عصمت عبد الحليم إبراهيم ( داوستاشى )
عصمت داوستاشى ورحلة 52 عاماً بين التصوف ولوحات العاشيق
- الفنان عصمت داوستاشي يطلق على معرضه الأخير (لوحات العاشقين) ويهديه إلي زوجته الفنان فاطمة مدكور .. وداوستاشي فنان متمرد متعدد الحالات .
- وإن كان يسترعي الناقد لأعماله تقنية التكرار التي يجيد استعمالها داوستاشي لتكون الرؤية أوقع اثرا في نفس المشاهد ولا شك ان هذا الفنان قد قطع شوطا كبيرا في سبيل هذه الاجادة بعد رحلة نصف قرن من العطاء.جعلت مفرداته المتكررة برغم الابتكار الحي تحقق تفراد فهو يهتدي دائماً الي المعني والرمز والدلالة التي تمثلها الخطوط والضلال والألوان. لازلت أذكر معرضة عن أشكال فنجان القهوة كيف بدأ بفكرة قارئة الفنجان البسيطة ليصل بنا إلى تحليل نفسي عالمي أحسبه قد تخلل البلورة السحرية لذاكرتنا الصوفية..يختزل في لوحاته تراثاً من المفردات الإسلامية في زهد ملذات الحياة الدنيا والتضحية بكل اعراءاتها وقبوله العيش منفيا في هجير البيداء لجهره بادانه المترفين وتحريض الفقراء على كسر اغلالهم أليس هو الراسم لوحات مرحلة السبيعنات التي ادخلتنا إلي الحس الثوري نحو التغيير ها هو يقدم معروضه الأخير 35 لوحة في جاليري جوجان (الفنان مني حسن) يعرض لوحات عاطفية رومانسية تعكس حالات جديدة من استنبات التراث في تقنيات محدثة تغذت بألوان الأكرلك مع خامات أخري على كرتون تحقق رؤية تشكيلية تجمع بين رحابة الشرق وثراء الرموز المعرض الأخير سيستضيفة المركز الثقافي المصري في باريس في 29 مايو القادم .. وهو يعبر عن رحلة 52 عاما من الابداع بداها عصمت عام 1956.. فنانا شابا تأثرا يكتب الشعر ويرسم ويصيغ الأسئلة نحو المجهول والي المجهول .. لا يقف عند حدود الصور كما نراها ولكنه يحيلها قطعة من نفسة ويصبغ عليها رؤيته فيها جوهر الذات في لحظة توهج الألم .
الناقد / نادر ناشد
الوفد 14 /3/ 2008
لوحات العاشقين والفن للناس
- كينونته إيجابية .. تندفع دوما .. تقتحم بجرأة وتنازل الضد .. وتمسك بأيدى الرغبة .. تعبر أسوار الصمت .. وتدخل حدائق التوالة ..تزرع ورداً .. شوكاً .. شجراً .. نجيلاً .. لبلاباً ونخيلاً .. تبنى بين الأفرع عشرات الأعشاش .. للطيور المهاجرة .. وللهائمة .. وللباحثة عن اوكار الصبر وأبراج للسحر .
- عصمت ليس مجرد فنان .. بل هو مجموعة فنانين فى كيان واحد يجمع التناقضات ويلملم الخلافات يصهرها فى بوتقة الأنا المتقدة .. وكل فترة يمنحنا وجودا متفردا من نتاجها الأسطورى .. عصمت دواستاشى ` حالة ضد الأستحالة ` منذ خمسين عاماً وهو فى قلب الدائرة .. وحتى حين يخرج بقرار من ذاته يبقى وجوده متماسكا تماما مع قوسها الخارجى بل يكاد يكون هو نفسه جزءا منه .. لماذا .. لماذا هذا الرجل الذي تختلط كراته البيضاء والحمراء بعصير الذكاء الإعلامى .. لماذا هذا التراوح الواعى فى فوراته وإبداعاته وقراراته لماذا .. الإجابة بسيطة .. الإحساس بالذات وبالصحة النفسية لنفس تدرك بفهم كبير معنى وجودها .. إنه الإحساس الشديد بالأنا التى يتفرد بها الفنان التشكيلى .. ويقينى الكبير أن أعمق الفنانين فى مصر .. أدباء أو شعراء أو سينمائيين أو مسرحين أعمقهم هو التشكيلى .. فهو يتابع كل هذه الفنون .. بل ويمارسها أحيانا ويشارك فيها مثيرا .. كم فنان غير تشكيلى يقرأ لوحة أو يستوعب تاريخ فنون أو يعرف سر اللون وعمق الدلالات !!
- وهذه القضية ليس هنا مجال مناقشتها .. و ` عصمت داوستاشى ` لديه ` أنا ` خاصة واثقة لديها قدر عال من المرونة والتراوحية والتى تجعله مواكبا ومماشيا كل أمور الحياة بوعى ناقد وفهم فنان وإدراك متعدد واثق .
- فهو يكتب القصة القصيرة ويمارس الإخراج والتصوير الفوتوغرافى .. ومولع بالتوثيق والتأريخ .. وعاشق للتنوع فى الفن التشكيلى ليس فقط فى التعدد بين الرسم والجرافيك والنحت ، بل أيضا فى التناول والتحرك بين الاتجاهات والأساليب .. بمرونة وتوافق نادرين .
- اضف إلى كل ذلك هذه الطاقة المتقدة والحيوية الفياضة وهما جناحا طائف الغزارة المتوالية فى عطائه .. وهو من المتفردين فى كم أنتاجه وقيمته .. وربما لا يمر عام دون معرض له بجوار اشتراكه المستمر فى المعارض الجماعية وهناك جانب رائع فى شخصية هذا الرجل هو قدرته على الاكتشاف ثم الرعاية التى تصل لحد التبنى لمواهب شابة .. ماذا أيضا عن هذه الظاهرة الأنسانية المسماه ` داوستاشى ` طبعا هناك الكثير والكثير .. لكننا الأن علينا ان نشاهد معا معرضه بقاعة جوجان بالزمالك والتى تديرها الفنانة منى حسن .. المعر ض بعنوان ` لوحات العاشقين ` وهى قضية الأنسانية منذ البدء وحتى المنتهى ..
- وقد تناولها ` عصمت داوستاشى ` مرتبطا برؤيته المستمرة وهى عمل أرضية من ألوان ساخنة لا تفقد لهيبها حتى مع وجود داكن معها .. ثم يرسم باللون الأبيض حدود شخصياته التى تحتل اللوحة تماما وكأنها داخل أطار خاص من خطوط شبه وهمية صنعها الفنان ليسور حالاته .. وشخصيات الفنان النسائية .. العاشقات فى جلوسهن أو وقوفهن يحفظن فى سكينة الشكل بديناميكية داخلية وكأنهن أميرات فى محراب ملكى به طقوس بها حركة متوارية .. وتلك النساء يمتلكن نفس ملامح نساء داوستاشى .. نساء سماتهن تجمع بين وجوه الجداريات المصرية القديمة ووجوه الفيوم ، بل والأقنعة الأفريقية .. إنها امرأة من تآخى حضارات تصادقت فوق أرض مصر بتفرد ليس موجودا فى أى مكان بالعالم .. ومن هنا يجئ ذلك الوهج فى لوحات صادقى الإبداع بيننا .. وداوستاشى أحدهم .. يحمل فى قلبه تاج الهوية ويمسك بعنان جواد الأنتماء المنطلق إلى براح التألق ..
- نساء العشق لدية أبدانهن مكتنزة ولياقة صحية كأنهن حبلى فى مشاعر والهة .. تحيطهن رسوم وزخارف تقارب الوشم العاطفى ونقوش الجدران والأحجبة والنجوم والكفوف والقلوب والحياة والتفاح .. هناك ارتباط بين الفنان والبعد الغزيرى المصاحب للعشق والذى يشكل خلفية وجدانية بها عناصر جذب حيوية للملتقى .. كما أن هناك استدعاءات للجداريات المصرية .
- هناك أميرات وملوك وملكات .. هناك رموز وأسهم تتحرك فى الخلفيات فتحرك المعانى الظاهر والمتوارى .. وهنا تكمن هذه الحيوية المصرية القادمة من وعى شديد بتاريخ وتراث .. صاحبا هذا الفنان على مدار عمره .. وإبدعاته .. أيها الفنان المتدفق .. انتج واعمل كثيرا .. زدنا منك.. و .. أدام الله لنا ملكاتك المتعددة واسعدنا بوعيك .. و .. انطلاقك .
بقلم : إبرهيم عبد الملاك
صباح الخير - 2008
داوستاشى .. والمرأة
- ولد الفنان عصمت داوستاشى بالإسكندرية يوم 14 مارس عام 1943 بأجمل أحياء مدينة الاسكندرية بحى بحرى العتيق الذى مباشرة على مياه البحر المتوسط تخرج فى قسم النحت بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1967 .
- صدفة جميلة أن يقام فى شهر مولده وأيضاً فى اليوم التالى لإحتفالات عيد الام لتكون أعماله الفنية المعروضة بقاعة الفنون التشكيلية بدار الأوبرا عن المرأة بتاريخها الممتد وبأمومتها الفياضة وبجمالها المكنون فيها همس فى أذنى أثناء الافتتاح اننى عدت بشوق إلى ` حامل الرسم ` وواجهت المسطحات البيضاء بحنين جارف ومتصل حتى رسمت هذه المجموعة من الأعمال الفنية ` وقال وشدد على ذلك عندما جلست أمام اللوحات وهى بيضاء وجدت نفسى فى حالة توتر وكأنى لأول مرة أرسم وألون ` هذا الاحساس الرائع لفنان مبدع يعمق روح ميلاد الأفكار والإبداع بإطاره المتكامل ويعتبر كل لوحة هى ميلاد لطاقة مختزلة بداخله يستدعيها للخلاص على فضائه الابيض ليشكل عالماً وبيئة تفرد بها ممزوجة بالأسطورة والحضارة المصرية العريقة ليبدع لنا عالماً تسبح فيه مفرداته المتنوعة والأصيلة ` المرأة - الطفل - آلة الموسيقى - الثعبان - الطائر - السمكة - القطة - الكلب - التاج - الديك ... الخ ` مفردات إمتدت فى فنوننا القديمة وحملت كثيراً من المعانى والدلالات كما استخدمها بعض الفنانين فى حركة الفن الحديث فى مصر أمثال الفنان الراحل حامد ندا والفنان الراحل عبد الهادى الجزار` وتعود أهمية هذه العناصر إلى علاقتها بالإنسان وما تحمله من صفات ومعتقدات فى حياة الناس لذلك تتأصل قيمتها فى أعمال الفنانين .وأعمال الفنان بالمعرض تتسم بالبساطة والرقة والشفافية والطاقة الروحية كمنظومة تتوحد فيها ثقافة الفنان وخبرته الفنية الثرية والمتنوعة وليس غريباً أن يفاجئنا داوستاشى بهذه الأعمال الجديدة لأنه يتميز بالجسارة وشجاعة الفارس فى إقتحام تجارب جديدة بإرادة وتحد ويقول عنه فى صدر كتالوج المعرض الفنان والناقد الفنى عز الدين نجيب ` على مدى رحلته الابداعية منذ عام 1962 لم يكف عصمت داوستاشى عن إقتحام تجارب فنية أقرب إلى المغامرات التجريبية بالاشكال انه ما ان يستقر عند رؤية جمالية بعض الوقت حتى ينقلب عليها فجأة بتجربة مدهشة ان وراء ذلك عشق للخامات والأدوات المستعملة التى يجلبها من اسواق الروبابيكيا وشغفه بإستنطاقها وتدويرها فى أشكال فنية فيجعلها تتوالد بين يديه كائنات جديدة لا نهاية لها ولعل ذلك ما جعله يبتعد طويلاً عن لوحة حامل الرسم التى أنجز فى إطارها أعمالاً جيدة فى سنوات شبابهوبعض مرحل نضجه الفنى خاصة أعمال معرضه المميز (مخلوقات أعمال القهوة) لكن إختياره للمرأة ليس موضوعياً فحسب بل هو جمالى كذلك فلم يجد فنانو الحضارات المتعاقبة جسداً يعزفون علية أعزب الألحان وأرق النغمات خيراً من جسدها لكن عصمت جعل خطوط هذا الجسد تنساب وتتلوى تتكور وتتحور ..تتطاول وتتمايل .. مثلماً يفعل الساحر بمزمار فيجعل الحية ترقص وتنتشى فتنتقل عدوى نشوتها إلى المتفرجين .
- ويعد داوستاشى من الفنانين المجددين والمحفزين للتفكير فى الفن ..ويحتضن الكثيرين من الفنانين الشباب الذين تعلموا معنى الفن الأصيل بمرسمه .
بقلم : د . أحمد نوار
جريدة الأخبار - 2010
داوستاشى وضوء القلب ..
الفنان عصمت داوستاشى (1943) فنان غير تقليدى فهو حركى المنهج الحياتى .. ومفعم بالأفكار وعمق الثقافة .. والانصهار فى الموروث الشعبى والإنسانى ، حاصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية العام 1967 (تخصص نحت)، عضو الجمعية المصرية لنقاد الفن التشكيلى - عضو استشارى فى لجنة الاقتناء بمكتبة الإسكندرية وعضو باللجنة العليا للسيرة الذاتية للفنانين التشكيليين ، وهو من الفنانين المشاركين فى كثير من المعارض القومية وبعض المعارض الدولية، نذكر منها المعرض القومى ومعارض صالون الكاميرا - معارض الفنانين المتفرغين - صالون الأعمال الفنية الصغيرة ، مهرجان بغداد الدولى العام 1988 ، معرض نوما الدولى باليابان العام 1994 ، صالون طوكيو الدولى للتصوير الضوئى العام 1994 - بينالى الإسكندرية العام 1994-ملتقى الحضارات بألمانيا العام 1995 - بينالى القاهرة الدولى الثامن العام 2001، عصمت داوستاشى من الفنانين القلائل الذين يعرفون ويعلمون فيم يفكرون، وهو من المنظرين القليلين فى الفنون التشكيلية فى مصر والعالم العربى ، ويمتلك رؤية نقدية أهلته للكتابة والتأليف فى الفن ، وذلك بالإضافة إلى تركيبته الموسوعية النادرة على المستوى القومى ، ويتميز بالدقة وتوثيق المعلومة وتمحيصها بعناية، كل هذه الصفات اتحدت وتكاملت فى رؤية الفنان الذى انصهر فى حياة الناس العامة وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم ، فكان للرمز مكانة هامة ومحورية فى أعماله الفنية ، كما كان للأسطورة مساحة أوسع فى فضائيات لوحاته الفنية ذات البعدين ، وأعماله ذات الأبعاد الثلاثة المركبة والمجهزة فى الفراغ، والضوء فى أعمال الفنان آتٍ من العناصر وليس آتياً إليها فالعناصر السابقة الصنع كالأخشاب أو الجلود أو المعادن أو العناصر الداخلة فى استخدامات الإنسان وحتى المفردات الشعبية الحقيقية كلها مهجنةً فى النسيج البنائى التشكيلى لأعماله ، فهذه العناصر كونها جزء من الحياة الإنسانية فهى تحتفظ فى خلاياها بمخزون وفير من الطاقة الإنسانية وباتينة المشاعر والزمن، انصهرت فيها وأصبحت جزءا منها ، فالضوء الآتٍى ضوء خاصُُ لا يُرسم ولا يُسمع ولكن يستقبل بالمشاعر وبالأحاسيس، يسرى فى جسد الإنسان ، فكثير من الرسوم الملونة أو المنفذة بالأسود تعتمد على صياغة التراكم الجغرافى لشبكة متداخلة من الخطوط غالباً ما تكون بيضاء كأنها شبكة من المشاعر ، أو شبكة دقيقة متفرعة ومتوالية للأعصاب المعنية بالإحساس أو خريطة للشرايين الموزعة والمنتشرة فى الجسد تتدفق فيها الحياة وتنبض فيها الروح ، وأحياناً أخرى تنطلق هذه الشبكية العضوية من الجسد تعبيراً بليغاً عن الطاقة الصادرة .. أو بمعنى أدق للمسافة القياسية لحركة الطاقة الضوئية فى مجالها المغناطيسى للجسد ، فضوء داوستاشى ضوء صوفى أتٍ من الداخل .
أ.د. احمد نوار
جريدة الحياة - 2004
تقلبات تشكيلية فى الأوبرا المصرية
- فى معرضه يعود لأسترجاع علاقته باللوحة بطريقة تقليدية عرفها فى شبابه بعد سنوات طويلة من الابتعاد عن حامل الرسم . وتعد اللوحات المعروضة خلاصة هذه التجربة التى استمرت ما يقرب السنتين . والمرأة هى العامل الأبرز فى تلك اللوحات ، فهى العنصر الغالب فى تكويناته ذات الأرضية الغرافيكية . وعلى رغم تكراره للعنصر الأنثوى فى كل الأعمال المعروضة إلا أن داوستاشى استطاع الحفاظ على قدر كبير من التنوع والثراء البصرى فى طريقة تناوله مساحة العمل ، وقدرته على التحوير واستخدام الفراغات والمساحات الملونة ، وتوظيفه الكثير من العناصر والمفردات المختلفة .
- يقول داوستاشى : ` هذه الأعمال التى أعرضها هى آخر ما أنجزته خلال عامى 2008-2009 من لوحات بالألوان الزيتية على سطح خشبية وأسطح من القماش .. رسمتها كلها على حامل الرسم ربما للمرة الأخيرة ، وكانت بدايتى فى ممارسة التصوير الزيتى على حامل الرسم هى اللوحات التى عرضتها فى معرضى الأول عام 1962 ` .
- ومنذ ذلك التاريخ لم يستعمل حامل الرسم إلا قليلاً ، فهو يفضل العمل على مائدة الرسم التى بها كل أدواته وخاماته المتنوعة ، والتى أنجز خلالها أعماله المركبة والمتحركة والمجسمة فى تنويعات معارضه المختلفة التى تقارب المئة .
- ويوضح داوستاشى : ` لوحات الحامل دائماً لها عندى مذاق خاص ومتعة مختلفة ، وشعور بأنى مصور ملتزم ، فحامل الرسم له طقوسه ورهبته ويحتاج فى نهاية الأمر إلى أعصاب قوية وروح سلسة للسيطرة على فرشاة الرسم وأنت واقف أو جالس أمام لوحة منتصبة أمامك فى تحد حقيقى .. إنه عطاء مختلف ، فاللوحات التى أنجزها وأنا منكب عليها فوق سطح مائدة الرسم تعطينى حرية أكثر وقدرة للعب على أسطحها بثراء لونى وخامات متعددة ` .
- واستلهم داوستاشى لوحات معرضه من علاقة الناس بالأشياء خصوصاً المرأة التى تسيطر روحها على غالبية أعماله الفنية ، فى حضورها الأنثوى الجميل ، وهى ممسكة بوردة أو قطة أو سمكة أو حاملة طفلها أو محتضنة حبيبها .
- ويعد داوستاشى واحداً من أبرز الفنانين على الساحة التشكيلية المصرية ، وداوستاشى معروف بتقلباته الفنية واتساع رؤيته التشكيلية وحبه للتجريب فى الخامة وسعية المستمر إلى إيجاد حالة من الدهشة فى أعماله . مارس الرسم والتلوين والنحت ، كما تطرق بفنه إلى الأعمال المركبة . ويهوى فى شكل خاص جمع الأشياء القديمة وتوظيفها فى أعماله . وعرف عنه تعدد وسائطه الإبداعية ، فإلى جانب التشكيل يمارس الكتابة أيضاً ، فهو باحث ومنظم معارض وناقد تشكيلى ، له ما يزيد على عشرين كتاباً ، وله محاولات فى كتابة السيناريو والقصة القصيرة والشعر . كما نفذ مجموعة من الأفلام السينمائية الملونة فوق شريط الفيلم الخام وأشرف سنوات على مطبوعات ` أفلام الصحوة ` ومجلة ` الإنسان والتطور ` .
بقلم : ياسر سلطان
جريدة الحياة - 2010
التشكيلي عصمت داوستاشي في معرض استعادي في الإسكندرية
أقام التشكيلي المصري عصمت داوستاشي، معرضا استعاديا في مركز محمود سعيد للمتاحف بالإسكندرية.. تحت عنوان «قبل وبعد الثورة»، ضم مجموعة من لوحاته التي قدمها في معارض سابقة، وعبر في بعضها عن رؤيته الفنية للثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير، متناولا الشخصية المصرية والمتغيرات التي واكبت معايشتها لهذا الحدث التاريخي، راصدا إياها بحس فني جريء، معتمدا في الوقت نفسه على تجربته الذاتية وتفاعله معها.
داوستاشي قال، إن المعرض ضم أعمال «3» معارض سبق أن أقيمت في القاهرة، ولم تعرض فى الإسكندرية من قبل، المعرض الأول. كان بعنوان «آخر لوحات حامل الرسم وضم 35 لوحة، وموضوعاته كانت عن المرأة المصرية فى مواقف حياتية مختلفة، والمعرض الثاني كان بعنوان «لوحات قبل وبعد الثورة » وضم أيضا 35 لوحة، ونصف الأعمال التي كانت معروضة به رسمتها قبل الثورة والنصف الآخر بعد الثورة، وتحديدا عن موقعة الجمل، والشهداء، ولوحة عن ابني عبدالله داوستاشي الذي أصيب مرتين خلال الثورة، أما المعرض الثالث.. فكان بعنوان «معرض فى كتاب » وقدمت فيه 7 كتب اعتراضا على تغيير المادة 76 من الدستور في العام 2005 التي تسمح بتوريث الحكم فى مصر.
وأشار إلى أن الفنون كلها تسهم فى إعداد الشعوب للقيام بالثورات، وأن الفنانين الموجودين فى مصر عاشوا فى ثورة لكنهم لم يعبروا عنها بعد، لأن الثورة أفرزت فنانيها، وهي ثورة إبداعية أكثر منها ثورة سياسية لأنها لم تغير الحكم.
وأكد أن الفنان له دور في توعية المجتمع، وأن دور الثقافة مهم جدا وسط التيارات الفكرية والدينية المنتشرة والمتضاربة، وأنه إذا كان هناك ثلاثة أشياء فى مصر ذات أولوية وتحتاج إلى اهتمام فهي رقم واحد الأمن والاقتصاد رقم اثنين والثقافة رقم ثلاثة.
وشدد على أن بلاده فى حاجة إلى الوحدة والتماسك – الوحدة الدينية والوحدة الوطنية والوحدة الاجتماعية – وأنه يجب أن يكون هناك سلام، فمصر أهم من الأطماع الشخصية أو الحزبية، وقال: لو كان هناك ميثاق للثقافة الوطنية يجتمع عليه المصريون، لما كان لخوفنا من التيارات التي تظهر أي مبرر.
داليا جمال طاهر
جريدة `الراي` الكويتية
صرخة الثورة في معرض دواستاشي بالإسكندرية
بشخوص مفعمة بالحيوية والأمل، احتفى الفنان السكندري عصمت دواستاشي بثورة 25 يناير المصرية في معرض خاص حمل عنوان «قبل وبعد الثورة»، افتتحه في مستهل الشهر الحالي بمركز محمود سعيد للمتاحف بالإسكندرية الدكتور صلاح المليجي رئيس قطاع الفنون التشكيلية.
تقتنص اللوحات روح الثورة، وتتخذ من تداعياتها طاقة للتعبير الفني، تجسدها في مجموعة من الوجوه التي تلامس الحياة المصرية، وتكاد تكون مرايا لكل تجلياتها وطبقاتها الحضارية، الفرعونية والقبطية والإسلامية.
ويولي دواستاشي اهتماما خاصا بالخط واللون، فهما بطله الأساسي في استلهام الرسم، وبلورة الفضاء التجريدي للصورة، كما يعتمد عليهما كطاقة محفزة لتنويع مسارات الحركة والإيقاع وإنضاج الشكل، وإشاعة جو من الروحانية في تضاريس الشخوص.
ورغم تشابك وتعرجات خطوط دواستاشي، فإنها تنساب ببساطة شديدة على مسطح التكوين، يعضدها تضافر لوني ناصع وقوي، يتجاوب مع فضاء الرسم، ويمنحه حيوية تعبيرية، يعززها أحيانا بمجموعة من الموتيفات ذات نسق زخرفي تتوزع بنعومة في الخلفية وفي حنايا الرسم، كما يلجأ إلى تطعيم الرسم بمجموعة من الرموز ذات محمولات تراثية متنوعة (القط، الثعبان، الديك، العصفور)، مما يجعلنا إزاء حالة تشكيلية غنية بالشجن الإنساني، مفتوحة على طفولة الحياة وحركة الأشياء والعناصر. لا يترك دواستاشي العالم من ورائه، بل يسعى إلى أن تمتد لحظته الآنية في الماضي والحاضر والمستقبل.. ففي لوحة ثلاثية يتجاور بها ثلاث أيقونات لشخوص ينوع نظرة العين، فهي في واحدة من اللوحات عين حورس الفرعونية، أحد رموز درء الحسد واستجلاب القوة، وفي الثانية تأخذ سمت نظرة بنت البلد التي تذكرك بـ«بنات بحري» ولوحات محمود سعيد، وفي اللوحة الثالثة تكتسي نظرة العين مسحة قبطية مشربة بهالة يونانية هلنستية، وفي اللوحات الثلاث يتطابق رسم الكف وطول الأصابع في رشاقة أسلوبية خاصة، مما يوحي بأن اليد هي صانعة الحضارة والثورة.
وفي اسكتشات حاذقة، يجسد دواستاشي بخطوط كروكية سوداء عددا من أبرز شهداء الثورة، يلتقط مشاعرهم وانفعالاتهم الشابة، ضحكهم، وحزنهم، في رسومات نصفية للوجه، بينما يترك خلفية اللوحة تارة بيضاء، وكأنها فضاء مسرح يسبحون فيه، ويواجهون على خشبته مصائرهم وصراعاتهم بصرخة جماعية مكتومة ومدوية معا من أجل الحلم بالحرية، وبغد أكثر عدلا وكرامة. وتارة يصبغها باللون الأحمر، وكأنها وثيقة حارة لدم الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم لكي يشرق فجر الثورة.
وفي لوحات المعرض، لا يولي دواستاشي اهتماما بمساقط خارجية للضوء، فهو ينبثق من نصاعة اللون وخفوته، ويومض في جنبات التكوين بعفوية حانية، وكأن اللوحة هي مسار الضوء المطلق، تماما مثل الرسم الذي يتجاوز المظاهر المرئية للأشياء، إلى ما هو أعمق في الجسد والروح، وفي الواقع معا.
جمال القصاص
القاهرة : الخميس 8/12/2011
اليوم .. تكريم داوستاشى والقماش ` فى ` سمبوزيوم ` شرم الشيخ
يكرم سمبوزيوم شرم الشيخ الدولى فى بداية أعماله اليوم الثلاثاء الفنانين التشكيليين عصمت داوستاشى والسيد القماش على مجمل أعمالهما الفنية منذ عام 62 وحتى الآن ودورهما البارز فى تسجيل أحداث ثورة 25 يناير .
يذكر أن داوستاشى تخرج فى كلية الفنون الجميلة قسم النحت وشارك بلوحاته فى أكثر من 60 معرضا بالداخل والخارج وتميزت أعماله بالتعبيرية والرمزية وحصل على العديد من الأوسمة والجوائز من مصر والعديد من الدول الأوروبية أبرزها جائزة راديو فرنسا الدولى بباريس .
أما الفنان السيد القماش ( أستاذ التصوير بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا .فقد ساهم بجهد ملحوظ فى تعميق مفهوم التصوير الجدارى فى مصر من خلال مساهمته فى تصميم وتنفيذ العديد من الجداريات بالميادين المصرية بجميع المحافظات ومؤلفاته العديدة عن التصوير الجدارى التى كان أخرها كتاب ` التصوير الجدارى والعمارة المعاصرة ` .
محمد عبد العلى
المسائى : 15 /11 /2011
داوستاشى .. الفنان الإنسان
حول بيته إلى مرسم ومزار لمحبى الفن الجميل ويصدر مطبوعات كثيرة جدا على نفقته مضحيا بأمواله من أجل الفن الذى يعشقة .
لا أدرى -الآن متى تعرفت على عصمت داوستاشى ، ما اذكره جيدا أن الصديق الروائى محمود عوض عبد العال قد رشحة لى ، لكى يرسم غلاف أول كتبى ، رواية ` الصعود فوق جدار أملس ` فى بداية عام 1977 وقد صدرت عن سلسلة أقلام الصحوة التى يرأس تحريرها محمود عوض ، وتقابلنا أنا ومحمود مع عصمت فى أتيلية الإسكندرية ، وفى حجرة داوستاشى التى يتخذها مرسما ، جلست وقتذاك مبهورا بكل شئ فى الحجرة ، لوحات كثيرة بعضها معلق ، وبعضها مسنود على الدواليب والجدران .
أعطيتة نسخة من الرواية مكتوبة بالآلة الكاتبة لكى يستوحى منها ماسيرسمة عنها ، واتفقنا على أن آتى إلية فى هذه الحجرة يوم الأثنين 21 مارس 1977 ، وذهبت إلى هناك فى الموعد المحدد ، وانتظرت طويلا لكنه لم يأت ، فسرت حزينا إلى قصر ثقافة الحرية ، فهو يعرف أننا نحضر ندوة القصة مساء كل يوم اثنين فقد يكون ذهب لمقابلتى هناك ، لكننى لم أجده ، واكتشفت بعد ذلك أن جدته التى يحبها كثيرا ، والتى قامت بتربيته ؛ قد ماتت فى ذلك اليوم .
كنت أعلم مدى حب عصمت وتعلقه بجدته فقد تربى فى بيتها ، ولم يترك البيت إلا بعد أن كبر ، وبسبب زواج خاله وإقامته مع أبيه وأمه فى الشقة .
كما أن جدته لها الفضل فى تطور هواية الرسم عنده وكان من الممكن ان تجهض هذه الموهبة لو لم يعيش مع جدته كل هذه السنوات وتحدد موعد آخر واستلمت الرسم .وذهبت به إلى ندوة القصة بقصر ثقافة الحرية ، وكان يحضر معنا رجل مسن يعمل فى مطبعة كبيرة فى المنشية ، عرض على بأن يذهب معى إلى محل زنكوغراف اسمه متى بشارع العطارين ليصنع لى الأكلشيهات التى سيطبع على اساسها الغلاف .وفى الدكان عقدت ندوة لاخصائيين الطباعة . فداوستاشى رسم الغلاف مربعا والكتاب على شكل مستطيل وذلك لا يصلح فى الطباعة ، وقرروا ان يتم عمل أكليشيهين ، أحدهما فيه الرسم الذى يتضمن اسم المؤلف . والاخر فيه اسم الكتاب . ولم أعترض ، فأنا لا أفهم فى مثل هذه الاشياء ، وما دام خبراء الطباعة قالوا إن الرسم خطأ ، فهم على حق .
وتم طبع الكتاب فغضب داوستاشى ، فقد أفسدو رسمه ، فقد قصد أن يشغل الرسم جزءا من صفحة الغلاف الأخرى ، وعندما يتم مزج لون الرسم بالأحمر ، ولون اسم الكتاب بالأسود سيكونان معا منظرا جميلا .
لكن عصمت صفا بعد قليل وقال : مش مهم حاعوضهالك فى غلاف الكتاب الثانى .
زرت عصمت فى السنوات الاخيرة ، بعد أن أرسل لى إيميل ، طالبا فيه بقراءة كتاب المرحوم يوسف فهمى الجزايرلى عن شوارع الإسكندرية فذهبت إلية يوم الثلاثاء ، اليوم الوحيد الذى يحضر فيه إلى الأتيلية .فيجلس فى حجرته الجميله ، ويأتى إليه طالبوه من موظفين كبار فى الثقافة ، جاءوا للاتفاق على إقامة معارض فى المؤسسات التى يرأسونها وفنانين جاءوا لعرض أعمالهم الفنية عليه . وأصدقاء تعودوا على مقابلته فى كل ثلاثاء . وهو يجلس فى مقعده ، يسألك عن المشروب الذى تفضله ، شايا أم قهوة وتمتلئ الحجرة بكل هؤلاء .
يومها أعطانى مطبوعات كثيرة من روايات وقصص وكتالوجات معارض .. إلخ ومن هذه المطبوعات روايته ` الرمله البيضاء ` التى أصدرها على نفقته الخاصة .
والرملة البيضاء شاطئ يتوسط الميناء الغربى لمدينة الاسكندرية ، خلفة مباشرة فنار المدينة الذى يهدى السفن إليها ، وبجواره جزيرة رأس التين ، حيث قصر الملك ، وهذا الشاطئ الساحر الصغير المفروش بالرمال الناصعة البياض عبارة عن جزيرة صغيرة تصل إليها بالمراكب الشراعية ، ولا يعرفها جيدا إلا أهل حى بحرى كان جد عصمت داوستاشى ـ إبراهيم ـ الذى يعمل قهوجيا فى مقهى الحاج مصطفى الجريتلى المواجه لباب سته بالجمرك ؛ يسلمه لريس المركب الشراعى ، ليذهب به إلى الرملة البيضاء للفسحة ، ثم يعود به مرة أخرى إلى المقهى .
جد عصمت الاكبر داود سافر إلى جزيرة كريت فى حمله محمد على باشا ، واعجبه الحال فعاش فيها بقية عمره ، واصبح اسمه داود ستاشى الذى تحول بعد ذلك إلى داوستاشى .
كانت جزير كريت اليونانية حتى الحرب العالمية الأولى- تابعة للإمبراطورية العثمانية ، نصف سكانها أتراك ومسلمون ، والنصف الاخر يونانيون مسيحيون وبهزيمة تركيا فى الحرب العالمية الاولى ، استردت اليونان أراضيها المحتلة ومنها جزيرة كريت ، فحاول المسيحيون اليونانيون ، أهل الجزيرة المسلمين ، فهربوا إلى كل مدن البحر المتوسط ، خاصة تركيا أو بلاد الشام ومصر ، وعدد كبير جدا منهم إلى الاسكندرية .
كان جد عصمت ` إبراهيم ` يعمل مثل كل أفراد أسرته فى الزراعة . وقد خرج وأحد أقاربه من قهوة فى قريتهم المجاورة لـ` خانة ` عاصمة كريت ، فأطلقوا الرصاص عليهما . فقتل قريبة فورا ، كان مسلمو جزيرة كريت يعانون الاضطهاد، ثم استدعوا جده للتجنيد ليحارب الأتراك المسلمين ، فقرر الهرب من الجزيرة كلها ، فلفوة فى سجادة ، ومروا به من المنطقة الجمركية إلى سفينة متجهة إلى الأسكندرية ، حيث والده يعمل بها ، ومعارفة الجراتلية يسكنون المدينة .
ودخل مصطفى الجريتلى -صاحب المقهى- المواجهة لباب الجمرك مرتديا مريلته وغطاء رأسة وحاملا صينية عليها أكواب الشراب ودخل الميناء بسهولة ، وجعل إبراهيم يرتدى هذه الملابس ويمسك الصينية ويخرج من الباب أمام الموظفين ، على أنه قهوجى يعمل فى المقهى .
وعمل إبراهيم فى المقهى . ثم جاءت زوجته شبرا ، وعاشا فى الاسكندرية بقية عمرهما .
يذهب عصمت مع والده إلى القاهرة لأداء امتحان القبول بكلية الفنون الجميلة . بعد حصولة على دبلوم الثانوى الفنى بتفوق .
أخذه والدة الى تكية البكتاشية فى ضيافة شيخ التكية أحمد سرى دده بابا أفندى ، ليقيما فى التكية -كعادتهما -كلما جاءا إلى القاهرة . كانت التكية فى جبل المقطم ، ونقلت بعد الثورة يوليو 52 الى اسطبلات الأمير عمر إبراهيم بالمعادى ، حيث أصبح جبل المقطم منطقة عسكرية . فى ذلك الوقت عرض بابا سرى على عصمت أن يصبح درويشا فى التكية الجديدة ، تمهيدا لان يكون باب على الدراويش بعد رحيله .
ما يذكره عصمت عن تكية جبل المقطم ، عندما كان يزورها فى طفولته فى عاشوراء ، حيث تنكب النسوة على كميات القمح الكبيرة لإزالة الشوائب العالقة بها والرجال يذبحون الذبائح ويقطعون اللحم ويضعونة فى أوان متشابهة . وما يذكرة أيضا ، أنه فى نهاية المغارة ، يوجد قبر الشيخ المغاورى الذى يزورة أهل القاهرة ويتباركون به خاصة النساء اللاتى تطلبن منه بركة الحمل ، فيتمرغن أمام المقام ، ويظل جسدهن يتدحرج حتى باب المغارة وذلك حتى يكتب الله لهن الحمل والولادة . ويذكر حديقة التكية التى كان يلعب بها ويشاهد منها القاهرة فى بانوراما ساحرة لميدان الرميلية .
ويذكر حفرة بها مساجين سجن القلعة بردائهم المميز ، والجنود حولهم ، بعضهم على أحصنة ممسكين بالسياط ، وآخرين يسيرون على الاقدام حاملين الاسلحة .
يكسر المساجين أحجار الجبل بفئوسهم ويحملون بعضة على أكتافهم ، ويضعون القطع الصغيرة فى قفف ، ويذهبون بها بعيدا وعثر عصمت مع قريب له على حقل فول رومى ، وسرعان ما هجما علية والتهمو كل ما فى الحقل ، فغضب البابا وعنفهما فى قسوة فقد كان حقل الفول من أحب حقول المزرعة إلية .
ولدروايش التكية قصة ، حكتها له جدته شبرا هانم ، فقد حضر الدروايش من الأناضول إلى مصر هاربين من بطش الحكام ، ملتجئين إلى خير وأمان مصر ، وكان حاكم القاهرة مصابا فى إحدى عينية ، ولا يرى بها ، فغطى كل درويش عينة بقطعة من الجلد وذهبوا لمقابلته للتحية ولالتماس مطلبهم ، بأن يأويهم ويسمح لهم بالإقامة فى التكية ، فأعجب الحاكم بهذه اللمسة وسمح لهم بالإقامة فى التكية فى مغارة من مغارات جبل المقطم .
ولد عصمت عبد الحليم إبراهيم بحى بحرى بالاسكندرية فى 1943 .
وكتب نصوصا أدبية منها : الاشياء ` مختارات نثرية ` الصمت ` سيناريو مسرحى ` فهو يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو وهذا يظهر من بيان أعماله المنشورة فى اخر كتبة .
مصطفى نصر
3/6/2014 القاهرة
(تعلمت أن أرسم ما أعرفه وليس ما أراه.. أن أرسم من الداخل الذى يبدو لي واضحا، الخارج الذى يبدو لي مبهما وقاسيا).. بهذه الكلمات الموجزة والمحددة التي قالها الفنان (عصمت داوستاشى) سوف نجد أن فن الرسم عنده يشكل اهتماما كبيرا في اتجاه طموحه الفنى نحو التعبير عن ذاته حسا وفكرا. ولأن (عصمت) نحات أصلا بحكم دراسته وتخرجه بقسم النحت، الاانه مع ذلك لم يحل تخصصه هذا عن قناعته وممارسته للرسم مثلما فعل الفنانان (سعيد العدوى) و(أحمد نوار) اللذان لم يتخصصا فقط فى ممارسة فن الحفر (الجرافيك) وقام بإبداع اعمال فى فنون الرسم والتصوير.. فداوستاشى من هذا النوع وغيرهم كثيرون فى الفن المعاصر- لا يضع حدودا أو فوارق بين أشكال التعبير الأخرى من نحت وحفر وتصوير.. المهم عنده هو (التعبير) لا تهم الخامة مادام الفنان يملك أدوات التعبير فهو مثلا عندما يشكل قطعه النحتية أو مجسماته بالخشب أو الحديد.. يتفرغ تماما لإنجازها حسبما تمليه عليه طبيعة الخامة وامكاناتها من مدرك حسى وذهنى.. دون اللجوء إلى عمل دراسات أو تخطيطات، وكذلك الحال فى الرسم.. فهو عندما يرسم، يرسم من اجل الرسم ذاته ولا يستعين بعمل كروكيات أو دراسات.. فهو من طراز اولئك الفنانين الذين ينزعون نحو التعبير عن الرغبات التى لا يعيها العقل، لكنهم يودون تحقيقها بحدسهم دون تفكير.. اولئك الذين يواصلون إبداعهم حتى تنتهي لديهم شحنة الخيال والانفعال من خدر أفكارهم بعد أن يستنفدوا كل انعكاساتها التعبيرية، ورسومه التى استعان فيها الفنان - بالأقلام الفلوماستر الملونة أو القلم الجاف على مساحات صغيرة من الورق- ونفذها بحساسية وإتقان، ليست أعمالا تحضيرية أو دراسات.. وانما أعمال نهائية (متكاملة) مستوفاة مقومات بنائها التشكيلية.. فمثلا مجموعة رسومه التى أطلق عليها (الكف) ونفذها بالحبر الصينى وأقلام الحبر الجاف والفلوماستر، كان قد أقام بها معرضا فى سنة 1974، استغرق فى إنجازها عاما كاملا، هذه المجموعة مهمة لأنها شكلت أول ملامح فن الرسم المميزة (لداوستاشى) من حيث الرؤية والتكوين، واستخدامه للخط بكثافة، وكثير من الارهاصات الشكلية التى تبلورت فيما بعد فى رسومه التى أبدعها وتميز بها. هذه المجموعة يعتمد فيها على كف الانسان علامة الخمسة وخميسة أو الاعتراض، فى تشكيلات متنوعة ممزوج برأس الإنسان والكف كما هو معلوم استخدم بكثرة فى الرسوم الشعبية للدلالة على صد عين الحسود الشريرة من الأذى. تعكس هذه المجموعة - ومعظمها من الأبيض والأسود- طبيعة فنان يمتلئ رأسه بالكثير الذى يتضارب فى عنف من خلال خطوط كثيرة تتشعب وتتلوى وتلتف حول بعضها البعض فى حيوية وعصبية.. أنها مجموعة أشبه بقصيدة مأساوية حائرة قام بتطريزها من نسيج وأعضاء جسم الانسان الداخلية- أمعاء. أوردة - وشرايين - وديدان.. أما رسومه الأخرى التى انبعثت من مجموعة (الكف) وتنقسم إلى مجموعتين: مجموعة باسم (الانسان والسهم عرضها عام 1974 ) والأخرى باسم (المستنير دادا عرضها عام 1982 باتيليه القاهرة). كان الفنان قد عكف على إنجازها بشكل متواصل دون انقطاع من الفترة ما بين أعوام 1971 -1980 مستعينا بقلم الحبر الاسود (الربيدوجراف) وأقلام واحبار الفلوماستر الملونة فى تحضير الأرضيات، أو تكوين بعض عناصر الموضوع. تتسم رسوم تلك المجموعات بمعالجات غير تقليدية، بمعنى أنها مؤلفة من (تكوينات وعلاقات لا تقوم على المنطق الواقعي، بل تصاغ فى نسق جمالى يزاوج بين العناصر المتضادة والمتنافرة فى وحدة متجانسة هذا التضاد بين السطح والجسم، بين المستقيم والحلزوني، بين الساخن والبارد من الألوان، يمور بالحركة الداخلية السريعة والانتقالات المباغتة بين عناصره المختلفة، ولا يسمح بوجود فراغ بينهما، لأن الفراغ نفسه يتحول الى (أشكال) جديدة مليئة بالحيوية أيضا.. (أننا نحس برابطة القربى الشديدة بين نسقة الجمالى هذا وبين الفنون الشرقية القديمة، فالخط عنده وهو سمة رئيسية - كما فى الفن المصري القديم - خط صريح يحدد الأشكال و يحكم التكوين، ويوحى بالتتابع والترديد النغمي، والتكوين فى أعماله - كما فى الفن الإسلامي والشرقي عامة - مزدحم بالعناصر، حتى لا يبقى بها ثمة فراغ، وهو يعتمد على التماثل ويشغى - بحروف الكتابة المتشابكة ذات النسيج المعقد، وينحو إلى التسطيح الزخرافى للعناصر..والألوان عنده - كماهى عند الفنان الفلكلوري المصري تشع بالسخونة والصراحة، كما تعكس أشكاله حسا بدائيا وأنماطا رمزية زخرفية.. وكما أثريت تجربته بالفنون الشرقية القديمة، فإننا نستشف فيها أيضا مخصبات من المذاهب التعبيرية الحديثة.. وبنظرة شاملة إلى الرسوم التى يقدمها (داوستاشى) وما يطلق عليها من أسماء وعناوين نجد أننا أمام فنان يقدم أعمالا يتوافق فيها المعنى الأدبي مع إيقاع التشكيل الابتكارى، فالعناصر التشكيلية الرمزية ذات المدلولات الباطنية - التى يستحضرها الفنان من الداخل ويؤلف بها تكوينات كالخط المتعرج والسهم والدائرة، ونقطة الدم والثعبان والشكل الآدمى..هى عناصر أولية مجردة.. تصبح رمزا لفكرة أو خاطر أو كلمة مقروءة ذات مضمون إنساني..أو تشكيلا طلسميا عنيف الواقع كالطوطم والاحجبة.. والتعاويذ.. فمثلا الخطوط التى تتشابك أو تتضافر وتتعقد وتتلوى داخل تجويف الشبح الآدمى فى فراغ البطن والرأس والأطراف.. تشبة دودة الإسكارس.. تنهش الأمعـاء والفكر معا وتوشك أن تبتـلع صاحبها(1).
وقطرة الدم القانية: ترمز الى طريقة الاستشهاد وقتل النفس والثعبان: يرمز إلى الإخصاب أو الشر.. أما الشكل الآدمى الذى يمثل أهم عنصر فى اللوحة فنجده يقدمه على هيئة (أجسام غريبة لشخوص ساكنة دائما يحددها خط خارجى مستمر، ولا يبدو من ملامحها شىء بل تمتلئ بالخطوط (الخرطومية) أو ما تشبة (الأمعاء أو الشباك المكدسة) التى تصنع خيوطها نسيجا صاخبا بالحركة، تكاد العين تتوه فى ترديداته التى تشبه الصدى.. وتظل حركتها اللولبية أو الدوامية مركزة داخلها لا تطغى على تلك الحركة الجديدة التي تحدثها اسهمه الهندسية الصارمة التي تبدو أما متجمعة في بؤرة مركزها الشخوص تكاد تقتحمها عنوة لتفجرها أو مركزية طاردة تنتشر في كل اتجاه في الصورة جاعلة من الشخوص بؤرة انطلاق للعين، لكي تدور في بقية أجزاء الصورة دورات متتالية ومحكمة. وهو فى تلك الأعمال يبدو كأنما يتغلب على الإطار كالخط المحيط بالأشكال ويحيده لكي تصبح مساحة الصورة لانهائية تشمل كل مساحة السطح المعروضة عليه، وما يحيطه حتى آخر مدى البصر..).
وذلك بالطبع لا تشعر به عفوا أو دون دوافع، أن (داوستاشى) يضطر إلى مثل هذه الاستخدامات الغريبة للشكل واللون والرمز لا عجزا عن بناء الصورة بالمفهوم الاكاديمى المصطلح عليه، بل لأنه ينبع من نداء ما.. صوتا باطنيا، هذا الصوت هو الذى يقرر وهو الذى يفرض وهو الذى يحدد بناء صورته..
د. رضا عبد السلام
من الرسم المصرى المعاصر
عصمت داوستاشى
- عندما أجد نفسى فى مواجهة راهب بوذى يحرق نفسه على قارعة طريق ..افقد القدرة على نطق كلمة ` لماذا `؟ كلمة غبية بلهاء إذا قيلت فى هذا المقام ..إذ يغمرنى اقتناع كامل بما يفعل ، دون أن أحاول أن أفسر عقليا، تصرف رجل يهب حياته للنار..!
- وقد أجد نفسى مدفوعا لفعل نفس الشىء دون تردد ..فما أجمل أن يتحول الانسان إلى ` بخور` يتصاعد عبقه إلى السماء وتتعانق سحبه البيضاء فى جوف المعبد .. على مرأى من ` بوذا ` الجالس شامخاً .. مطبق الشفتين والعينين .. يدوى صمته فى الأعماق . دون أن يبوح بالسر ..!!
- وعندما ما ينقشع الدخان، ولا يبقى أمامى سوى حفنة رماد ..أشعر بالخجل من نفسى بضآلتى تجاه هذا التصرف العملاق.. فهذا انتحار بطولى ولاشك .. ودرجة من التضحية لا يقوى عليها سوى مجاهد أو عاشق ..وأنا لست من طراز هؤلاء ..
- وفى مواقف كثيرة يجد الإنسان نفسه مدعواً للاستسلام الكامل، والخشوع المطلق أمام صوت الحكمة ..بعد أن يخلع عنه رداء الفزع والقلق .. والشك أيضاً .. وهو فى هذه الحالة ليس مطالباً إلا بالتنازل مؤقتا عن أصفاد رأيه التى تطوق يديه وعنقه وعقله .. وأن يدخل المحراب نقياً كقطعة البللور ، صافياً كقطرة ماء .. ساذجاً كجنين فى رحم أمه .. أن يخلع نعليه كما أمر ` موسى ` وهو فى حضرة ربه .. وكما يفعل اليابانيون عندما يخلعون نعالهم على عتبة الدار.
- أن تخلع علائق الحياة خارجاً ، شىء رائع ..أن تنصهر ..أن تتطهر من ركام الغربان الجاثمة على أكتافك .. أن تحتضن العالم بكلتا ذراعيك ويحتضنك الكون بلا نهائيته .. أن تمتص أثير المعرفة نقياً فى نهم كإسفنجة متفتحة المسام.. أن تذوب فى الحقيقة ..أن تكون سلبياً وإيجابياً فى وقت واحد.. أن تكون كل هذا ، فأنت آنذاك قد أمسكت بناصية الحكمة ..!!
- ولا يتكرر الرهبان الذين يحرقون أنفسهم على قارعة الطريق كثيراً . ولذلك ننساهم بسرعة ، عندما ينطفىء وهج النار ويذوب الدخان فى جوف السماء.
- وراهبنا اليوم هو الفنان السكندرى الشاب ` عصمت داوستاشى ` .. كنا على وشك أن ننساه، وننسى صرخته المدوية وهو يحترق يأساً.. عندما قرر أن يهجر فرشاته إلى الأبد منذ بضع سنوات.. وقلنا وقتئذ إن رماد الراهب لن يبقى فى مكان الإحتراق لتطأه الأقدام ، بل ستذروه الرياح، وتطير ذراته فى كل اتجاه ، لتشاهد من فوق مالم يتح لها مشاهدته وهى مختلطة بتراب الأرض.. ثم تعود الذرات إلى مستقرها ، لتحكى ، بصوته الحكمة ، ما شاهدته فى رحلة الشوق. وصدقت النبوءة.. وها هو ذا الراهب يعود إلينا اليوم بعد رحلة حجازية فى الأعتاب المقدسة ، وشهرين أمضاهما فى مكة المكرمة .. يعود ومعه ` رماد ` نفسه معبأ فى وعاء معرضه الذى يقيمه بأتيلية القاهرة .. يضعه أمامنا فى تواضح صوفى نبيل.. وأنت لن تستطيع أن تقف أمام حفنه الرماد لا مباليا.. فسوف تستشعر دفئاً وقوراً ينبعث من ذراتها ويسرى فى خلايا روحك وعقلك وقلبك ..إن المستنير ` دادا ` يتكلم .!!
- وإذا نطقت الحكمة فلينصت القلب ..إنه كلام يسمع بالأذن ، فالأذن ليست أداة صالحة لتلقى الموجات فوق الصوتية .. ولا الإيحاءات النبيلة .. وهنا ينبغى أن تخلع النعل وتسلم .. فأنت الآن فى الأفق الأعلى فلا تتحسس مواقع أقدامك حتى لا تصاب بالفزع أو الإغماء .. فتهوى من عل..
- افتح مغاليق نفسك للفيض واستمتع بمجامع عينيك وقلبك .. وتذوق .. ولا تسأل كثيراً .. فالفهم يفسد المتعة .
- وكما ينتقى الذاكر مفردات الذكر يرددها مع انتقالات حبات المسبحة بين سبابته وإبهامه ، كذلك ينتقى راهبنا عناصره التشكيلية ذات المدلولات الباطنية ، من الخط المتعرج ، ومن السهم ، ومن نقطة الدم ، ومن الشبح الآدمى المفرغ، يعيد الأشياء إلى أصولها الأولى ..
- كل شىء فى عالم الحس قوامه موجات وذبذبات مختلفة الأطوال والسرعة .. حتى المادة .. والخواطر والأفكار ..التى تتصدر من الداخل أو تأتى من الخارج ..الموجة تطول أو تقصر ، تنتصب أو تتراخى ، تتداخل أو تتضافر ، وتنعقد فتأخذ شكلا لولبيا فى أول الأمر ، ثم تتشابك فتصبح رمزاً لخاطر أو فكرة ، أو تصبح كلمة مقروءة ذات مضمون معنوى .. أو تشكيلاً طلسمياً عنيف الوقع كالطواطم والأحجبة والتعاويذ..
- وتتلوى الخطوط داخل تجويف الشبح الآدمى .. فى فراغ البطن والرأس والأطراف .. مثل دودة ` الإسكارس ` تنهش الأمعاء والفكر معاً.. وتوشك أن تبتلع صاحبها كما ابتلع الحوت ` يونس`.
- مرحلة عنيفة من التمزق عبر مراحل القلق النفسى والمخاض الروحى .. تتحول فيه دودة الإسكارس إلى أفعوان ضخم مخيف .. ولكن إحساساً غامضاً يهمس فى أعماقنا مطمئنا بأنه ` حية موسى ` اليقينية .. التى رسخت أقدام الفنان فى عالمه .. وجعلته يستعذب الاحترام على مذبح ` أبو للو ` .
وتقطر الأشكال قطرات حمراء كالدم .. ضريبة الاستشهاد وقتل النفس .. وطريق الجهاد طويل طويل ، آخره نقطة الفناء وانعدام الذات واندماج الجزء فى الكل والتوحد .. والفناء غاية العاشقين والسالكين .ويجلس الراهب المستنير القرفصاء مختليا بنفسه يحتويه الغار الأزلى ..ويهن صراع الأسهم خارج الهيكل ويصبح أنغاماً قدسية ذات طنين نفاذ ..يعلو ويهبط أزرق وأخضر فى تضرع ابتهالى رائع ..وتتعانق الخيوط الداخلية فى نسيج فى رقة وشفافية ` الدانتلا ` ونستمع إلى المستنير وهو يهمس فى وقار قدسى ليعرفنا من هو ...
- إنه الذات المبدعة داخل كل فنان يحدث لديه انعتاق تدريجى من الحياة ، تجاه الفناء الأعظم ..إنه ذلك الحقيقى الذى تخلص من الزمن المحدود، فأحيط توهجه بالزمن الأبدى .. خالداً فى النهاية ، قادراً على استحضار الماضى والحاضر والمستقبل.
- إنه الآفاق المفتوحة بلا خوف .. هو العين المعصوبة بالمحدود ولكنها لا تضل طريق الخلاص .. هو الصديق الفارس المتمنطق بالشعر .. هو الذى فيك أنت ، فأخرجه منك ..يخرج لحظات استشراقية ثم يعود.. يا أبيض.!!؟
بقلم : حسين بيكار
من كتاب آفاق الفن التشكيلى
تطوحات الفنان عصمت داوستاشى
- شهدت حركتنا الفنية خلال العقدين الأخيرين ، هرولة مضطربة خلف آخر قوالب` الشكل `الغربى المفرغة من أى مضمون ، تذرعا بأن التجريد هو سمة العصر ، ولغة فننا الإسلامى أيضا.هذا التيار الذى يتمتع بالحماية والدعم ، وفى غمرة هذه الهرولة تتلفت حولك فلا تجد غير قلة من فنانينا هذه الهرولة المستلبة الإرادة والهوية ، وجعلت لفنها رسالة وموقفا ، وأقل من هذه القلة هم الفنانون الذين استوت رسالتهم التعبيرية على جمرات الصدق ،احترقت أعماقهم بنار القلق ، واقتحموا المجهول بحثا عن اليقين.وفى تعبيرهم الفنى لم يسلكوا الطرق المعدة ، وإنما آثروا البحث عن لغة متفردة ، مستوعبين لغة الفنون الحديثة وما أحرزته من تطور ، ومستلهمين لفنوننا المصرية والإسلامية القديمة على قدم المساواة .
- من هذه القلة القلية ، تتميز التجربة المتنامية للفنان السكندرى ` عصمت داوستاشى` ( 41 سنة ) الذى قدم للحركة الفنية عشرة معارض فى التصوير ، والنحت ، ` والكولاج` ، خلال رحلته التى بدأت قبل تخرجه فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية 1966 وحتى العام الحالى ، مما جعل لهذه التجربة حضورا لا يمكن التغاضى عنه فى الساحة الفنية رغم ابتعاده عن دائرة الأضواء فى القاهرة .
- المتمرد الرومانسى!
بوسعنا القول - بعد المتابعة الحميمة لتجربته عبر خطواتها المتتابعة - أن لعصمت داوستاشى عالما متفردا على الصعيدين التعبيرى والجمالى ، عالم فيه كثير من براءة الطفل المندهش وفرحة بلعبته وتحطيمه لها بعد أن يفض سرها فلا تعود ترضيه ، وفيه كثير من حلم الشاعر الرومانسى بجنة الحق والجمال ، واكتشافه المؤلم استحالة تحقيق الفردوس على الأرض ، فيولى ظهره للحلم وينطوى على حزنه ، وفيه كثير من تمرد الثائر على أصفاد الواقع بأشكالها المختلفة ، ينازلها وحيدا حتى يتحطم سيفه ويثخن بالجراح ،فيفر بذاته - قانتا - إلى عالم الصمت مقسما ألا يعود ، لكنه يفاجئك عائدا بعد حين ممتشقا سيفا جديدا لا يخلو من طرافة ، ما يلبث هو الآخر أن يتحطم !.. إن رحلته كر وفر لا ينتهيان بين ذلك كله لكن المدهش حقا : أنه فى تعبيره عن كل هذه التطوحات الروحية لم يفقد روح الطفل، الذى يلعب ويجرب ويندهش ويفرح باكتشافاته الصغيرة ، ويفرح أكثر وهو يراك مندهشا بما يفعل، ولا يبالى وهو يحطم اللعبة كلها فى النهاية ، تاركا إياك فى حيرتك!
- وعلى عكس ما يتوقع منى القارىء ، سوف أدلف إلى عالم عصمت من بوابة للفن وليس من بوابة المعانى .. أعنى بناءه التشكيلى الذى يميزه أكثر من أى شىء آخر ولولاه ما كان لمعانيه ورؤاه التعبيرية أن تسرى فى مجراها العفوى إلى شعورنا ووعينا.
- التفكير بالخامة
- إن عصمت فنان يفكر بالخامة، إنها بالنسبه له ليست مجرد أداة للرسم أو للنحت أو للتعبير عن شىء ما، بل إن فكرة اللوحة أو المنحوتة قد تنبع لديه من مخلفات قديمة اشتراها من بائع روبابيكيا ، أو من دبشك خشبى لبندقية جده ، أو من قوائم مخروطة لأريكه جدته المتهالكة ، أو من قصاصة من مجلة بها صور ملونة ، أو من بضعة خطوط بأقلام الفلوماستر الملونة انسابت بها أصابع طفلته.
- والغريب أنه فعل ذلك قبل أن ينتمى إلى ` الدادية ` ، وقبل أن يعرف أن فنانيها فى أوربا بعد الحرب العالمية الأولى لجأوا إلى هذا الأسلوب كنوع من الاحتجاج على البرجوازية التى أشعلت الحرب، والسخرية من تأنقها المتبجج بقناع الجمال الكلاسيكى الذى يخفى تحته القبح والموت، وأغلب الظن أنه أحب اللعب بالخامات والأدوات المختلفة وفكها وتركيبها منذ طفولته ، وجعل منها عالمه الخاص البعيد عن كل الناس فى غرفة السطوح المهجورة التى كان يتسلل إليها ويختلى بنفسه فيها ساعات طويلة مع أشيائه الغريبة، وتأكدت هذه الهواية بعد التحاقه بمدرسة الصناعات الزخرفية ( بدلا من التعليم الثانوى ) حيث لم يعد فى حاجة إلى الاختباء بهوايته فى إعادة تشكيل الأشياء بيديه ، لأنها صارت من صميم دراسته ، وأغلب الظن أيضا أن هذه الهواية كانت وراء اختياره لقسم النحت بكلية الفنون الجميلة ، لأنها أكثر الأقسام اعتمادا على تشكيل الخامة باليدين دون وسيط خارجى.
- لكن حبه الأكبر من حبه للخامات ، هو حبه للإنسان الكامن فيها .. فالإنسان روح تسكن فى أدواته المستعملة ولا تفارقها برحيل صاحبها ، إنه يتواصل مع الناس من خلال أشيائهم بحرية وحميمية أكثر من تواصله معهم مباشرة ولعلة أحب التاريخ من خلال الجدران الأثرية والمشغولات الخشبية والنحاسية ، وأحس من خلالها بنبض الشعب وأصالة كفاحه .
- لغة الشكل
- حسنا ..فيم يوظف هذه الخامات ؟
- إنه يؤلف منها تكوينات وعلاقات لا تقوم على المنطق الواقعى أو الوظيفى ، بل تصاغ فى نسق جمالى يزاوج بين العناصر المتضادة والمتنافرة فى وحدة متجانسة : هذا التضاد بين السطح والجسم ، بين الخشن والناعم ، بين المستقيم والحلزونى ، بين الساخن والبارد ، بين الكتلة والفراغ ..ومن هنا ، فسواء أكان العمل الفنى مجسما أم مسطحا ، فإنه دائما يمور بالحركة الداخلية السريعة والانتقالات المباغتة بين عناصره المختلفة ، ولا يسمح بوجود فراغ فيما بينها ، لأن الفراغ نفسه يتحول إلى ` أشكال ` جديدة مليئة بالحيوية أيضا .
- إننا نحس برابطة القربى الشديدة بين نسقه الجمالى هذا وبين الفنون الشرقية القديمة ، فالخط عنده - كما فى الفن المصرى القديم - خط صريح يحدد الأشكال ويحكم التكوين ، ويوحى بالتتابع والترديد النغمى ، والتكوين فى أعماله - كما فى الفن الإسلامى والشرقى عامة - مزدحم بالعناصر ، حتى لا يبقى بها ثمة فراغ ، وهو يعتمد على التماثل ( السيمترية ) ويشغى بحروف الكتابة المتشابكة ذات النسيج المعقد ، وينحو إلى التسطيح الزخرفى للعناصر ، ويحتفل بعنصر الضوء غير المباشر الذى يبزغ ويتلألأ من بين الثغرات ، والألوان عنده - كما هى عند الفنان الفلكورى المصرى والإفريقى - تشع بالسخونة والصراحة ، كما تعكس أشكاله حساً بدائيا وأنماطا رمزية زخرفية.
- وكما أتربت تجربته بالفنون الشرقية القديمة ، فإننا نستشف فيها أيضا مخصيات من المذاهب التعبيرية الحديثة إن توظيفه الدرامى للمجسمات والقصاصات المتنافرة قد يكون من شطحات الدادية ، وهو نفسه يطلق على ملهمة الفنى أسم ` المستنير دادا ` .. وإن تحطيمه وتعريته العنيفة للوجوه الإنسانية فى معرض كامل خصصه ` للبورتريه ` وامتلأ بالألوان الضاربة المتصارعة ، يقربه من التعبيريين والضوارى ، وإن استخدامه للرموز السيكولوجية وإخراجه عن النوازع المكبوتة ، ومزجه بين الحلم والحقيقة بشىء بتأثره بالسرياليين وإن هيامه بذبذبة
الخطوط وزغللة الضوء بين ثغرات مجسماته أو نسيج لوحاته يقول إنه على دراية بتجارب فنانى ` الأوب آرت` أو خداع البصر.
- وإذا شئنا أن نرصد مؤثرات من الفن المصرى الحديث فى أعماله ، فلن أتردد فى الإشارة إلى فنانين كان لهما أثر بالغ فى بناء عالمه بشقيه : التعبيرى والجمالى ، خاصة فى مراحله الأولى : الأول هو الفنان عبد الهادى الجزار ، خاصة فى أحلامه الخرافية واستلهماته الشعبية ، والثانى فنان من جيله كان له أثر هام على أقرانه حتى فى سنوات الدراسة بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فى الستينيات ، هو عبد المنعم مطاوع الذى اختطفه الموت فى زهره شبابه .
- وقد تميزت كل مرحلة من تطوره بشىء من هذه التأثيرات ، مع احتفاظها بذاتية الفنان وخصوصيته ، لكننا فى هذه النظرة الشاملة لم نقف عن كل مرحلة لنحدد أبعادها ، بل نشير فقط إلى ما رسخ فى الذاكرة العامة من السمات الأساسية للفنان.
- الإنسان .. والقهر !
- هنا .. من البديهى أن يثور هذا السؤال : ما علاقة كل ذلك بما بدأت به مقالى عن ارتباط عصمت برسالة تعبيرية وفلسفية؟
- إن لغته التشكيلية التى تتميز بالديناميكية وبالتناقض بين العناصر ، تعبر عن تناقض آخر يصل إلى حد الصراع بين مشخصات وقوى معنوية .. أحيانا نرى طرفى الصراع مجسمين ، لكننا غالبا لا نرى إلا بصمات القهر أو آثار الانسحاق على المشخص ، وإن كان الفنان يوحى إلى مصدر القهر ببعض الرموز ، مثل سكين منغرسة فى إطار اللوحة ، أو أسهم منقضة تحاصر الإنسان ، أو تلافيف ثعبانية تلتف حوله وتشل حركته .وأحيانا نرى الإنسان عنده يتقى البطش الموجه ضده بكفه أو بدرع رسمت عليه عروسة طينية مثل ما يصنعه الريفيون كتميمة لاتقاء الشر .وقد استخدم مؤخرات البنادق الخشبية وأرجل الكنب المخروطة .وأدوات المكتب استخداما رمزيا وتشكيليا ذكيا:فمن دبشك بندقيتين مثبتتين على قاعدتيهما تحيطهما دائرة سميكة ، نجح فى التعبير عن حصار إرادة النضال والتحرير ..ومن ساق كنية خشبية مقلوبة بها غليون يطل على منشفة حبر وختم حكومى ، نجح فى إشعارنا بفكرة الاستبداد واليهمنة ، ومن جهاز ` جرامافون` قديم أضاف إليه بعض القطع التى جعلته يشبه شخصا ، وخلف ظهره تبدو اليد التى تديره كيد ` البيانولا `.. نقل إلينا مباشرة الإحساس بالإنسان الأجوف الذى تحوله القوى الخفية إلى بوق لأفكارها .
- وتلعب الأسهم الغليظة والتلافيف المتشابكة دورا واضحا فى التعبير عن حصار الانسان واستلاب عقله وشل إرادته .. إن الأسهم أحيانا توجه إلى الإنسان من كل ناحية كالنصال القاتلة ، وأحيانا تتفرق حوله فى اتجاهات متعارضة لتشتيب مساره، وجعله يدور حول نفسه .. وأحيانا ثالثة توجهه للسير فى اتجاه معين دون إرادة .. أما التلافيف فتبدو أحيانا كالأنشوطة الشيطانية تلتف حول الانسان وتصيبه بالشلل ، وأحيانا أخرى نراها داخل رأسه وجسمه وكأنها شرايينه وجهازه العصبى وقد تعرى وتمزق.
- لكن المرء لا يستطيع الإفلات من فكرة الروح السحرية التى تغلف أعمال عصمت .. إن خلف كل هذه الرؤى والمعانى تكمن قوة غيبية أقرب إلى الطوطم البدائى ، تشكلها تلك العناصر التى تشبه تمائم السحرة، لتقييد قوى الخير وإحالتها إلى مسوخ ، أو للتصدى لقوى الشر وفلك سحرها الأسود.
- وبالرغم من كل ذلك ، فلا تخلو بعض أعماله من روح صوفيه متأملة ، يخضع فيها الإنسان باختياره لعبودية الله، ويتوحد بصفاء نورانى مع الكون كله ، وفى ذلك أشير بصفة خاصة إلى مجموعته بألوان الفلوماستر من وحى زيارته لمكة المكرمة ، وكذلك لوحاته الزيتية المستوحاة من صحراء الأراضى الحجازية.
- صلح مؤقت
- بعد معرضه الذى أقيم عام 1975 امتلأت روح عصمت بالاكتئاب والإحباط ،فأعلن اعتزاله للفن، وصمت سنتين تماما سافر خلالهما إلى الخارج يجرب العمل فى مجالات بعيدة عن الفن، لكنه سرعان ما عاد وقد اشتعلت بداخله نار القلق والخلق ، فكان معرضه عام 1977 ..وتكرر نفس الموقف ، وعاد إلى الصمت وصنع لنفسه `دروة ` يحتمى بها ، لكنه فاجأناعام 1982 بمعرض جديد تحت عنوان ` الأرض والناس ` حاول أن يستلهم فيه الطبيعة ووجوه الأطفال ..بعدها - وكما يقول هو على لسان الحكيم ` دادا ` الذى يرمز به إلى نفسه :` ... تاهت روحه مع التائهين وأوشك على الضياع فى دنيا الفاسدين ..كان العالم خرابا ، والفن آلة حرب ، والنفوس توحشت ، فأنقذ ` دادا ` دروته ..فدخلها وقال : ليبحث كل منكم عن دروة وقال أيضا :` أدخلنى حقد الأصدقاء وغدر الأحباء : الدروة .. فمرحبا بنهاية شىء من أجل أشياء أخرى! ` .
- لكنه لم يطلق هذه الخلوة مع نفسه أكثر من عامين ، خرج بعدها بمعرضه الأخير قائلا: ` اليوم يتم الخروج الثالث للمستنير دادا ليقدم ` دروة ` مازجا فيها بين الفن وبين الحاجة ` وقال : ` الدروة ضرورية لكى نكتشف فى ظلها حقيقة أنفسنا ` وقال : ` ليقتن كل منكم دروة أو يصنعها بنفسه ..بعدها ..سيعود ` دادا ` يختفى وراء دروته ، ليرعى رعيته ، ويجهز نفسه لخروج جديد... ` هكذا جاءت تجربته الأخيرة فى المنحوتات التى تتخذ شكل السواتر المنزلية ، حصادا ثريا لخبرة طويلة فى استخدامات الخامات المختلفة ( خشب ) نحاس ، حديد ، زجاج) وخلقها خلقاً جديداً ، يحمل قبسا خافتا من نفس الفنان القلق وبحثه عن الأمان والعطاء والعدل والبطولة والنور ، ويجعل لكل معنى من هذه المعانى ` دروة ` خاصه به ، فيها من أصالة الروح الشرقية والشعبية وصفاء النفس أكثر مما فى أعماله السابقة من العذاب والصراع والخوف .ولعلها بمثابة هدنة أو صلح مؤقت مع نفسه والعالم من حوله ليلتقط أنفاسه..
- هل يستمر هذا الصلح طويلا؟
- أعتقد أن شخصية متمردة مغيرة على حدود الوضعيات البرجوازية مثل عصمت داوستاشى ، لا يناسبها هذا الهدوء الظاهرى الجميل ، كما لم يناسبها الصمت قط ولو كان إجباريا.. إن ما يناسبها فقط هو أن تغزو وتهاجم : تلك القشرة السميكة من الخوف فى أعماق النفس أو خارجها ، هو أن تمزق الأغطية ، بدءا بأغطية نفسها الداخلية ، أو بأغطية الواقع الخارجى ، أو بأغطية الوجود العبثية ، ولا يخجلها أن تبدو عارية بضعفها وشهواتها أمام الجميع ، أو حتى أن تعود إلى الاحتماء بالغيب!
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة إبداع ( العدد الأول ) يناير 1985.
عصمت داوستاشى وديوان خيالات فنجان القهوة !
- يسمى الفنان داوستاشى معرضه الأخير ` ديوان خيالات فنجان القهوة ` ثم نحت هذا العنوان الرئيسى عنوان أخر فرعى احتوى على كلمة واحدة هى ` الرسوم ` بما يعنى أن هذا ( الديوان ) لخيالات فنجان القهوة ..هو متن شعرى يتكون من جزئين، جزء خاص بالرسوم ( وهو ما احتواه هذا المعرض من لوحات فعلا ) وجزء أخر مكتوب لم يصدر بعد، أو ربما لم يكتب بعد، كما يشير الفنان نفسة فى تقديمه لبطاقة معرضه بقوله : ` .. هذه الرسوم مغرية لوضع نص نثرى أو شعرى لها قد اكتبه أو يكتبه غيرى، وقد تطبع الرسوم مع النصوص في وقت لاحق..` وحتى لا تؤجل هذه الرغبة ( الشعرية) تماما.. سمى داوستاشى لوحاته الـ 34 بأسماء غريبة وجميلة يصلح كل منها بدون شك اسما لديوان شعر فعلا.. مثلا:
` الصحوة لا تصح مع المومياوات` أو ` فراشات الحلم الحزين ` او` فى العشق تكثر الزخارف والرغبات، أو ` فرحة الانعطاف التى لن تحدث`.. الخ.
- ..ومهما كانت المداخل التى يتصورها داوستاشى لعمله.. أو يحاول إيهامنا بها من ` خيالات فنجان القهوة` أو من العناوين الشعرية للوحات.. أو من تسميته لمعرضه بالديوان .. إلى اخر كل ذلك..
- فمن المؤكد ` إذا تجاوزنا عن هذا الغرام الأدبى ( وهو قديم لدى الفنان ) . إننا أمام إنجاز فنى متميز بمعايير التشكيل وحده.. وبأبجديات لغة الصورة فحسب. بل إن داوستاشى قد ابتعث الشعر فعلا.. ولكن ليس من كلمة ( الديوان) التى صدر بها معرضه، وليس من العناوين الشعرية للوحات، وإنما فجر داوستاشى الشعر من صلب رؤيته التشكيلية نفسها.. وخلق بحساسيته النافذة ( قصائد الصورة) و(ديوان التصوير) و( أبيات الشكل)؛.ولذلك فحتى لو لم يصاحب هذه الرسوم بنص شعرى أو نثرى. كما أشار وتمنى .لكانت بذاتها مكتملة المعنى ( فنيا).. وتامة الوجود بنفسها( إبداعيا)..وبهية الجمال بمحضها ( تصويريا).
- وإذا تغاضينا عن مسألة ` خيالات فنجان القهوة ` هذه.. ليس لأننا لا نصدقها .. بالعكس ..نحن نصدقها تماما.. لأن الفنان` أى فنان حقيقى ` تداعبه ( رؤاه) وتشاغله ( كائناته) وتخايله ( مخلوقاته) باستمرار.. ومن مصادر متعددة قد يدهش لها الإنسان العادى إذا عرفها، وربما لا تخطر على باله قط ..بل قد لا يراها على الإطلاق، ولا تستلفت نظرة العابر بالمرة، بينما يزدحم بها الوجود البصرى المحيط بالفنان الثاقب النظر، المرهف البصيرة.. فقد يرى الفنان عوالم حاشدة، مثلاً ، فى تشكلات السحاب، أو فى تجاعيد وحفر وتقشير البياض وتساقطه من حائط متأكل، أو في ظلال الأشياء المتداخلة والمنعكسة بشكل سلويت على حائط يغزوه ضوء شاحب، أو فى هيئات بقع المياه الطينية فى مستنقع صغير، أوفى خيالات فنجان القهوة.. الخ..
- ولكن يظل لهذه المداخل كلها فضل المثير أو الحافز أو المنشط لمخيلة الفنان الذى يبدع في النهاية (رؤيته، الخاصة، ويبلور( منظوره) الجمالى، ويجسد (روحه) العميقة التى ينعكس عليها الوجود بطرائق وزوايا متفردة تقتصر علية هو.. وحده (الفنان). بمعنى أخر.. إن المثيرات مهما كانت، ومهما اختلفت، فى حالة داوستاشى. لكنها بالنسبة له ليست أكثر من باب ملكى أخر للعبور إلى عالمه هو .. فدائما فى معارض داوستاشى. ومهما كان المثير أو الباعث. هناك فقط.. داوستاشى.
- ولكن.. ما هى ملامح هذه الخصوصية الداوستاشية فى الفن؟!.. طبعا ليس بإمكان ناقد مهما كان- الإمساك بالأبعاد الكلية لعالم وعمل الفنان الحق لأن هذا العمل وذاك العالم.. وجود شاسع الأرجاء، متكثر الأنحاء.. ( كون بحاله) ليس من السهل الإحاطة به، ولا برحلة ثلاثين عاما مع الإبداع الفنى .. هكذا فى جملة.. ولكن قصارانا أن نستند إلى تلك العبارة الشائعة والتي قد تبرر جهدنا تبريرا ما.. تلك القائلة ` ما لا يدرك كله لا يترك كله ` وهو ما سنحاوله الأن ونحن موقنون أننا لو اثبتنا شيئا فستغيب عنا أشياء أخرى كثيرة بدون أى شك..
- الانطباع الأول ` التلقائي المباشر` الذى تتركه لديك مشاهدتك لأعمال داوستاشى هو الإحساس ( بالأصالة).. ومع أن هذه الكلمة الجميلة قد ابتذلت لحد كبير من كثرة تكرارها فى سياقات لا تخصها.. وفى توصيف حالات لا تعينها. وإنجازات كاذبة ومزيفة تنتسب لها زورا وبهتانا.. إلا أن داوستاشى بعمله. يعيد لهذه الكلمة حقيقتها. ويعيدها إلى التطابق الكامل مع موقعها الصحيح الذى تحتله بكل جدارة وثقة فى معرضه. وتمتلئ بكامل معناها الحق حال مصافحتك. كمشاهد. لمجمل أعماله تلك..
- والأصالة التى نقصدها. تعنى ببساطة. الشعور اليقينى أنك إزاء طابع` مصرى` مؤكد.. وشخصية (مصرية) لاشك فيها.. وبرغم ذلك. فهذه(المصرية المؤكدة) لا تعنى الانعزال عن الراهن، أو الإغراق فى الماضى .. بل تعنى احتواء هذا الماضى وهضمه وتمثله.. بعمق وجذرية.. وليس التعامل معه هذا التعامل السياحى البرانى الملصوق..
- لدى داوستاشى- إذن- علاقة صوفية، جوانية ، روحية بتراث أجداده ( جميعا).. فراعنة واقباط ومسلمون.. وهذه الجملة الأخيرة الشائعة الاستعمال أيضا،والتى كثيرا ما تقال بسبب وبدون سبب، وبحق وبدون وجه حق.. تكتسب دلالاتها الكاملة فى حالة داوستاشى.. هنا استبطان بليغ ومتواشج عضوى للمنظومة ( التشكيلية) المصرية منذ عهودها السحيقة.. لحلولها.. ومنطقها البنائى .. ومعالجاتها للمساحة.. وفهمها للتكوين.. ورؤيتها الخاصة للوجود وتفاصيله.. وللكون وأبعاده.. هنا تشرب محب وعاشق لأساطيرها ولتصوراتها الميثولوجية، ولعقائدها الدينية، ولشخصيتها الفنية الراسخة.. عمقا في التاريخ، وعرضا في تجاور منجزات هذه الحضارة المعجزة عبر مراحلها المختلفة أمام العين المعاصرة التى تطالع فى لحظة زمنية واحدة ودفعة واحدة.. المنجز الفني الفرعونى، مع اليونانى/ البطلمى/ الرومانى/ السكندرى (الهيلينستى). مع القبطى، مع الإسلامى، حتى العصر الحديث.. هذا بشكل عام .. وإذا أردنا الاقتراب التفصيلى اكثر إلى بعض الملامح المشيرة لهذه المصرية الأصيلة.. فلعلها أن تكون مثلا. عند داوستاشى كما هى عند قدماء المصريين. فى المنظور البروفيلى لتصوير الوجه الإنسانى من الجانب باستمرار، وفى منطق رسم العيون وسحبتها المصرية الشهيرة وتأكيد حدودها بخطوط سوداء واضحة، ثم هذا الحضور الطوطمى الكثيف للحيوانات والطيور، ليس ذلك فحسب بل تلك الرؤية الموحدة للحيوانات والطيور والإنسان فى إهاب مادى واحد فى أحايين كثيرة، طبعا كان لها اسبابها العقائدية والدينية والأسطورية لدى المصرى القديم، ولكنها مع داوستاشى تصفى وتنقى إلى جوهرها البصرى التشكيلى المحض الذى يستثمر بذكاء مع ذلك رصيدها الميثولوجى .. الشعبى وكثيراً ما يشعر المتأمل. برغم أننا فى معرض للتصوير. أن الشخوص عند داوستاشى تتخذ الأوضاع والهيئات التقليدية المعروفة في النحت المصرى القديم .. فى شكل الجلسة، أو الوقفة، أو تقاطع اليدين على الصدر، أو العناية بالإكسسوارات من عقود وأساور وأقراط وحلى وتيجان.. إلخ.. أو فى هذا الحضور ( المومياوى) المتعدد التجليات .. المتراوح الإيقاعات.. ولعل فى حرص الفنان أحيانا على أن ينجز بعض هذه الأعمال على أوراق البردى المتأكلة الحواف التى تعطى إحساسا بالقدم والعتاقة ما يؤكد قصديته في تكريس هذا الحس المصرى القديم.. المبتعث للروح المصرى.. وللحضارة المصرية ابتعاثا حيا ومعاصرا.. تلك الحضارة التى كانت سيدة العالم القديم بدون شك.. ولذلك يقول داوستاشى من خلال عنوان واحدة من لوحاته:` قادم أنا لكم من النظام العالمى القديم ` هى ليست دعوة ما ضوية بطبيعة الحال.. وإنما التقاط ذكى للفارق الإنسانى والحضارى بين نظامين قديم وجديد.. النظام القديم ابتعث الحضارة ابتعاثا.. واكتشف الضمير.. وأثرى الإنسانية بالنور والفن والدين والأخلاق والبناء والتقدم وإبداع الحياة بكل المعانى.. والنظام الجديد. بعد كل هذه القرون. يكاد يقوم على عكس ذلك بالضبط.. السيطرة، والاستغلال، والإهدار للإنسانية، والتكريس للعداء، والتفرقة المقيتة بين البشر.. والتوتر.. والحروب وجبروت القوة، وانعدام العدالة والحرية والمساواة.. إلى اخره.
- ولا يغيب عنا أيضا هذا الحس الزخرفى. النباتى خصوصا. لدى داوستاشى والذى قد يعود بنسبة إلى تراثه الإسلامى خصوصا
- أشعر- يقينا- من الرؤية الكلية لهذا الإنجاز الجميل أننى إزاء فنان متصوف لا يرى فروقا جوهرية بين كائنات وأحياء هذه الدنيا من طير ونبات وحيوان وإنسان وهذه ( الوحدة للوجود) لا تأتى هذه المرة من منطق ميثولوجى كما هى عند القدماء.. بل من منطق أعمق وأكثر عضوية وجوانية، من منطق صوفى خاص ربما. لا يرى لهذه التفريقات الساذجة بين تبديات هذا الوجود الحى الواحد أى معنى.. ومن ثم تحظى عناصره الحية تلك بأهميات متساوية ومتساوقة تفلح في توحيد الرؤية وتجذير هذا الحس الصوفى.. بل تكاد الخصائص الحيوية لنوع حى تسرى فى الآخرة سريانا بنيويا عضويا أصيلا.. فالشخوص الإنسانية. فى معظم الحالات. مثلا.. يتكون نسيجها الداخلى من تكوينات نباتية وتفريعات شجرية. والحيوانات والطيور تمتلك حسا وشكلا إنسانيا.. وهكذا.. أو ليس هذا- حتى بالمعنى العلمى المباشر . صحيحاً وحقيقياً؟.. ألا نستوعب فى تركيبنا الإنسانى النبات والحيوان والطير فى صلب نسيجنا الأدمى.. والعكس صحيح أيضا.. أقصد أن التراسل العضوي والامتصاصى ( الاستيعابى) قائم بين الموجودات الحية جميعا فى منظومة دائرية لا تنتهى، أو فى دورة أزوتية مستمرة.. إذا استعرنا لغة العلم، وإذا عدنا إلى الوعى الداخلى .. للنور الجوانى .. لهذا الحس الصوفى العميق.. فلابد أن نشعر فى حالة داوستاشى وكأنه يحيا على هذا المستوى من الإدراك الفائق الحس.. وكأنه وصل إلى هذا النوع من التسامى ( النيرفانا) الذى يقول به فلاسفة الهنود.. والذى يحدث عنده أن جميع الكائنات الحية تبدو وفى أعلى مستوى للإدراك منصهرة فى كل واحد .. لذلك يعرف الفرد عن الكل والكل عن الفرد.. ومع أن الهنود يتحدثون عن معرفة كلية تعاطفية واستبطانية بين البشر بعضهم البعض. وبينهم وبين غيرهم من الكائنات الحية ( حتى لو لم يجمع بينهم نطاق مكانى واحد) .. إلا أن يونج عالم النفس الشهير يعد الأمر على استقامته فيقول ما معناه: لكل امرئ قدرة على إعادة الحياة للذكريات عن الأجداد ` فى ذاته`..)
- بمعنى أن الشخص فى حالة من حالات الإدراك القصوى.. قادر على الوصول إلى معارف شخصية وموضوعية ومعلومات متنوعة تخص الأجداد.. من المفروض أنه لا يعلم عنها شيئا فى الأحوال العادية، ولم يقرأ عنها. ولم تحك له. ولم تقع فى دائرة خبراته الشخصية على أى مستوى من المستويات.. ولكنه قادر فى حالات بعينها من انجلاء البصيرة، ورهافة الحس. وثاقب الوعى ،والإدراك الفائق، والعلم الباطن.. أن يهجس ويحدس.. ويقع على معارف يقينية ليس هناك ما يبرر معرفته بها على الإطلاق من الناحية الموضوعية البحتة.. وهذه التجليات الصوفية.. هى ما يطالعه المرء في أعمال داوستاشى.. هذه القنوات المفتوحة بعظمة بين الوعى العمدى واللاوعى الباطن.. بين البصر ( التشكيلى) والبصيرة الجوانية.. بين الماضى والحاضر.. بمعنى أنه يرى الماضى فى تجسداته المستقبلية، ويرى الحاضر فى إرهاصاته الماضوية.. عبر الحبل السرى. بمعنى مفتاح الحياة. الواصل من تراث الأجداد إلى روح التجلى المعاصر لهذا التراث على يد فنان مصرى كبير كداوستاشى.
- يمتلئ عمل داوستاشى بمؤثرات متعددة فى الحقيقة.. فرعونية وقبطية وإسلامية كما قلنا بل وربما أحيانا من حضارات أخرى. ما بين النهرين مثلا ( الأشورية) خصوصا فى هذه الذقن الطويلة المجعدة بنظام خاص لبعض الشخوص والمتكررة بإيقاعات مختلفة.. وحتى من الفن الزنجى أحيانا.. ثم من الفن الإسلامى أيضا.. هذا الاستخدام الذكى لجوهر الأرابيسك ولمعنى اللانهاية فى تكرار الوحدات.. وزخارف التوريق.. والتشجير المليئة. وابتعاث الأشكال النباتية بشكل عام، ثم الحضور المستوعب. في البيئة العميقة للرؤية. للعمارة الإسلامية وللمآذن والقباب والأهلة وشكل النجمة.. إلخ، والاستخدام الواسع كذلك للحروف العربية والخطوط العربية بأنواعها ..
- من ملامح أعمال هذا الفنان أيضا.. التشرب الواضح جدا للروح الشعبية فى الفن. ولمنطق التخييل الشعبي.. بعناصره.. وتصوراته.. ومفرداته.. وطريقة وعيه الشكلى بالوجود.. وأساليبه التشكيلية الشعبية فى بلورة هذا الوعى.. ليس فى امتلاء الأعمال بالعناصر الفلكلورية كما رسخها الخيال الشعبى فقط الكف- العروسة-الحلقان- التفاحة- الهلال. الشمس- الزفة- المولد- الميلاد- الوردة- المركب- العصا-العين- الهالة المقدسة - القلب- القلة- الزخرفة- المئذنة- الزير- الحاجب- ومنطق صنع الخزف الشعبى.. إلخ.
- أو بهذا الوجود الشاسع الواسع للحيوانات والطيور: الحمامة - الديك- القط- الحصان- الجمل- السمكة- الغزال- الطاووس- الكلب- السلحفاة- الثعبان- التمساح.. إلخ.
- أو بهذا الحضور المائل فى اللوحات وعناوينها للعوالم الفلكلورية وللحكايات الشعبية المعروفة.. عن الشاطر حسن وست الحسن والجمال، والعريس والعروسة والملكة والفارس والزفاف والخير والشر والعفاريت والشياطين.. أو حتى فى تلك المشابهة بين طريقة الفنان الشعبى الفطرى التلقائى فى التلوين بألوان صريحة وزاهية فى معظم الأحيان..
- وإنما بدا هذا التشرب الأعمق فى هضم واستيعاب هذه الطرائق الشعبية وتمثلها وإخراجها من جديد فى قوام منسجم مع بقية أعمدة الرؤية الداوستاشية.. أى أن قيمة هذا البعد الشعبى فى فن داوستاشى أنه دخل فى النسيج العضوى المتين للرؤية الكلية للفنان وأصبح جزءاً أصيلا فى هذه الرؤية لا يمكن فصلة أو استبعاده باعتباره جسما غريبا ملصوقا من الخارج له عبء الدين الخارجى المبهظ للعمل الفنى، وإنما تحولت هذه الأبعاد والرؤى الشعبية إلى مكون عضوى من مكونات النسيج الضام الحى المفعم بالروح والدماء فى عمل داوستاشى .. ومن هنا قيمتها.. كل قيمتها.
- يجدد داوستاشى باستمرار فى تقنيات ملء مساحاته. وأساليب شغل فراغاته وشغل أشكاله أيضا.. فبالإضافة إلى الوحدات الزخرفية.. وأوراق الشجر.. والنباتات.. يبتكر أيضا نوعا من الخطوط الشرائطية والأسهم بأشكالها وأنواعها التى تلعب عده أدوار مهمة فى عمل داوستاشى.. والتى تعتدل وتنثنى وتلين وتستقيم وتنحرف وتأخذ هيئات مختلفة وتتداخل عضويا فى رحلتها المتنوعة مع التكوينات الإنسانية والحيوانية.. حتى توشك أن تتحول هى نفسها فى عين الرائى- برغم أصلها الهندسى الصراح. إلى كيانات عضوية تملك استقلالها وحضورها الخاصين.
- لا يوجد ما هو ثابت في عالم هذا الفنان المتغير دائما.. وثابت هنا بمعنى جامد.. استاتيكى.. بل هو فنان مجرب باستمرار.. فى حالة تجديد دائم.. وحوار جدلى لا يهدأ مع مكونات عالمه الفنى .. ومع مخلوقاته التى أوجدها فى العالم.. وهو لا يعيد ترتيبها فقط من حين إلى أخر.. من لوحة إلى أخرى.. ومن معرض إلى أخر.. كما يفعل عدد لابأس به من الفنانين.. وإنما هو يعيد خلقها من جديد حيث تبعث مخلوقاته كل مرة بعثا جديدا.. ولذلك فمخلوقات داوستاشى وأشكاله وعناصره ومفردات عالمه ليست ( قاموسية تصويرية) ثابتة وليست ( أبجدية تشكيلية) سكونية كما لدى الكثرة.. وإنما مفرداته ذات تاريخ.. بما يعنى أنها تمتلك أرشيفا من التطور والتبديل والتحول والتغير.. مفرداته تموت وتبعث من جديد.. تتناسخ وتتراسل.. توجد وتكبر وتشيخ وتتقمص وتتغاير هيئاتها عبر مراحله الفنية المختلفة.. ولكنها تمتلك حياتها الكاملة في كل مرة برغم انتسابها إلى نفس الروح.. هى مفردات تتناسل من رحم الرؤية الفنية للفنان.. ولكنها لا تتطابق..
- وهذا الحرص من الفنان على التجدد نلمسه فى كل تفاصيل العمل الفنى.. فأحيانا ما نشعر أن التكوين هو البطل فى الصورة بالمعنى الكلاسيكى. وأحيانا يستولى الخط ومنطق حركته على هذه البطولة.. وأحيانا يكون اللون هو سيد الموقف واحيانا ما يمتزج الشكل بالأرضية بجمال مقنع.. وأحيانا ما ينفصلان بجمال لا يقل إقناعا.. وهكذا..
- وغلبة عنصر من عناصر خلق الصورة لا يعنى الإهمال أو التقليل من أهمية بقية العناصر.. أو أنها غائبة.. وإنما يعنى أن ثراء الرؤية لدى الفنان المتمكن جعل الخبرات التقنية والحرفية مطواعة ولينة فى بلورة هذه الرؤية والاتحاد التام معها. والاندماج الكامل فيها.. حتى لا تدرى أين تنتهى الرؤية لتبرز التقنية أو العكس.. وما هو الخط الفاصل المحدد بدقة بين مجموع المهارات والخبرات المتراكمة والمتراكبة.. وبين الفكر الفنى القار فى صلب الصورة.
- عصمت داوستاشى فنان من فنانى مصر الكبار. ومن عشاقها العظام. ومن متصوفيها المعدودين في تاريخها الروحى والجمالى، وأحد البعثة الكبار لشخصيتها ولخصوصيتها الحضارية وطابعها الإبداعى وتراثها الفنى الفتى العريض..
- مجدد واع.. ومصورأريب.. يملك خيالا بكرا. ورؤية نافذة وخصبا روحيا عميقا.. كأنه ينهل من كنز كشف له وحده.. ومثل هذه الكنوز لا تكشف عادة إلا لمن قطعوا أشواطا طويلة فى الترقى الروحى وصولا إلى المقامات العلية الرفيعة فى بهاء النور.. وفى قدس اقداس الروح...... وهنيئا لنا!
بقلم : ماجد يوسف
مجلة إبداع : (العدد 6 ) يونيو 1996
زخارف ورموز عصمت داوستاشى الفاتنة
- تعتبر الموتيفات والرموز الشعبية الركيزة واللبنة الأولي في نشأة الصياغة الشعبية وتعتمد طرق تحقيقه بالعمل الفني علي الفكرة الحسية القائمة علي المعتقد أو الأسطورة في المكان والزمان، فكلما زادت التصورات وتعددت الرؤية لدي الفنان تتولد لدية قدراته علي الإبداع الفني للرمز وصياغته، وكذلك الإبداع الشكلي والجمالي له، غير أن تعدد صياغات الرمز والموتيفة لا تأتي أبداً من فراغ ولا تأتي بمعزل عن المسببات الدافعة له من الأبعاد التاريخية والحضارية والاجتماعية النابضة بالتراث وبالتالي تتراكم وتتعدد وتتنوع الأشكال الفنية للرمز والموتيفات تجانساً مع تلك الأبعاد.
- من هنا تأتي نشأة الموتيفات والرموز الشعبية أولاً ثم التصور الجمالي، وهذان العاملان ملازمان للتغيرات الحضارية والاجتماعية وبالتالي تتعدد وتتنوع التصورات الملازمة لفكرة الرموز والموتيفات الشعبية، ومن هنا نستطيع أن نقول أن نشأة الرموز والموتيفات الشعبية وتوافقت مع التطور الحضاري في الذهن باتجاهها للمعتقدات الدينية والسحر والطقوس الاجتماعية.
- حيث تحول قلق بعض الفنانين المصرين بصفة عامه والفنان داوستاشى بصفة خاصه إلي رسوم ورموز وموتيفات فريدة وصياغات وأشكال فنيه جديدة ومفاهيم مستحدثه عن الواقع، للرمز والموتيفة الشعبية والاتجاه به نحو التعبير عن الغامض الذي لا تعنيه النفس ولا تعنيه تلك الرغبة الملحة التي قد صادفت الإنسان منذ بداية الخليقة عندما كانت نفسه مفعمة بذاتها تنطلق منها وتعود دون أن تهتم بضرورات العالم الخارجي وقد اهتم الفنان المصرى المعاصر عصمت داوستاشى بالفنون الشعبية لبلده وتأثر بها وتفاعل معها وهي بالطبع الفنون التي تقع بين تطوير وإعادة تشكيل القيم التي يحملها الفن الشعبي وفق الثقافة المعاصرة، وهو ما تأثر بدوره فى العديد من الآراء ما بين مؤيد ومعارض لفكرة التطوير والتى استثمرها بشكل واضح ومباشر.
** داوستاشى التنشئة والأسلوب
- الفنان عصمت داوستاشي مواليد الإسكندرية عام 1943 وهو فنان صاحب فكر فلسفي طالعنا باستلهام الأسطورة والمفردات والموتيفات الشعبية بجانب روح وسمات الفنون الشعبية واستخدم من الصورة الشعبية الإطار فقسمها إلي أربعة أجزاء ليتحقق صفة التماثل في الوحدات الزخرفية والذي اتسمت به الفنون الشعبية بصفة عامة عدا بعض الفوارق التي لها علاقة بالمعالجات التقنية، فالعنصر الزخرفي من أهم أركان اللوحة الشعبية الذى عمد الفنان إلية حيث يحقق التكرار والتماثل إيقاعا تشكيليا أصيلا في فنوننا مع الاهتمام بالفراغات التي لا تترك دون زخارف مع تنوع وحداتها وانسجام القيم اللونية وانسيابية الخطوط بكل اتجاهاتها لخلق الإيقاع الشعبي الذي لا يقاس بمقاييس ولكنه يتحقق كلياً بالحركة والشكل واللون، وهذا ما نجح الفنان فى تأكيده بشكل قوى، كما تحتوي أعماله علي فلسفة حديثة في مضامين قديمة فقد تناول الصياغات التشكيلية بشكل تاريخي ومعاصر في آن واحد لتواكب التطورات والأحداث في عالمنا والتى تعكسها أعمال الفنان بشكل واضح وجلى.
- وقد سعى الفنان نحو التأكيد على الإنسان والبيئة والحياة الشعبية والاجتماعية كمحاور أساسية في إبداعاته التشكيلية حيث يسعى داوستاشي بصفة دائمة نحو خلق اتساق بين الإبداع الفني والحياة اليومية بلغة جمالية وأسلوب مستمد من التراث الحضاري والشعبي ومنطلقا من الحالة المزاجية المهيمنة علي واقعنا الراهن بكل متناقضات التي تترك آثارها علي كل المبدعين بالسلب والإيجاب.
- وهو يسعى من وراء ذلك إلي تجسيد المعاني والمضامين الخاصة به وبوجهة نظره مجسداً إياها في أعمال شعبية مصرية ذات لغة فلسفية وطابع يحمل سمات فكرية ووجهات نظر ومواقف تحمل أفكار الفنان ووجهات نظره وأسلوبه الفني.
- وأسلوب الفنان وخطوط العمل تأتي من خلال حشد الزخارف والرموز عند داوستاشي وهو بعيد كل البعد (التجريد العبثي) و يحرص علي تأكيد مبدأ أن من يملك أدوات الفهم يدرك، ومن لا يملك لا يدرك وينعكس ذلك بالطبع علي صياغته التصميمية وموتيفاته وأسلوبه الفني في بناء عمله الفني، وتعامله مع العنصر التشخيصي في أعماله بتفرد كأنه كائن مستقل الإرادة نراه يتشكل عبر عدة رسوم حتى يتغير تماما ويتحول إلي عنصر جديد، بحيث يكون نوعاً من تداعي الأفكار وتوالدها والتكيف بين اللامرئي والمرئي وعليه فإن أسلوب عصمت داوستاشي يتسم بانه يلجأ إلي استخدام الأسلوب الفطري القريب من السمات الشعبية في التشكيل فيعكس حسا بدائيا وأنماطاً رمزية زخرفيه كما أنه يلجأ إلي تحديد عناصره بخط صريح بحكم التكوين حيث يتجه الفنان إلي التسطيح الزخرفي والبعد عن الجانب المنظوري فيها، والذي يعكس بساطة الأسلوب ويسره مما يلقي فى نفس المتلقي استجابة شديدة للعمل الفنى ويجذبه إلية بشدة.
- كذلك يلجأ الفنان إلي استخدام الأشكال الهندسية المتعارف عليها في الفنون الشعبية كالهلال والنجمة والكف مستفيدا ومستغلا أيضا الفراغ لتوزيع هذه الوحدات أما الألوان فهي كما اعتدنا عليها عند الفنان الشعبي تشع بالسخونة والصراحة.
- بتأمل الأعمال الفنية للفنان وأسلوبه الفني نلاحظ تناوله بعض العناصر التشكيلية من الفن الشعبي بشكل مباشر في البداية، ثم يعكس عصرية هذه العناصر من وجهة نظره ويحاول أن يقترب من موضع الفنان الشعبي الذي يضيف ولا يقلد، وتميز عصمت داوستاشي بفكر وشخصيه شديدة الخصوصية من خلال عمله الفني الذي يعكس فلسفته الخاصة في بوتقة فنية سلسة وبسيطة مفادها التواصل وربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
- كما استطاع الفنان عصمت داوستاشي أن يوجد لغة خاصة وشديدة الوضوح من خلال أعماله الفنية التى تتسم بالبساطة في التكوين بجانب الغزارة في المضمون وفاعليته من أسلوب فلسفي ووجهة نظر مشحونة بالفكر الشعبي وصياغاته بجانب مصداقية الفنان وعدم رغبته في العودة للماضي بشكل مباشر أو ملح وإنما كانت عودته كوسيلة معينة اتخذها لإيجاد رؤية خالصة وخاصة لتظهر في أعماله بشكل معاصر كذلك ألوانه صريحة والخط عنصر أساسي في بناء العمل الفني، وهو يحدد عناصره التي ظهرت لتعبر عن ملامح وتفاصيل صياغاته.
- وهو لا يتبع القوانين الأكاديمية والمنظور في بناء علمه الفني وإنما استجاباته لأعماله التي تطغي علي الجانب الموضوعي في التعبير، وهناك علاقة تبادلية في أعماله بين الشكل والأرضية تخلق حواراً بين الشكل الآدمي والشكل الهندسي الجاد في إيقاع تشكيلي شديد الخصوصية يعكس ارتباطاً وثيقاً بين الصياغات وحوار فني راقي نابع من أصول فنية.
- تنوعت المعالجات التشكيلية في صياغات وموتيفات الفنان (عصمت داوستاشي) للعنصر الآدمي فقد استخدم العنصر كاملا في بعض الأحيان وفي أحيان أخري أجزاء منه حيث تراكبت وتداخلت في صياغات متنوعة بأشكال مختلفة لأصل واحد ومعالجات مختلفة ومتنوعة تعكس ثراء فكر الفنان في ضوء من التنوع والتفرد، فأسلوب (الاستطالة والمبالغة والتسطيح والإضافة والحذف والتبسيط والتلخيص) هي طرق المعالجات التشكيلية التي اعتمد عليها الفنان في ضوء الثقافة الشعبية المتوارثة وجرأة وفكر الفنان المعاصر مؤكدا عليها بخطوط متناغمة في اتجاهات مختلفة نتج عنها أشكال متنوعة من الصياغات التصميمية الشعبية الفريدة والخاصة بالفنان، ويميل الفنان إلي أسلوب التجريد لكي يبني صياغاته فقد يحذف أو يضيف ولكن في النهاية يعتبر العنصر الآدمي محور الاهتمام لدي الفنان، فالاحتواء والتداخل بين العناصر والليونة في استخدام الخطوط والبساطة والرشاقة في استخدام الخط هي السمة التي تميز بها أسلوب الفنان عصمت داوستاشي، ونجح من خلالها في أن يوجد حلول تشكيلية ومعالجة تصميمية لصياغات شعبية هي في المقام الأول من إبداعه الشخصي بأسلوب تصميمي ناجح في ضوء لغة تشكيلية خاصة به وحده يعبر بها عن مفاهيمه.
- كما استخدم الفنان عنصر (الحصان) كرمز شعبي يدل علي البهجة والفرح والانطلاق في صياغات متداخلة مع العنصر الآدمي وكذلك الطائر الخرافي والحية وشكل الكلب كلها صياغات صاغها الفنان من عدة زوايا وجعلها متداخلة مع بعضها البعض بشكل شديد الترابط والتداخل، بجانب أنها صياغات تصميمية ناشئة من عالم الفنان وشخصيته وانفعاله بظواهر وأحداث مرت به فقرر أن يكون لها طابع خاص حيث عالج الفنان عصمت داوستاشي هذه الصياغات بأساليب مختلفة مثل الاستطالة في بعض أجزاء من العنصر وكذلك المبالغة في مناطق معينة من الصياغة ليظهرها ويبرزها وذلك بجانب التسطيح والحذف والإضافة والتبسيط والتلخيص وكلها صياغات تنم عن حس شعبي مبسط بأسلوب عفوي في خطوطه الرأسية والأفقية والمائلة في ضوء صياغة تصميمية مبتكرة تحمل قيم تشكيلية خاصة بالفنان نجح في التعبير عنها وتجسيدها في نسق فني مترابط يحظى بقبول من المتلقي في بساطة ويسر بأسلوب شعبي مستمدا من التراث الشعبي لمفرداته في تلقائية وبساطة في التعبير من خلال تكوينات حرة حملت الكثير من المعاني الرمزية بجانب تأكيده علي التسطيح ونظم صياغاته بأسلوب خاص مبتكر ينبض بحساسية مرهفة وثقافة عميقة تعبر عن عمق تجربته الفنية الأصيلة من خلال نسق تلقائي يسعى من خلاله لتحقيق التماسك والتناسق عن طريق الجمع بين الصياغات والعناصر المتفرقة في رؤية جمالية خاصة للعمل الفني بجانب استخدامه أيضا للتراكب والتداخل والشفوفيات ونهج في بعض أعماله إلي استخدام التدرج اللوني بجانب استخدامه للكتابات بشكل مختلف وتوظيفها في نسق تصميمي يخدم بناء العمل الفني.
** داوستاشى الرفض والتمرد
- وضع دوستاشى تجربته الفنية منذ بداياته فى قالب من التمرد الدائم حيث بدأ يمزق أعماله بعد الانتهاء من تقيمها وتقيم الأساتذة لها أثناء وجودة طالبا بكلية الفنون الجميلة وهو ما يعكس شخصيته المتمردة ووجهة نظرة التى تنم عن وجهه نظر بالغه الخصوصية يرى أنها أعمالا كلف بها ولم تكن نابعه من إبداعه الخالص وخيالاته الفنية وقد تم فرضها عليه بجانب تمرده أيضا على أستاذة الراحل سيف وانلى الفنان السكندرى الكبير الذى ذهب داوستاشى إلى مرسمه ليتلقى دروسا فى الفن فلاحظ أن سيطرته وسطوة شخصيته الفنية على طلابه كبيرة جدا مما دفعه إلى عدم التردد على مرسمه مرة أخرى لرفضة الشديد أن يكون انعكاسا أو نسخة أخرى من أحد حتى لوكان أستاذه، وهنا تتجلى شخصية داوستاشى المتمرد والباحث عن الذات وعن هويته الشخصية بين جنبات إبداعه شريطه أن تكون تجربة تجربه خالصة من ذاته وطبيعته ومعتقداته وقناعاته وثقافاته دون التأثر بالغير مما كان له أثر كبير على سلوكياته التعبيرية وموقفه بالغ الخصوصية من الخامة والوسائط المستخدمة فى التعبير الفني ووجهات نظرة الخالصة فى قضايا كثر أهمها قضايا الموروث الشعبيى البديع وجماله مستخدما خامات متنوعه وغير مسبوقة بشكل مدهش يصعب على غيرة التعامل معها بهذه البساطة واليسر مما يجعل المتلقى لأعماله فى حالة من الاندهاش والتأمل.
** داوستاشى وبعضا من مراحله الفنية
- اتسمت مراحل حياة داوستاشى الفنية بمراحل متعددة ومتنوعه فتميزت إحدى هذه المراحل بالانعزال والابتعاد عن الآخر وأخذ الفنان منحى الصوفية كطريقة لتأمل ما حوله فى بوتقة انعزل فيها مع تأملاته ليخرج منها بفكرة المستنير داد ذلك الرمز الكبير الذى نتجت عنه سلسله رائعة لأعمال فنية نتيجة لإفراز طبيعى لتلك المرحلة والتي جاءت أعماله الفنية انعكاس مباشر لتلك المرحلة كما لجأ الفنان لجمع المهملات وبقايا الخامات وإعادة تدويرها وتوظيفها بشكل جمالى على مسطح العمل الفني مستخدما إياها كوسيط تشكلى أثرى بشكل قاطع بناء أعماله الفنية بشكل قمة فى الإتقان حيث لجاء الفنان إلى الأسلوب التجميعى لبناء عملة الفني والذى يعد مردود مباشر وقوى لفن الكولاج الذى جمع فيه مجموعه وسائط متعددة على سطح اللوحة الفنية بأسلوب أكثر عمقا وتأثيرا بجانب السيطرة الشديدة على الخامة حيث أثرت تلك الأعمال التجربة البصرية للفنان وتعد أهم وأبرز تجاربه الفنية العديدة ،حيث ظهرت فى هذه الأعمال الأيقونات التى سيطر على بناء أعماله التى تعكس فكرا شديد الخصوصية حيث أنتج لنا أفكار ورؤية فنية لأشكال وعناصر متعددة بأسلوب.
- خاص للغاية بالفنان داوستاشى الذى يتسم بالبساطة ولكنه أيضا أسلوب قائم على الفلسفة والغموض من حيث استخدام موتيفات ورموز طبيعية أو مصنعه على مسطح اللوحة ليحط بها صياغات وتكوينات فى حالة من التجانس الشديد على الرغم من الاختلاف الشديد بين الخامات لكن الفنان استطاع أن يسيطر على الخامة ليحقق أعلى مراتب الدمج بين مجموعة خامات ربما كانت غير متجانسة بالمرة ليطوعها فى حالة من الخصوصية الشديدة ليفعل درجات الدمج والتداخل حيث أتقن الفنان لغة بديعه فى معالجة أسطح الأعمال الفنية والسيطرة بأسلوب عليها بأسلوب وموتيفات شعبية مدهشة للغاية وهنا لابد أن نوكد على أن داوستاشى استطاع وبتفوق أن يتعامل بأسلوب منفرد مع مسطح العمل الفنى وبلغه بالغة الخصوصية.
** داوستاشى وتحليل لبعض اعماله مورفولوجيا
- عند التصدى لعينة من أعمال دوستاشى بالتحليل الموفولوجى التصميمى مثل اللوحات المسماة، الحمد لله، امومة، ست الحسن، مجموعة (خيالات فنجان القهوة)، مجموعة خروج المستنير، العائلة، مجموعه الكف، الشهداء، قبل الغضب والثورة، عازفة العود، من خلال تأمل الأعمال سابقة الطرح نجد أنها ذات طبيعة شديدة الخصوصية من حيث الأسلوب والبناء وصياغة الموتيفات والأحداث والموضوعات وأيضا المعالجة وتسلسل الأحداث الحياتية الشعبية التى ترويها قصص هذه الأعمال والميتافيزيقا التى تجدد البعد الخفى وراء أحداث تلك الأعمال نلاحظ أنها تمس الحياة الشعبية المصرية بشكل مباشر وقد جانب الصواب الفنان بشكل كبير فى اختياره لموتيفاته الشعبية وموضوعاته والتى طوعها الفنان بشكل ملحوظ، ليعبر عن موضوعات متنوعه ومختلفة، فى نفس الوقت تتسم بالبعد الإيجابي الابتكاري والتصوير الفعال لأحداث من صميم البيئة صيغت بوجه نظر الفنان فى محاولة ملحه منه للبحث فيما وراء سطح اللوحة من أحداث ومناسبات تمس المجتمع، فالفنان لم ينتج موتيفاته بشكل جامد بل طوعها ليبدع فيها ويناقش قضايا اجتماعية مهمه ليفتح أعيننا على عالم الضوء واللون والموتيفات الشعبية شديدة المصرية من حكايات وقصص تنبض بالحس الشعبى كما أن هناك سمات مشتركه فى بناء تلك الاعمال تخص الأسلوب الفني ، حيث صاغ الفنان الأعمال في بنائها علي المحاور الأفقية والرأسية والقوسية والمائلة كما أن الأعمال تقوم علي الخطوط مختلفة الأشكال والأنواع والاتجاهات كذلك موتيفات ومفردات الأعمال تتسم بالتعدد والتنوع فيما بين مفردات آدمية، وحيوانية، ونباتية، وخطوط وكتابات، تمثل وتظهر فى كل الأعمال وبؤرتها ومفردات هندسية كصياغة الهلال، الدوائر، الأشكال المستطيلة، البيضاوية ومفردات كتابية فى صياغة الأعمال بجانب أسس التصميم والمعالجات الشكلية نجد الإيقاع المستمر داخل التصميمات والذى يتحقق من خلال اللون وتشابه الصياغات التصميمية، والوحدة والتآلف وتحدث من خلال الصياغات وعلاقة كل جزء بالآخر، بجانب العلاقة بين الصياغات القائمة علي الترابط والانتظام، مع تداخل الصياغات والرموز التصميمية لتحدث نوعا من الوحدة العضوية في التكوين، ليأتى التناسب والمتمثل فى الصياغات التصميمية داخل العمل والتي وضعها الفنان جميعا في شكل متناسق، وكذلك الجزيئات التصميمية ، التى حددت المعالم المميزة للموتيفات مما نتج عنه حقن للفراغ وتحقيق الإيقاع اللوني والخطي بجانب إحداث التأثيرات للمساحات والحجوم، مع التأكيد على التداخل والتكامل بشكل أثر في بناء العمل الفني، وابدع الفنان عصمت داوستاشى فى تقسيم الأعمال إلي جزئيات ومنمنمات مع الحفاظ على الوحدة بشكلها العام والتى تتسم بها تلك الأعمال والتى تأتي نتيجة عمليات تداخل بين كل الصياغات والموتيفات في نسق ذو طابع مترابط، بجانب الوحدة الموحية بالسيادة داخل العمل وهو أسلوب صاغ به داوستاشى أعماله ليضع المتلقى تحت تأثير الاندهاش المطلق .
د. امجد عبد السلام عيد
مجلة الثقافة الجديدة عدد نوفمبر 2020
خيول داوستاشي... جُموع جمالى يُروّض أشباح الجائحة
- كيف يمكن أن تٌمرر وقتًا ثقيلاً؟ أو أن تعبر أيام الجائحة دون أن تتورط مع `فيروسات` الكآبة؟ ربما بأن تمتطى خيلا رداؤه البهجة، أو خيلاً آخر نبتت له أجنحة، فيكون التحليق عندها مُضاعفا، يعدك بمرح تحت سماء جديدة ليس فى مفرداتها تباعد ولا احتراز.
- هذا التحليق الوجدانى كان وسيلة الفنان المصرى المُخضرم عصمت داوستاشي (مواليد 1943) لتمضية يوميات الجائحة الطويلة، فبدأ مع مطلع العام الماضى، بالتزامن مع إلقاء `كورونا` بظلالها القاتمة على العالم، بترجمة مشاعره الهاربة من تلك الظلال على سطح اللوحات، فكانت تخرج كل يوم على هيئة الخيل، استرعاه الأمر، حتى خرج من عُزلة الرسّام إلى فضاء صفحته الافتراضية عبر `فيسبوك` ليعُلن أنه سيعرض لوحة كل يوم عبر صفحته تحت عنوان `كل يوم لوحة`، وهو تحدٍ قطعه على نفسه، أملاً فى أن يكون ما يفعل وسيلة مقاومة للحالة المعنوية المُتداعية التى كانت تجتاح الفضاء الأزرق مع كل يوم جديد، كان يُتاخمها داوستاشي بخيوله، التى ترتحل بالناظرين لبهائها إلى عالم فسيح من الحكايات.
- فأحياناً تراها تتبخر فى حقول المُخيّلة الشعبية، وأحياناً تُعانق الخط العربى فيتبارون معّا فى الأناقة والتعبير، أحياناً ينهلون من بحور الميثولوجيا، خصوصاً عندما يُنبت لها داوستاشى أجنحة، فتذُكرنا بخيول الأساطير الإغريقية الخارقة، وفى مرّات أخرى ترى الأطفال يعتلون ظهور الخيول فى استدعاء لبراءة الفولكلور الذي يُهدهد أحلامهم الصغيرة، وأحلامنا القديمة، فى كل يوم كان الفارس يتغيُر، يعانق الخيل، وأحياناً أخريى يقف فوق ظهره كأنه يتجاسر لطيران وشيك.
- لم يتوقف سيل الحكايات كما قطع داوستاشي عهده على مسامع متابعيه، حتى مرّ عام كامل على رسوم عزلته وجموحه الفنى، مما جعل مرسمه مُحاصراً بالخيول، وانضمت إليها بورتريهات لوجوه متفرقة، وأخرى تنوّع فيها توظيفه للخامات المتُعددة ما بين الرسم والكولاج، وهى التقنية الفنية الأقرب للفنان `السكندرى` الذى طالما جمع فى تشكيلاته التجريدية ما بينهما، مُطعّماً لوحاته بتشكيلات من الخامات المُعاد تدويرها، وجميعها منسوجة فى تماه لونّى صاخب، وتوظيف رمزى مُكثف، عادة يتحرى بهم شغفه الفنى الخاص بالملاحم الشعبية والفولكلورية القديمة، ولعل هذا الملمح لم يُغادر مشروع الفنان عصمت عبد الحليم، وشهرته عصمت داوستاشى، منذ تخرّجه فى كلية الفنون الجميلة بمصر عام 1967.
- معرض `الفارس والحصان`
- بالتزامن مع يوم ميلاده الـ 78 أقام غاليرى `آرت كورنر` بالقاهرة، معرضاً يضم 30 لوحة من بين عشرات اللوحات التى انجزها داوستاشى خلال عزلة `كورونا`، حمل المعرض عنوان `الفارس والحصان`، وعنه يقول داوستاشى: `رسمتها فى تحدًّ لكابوس كوفيد -19، تلك الجائحة التى غيّرت العالم، وفرضت التباعد الاجتماعى بين الناس، وأخذت أحبّ الناس منا`، وهى الكلمة التى كان يقولها الفنان المصرى بطرق مختلفة عبر رسومه التى بدأت فى فبراير 2020 حتى موعد المعرض فى منتصف مارس 2021، واستمر عرضه حتى قبيل شهر رمضان المبارك، ليبدأ الفنان يوميات جديدة يستثمر فيها حبّه للرسم بشكل خاص خلال الشهر الفضيل، كما يقول.
- فى اللوحات الثلاثين التى تم اختيارها للعرض فى الغاليرى، يتناغم `الفارس والحصان` فى نشيد مُتصل للبهجة، مُحاطين بالزخارف وكأنهما خرجا لتوّهما من كهوف الأساطير، مُتناغمين فى حضرة ألوان الزيت والأكريليك، فى حين يتفرغ الفنان عصمت داوستاشى فى الوقت ذاته لفرز وجدولة بقية لوحاته، التى اقتربت من 500 لوحة، ولم تتسع لها جميعاً جدران المعرض، لتكون بمنزلة أرشيف شخصى وفنّى ليوميات العزلة، ومُغامراتها الجمالية المُمكنة، ومجازاتها التى تُعلى من ثيمات النهوض والبسالة فى مواجهة التعثرات الإنسانية وأزماتها، التى التقطها هذا الفنان بعين الفروسية.
بقلم: منى أبو النصر
مجلة العربي أغسطس 2021
الأشياء القديمة ماتزال قادرة على إثارة الدهشة!
- فى رحاب قصر أمير الشعراء أحمد شوقى افتتح فى شهر سبتمبر 2006 المعرض الشامل للفنان السكندرى الكبير عصمت داوستاشى ليستمر مفتوحا على امتداد شهر رمضان المبارك جامعا كديوان الشعر - أطيافا متنوعة من مسيرة العمر فى الفن الجميل بأشكال متعددة بين التصوير والنحت والتجهيز فى الفراغ والتجميعات المركبة على الأرض وفوق الأسطح.
- وعندما سألته: ألست تغامر بإقامة هذا المعرض فى قاعة نائية عن ملتقيات الفن والفنانين وفى شهر رمضان أيضا حيث يندر أن يخرج الناس فيه لزيارة المعارض فى وجود إغراءات أخرى كثيرة؟.. قال: سواء كانت قاعة نائية أو قريبة ما الفرق؟.. الناس لايأتون لافى رمضان ولا فى غيره.. لقد أقمنا عشرات المعارض فى كل مكان.. والنتيجة هى هى.. لا جدوى!
- قلت: ولماذا تعرض اليوم إذن؟.. قال: لقد دعونى فلبيت.. هذا كل شىء!
- فى هاتين الكلمتين الصغيرتين `دعونى فلبيت` يكمن سر شخصية هذا الفنان صانع الدهشة.. فهو حالة ممتدة من الشحن والعطاء.. بطارية ذات قوة تيار جبارة قادرة دوما على شحن ذاتها وكل ما يتصل بمحيطها ليتحول إلى حركة ونور وحيوية.. وحين يكويه ألم الشعور باللاجدوى من كل ما يفعله ويسحقه اليأس القاتل بسبب كافة أنواع المحبطات التى تحاصره.. يقرر أن يتوقف.. ويقسم أن يكون هذا آخر معرض يقيمه ويفكك أعماله المركبة إلى قطع يكومها كنفايات تتراكم بغير قيمة ويغلق عليها المخزن ويخفى المفتاح بل ويسجل قراره فى بيان رسمى ينشره على الملأ وإذ به بعد شهور قليلة يفاجئك بمعرض يضم حالة إبداعية جديدة ومدهشة.. لو قستها بعدد الأيام التى مرت منذ المعرض السابق لوجدت أنها كانت تتطلب ضعف هذا الوقت إلا إذا افترضنا أنه لم يكن ينام!.. فكيف واتته الارادة والطاقة من جديد بينما الحال هو الحال: اللاجدوى؟.. قد يكون شاحن البطارية دعوة حميمة من جهة ما أو أن بعض الشباب من تلاميذه - الذين لا يخلو مرسمه منهم فى أى وقت جاءوه بتجارب غضة أو حتى بدائية فأثارت مخيلته وقد يكون الشاحن استثاره عمل فنان شعبى مجهول أو قطعة من الروبابكيا وجدها بسوق الجمعة بحى مينا البصل توحى بتشكيل غريب وقد يكون استفزه أمر ما فى واقعنا المتردى وأغضبه وهز كيانه فقرر أن يتحداه بعمل يسخر منه أو يشخصه تشخيصا مسرحيا!.. فإذا به يسرع إلى المخزن فيفتحه ويخرج كراكيب أعماله التى قام بتفكيكها فيعيد تركيبها برؤية جديدة أو بمعنى أدق: ينكب على لعبة جديدة.. يهدم ويبنى.. يضيف ويحذف.. يلون ويمسح.. يقص ويلصق.. وأثناء ممارسة لعبه لا يفكر فى المعرض فحسبه أن يستمتع وأن يثير دهشته هو بما يفعل.. وعندما يقرر عرض ما يرضى عنه لايعنيه ماذا سيقول الناس عما يعرضه لأن عملية العرض استطراد للعبة وما أن يفتتح المعرض حتى يختفى هو بلا عودة!
- فى أحد معارضه الأخيرة - بنقابة الصحفيين - فوجئنا بأن جميع اللوحات فى إحدى القاعتين قد قد قلبت رأسا على عقب فأصبحت رؤوس الأشخاص إلى أسفل وأرجلهم إلى أعلى وكان منهم النبلاء والقديسون والعشاق والمهرجون!.. وفى القاعة المجاورة المظلمة تماما رص صفين من الرؤوس المنحوتة من البازلت الأسود بملامح أفريقية أو مكسيكية من حضارة الأزتك وأمام كل رأس وضع شمعة... ولتتخيل نفسك وسط هذا المشهد الأسطورى وظلال المتفرجين المعدودين تتراقص على أضواء الشموع رقصة طوطمية مهولة!
- وفى معرض قديم له أوائل الثمانينات بأتيليه القاهرة لم تكن أعماله غير شرائح خشبية منحوته تتحوط حول نفسها بالطول فى زوايا منكسرة مثل الساتر (البارافان) بأشكال بصرية مثيرة وكان عنوان المعرض `الدروة` إيماء إلى حاجته إلى الاختباء بعيدا عن الناس وإلى أن يكون حميم القرب من نفسه.. يحاورهما ويحتمى بها ويحنو عليها كطفل يتيم عوضا عن قسوة العالم وعدوانيته لكنه سرعان ما خرج من `دروته` لينفتح على الناس من خلال معرض جديد بأعمال أقرب إلى الفرجة الشعبية أو عالم السيرك: مجسمات هائلة الحجم من المكعبات والمعلقات والحبال والجلاجل والشخاليل والأبواق والأجراس والكور والأهلة والصناديق والأطواق والمسامير والأحجبة والعرائس والمرايا والألوان الفسفورية وقصاصات المجلات والصحف والأزياء السيوية والأقراط النوبية والأكلمة السيناوية والمخلروطات الخشبية ومطرزات الخيامية... ومن هذا كله يصنع داوستاشى حالة عجائبية تكاد تسمع خلالها أصوات ضجة المولد الشعبى بالدراويش والمحبظاتية والمجاذيب ونداءات الباعة وهتاف الحاوى: قرَب قرَب قرَب!
- ولا تمضى غير سنوات قليلة فإذا بالمولد ينفض ليسفر عن بناء صرحى هائل على شكل هرم وعلى كل وجه من وجوهه الأربعة يرسم مسيحا مصلوبا ويترك لك بابا للولوج منه بداخله لتجد فى الظلام صناديق مغلقة ومخلفات من كل نوع.. من تلك الأشياء القديمة التى اشتراها من سوق الجمعة وكأنها كل ماتبقى لنا من مجد التاريخ.. وتتحول الدلالات القديمة للأشياء إلى دلالات أخرى مثيرة للدهشة والقلق بل بلغ الأمر معه أن يصور الهرم وقد امتلأ بالأحذية والشباشب والنعال القديمة... لكن من قلب هذه الحالة السوداوية نجده يشرق علينا لاحقا بمسطحات هائلة تزدحم بالزخارف الهندسية الاسلامية بتعاشقات الطبق النجمى الممتدة إلى مالانهاية يتخللها نور يشكل طيفا بشريا راكعا أو ساجدا أو ضارعا إلى السماء فى حالة وجد صوفى يباغتك حضوره النافذ بالنسبة لفنان طالما استولت الأشياء والمواد على جل اهتمامه.
- ولا يكاد يقف طويلا على هذه المحطة من محطات قطاره السريع فيغادرها ليقف على محطة أخرى يحاول فيها أن يقرأ الطالع فى فنجان القهوة فتتجلى عبقريته فى استحضار عوالم خرافية وكائنات كونية أو تحت أرضية فكأننا فى جحيم دانتى أو أجواء رسالة الغفران للمعرى كائنات بين الإنسان والحيوان والطير والمردة والأشباح.. تتلاقى وتتصارع وتعشق وتتعذب وتتمطى وتتقلص.. فما أتعسها وماأعذبها من مخلوقات!
- ومرة أخرى يصيبه الضجر من الرسم.. أى رسم.. فيبحث عن مجال آخر لا رسم فيه ولا نحت عناصره من أجهزة تكنولوجية.. أعنى من مخلفات الترانزستور والتلفزيون والكمبيوتر التى يقتنيها من سوق الجمعة ثم يفككها ويشكل من عناصرها وأشلائها تكوينات موحية بحالة التشيؤ الإنسانى ساخرة من كابوس التعبئة الاعلامية والفكرية التى تحيل البشر إلى قطيع مدجن يمتثل لمن يحرك أزرار تلك الأجهزة لكن عصمت لايشعرنا رغم ذلك بالخوف منها بل يدعونا إلى اللعب معها والعبث بها فهى فى النهاية باتت أشكالاً فنية لاحول لها ولاقوة إلا قوة سحر الفن.
- وفجأة يشعر بالملل من كل شىء وبلا جدوى الفن أمام الانهيار القيمى الكاسح وأمام هوان الشعب والفنان فيصدر كتابه الأسود المفاهيمى وهو يتكون من مجموعة صفحات فارغة سوداء يتصدرها بيان ينعى فيه حال الوطن والزمن والفن والانسان ويدعو كل من يتسلم نسخة منه أن يضع فى الصفحات الفارغة أى صور يقصها من الصحف أو رسوم لنفسه أو لغيره استكمالا لحالة الاحتجاج على ما يحدث ثم يتبعه بالكتاب الأحمر مشفوعاً ببيان آخر يستعيد فيه بعض إصراره على المقاومة ويستثير الناس للمشاركة الإبداعية على صفحاته وكأنما هو يتراوح - أو يتطوع - بين حالات من الشطح الوجودى بنفسيه رومانتيكية متأججة لا تستطيع أن ترسو على مرفأ للأمان أو شاطىء لليقين!
- غير أن أكثر ما يتبقى فى الذاكرة من عالم `المستنير دادا` - وهو الاسم الذى أطلقه على نفسه فى السبعينيات قبل أن يقرر الاعتزال لأول مرة - هو أعماله المرشوقة عن آخرها ببقايا وأشلاء لعب الأطفال إنها بمثابة صفحات من مذكراته الشخصية وهو يسترجع أيام الطفولة المبكرة لأبنائه مستعيناً بلعب البلاستيك والهدايا التى أحضرها لهم أو تلقوها فى أعياد ميلادهم لقد جمع العشرات من الدمى والعرائس والأحصنة والشخاليل والكور وعلب الحلوى فى السبوع وساعات الحائط وما إلى ذلك وشكل منها تكوينات جمالية مدهشة وترك لكل مشاهد أن يرى فيها مايشاء فقد يراها على انها عالم البراءة الأولى وقد يراها بقايا الحرب والعدوان وقد يراها آلة الزمن.. لكنها تظل بالنسبة له ذكريات حية لسنوات طفولة بناته وأبنائه سحر وسامية وعبد الله.
- لو حاولنا اليوم أن نبحث عن حدود عالمه لتشابكت أمامنا الطرق: أهو التجريبى المغامر اللاعب بالخامات والانقلابى على كل الثوابت؟.. أم هو الملتزم المهموم بمصير البشر الذى يواجه العزلة بالمشاركة؟.. أم هو الفيلسوف تجاه عبث الوجود فيواجهه بالعبث ويواجه الموت بالإبداع؟.. أم هو الطفل المشاغب الذى لم يعش لَعِب الطفولة فمارسه عبر الفن شابا وشيخا ومافتىء يستمتع بإدهاشنا؟..
- أتصور أنه كل هؤلاء لكنى على يقين بأنه ظاهرة إبداعية لامثيل لها فى فننا المعاصر وأنه سيق الكثيرين من الفنانين الشباب برؤى حداثية وما بعد حداثية تبدأ من تطويع وإعادة اكتشاف المهملات والأشياء القديمة وجعلها قادرة على إثارة الدهشة مع فارق كبير بينه وبينهم.. وهو أن رؤاه تظل مصرية مائة بالمائة!.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب (الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية)
خروج المستنير `دادا`
- قبل أن نشرح معنى هذا العنوان الغريب، نود أن ننوه بالمحاضرة التى ألقاها الجرافيكى الفرنسى الكبير.. ميشيل سيرى فى مجمع الفنون بالزمالك فى مطلع فبراير 1983 على مدى ساعة تقريبا قدم تحليلا بارعا للفنون التشكيلية التقليدية، وأشار إلى أن آفة` الفن الحديث` تلك الكثرة من المضللين والمدعين الذين ينضوون تحت لوائه، زاعمين أنهم فنانو الطليعة. والواقع أن فى حركتنا المحلية شرذمة من المتفننين مندسين في صفوف الفنانين المجددين متسترين بمناقشات عقيمة ونفوذ قوى أحيانا. إلا أننا فى نفس الوقت شاهدنا فى` أتيليه القاهرة` جماعة الأدباء والفنانين- معرضا لواحد من فنانى` الطليعة` الحقيقيين الصادقين المثقفين هو: عصمت داوستاشى. أسمه الرسمى` عصمت عبد الحليم`. أما اللقب فالفضل فيه يرجع للأجداد الذين نزحوا منذ نيف ومائة عام من جزيرة ` كريت` إلى شمال أفريقيا.. لكن ` عصمت` مصرى ابن مصرى تخرج في كلية الفنون الجميلة قسم النحت بالإسكندرية سنة 1962.
- فناننا يعطى إسما لكل معرض رغم أنه قد لا يسمى لوحاته قانعا بما تقوله - تشكيليا- العبارة التي أخترناها عنوانا لهذا المقال ليست أسم معرضه الأخير لكننا أخترناها لما لها من دلالة.
- والواقع أن كل أسماء معارضه ذات دلالة إجتماعية أحدها يسمى معرض ` الدورة` بمعنى ` ساتر` أو ` بارفان` أو ذلك` الخن` الذى يركن إليه الإنسان أو الحيوان هربا من صروف الحياة. عرض فيه أشكالا مختلفة من ` الدورة` . كبيرة بارتفاع 130 سنتيمترا أو صغيرة لا تتعدى بضعة عشر سنتيمترات محلاة بالملصقات من الوحدات النحاسية المثبتة بمسامير عادية أو مسامير المنجدين ذات الطاسة النحاس. مفرغة بالمنشار الكهربائى على هيئة خمسة وخميسة أو ثعبان أو سهم أو وحدات هندسية. أحيانا تكون ` الدورة` ذات أربعة أجزاء كل منها على هيئة رجل أو سيدة. طلاها جميعاً بلون بنى داكن لامع تفوح منه رائحة القدم. هذه` الدورات` جميعا مستحدثة الزخارف والتشكيل، لكن لا نستبعد رؤيتها فى مكان شعبى مصرى أصيل مثل مقهى الفيشاوى. متوافقة مع المبانى الإسلامية العريقة كوكالة الغورى أو المسافر خانة. الأمر الذى يثبت أصالتها كإبداع فنى مصري معاصر يتسم بالحداثة والطليعية مع امتداد جذوره إلى تراثنا الفنى .` داوستاشى` هنا.. ` طليعى` لكنه لا ينتمى إلى أى إتجاه أوربى أو أمريكى. انتماؤه الوحيد إلى مصر بلا شك. هذه` الدورات` بالذات على درجة عالية من ` الاصالة والمعاصرة`. تشع منها إيحاءات شرقية مملوكية وفاطمية. لو أن الملتقى المصرى فى أوربا لشعر أنه عاد إلى ضفاف النيل. تذكرنا بالمشربيات والشكمجيات والخشب الخرط مع أنها ليست كذلك. استطاع` داوستاشى` أن ينفخ فيها روح الشرق فتنقل إلى الملتقى عبر الزخارف المفرغة والشكل الخارجى. حتى اللون البنى القانى هو نفس اللون الذى اعتدنا أن نراه فى مبانينا العتيقة.
- هكذا` عصمت داوستاشى` يتخذ مكانه في صدارة` فنانى الطليعة`- الافانجارد- فى حركتنا التشكيلية. يسهم فى كل من فنون :`النحت` و`التجميع وإعادة التركيب والصياغة` و`الرسم الملون` و` السيناريو` و` الشعر` و` القصة` و` الديكور` و` الإخراج التليفزيونى`. كما أنه مثقف وعضو هيئة تحرير مجلة`الإنسان والتطوير` التي يرأسها الدكتور طبيب: يحيى الرخاوى. نذكر هذه التفاصيل لنلقى ضوءا على معنى كلمة` طليعى` التى نقصد بها- الفكر الاجتماعى الفلسفى- وليس `الألعاب التشكيلية بالخامات والأساليب` بهدف الإبهار اللحظى وخداع لجان التحكيم ومنح الجوائز، خاصة ومعظم أعضائهم من مدرسى الفن وموظفين بالمعاش ليس بينهم سوى ناقد واحد!.
- لكن نتذوق ما يبدعه ` داوستاشى` من أعمال فنية ينبغى أن نراجع كلمات رواد ` الحداثة ` . نفكر بطريقة حديثة ولا نقيس ` جماليات ` أعماله بمقاييس القرن الماضى الكلاسيكية .المصنفة تحت عناوين معروفة ومقننة وتقليدية مثل : التأثيرية والتعبيرية .أو تلك التى ظهرت فى النصف الأول من القرن الحالى مثل : السيريالية والتجريدية .نستعيد فى هذا السياق كلمات شاعر فرنسا شارل بودلير 1821/1876 ، حول التذبذب الفكرى وعدم الاستقرار فى مفهوم- الحداثة- فى موقف يشبه ما تجتازه حركتنا التشكيلية وهى فى طريقها إلى التخلي عن التقاليد الفنية الكلاسيكية واتجاهها نحو `منظور جديد`. مرت أوربا بمرحلة مشابهة منذ أكثر من مائة عام مع فارق هام، هو أن فنانيها لم يكن أمامهم `نموذج` أكثر تقدما يحذون حذوه كالنموذج الأور- أمريكي الذى يرصده فنانو العالم الثالث. كان الأوربيون آنذاك مبدعين منشئين كما ينبغى أن يكون فنانونا الآن. مثل- عصمت داوستاشى- الذى نعتقد أنه واحد ممن يضعون اللبنات الأولى فى مسرح- الفن المصرى الحديث- لا يقلد أي نموذج أور- أمريكى، كما يفعل الغالبية خاصة هؤلاء الذين تعلموا فى إيطاليا وألمانيا وأمريكا. سافروا دون أن يتسلحوا بثقافة محلية متينة فكانوا مدنا مفتوحة أمام الغزو الثقافى القوى. عادوا ليفرزوا هذا الفن- الممسوخ- الذى يكسو جدران القاعات الرسمية والأهلية كل يوم.
- كتب ` شارل بودلير` سنة 1846 فى كتيب صغير:` حقا فقدنا التقاليد الفنية العظيمة ولم تتبلور بعد تقاليد جديدة. مواضيع الرسم الملون غزيرة وممنوعة. لكن هناك عنصرا جديدا هو: الجمال الحديث.
- يقصد أن هناك - مفهوماً - للجمال يظهر فى كل عصر يختلف عن `المفهوم` السابق. كتب هذه الكلمات عام 1848وما زالت منطقية فى أحوالنا الثقافية المتردية المعتمدة على `التقليد العشوائى` للغرب.. وسطحية الاجتهاد فى كلياتنا الفنية.
- نتابع كلمات صاحب ديوان ` أزهار الشر` وهو يفسر معنى ` الحداثة` فنقرأ:` نعنى بها ذلك الشق الطارئ سريع الاختفاء الذى يعترى العمل الفنى فى كل عصر ويزول بانتهائه وهو مكمل لشق آخر ثابت خالد وكائن فى كل فن عظيم. أى أن العمل الفنى مؤلف من شقين: الأول متغير مع تغير العصور ويسمى ` الحداثة` والثاني ثابت وهو القيم الإستطيقية. كل عمل فنى ورثناه عن العباقرة الكبار ينتظم هذين الشقين. كل له حداثته الخاصة. كل صورة- شخصية- من الأجيال السابقة ترتدى ثياب عصرها. متجانس تماما. إبتداء من الملبس وتصفيفة الشعر إلى الحركة والنظرة والابتسامة كل عصر له سمات خاصة فى النظرة والابتسامة. عظيم أن ندرس إبداع العباقرة القدامى لكى نتعلم، لكن جهودنا تضيع سدى لو بذلناها فى الاهتداء به إلى ` الطبيعة الخاصة للجمال الحديث`!
- نسارع فنعقب على كلمات الشاعر الكبير بقولنا إن بعض ` الحداثة` أو ` المستحدثات` تثبت جدارتها فتبقى ما بقى الزمان وتضاف إلى القيم الثابتة الخالدة التى تحدث عنها، وهذا هو سبب تطور الفنون على نسق تطور العلوم. والإضافة التى عرضها `داوستاشى` فى معرض ` الدورة` هى أنه حول` البرافان` إلى شىء فنى يمكن اقتناؤه لأغراض جمالية محضة شأن الآنية الفنية التى كانت نفعية فى الأصل. كل ما استخدمه فى إبداعه من المخلفات القديمة المجمعة والمصاغة في عبارات جديدة لكن تلك ` المخلفات` الخشبية لها طابع محلى مصرى. كذلك الزخارف النحاسية وطريقة التطريز بالمسامير. يمكننا أن نلمح الرموز المفرغة فى `الدورات` أو البرافانات فى أشكال الوشم أو الرسوم الشعبية الدورات الصغيرة يمكن ضم أجزائها فتتحول إلى ما يشبه الصندوق أو مقام الشيخ الولى. أراد عصمت أن يبدع عملا فنيا جميلا يوضع فى المسكن ولا يعلق كالصور على الجدران لا هو بالصورة ولا بالتمثال ولا بالآنية. فكانت الدورة بحجمها المتغاير وزخارفها بالنحاس الأصفر والمسامير ذات الرؤوس السوداء أو البيضاء كل من الأسلوب والموضوع جديد مبنى على القديم ولعل هذه الأعمال استطراد للمعرض الذى أقامه سنة 1978 في قاعة ` جوتة` بالإسكندرية بعنوان : `أشياء قديمة` فمن عادته أن يقضى أيام الجمعة - العطلة- فى سوق ` الروبابيكيا` ينتقى المخالفات وينشئ بينها علاقات مبتكرة ويضيف إليها من إبداعه ألوانا وتحويرات، تمنح المتلقى إحساسا بالألفة ونوعا من البهجة الغريبة لما تتسم به من حيوية فياضة. ولعل من أطرف ما قدمه فى معرض ` الأشياء` القديمة`. تكوينات ألفها من مؤخرة البندقية- الدبشك. اشترى كمية من هذا الجزء من` سوق الجمعة` كما فكك فوتوغرافيا قديما وأعاد تركيبه على هيئة شخص. وحين أهداه صديق زهرة عباد شمس كبيرة يناهز قطرها القدم طولا، صنع لها قالبا من الجص استخدم نصفه مع خشب الخرط ليبدع تشكيلا مثيرا للخيال والأفكار لو أنه وضع فى الحديقة مع الأزهار والأشجار كما اعاد تنفيذ منحوتاته الجصية بصفائح النحاس المطروق والمضغوط وأضاف إليها تشكيلات مستحدثة.
- ترك `داوستاشى` وظيفته الحكومية لمدة عام ليعد معرض `الدورة` مستهدفا إبداع أشياء جمالية تضفى على المساكن مسحة انسانية وجوا طريفا يعيد للنفس إتزانها الانفعالى والعاطفى. حتى لا تصبح المساكن مجرد مأوى لتلبية الاحتياجات المادية فحسب فالـ` دورة` المطعمة بالزجاج والمرايا والمسامير تشعرك أنك تحيا بعيدا عن الضجيج الكريه الممل الذى يطالعك بأصواته الشائهة بمجرد خطوك خارج الدار.
- ولد ` عصمت عبد الحليم داوستاشى` فى مدينة الاسكندرية سنة 1943. الوالد والعم يديران ورشة إصلاح سيارات بينما الجد يدير مقهى فى حى الجمرك. نشأ الطفل يهوى الرسم والاشغال اليدوية. ما كاد يشب عن الطوق حتى أنفق الساعات مع الشعر والادب. كان يبتاع الكتب فى المزادات ويهرع بها إلى غرفة السطح ذى الحديقة. يستبعد ما لا يروقه ويستبدله بكتب أخرى. الوالد بدوره قارئ ممتاز لكتب الهلال والمختار والف ليلة والمؤلفات الادبية المنوعة. ظل`عصمت` يتخذ من غرفة السطح خلوة للقراءة والتأمل حتى تحولت إلى` استوديو` أبدع فيه كل أعماله قبل أن يشيد` استوديو` خاص على شاطئ العجمى . بعد اجتيازه امتحان` الاعدادية` رفض التعليم الثانوي النظرى والتحق بالمدرسة الزخرفية حيث درس مبكرا على مدى سنوات ثلاثة`1959/1962` الحفر على الخشب والرسم الملون والرسم الهندسى ومبادئ التكنولوجيا. مهارات وخبرات مكنته من اقامة أول معارضة الشخصية `لرسم الملون قبل التحاقه بكلية الفنون الجميلة قسم النحت`1962/1967`. قبل التخرج بعام واحد طبع على نفقته مسرحية شعرية بعنوان:` كلاميات إلى العدم`0 وفى سنه التخرج` 1967` أقام ثانى معارضة الشخصية. توالت عروضه بعدئذ فى الاسكندرية والقاهرة ولفت الانظار بمهارته وموهبته وصدق تعبيره، وأصالته ومعاصرته. مضى يفتش عن الهوية المصرية فى الفن التشكيلى المعاصر. تزوج سنة 1970 من النحاتة ` فاطمة مدكور`. وبعد خمس سنوات`1975` اعتقد أنه اكتشف الطريق إلى التعبير عن خلجات مصر وهمومها، بأسلوب نابع من ترابها وتراثها مستفيدا من المكتبات الثقافية للعصر الحديث ومن بينها جميع المدارس الفنية السابقة. لكن الأسلوب الجديد لم يتخذ شكله النهائي إلا بعد ست سنوات أخرى` 1981` في معرض ` خروج المستنير دادا` الذى أقامه في قاعة ` اتيليه القاهرة `.
- قبل أن نتناول هذا المعرض الذى نعتبره منطلقا فى حياة الفنان ومعلما فى حركتنا الثقافية، نود أن نقول إن` عصمت` يرى أن المعرض كالمسرحية أو ديوان الشعر أو مجموعة القصص. ينبغى أن يكون له عنوان وموضوع وهدف. يسبقه إعداد وتنظيم وتوثيق. ويلحقه حساب للآثار الثقافية والأصداء الأجتماعية. استوحى عنوانه الغريب أثناء تأمله للأعمال السابقة وكيف تطورت شخوصها المضيئة وسط حشد الزخارف والرموز. كان يرسمها بخطوط متداخلة بأقلام الفلوماستر على ورق صغير ثم ينقلها إلى مساحات كبيرة. كل لوحة تسفر عن فكرة جديدة بنفس الرموز والعناصر. يستمر فى عملية إبداعية متتابعة حتى تنتهى ` شحنة الإنفعال والخيال` ويفيق من ` الأفكار المسيطرة`. بعد أن يستنفد كل انعكاساتها التعبيرية على لوحاته، قبل كل عرض ينفرد بها يستوحيها العنوان الجديد.
- يتأملها ويناجيها ويحاورها. قد تلهمه ما يريد.. وقد تملى عليه قصيدة شعر أو مقطوعة نثرية.. وربما سيناريو سينمائى: هكذا ظهر عنوان` خروج المستنير دادا`. وكلمة دادا مقتبسة من اسم الحركة الفنية الثورية . التى ظهرت في مدينة زيورخ السويدية ابان الحرب العالمية الأولى` 1914/1918` لتدين جميع القيم الإجتماعية والفنية التى أدت إلى قيام الحرب وفناننا يقصد بالـ` دادا الثورة أيضا لكنها ثورة نفسية وفكرية هذه المرة. على كل المعوقات الداخلية والمعنوية التي تعترض الانسان المصري. السلبية والتقاعس والانانية واللإنتماء والذيلية. دعوة للخلاص من أثار الانسان الثقافى والمعنوى والحضارى الذى أعقب النكسة واستمر حتى نهاية السبعينات. الجيل الشاب الذى خرج منه داوستاشى تخرج في النكسة 1967 ومعظمه خاض حرب اكتوبر 1973 وجرح او استشهد او هاجر بعد سبع سنوات فى الجندية تحت أقصى الظروف. أفقدته مشاغل الحياة طموحه واحلامه وأصدقاءه.. شرب المر حتى الثمالة فتحولت الغالبية إلى انتهازيين إنفتاحيين.. دادا عصمت داوستاشى دعوة للخلاص، من المعوقات النفسية والرواسب التي تمنع الشباب من الانطلاق نحو الانتماء وتشييد التقاليد الجديدة. صور هذا المضمون فى لوحة زيتية تتوسطها خطوط خارجية لشخص جالس بلا أى تفاصيل، تحف به أسهم حمراء وثعابين كناية عن الضغوط والشرور، بينما هو مضىء مشع بنور الفكر الجديد.. رسمه أيضا على هيئة شخص واقف بلا تفاصيل تتحدد معالمه بشرائط رفيعة تلفه من قمة الرأس الى أخمص القدم. شكل يشبه المومياء. أو الشرنقة التي توشك أن تتفتق عن كائن حى جديد. نحس فى كل اللوحات بحيوية متدفقة وطاقة ترسل موجاتها تمس خيالنا وأفكارنا وأرواحنا. نشعر بمتعة من نوع خاص. فيها الكثير مما نشعر به فى حضرة المسرح التراجيدى والشعر الملحمى والباليه الكلاسيكية والسيمفونيات.
- نلتقى مع لوحات ` عصمت` بتشكيلات فنية حديثة مبنية على التسطيح. قوامها رموز كأنها صورة إيضاحية لافكاره. يزاوج بين عصمت داوستاش : لوحة ملونة عليها عناصر معلقة، استكمالا للتعبير. وهو اسلوب لا شبيه له وغير مسبوق
- الشكل والمضمون` كوجهى العملة كما ينبغى أن يكون لا يضع أشكال مطلقة كما يفعل العبثيون ولا يهتف بالآراء والأفكار كالخطباء يتشح المضمون فى إبداعه بغلالة من الغموض الغريب شيء كالسحر. والفن ضرب من السحر كما نعلم .
- `داوستاشى `رأينا يقوم بطقوس معينة قبل وبعد وأثناء كل معارضه من بين هذه الطقوس أنه منذ عام 1972 يتعمد وضع صورة معينة فى الصدارة. لوحة زيتية `83x92 سم` بعنوان `صورة شخصية جدا لك` لوحة نصفية لإنسان غريب الشكل. الرأس أقرب إلى الجمجمة. عيون واسعة محملقة فى ذهول. يد مبهمة تتسلل من الظلام عن يمينه ترفع السبابة كأنما تصدر التعليمات. تخرج من باقي الأصابع أنابيب لينة كالخراطيم متصلة بجانبى الوجه المرسوم. إنها يد الأقدار التى تتحكم فى مصير الناس كما يتحكم لاعب` الماريونيت` فى عرائسه بالخيوط.
- لكن فناننا لايقف دائما موقفا فكريا فلسفيا كما هو الحال فى معارض` خروج المستنير`1981 أو الخطوة الأولى 1982. أو كما يتضح من أسماء لوحات مثل: صورة شخصية لك، طلسم جاهلى، التوهج السهمى أو` السيناريو المسرحى` الذى أصدره على نفقته الخاصة فى ستين صفحة من القطع المتوسط بعنوان` الصمت` سنة 1982. بدأه بقوله:` الأشياء التى تحطمت إلى أشياء. والصمت الذى تفجر لمزيد من الصمت. ويبقى .. الرحيل. - مثل هذه العبارات والرسوم موجهة لخاصة الخاصة. الذين ألموا بالفلسفة وعلم النفس وتحليل الفنون. هذا لا يعنى بالضرورة أن الفنان عالم موسوعى المعارف، إنما يعنى أنه على قدر من ` الحداثة` لا تصلح معه ` أدوات ` الفهم التقليدية. لانقصد بالـ` حداثة` الشكل فقط ، بل ` التعبير` بالدرجة الأولى. وننتهز الفرص السانحة لنؤكد أنه لا ديمقراطية فى الفن أو العلم ، من يملك أدوات الفهم يدرك.. ومن لا يملك لا يدرك! خاصة وأن ` داوستاشى` بعيد كل البعد عن` التجريد العبثى` المبنى على الأمية الثقافية كما أن بعض الباحثين يرى أن ` الفردية` من إمارات الحداثة`. خاصية تتجلى عند فناننا فى معرض: ` الدورة`.. حيث لم يستهدف سوى المتعة الجمالية البصرية وليست العقلية والذهنية. لا يودع دوراته مغزى كما هو الحال فى لوحاته الزيتية. حتى هذه .. تنتظمها رموز شديدة الغموض كأنها الشفرة. لكنها تكشف عن نفسها لمن يملك ` أدوات` الفهم. نستشعرها حينئذ ونفض طلاسمها ويستجيب خيالنا وتستنفر أفكارنا وندرك معانيها.
- من اللافت للنظر أن عصمت داوستاشى` يتعامل مع ` العنصر التشخيصي فى لوحاته بندية. كأنه كائن حى مستقل الارادة! نراه يتشكل عبر عدة رسوم حتى يتغير تماما ويتحول إلى عنصر جديد. نوع من تداعى الأفكار وتوالدها والتكيف بين اللا` مرئى` والـ` مرئي` هذا ما نسميه` تجسيد الخيال`. و ` عصمت` فى مسيرته الإبداعية مع عناصره التشخيصية يحاول أن يجعلها معبرة عن مكنوناته. ضيقه وثورته واحتجاجه ودعوته. يطلق` عناصره` على سطح اللوحة تستشير الاحاسيس والخواطر وتشع طاقتها السحرية تجتذب عين الملتقى وفكره. كما يضع أسماء تساعد` التواصل` بينه وبين المتلقى. مثل `` الخروج الأول` ` الخروج الثانى`. بمعنى التحول الأول والثانى.
- لكنه لا يفعل سوى أن يؤكد المعنى بأسلوب أدبى ويزيد الأمر غموضا فى نفس الوقت لأنه يعنى أشياء ليست اصطلاحية`- أى غير متفق عليها. مجرد رموز بينه وبين نفسه .لذلك نرى أن أعمال ` عصمت داوستاشى` على قدر كبير من التعقيد بالرغم من بساطة مظهرها ومهارة صياغتها وقوة جاذبيتها. ينبغى لمتذوقها أن يقوم بجهود إبداعية أثناء التأمل وأن يتسلح بخبرة سابقة فى معايشة ` الفن الحديث` والألمام بقدر مناسب من المعرفة..
بقلم : مختار العطار
من كتاب (رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى )
|