باحثا عن حقوقه بشكل مباشر ومستقيم ، حتي لو أدي ذلك أحيانا إلي الشجار باليد.
- فمثلا يرفض كادرا جديدا من الناحية المادية وفضل أن يصرف علاوتين تمنحان له بالفعل ، ويتضح هذا الرفض في خطاب إلي عميد الكلية مؤرخ بتاريخ 11/3/1956 م ومرفق صورة منه في الملحق الخاص بالبحث كذلك عام 1965 م حصل علي منحة التفرغ للإنتاج الفني ولكنه اعتذر عن قبولها بسبب ضآلة المكافأة التي حددتها لجنة التفرغ حينذاك . وهناك واقعة شهيرة تكشف عن اعتداد الجزار بنفسه وبحقوقه المادية والأدبية وذلك عندما كان مبتعثا إلي إيطاليا وأراد الملحق الثقافي صلاح كامل ابن الفنان يوسف كامل أن يرسله للدراسة في فلورنسا وليس بروما فرفض الجزار وأصر علي البقاء في روما ، فكانت علاقته بصلاح كامل متوترة ولا تخلو من مضايقات، بلغت مداها حين رفض صلاح كامل أن يمنحه مستحقاته وأن يسهل عليه إجراءات السفر، فاحتد النقاش بينهما إلي درجة المشاجرة والضرب كما تحكي زوجة الفنان ، واتصل الجزار بالسفير المصري في روما آنذاك مطالبا بمستحقاته ، وبتسهيل إجراءات السفر. وبسبب هذا الشجار استعاد الجزار البورتريه الشخصي الذي كان قد رسمه لصلاح كامل ، ولا يزال ضمن مقتنيات زوجته حتي الآن .
- مثل هذه المواقف السابقة تكشف عن رفضه التام للسيطرة ونزعة الاستقلال والاعتزاز بالنفس حتي لو تعلق الأمر بأمور صغيرة قد يفضل الآخرون أن يتجاوزوا عنها حس ثائر يمتد في عمق تكوينه مرتبطا بهويته المصرية وبوعيه السياسي الحاد .. يقول أستاذه حسين يوسف أمين عن البيان الأول الذي أصدرته جماعة الفن المعاصر والجزار من أبرز مؤسسيها : يتضح من هذا البيان أن الجزار ورفاقه لم يقبلوا أن تنتاب عقولهم ومشاعرهم نوبة من نوبات مركب النقص أمام تيارات بعض المذاهب الفكرية الوافدة من الخارج التي كانت تستهوي أحيانا بعض المثقفين ، وتشدهم إليها بل وقفوا منها موقفا آخر يخدم أغراضا تقدمية خالصة من نوايا الفلسفات المتصارعة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.
- يقدم باحث آخر تحليلا لمسألة الهوية والثورة في فن الجزار باعتباره النموذج المثالي للمصور المصري الذي أجري الانفصال التأسيسي لعصرية تصويرية جديدة في مصر: إذا تذكرنا محمود سعيد وناجي وانتماءهما إلي الأرستقراطية ، فإن أبرز جوانب الجدة لدي عبد الهادي الجزار تكمن بجذوره الاجتماعية والمسيرة التي قطعها بصدق برفقة أقرانه من جماعة الفن المعاصر. فقد مكن بروز مسألة الهوية لأفراد لا تربطهم أي صلة بالأوساط التي أفرزت رواد التصوير المصري من أن يثبتوا أنفسهم كفانين ومصورين. شتان بين الدوائر الأرستقراطية التي كان ناجي ومحمود سعيد يختلفان إليها ، أو بين الصالونات المتعددة الجنسيات التي ارتادها أعضاء `الفن والحرية` وبين أحياء السيدة زينب والقلعة الشعبية التي نشأ فيها الجزار وباقي أعضاء الجماعة. وكان هؤلاء الشباب يدينون لأصلهم المتواضع اعتراف نعاصرين لهم `كمفسرين` أو `مترجمين` للهوية المصرية وتمنياتها.
- لا غرو إذن أن يصبح الجزار أحد منشدي ثورة يوليو ، إذ كانت الثورة بالنسبة له أملا في التغيير لا مطية للنفوذ. آمن بها وآمنت به فأبدع دنشواي ، والميثاق ، ومؤتمر باندونج ، والسد العالي ، والسلام ، وغيرها من اللوحات التي تؤرخ للثورة 0 وتمنحه الثورة جائزة التصوير الأولي عام 1954 م عن لوحة `دنشواي` والجائزة الأولي في مسابقة `الثورة في عشر سنوات` عن لوحته `الميثاق` وأخيرا جائزة الدولة التشجيعية عن لوحته `السد العالي` تكريم مستحق لأنه كان فنانا ثائرا حتي من قبل الثورة لم يقبل أبدا أن يكون مهادنا في فنه .. مهادنا في حياته..
- تتأسس هوية الجزار في مستوييها الإنساني والفني كما أسلفنا علي مبدأ الثورة . ويتفرع عن تلك الهوية رافدان أساسيان لهما أكبر الأثر في توجيه حياته ومسيرته الفنية ، ويبدو أنهما متناقضان علي الأقل ظاهريا ، أولهما : الرافد الديني والآخر هو الرافد العلمي.
- وقد تحدثنا من قبل عن الرافد الديني الذي يعود في منابعه الأولي إلي والده العالم الأزهري وإلي حي السيدة زينب الذي عاش فيه ، وذكرنا عرضا بعض مظاهر هذا الحس المتدين كما يتبدي في حياته وفي لوحاته أيضا . وثمة مسألتان تتعلقان بهذا الرافد ، وكلتاهما علي درجة كبيرة من الأهمية:
- الأولي : هل رسم الجزار المجاذيب والموالد متعاطفا أم ناقدا ؟!
- الأخري : هل شعور الجزار بدنو الأجل كان سببا فى حسه الصوفى ؟!
- بالنسبة للمسألة الأولي طرحها الباحث الفرنسي آلان روسيون الذي يصف التصاق الجزار بالمحلية بأنه `مكمن الخطر الرئيسي الذي يهدد إنتاج الفنان بالتورط في فن `الفلكلور` والمحاباة تجاه `البؤسوية`. وقد كتب يوسف فرنسيس يقول: `إن النظرة التي كان يلقيها الجزار علي الأساطير الشعبية لم تكن نظرة الإيمان بها وإنما نظرة النقد اللاذع لها فكان يجمع بين التعبيرية والسيريالية لكي ينتج تصورا اجتماعيا لهذه الظاهرة من شأنه أن يعبر بطريقته الخاصة عن موقفه الخاص إزاء الحياة` وإننا هنا أقرب ما نكون من منبع ما يبدو لي التناقض الضمني في طر إشكالية الهوية في الفن . إن إعلاء شأن الهوية من قبل الفنان قد يعني إيجابيا دعوة للرجوع إلي الجذور و الأصالة ، إلا أنه ، وفي الوقت نفسه ، قد يبدو ، سلبيا ، بمثابة تمجيد للتخلف الذي كان المجتمع المصري `الأصيل` يقبع فيه آنذاك باعتراف النقاد أنفسهم .ومن هذا المنطلق تبدوا أعمال الفترة الشعبية للجزار أشبه بقائمة أنثروبولوجية للرذائل وأوجه الفساد المتفشية في المجتمع المصرى .
- وقد حاول نقاد آخرون وعلي رأسهم صبحي الشاروني أن يبعدوا عن الجزار شبهة التعاطف مع قائمة أنثربولوجيا الرذائل تلك ، فمثلا يقول عن لوحة الرجل الأخضر : إن الرجل الأخضر يرتدي قرطا في أذنه ، وهو يرمز إلي الرجل السلبي المتجرد من الرجولة ، وتأكدت هذه السلبية في لونه الأخضر الذى يعتبر من الألوان السلبية.
- أما لوحته `الزناتي خليفة` فتصور هذا البطل الأسطوري الشعبي مجردا من أي ملامح للبطولة ، لأن نظرة الجزار قامت علي إحساسه بعدم التكافؤ في ظل الاستعمار، حيث الشعب معدم ومسلوب الحق ومغلوب علي أمره ..وهكذا لم يكن الزناتي خليفة في لوحته يملك أي صفات هرقلية ، إنما صورة الجزار مجردا من الشجاعة نفسها.
- بهذا المنطق يري بعض الباحثين أن الفضل الذي يستحقه الجزار لا يرجع إلي كونه قد `بعث` الثقافة الشعبية المصرية بقدر ما يرجع إلي إظهاره جوانبها المشوهة المريضة بكل فجاجتها إسهاما منه لدفع عجلة الإصلاح الذي لا يسع للفنان إلا أن ينحاز له ، وبالتالي يبدو الجزار فنانا ثوريا ملتزما من خلال نقده اللاذع للأنثربولوجيا الشعبية ، وفي المقابل تصبح درجة تعاطفه شاحبة إلي حد كبير لكن لا أظن أن تعاطفه مع المعني الروحي الكامن وراء تلك المظاهر يتعارض مع ثوريته ، خاصة أن التنقيب في خريطة الرموز الشعبية يؤكد إحساسه الثائر الباحث عن الجذور..عن الأصالة والهوية يواجه بهما الاستعمار. فالتعاطف كامن وانتقاد البطل الشعبي ينطوي علي محبة جارفة له كي يستعيد ذاته الحقة ويقف بصلابة في وجه الاستعمار والتخلف. وهذا ما يقره ناقد آخر قائلا : لقد أصبح أكثر قربا من وجدان الجماعة الشعبية` الذي وإن كان مشوبا بعوامل الجهل والبؤس والتخلف ، فإنه في ظل القوة الروحية الكامنة التي حفظت لهذا الشعب وحدته وذاتيته الحصينة ضد الفناء والتذويب 0 وسوف نجد نماذجه الإنسانية تلك علي ما فيها من غلظة اللاعبين والمهرجين وهوس المجاذيب والسكاري ومظاهر الهستريا والخرافة موحية لنا بالصلابة والإقبال علي الحياة وليس الهروب منها . وثمة نقاد آخرون يؤكدون أيضا علي حالة الحب والتعاطف ومنهم صبري منصور. أي أن الجزار لم يكن ينظر إلي الحياة الشعبية والروحية لبسطاء الوطن من الخارج ، أو ما يسمي بنظرة الطائر، وإنما كان منغمسا ومتورطا وقادرا علي التعاطف وعلي الانتقاد في آن واحد0وكلا الأمرين يدل علي النضج الفني لأنه لا ينتقد تلك الحياة الروحية بفجاجة ومبالغة ليقدم عنها بوسترا إلي الغرب ، إنما ينتقد بحثا عن التغيير. وعندما يتعاطف فهو تعاطف الباحث عن الأصل والجذور كما أشرنا من قبل ، هنا تكمن ثورية النقد وثورية التعاطف لتخلقا معا نماذجه الفنية شديدة الأصالة.
- أما ما يتعلق باقترابه من الحس الصوفي وعلاقة ذلك بمرضه يجب أن نقرر أن الجزار بداية كان يدرك أهمية الإيمان والدين كمقوم أساسي من مقومات الشعب ، ولهذا لم يتعال عليه أبدا.
- ولا شك أن إحساس الجزار بالمرض كما يقرر البعض أو هاجس الموت الغامض الذي يجتاح الروح ، كان سببا في مضاعفة الجهد فلم يتوقف يوما عن الرسم والتصوير، يقول عز الدين نجيب : يرسم بالأحبار فوق أية ورقة تصادفه ، وكثيرا ما كان يقاوم الموت الزاحف بتصوير هاجسه في لوحات وكتابات شعرية . كان يقاوم عبثية الحياة بالاحتماء بحس صوفي يندمج من خلاله وعبر لوحاته المتلاحقة _ مع الكون الغامض في فضاء لا نهائي.
- الرافد الآخر في حياة هذا الفنان الثائر هو العلم .عندما كان الجزار طالبا بالقسم العلمي استطاع بسبب تفوقه ونبوغه أن يلتحق بكلية الطب واستمر بها حوالي ستة أشهر ، تتنازعه رغبة جارفة أن يكمل تفوقه العلمي ويصبح طبيبا أو أن يضحي بذلك ويشبع ميوله الفنية من خلال الالتحاق بكلية الفنون الجميلة.
- وعلي غير رغبة من الأسرة ترك الجزار بالفعل كلية الطب معللا ذلك بسبب اسمه ، إذ كيف يكون طبيبا وجزارا ؟ ربما كان الأمر مجرد دعابة تخفي وراءها حبه العميق للفن . لكن الميل للبحث العلمي ظل كامنا بداخلة يتحين فرصة الخروج . يتبدي ذلك في تفوقه بكلية الفنون وتعيينه معيدا لينخرط في سلك التدريس الجامعي ثم يسافر إلي إيطاليا في منحة قصيرة عام 1954 م ، ومرة أخري عام 1957 م في بعثة استغرقت أربع سنوات تقريبا.
- قبل السفر كان الجزار حريصا علي اتساع معارفه ، تحكي زوجته أنه كان قد التحق بمعهد الآثار بالزمالك لدراسة الحضارة الفرعونية ، كما التحق بمعهد جوته لدراسة اللغة الألمانية والراجح أنه أجاد الإيطالية قبل سفره لإيطاليا لأنه عندما التحق بمعهد الترميم والتكنولوجيا بروما أعفي من دخول السنة الأولي لدراسة اللغة . بالإضافة إلي الإنجليزية التي كان يتقنها ويكتب بها بعض مقالاته.
- تذكر زوجته أنه أثناء وجوده في إيطاليا كان يقبل علي شراء المجلدات ودوائر المعارف بالتقسيط .. وعندما عاد اختار أن يدرس لطلابه مادة التكنولوجيا ، ولنا أن نتخيل وقع تدؤيس مثل هذه المادة علي الطلاب منذ أربعين عاما تقريبا !! كذلك إذا تصفحنا أوراقه الخاصة سنجد كتابات عن تاريخ الفن وبعض الفنانين وعلاقة الفن بالجنس وكيمياء الألوان وكتابات عن طبائع النحل والنمل . بالإضافة إلي الكتب العلمية التي تتحدث عن غزو الفضاء والأحزمة الإشعاعية والآلات الإلكترونية وغيرها .
- من الطريف أنه لا يزال من بين أوراقه بعد مرور كل هذه السنوات ورقة منتزعة من صحيفة الأهرام بتاريخ 10/5/1963 م ، احتفظ بها الجزار وكتب عليها : `هذه الصفحة مهمة أرجو عدم تمزيقها أو استعمالها في المنزل` فما الذي جذب انتباه الجزار في تلك الصفحة لتعيش وسط أوراقه طوال أربعين عاما تقريبا ؟ إنها صفحة العلوم وبها موضوعات عن الأرض والشمس والدور المغناطيسي لهما ، وموضوع آخر عن القمر الصناعي الذي تنوي أمريكا إطلاقه .. هذا الاهتمام بكافة التفاصيل العلمية ومتابعتها يوميا يتجلي أيضا في طريقة تعليمه لبناته حين كان يتفرغ لهن فيحول القصص والمواد العلمية إلي رسومات ، فكان يشرح بالرسم الدورة الدموية وكيفية حدوثها لبناته الصغيرات .
- من المحتمل أن هذا الفضول العلمي الذي يفوق موقف الإنسان العادى يعود إلي طفولته المبكرة ، إذ نلاحظ مثلا المتعة الكبيرة لدي الأطفال حينما يسألون أسئلة تدل علي فضولهم ، أو علي رغبتهم في معرفة مجاهل الحياة الجنسية ، كأن يسأل الطفل من أين أتي وكيف ؟! وهو ما يسميه فرويد في مقدمة تحليله لليوناردو دافنشي بقترة البحث الجنسي الطفلي ، ويذكر أن الارتباط المبكر والاهتمام بالجنس يؤدي غالبا إلي واحد من احتمالات ثلاثة : فإما أن يشارك البحث الرغبة الجنسية مصيرها فيظل مكبوتا وبالتالي يبقي النشاط العقلي ضيقا طول العمر أو أن البحث بحكم التطور العقلي القوي يواجه الكبت ويعود من اللاشعور في شكل عملية استدلال قهرية ، ويكون مشوها وغير حر لكنه يبلغ من القوة أنه يضفي الصبغة الجنسية حتي علي الفكر نفسه . ومن ثم يحل الإحساس بالبت في المشاكل أو محاولة تفسير الأشياء في العقل محل الإشباع الجنسي.
- أما الاحتمال الثالث فيتمثل في كون الشخص بفضل استعداد ما يفلت من كف التفكير وعملية الاستدلال القهرية .. وهنا أيضا يتم الكبت الجنسي ، إلا أن الليبيدو ينسحب من مصير الكبت بأن يتسامي من البداية إلي فضول ، وبأن يدعم الدافع القوي للبحث . هنا أيضا يصبح البحث في كثير أو قليل قهريا وبديلا للنشاط الجنسي . ولكن وكما يقرر فرويد _ وتبعا للاختلاف التام للعملية النفسية التي وراءه (الإعلاء بدلا من الخروج من اللاشعور) يختفي الخضوع للعقد الأصلية للبحث الجنسي الطفلي ، وهنا نجد الدافع يراعي الكبت الجنسي الذي جعله يقوي علي مساندته بالليبدو المتسامي ، بأن يمنع كل انشغال بالمسائل الجنسية . وهذا يعتبر أكثر الاحتمالات ندرة وكمالا.
- من الراجح أن الجزار بما يملك من فضول علمي ودافع قوي للبحث يمثل الاحتمال الثاني ، إذ نجده يتسامي بجزء كبير من الليبدو إلي دافع البحث دون أن تتعطل حياته الجنسية . ولا يمنعنا هذا التحليل الفرويدي من النظر إلي عوامل التنشئة ، في أسرة يعمل ربها بالتدريس ، كذلك لا يمكن تجاهل المرحلة التي تكون فيها الجزار والتي ارتبط خلالها بجماعة الفن المعاصر ، وهي جماعة كانت تعني عناية فائقة كما يتضح في بيانها الأول والثاني وقواعد تأسيسها بالإعداد العلمي للعمل الفني. يقول حسين يوسف أمين : `في ذلك الوقت سنة 1938 م بدأ الجزار مرحلته الأولي التحضيرية والتي بدأت مع قيام حركات هامة تقدمية ساعدت علي بلورة استعداده وابراز مواهبه وشخصيته فاستفاد من تعاليم مدارس علم النفس والتربية الفنية التي كان لها أكبر الأثر علي الحركة الفنية المصرية المعاصرة ثم يضيف مؤكدا : إن الدعامة التي بنينا عليها مثاليتنا نحن جماعة الفن المعاصر . هي الصلة الوثيقة بين الفكر والفن . كما يؤكد صبحي الشاروني علي اشتراك الجزار وزميله حامد ندا في الجمعية الجغرافية والجمعية التاريخية ، بالإضافة إلي نشاطهما في جمعية الرسم .. ويضيف قائلا : كانت توجيهات حسين يوسف أمين ، تهدف في ذلك الوقت إلي تأمل الطبيعة ، والتعمق في أشكالها ، وتسجيل ما لا تلاحظه العين لأول وهلة ، وكان الطابع العام لأعمال الجزار وزملائه في تلك المرحلة ، هو الأمانة في دراسة الطبيعة .
نخلص من هذه الشواهد جميعها إلي أن الجزار الذي كاد أن يكون طبيبا يملك فضول البحث والطابع العلمي الدقيق. استقاه من تربية في بيت أستاذ أزهري ، من دراسته العلمية بالمدرسة. من تتلمذه علي يد حسين يوسف أمين من خلال جماعة الفن المعاصر . من بعثته إلي إيطاليا .. فهو مثله مثل جده الفنان المصري القديم يؤمن بالفكر الكامن وراء العمل الفني.
- ولا شك أن انشغال الجزار الفكري علي مستويات متعددة كان عاملا حاسما في انتقالاته السريعة من مرحلة فنية إلي أخري ومن لوحة إلي أخري . وإن كان الاهتمام العلمي يتجلي علي نحو مباشر في المرحلة الأخيرة التي تدور حول الإنسان والميكانيكا وعصر الفضاء ، والتي تواكبت مع نهضة الثورة وما يقال عن التصنيع والتكنولوجيا والتقدم العلمي كسبيل للخلاص.
- في كل مراحله الحياتية والفنية لم يغب أبدا الرومانتيكي الثائر.. يلوذ بالصوفية أحيانا أو بالعالم أحيانا.. ينتقد ويتعاطف.. يصل الفروع بالجذور.. يأسي علي الإنسان الذي تكبله طقوس دينية غامضة أو تروس رهيبة تنفيه متواريا شاحبا .يقيده خرتيت الزمن ثم تعيد القوقعة تخليقة من جديد .. يولد من رحم القوقعة الهشة عملاقا بريا . تكمن عبقرية الجزار ليس في قوة ثورته فإنها لم تكن صاخبة وإنما في قدرته علي أن يلملم التفاصيل تلو التفاصيل .. من الذات والناس .. من البحر والأضرحة والفضاء .. من القلم الرصاص والخط الباهت .. ليكون شاهدا ثائرا .. ويكون فنه خير معبر بقوة عن روح العصر . ففي كل عصر كانت تتغلغل ثورة عميقة وصادقة في مواجهة الواقع .. تميز الخبيث من الطيب ، والخالد من الفاني والإنساني من الزائف ..
صراع ضد هاجس .. ضد موت قادم ..
- العمر الفني لعبد الهادي الجزار قصير زمنيا لكنه يمتد علي نحو مذهل وغير متوقع .. قدم الجزار ما يزيد علي مائتي عمل فني ، محاضرات ، أشعار ، خواطر ، قصص ، أحلام ، وعمل أستاذا جامعيا تتلمذ علي يديه أجيال ، سافر للدراسة بالخارج ، وأجاد عددا من اللغات ، تنوعت قراءاته ، وذاق مكابدة الصوفي ، أتقن منطق العالم ، وانفتح علي الثقافات والحضارات ، لدرجة أنه كان يضحي بالاستمتاع بإجازته في مصر من أجل أن يبقي في أوروبا يتعلم من الأسفار .. بل إن الحكومة قد وفرت له حق السفر علي متن إحدي البواخر لكن الجزار كان يكمل التذاكر من جيبه ليبدلها بتذاكر طيران إلي ألمانيا وفرنسا واليونان والسويد وغيرها من البلاد .
- من بينالي البندقية إلي سان باولو إلي الإسكندرية .. معرض مشترك في باريس ومعرض دولي في بروكسل `الفن في خمسين عاما` ... أربعة معارض فردية وحوالي ستة معارض مشتركة ومالا يقل عن سبعة جوائز ، آخرها التشجيعية 0 أما المعارض الفنية التي أقيمت لأعماله بعد وفاته فتكاد أن تكون حدثا سنويا ، خاصة في العقدين الأخرين.
- هذا الحضور الطاغي في الحياة وفي الممات ورائحة الخلود العتيقة في لوحاته .. حياته المتوترة المشدودة دائما .. هواياته المتعددة كالصيد والعزف علي العود والغناء 0 لدرجة أنه تقدم إلي مسابقة الغناء بالإذاعة عام 1953 م فوافقت الإذاعة وطلبت منه الحضور وتقديم بعض الأوراق لكن الأب رفض هذا الاتجاه بشدة.
- إيقاع لاهث عنيف من أجل تحقيق الذات .. إيقاع سريع متوتر يتناسب طرديا مع قوة هاجس الموت بداخله ، فكلما أحس بخطوات الموت تقترب منه كلما انفعل بحب جارف للحياة والرسم والحضور. فلا نستطيع أن نتجاهل الإحساس الباهظ بزحف الموت علي الجزار وتأثيره علي فنه ، لقد كان الموت ساكنا إجباريا في أعماقه منذ صباه ، وربما كان من أبلغ لوحاته تعبيرا عن ذلك لوحة رسمها عام 1952 م بعنوان `اللانهاية` لمجموعة من الجثث المتراصة في توابيت مرصوصة في صف بلا نهاية وقد انكب فوقها الأحباب يبكون ، وربطت شواهد التوابيت بحبال غليظة إلي جهة ما خارج اللوحة تحفها طلاسم غريبة .. ويعود هذا الحس بالموت ليخيم علي الفنان عام 1964 م بعد أن انتهي من أعماله الفذة عن ملحمة السد العالي ، حيث أطبقت الآلات والتروس الجهنمية علي أنفاس الإنسان حتي خنقته .. وربما كان أوضح عمل يكشف هذه الرؤية ذلك الذي سماه `انتظار النهاية` عام 1964 ورسمه بالحبر الشيني ، ويصور إنسانا كلل رأسه بالمسامير يجلس علي كرسي وقد ربط في معصمه سلسلة يمسك بطرفها حيوان بجسم إنسان ورأس خرتيت يقف فوق ساعة عتيقة .. إنها إذن مسألة وقت حتي يبتلعه ذلك الخرتيت الذي يسمي الموت .
- يؤكد الشاروني علي مسحة التشاؤم باعتبارها السمة الغالبة علي معظم أعمال الجزار.. والمأساة التي كانت تشغله في جميع مراحله الفنية .. فالإنسان البدائي حيوان غبي رغم قوته، والناس الشعبيين مطحونين مقهورين مكبللين إلي قيود تقاليدهم البالية ، والأحلام هي كوابيس فظيعة ، وإنسان عصر الفضاء هزيل أمام الآلات التي اخترعها ولم يستطع السيطرة عليها ، وهي في لوحات الجزار تسيطر عليه وتحنه بين تروسها .
- من خطورة المرض وحفيف الموت القريب تنبع مأساوية إنتاجه ورهافة حاسته الفنية بصبغتها الحزينة. جذبه هاجس الموت نحو عالم مجهول لا يدري كنهه أحد . لقد التقت في نفسه عناصر استمدها من نشأته في أحضان الطبقات الشعبية المستغرقة في عالم الروحانيات والتي تستمد قوتها من عناصر ميتافيزيقية ودينية ، وإحساسه الشخصي بنهاية قريبة ، كل ذلك دفعة نحو عالم غامض فأصبح أسيرا له ، محاولا الغوص فيه والتعبير عنه .
- وباتساع دائرة الحزن والمأساة بحث الجزار عن الملحمة كقوة مضادة فأبدع ملحمة `حفر قناة السويس` وملحمة `السد العالي` وأخيرا ملحمة `السلام` كأنه يقول من خلالها كلمته الخالدة وشهادته الأخيرة .. السلام تلخيص لحياة ثائر آن له أن يستريح .. إنها خطوط من خبرة العمر والألم والقواقع والأحلام والفضاء والأسطورة في لوحة ختامية.
- تقول الأسرة انه كان يعاني من لغط في القلب ، وكان بالإمكان أن تتحسن صحته بالعلاج ، ويقول آخرون انه أصيب بروماتيزم في المفاصل أقعده عاما عن الدراسة ، وآخرون قالوا إنه روماتيزم في القلب ثم قالت الأسرة إن النهاية جاءت عندما كان في مصيف بلطيم مع الأسرة وأصيب بنزلة برد عادية وبعد الكشف عليه أخبره الطبيب أنه يعاني من حساسية تجاه البرد وتلوث الجو (فهل كان الطبيب صادقا فيما قال ؟!) وعلي هذا الأساس كتب له دواء يحتوي علي كمية كبيرة من الكورتيزون مما أدي لتدهور حالته والتأثير علي وظائف الكبد والقلب ، وجاء طبيب آخر يدعي حافظ موسي الذي اكتشف الحالة بعد فوات الأوان (فماذا اكتشف الطبيب بالضبط ؟!) لقد منع عنه الأدوية ونقله إلي مبرة محمد علي حيث مكث أسبوعين تقريبا ثم حدث له هبوط مفاجئ ليغادر الحياة قبل أن يحتفل بعيد ميلاده بأيام قلائل.
- مهما كان الأمر فإن الموت كان كامنا في مكان ما .. قريبا في لحظة ما .. وكانت حياته القصيرة ثورة أخيرة ضد غريزة الموت المسيطرة الزاحفة تطمس كل شئ . لكنها أبدا لا تطمس فنانا عاش العمر كى يكتب اسمه علي خريطة الوجود.
إعداد : رضوى فرغلى - شريف صالح
|