الحبر الذى لا يزول.. نذير طنبولى يوشح أسطورته
- فى قاعة جاليرى ياسين بالزمالك، تتسع الجدران لأنفاس الحبر، وتتهيأ لتلقى `وشوم بصرية` لا تمحى، يدخل الزائر فى صمت يليق بالمقدس، فيجد نفسه أمام لوحات الفنان التشكيلى `نذير طنبولى ــــ 1971` وكأنها جلود حية محفور عليها أثر خالد، هنا لا يعود الحبر مجرد مادة للرسم، بل يتحول إلى وشم أبدى، إلى `أثر غائر` فى الذاكرة والبصيرة، يترك بصمة مضيئة على الروح.
- الحبر فى تاريخ الإنسانية كان دائماً أسود ينقذ الأفكار من الفناء، والوشم كان العلامة التى تثبت الهوية على الجسد، أما فى `INK`، فيندمج المعنيان ليصبح اللوح `جلداً كونيا`، والحبر أثرا أزليا، والفنان ساحرا يعيد صياغة العلاقة بين `الخط والوجود`، الفنان لا يكتفى بأن يرسم مشهداً أو يقترح صورة، بل يكتب أسطورته على الجدار كمن يوشم قدره على جلد الزمن.
- كل خط هنا يلمع كوشم بدائى يذكرنا `بجدران الكهوف الأولى`، وكل فراغ يتردد فيه صدى `الأساطير القديمة`، الحبر يتنفس، يمتد، يتشعب، كأنما يعلن أن الفن ليس لحظة عابرة، بل أثر خالد `يرفض الزوال`، فى هذا المعرض، تتحول اللوحة إلى جسد والجسد إلى أسطورة، والأسطورة إلى وشم أبدى لا يمحى.
- والحبر كـ `دم الفكر ووشم الوعى` فى أعماله نزير يذهب أبعد من ذلك، الحبر لا يرى كخطوط على الورق فقط، بل كأنه `دم يتدفق` فى شرايين الفكر، هو السائل الأسود الذى يمنح الأفكار جسداً مرئياً، الحبر هنا ليس زينة ولا أداة، بل `مادة أولى` تشبه الدم فى ضرورته للحياة، إذ من دونه لا وجود للصورة ولا بقاء للأثر، وبهذا يضعنا أمام تجربة نادرة، علامة على أن الفن الحقيقى ليس ما يرى على الجدار فقط بل ما ينقش فى داخلنا كإشارة أبدية لا تزول.
- طنبولى ليس مجرد رسام يحترف أدواته، بل هو `راو` يترك حياته تمتزج فى لوحاته، ولد فى الإسكندرية، مدينة البحر والذاكرة، ثم غادر إلى عوالم أخرى ليكتشف ذاته فى الاغتراب، قبل أن يعود إلى القاهرة حاملاً معه طبقات من التجربة والدهشة، كأن مساره الشخصى نفسه غيرته يد القدر ليصبح أسطورة حديثة، تروى بالحبر والخطوط والصمت فى أعماله، لا نرى انعكاسا لواقع مباشر، بل نلمح حكايات مشفرة تستدعى المخيلة، وجوه غامضة، كائنات عائمة، رموز تتكرر كما تتكرر الأساطير القديمة عبر الأجيال لا يروى حكاية مكتملة، بل يترك `فجوات` مساحات للصمت تدعو المشاهد ليشارك فى صياغة الأسطورة، ليصبح هو نفسه جزءاً منها.
- فى قلب معرض `INK` يضع نزير الجسد الإنسانى `تحت مجهر الحبر`، لا كصورة جامدة، بل كفضاء مشبع ب `الأسئلة والانفعالات`، فى اللوحة الأولى، الملصق الذى يحمل عنوان المعرض، فنحن أمام مشهد حوارى صامت، رجل وامرأة فى مواجهة، أجسادهما تنبض بالعلامات السوداء، بينما قلب المرأة مرسوم بخطوط بيضاء لامعة، فى إشارة إلى `الداخل الذى يظل حاضراً` وسط الصخب الخارجى، هنا يترك الجسد مفتوحاً على المعنى المحتمل.. هل هو لقاء حب؟ مواجهة؟ أم مجرد لحظة عابرة تسكنها ثنائية الألفة والتباعد؟ إن الحبر بظلاله الكثيفة وتدرجاته الشفافة، يجعل من كل تفصيلة حركة بين الانكشاف والاختفاء.
- وفى عمل آخر يلتف الجسدان فى `عناق كثيف`، متداخلين إلى حد الذوبان، الحبر هنا لا يكتفى برسم حدود، بل يتجاوزها ليخلق `طيفا من الحضور المتراكب`، حيث يصير الجسد الواحد أكثر من جسد، والعناق `أكثر من لحظة`، الأشكال السوداء والخطوط البيضاء المتناثرة تشبه `خدوشا ضوئية`، كأنها آثار حياة كاملة منقوشة على اللحم، لتصبح اللوحة بمثابة `وشم روحى` على الذاكرة الإنسانية.
- ويمكننا قراءة عمل آخر كاستكشاف لعدة مواضيع `الثنائية والوحدة` الأشكال بالأبيض والأسود، الصلبة والمنمقة، والشخصيتان المتميزتان والمتشابكتان بقوة. ومفهوم للثنائية كـ `العقل.. الجسد، الذات.. الآخر`، والرغبة الإنسانية فى الوحدة أو التركيب، كيف تتحد كيانان متميزان لتشكيل `كل واحد`، وما الفردية التى تبقى فى هذه العملية؟ `الاحتضان` بحد ذاته هو رمز قوى للاتصال الإنسانى، والضعف، والثقة، يتجنب طنبولى فى تقديمه الإثارة الصريحة، ويركز بدلا من ذلك على التقارب العاطفى والجسدى، هذا يسمح بـ `تأمل أعمق` لما يشكل العلاقة الحقيقية، هل هى جسدية بحتة، أم أن هناك اندماجاً للذوات؟ الأنماط المميزة على كل شخصية، حتى أثناء تشابكهما، تثير تساؤلات حول `الهوية`، كم من أنفسنا نحتفظ به عندما نصبح مرتبطين بعمق بشخص آخر؟ كيف يشكل `الآخر` أو يعكس إحساسنا بالذات؟ الخطوط والأشكال الجريئة، والتى تشبه فن `التراث المصرى والفن الإفريقى` أحيانا تسهم فى إضفاء شعور بالبقاء، الأشكال ليست مجرد وصفية ولكنها مشبعة بـ `الوزن الرمزى`، بمعنى أوسع، قد يعلق العمل الفنى على الحاجة الإنسانية للاتصال فى فراغ وجودى (يمثله الخلفية البيضاء القاتمة). تتكئ الشخصيتان على بعضهما البعض، خالقتين `عالمهما الخاص` من المعنى والدعم وسط واقع خارجى أقل تحديدا، يضيف استخدام الفنان للحبر أو مادة مشابهة، مما يسمح بوجود `أنسجة ودرجات عتامة` متنوعة داخل المناطق السوداء، طبقة أخرى من العمق، بعض الأقسام سوداء بالكامل، وتنقل القوة أو اليقين، بينما تظهر أقسام أخرى جودة أخف وأكثر شفافية، تلمح إلى الضعف أو `مناطق الغموض`، الخطوط البيضاء، بدلا من مجرد التحديد، غالباً ما تقطع أو تحدد مساحات داخلية، مما يشير إلى `المناظر الطبيعية الداخلية` المعقدة للشخصيتين، نسيجا غنيا، منسوجا ببراعة من خلال الأشكال القوية والتباينات الصارخة، إنه يدعو المشاهدين إلى التامل فى تعقيدات العلاقة الإنسانية، والهوية، والرقصة الخالدة بين الفردية والوحدة، كل ذلك ضمن عالم بصرى آسر ومترابط بعمق أحادى اللون.
- كما يمكن رؤية الحصان كرمز للقوة والحرية والانطلاق، حاملا العاشقين فى رحلة عبر الحياة محاطين بالطبيعة التى تظهر بتفاصيل دقيقة مثل الزهور والطيور، مما يعزز من الشعور بالانسجام والوحدة مع الكون، وعند استخدام درجات اللون الرمادى فى الأعمال للإشارة إلى البعد الزمنى أو الطابع الحلمى للعمل، أو التركيز على التكوينات الهندسية الحسية المبطنة التى تشكل الأجساد والأشكال، التفاعل بين `العناصر الأرضية والسماوية` الموجودة فى الأعمال بشكل عام، تعكس رؤية فنية عميقة وثرية، تدعو المشاهد للتأمل فى جمال العلاقات والاندماج مع الطبيعة بلغة بصرية معبرة ومفعمة بالأحاسيس، وتتجلى المركزية بالتكوينات التى تضع `الشخصيات النسائية` فى بؤرة الأعمال، مما يعزز من إيحاء القوة والحضور.
- فى `INK` لا يقدم الحبر كوسيط مطمئن أو شكل مألوف، بل كقوة تحدث دهشة بين ما نعرفه وما لا نعرفه، هنا يتجلى مفهوم الغرابة الذى أشار إليه فرويد، ذلك الإحساس المزدوج الذى يجمع بين `الألفة والغرابة`، بين ما هو قريب وما يبدو غريباً فى الوقت نفسه، فلوحات نذير طنبولى توقظ فى المتلقى مناطق من اللاوعى، حيث تتحرك الظلال والخطوط كبقايا صور منسية أو أحلام نصف مكتملة.
- هذه المفارقة بين المألوف واللامألوف يجعل التجربة أكثر من مجرد تأمل جمالى، إنها مواجهة مع الذات فى لحظة انكشاف، فالخطوط السوداء ليست أشكالا محددة، لكنها تلمح إلى وجوه غائبة، أو حكايات لم ترو، أو كوابيس تتسلل من مساحات الصمت البيضاء، وهنا يكمن سر تأثيرها.. اللوحة لا تكتفى بان ترى، بل تجبر العين على رؤية ما لا تريد أن تراه.
- الغرابة إذا هى قوة المعرض، لأنها حول الحبر من مادة للرسم إلى مرآة للاوعى، حيث يواجه المتلقى رهافته ومخاوفه فى صورة جمالية مبهرة، ومن هذه المفارقة يولد سحر`INK`، عمل مألوف وغريب فى آن، يترك أثراً يتجاوز حدود الرؤية إلى أعماق النفس.
- ما يقدمه فى `INK` ليس مجرد تجربة بصرية، بل زمن داخلى جديد، الحبر عنده لا يكتفى بأن يكون خطا على سطح، بل يتحول إلى إيقاع يعلمنا الإصغاء إلى ما وراء الشكل، همس العاطفة، ارتجاف الجسد، ارتباك الروح أمام المرآة، فى كل عمل، يتركنا الفنان أمام سؤال جوهرى.. ماذا يبقى من الإنسان حين يتعرى من تفاصيله العابرة؟
- ربما تكون الإجابة فى تلك العلامات السوداء التى تضئ أكثر مما تعتم، فى المساحات البيضاء التى تفتح فراغاً يسكنه الحلم،`INK` ليس معرضا نراه ثم نغادره، بل تجربة تنغرس فى وعينا كأنها توقيع داخلى لا يمحى، تذكير بأن الفن العظيم لا يستهلك، بل يعيش فينا كزمن ثان مواز للحياة.
بقلم : إيستر فادى
جريدة: القاهرة (العدد 1316) 7-10-2025