`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
فؤاد كامل

- كان من اوئل الفنانيين المتمردين فى الفن وشارك مشاركة ايجابية فى جميع حركات التجديد التى ثارت على القوالب المدرسية -والاتجاهات المألوفة فى الفن الحديث . واصبح علما على التجديد المطلق وقد اتخذ من الفن الحركى والتبقيعية و الشخبطة اسلوباً يميزه.
- ولقد ارتبط اسم فؤاد كامل باسماء كامل التلمسانى - ورمسيس يونان واصبح كل دراس تاريخ الفن المصرى الحديث و المعاصر يتوقف طويلا امام ما اننجزه هؤلا الفنانون الثلاثة وما اضافوه الى الحركة الفنية المصرية من افكار فتحت الطريق امام التجديد على مصراعية (صبحى الشارونى ).
- فؤاد كامل من اوئل رواد الفن المجرد المعاصر فى مصر يدين بالحرية المطلقة ولايلتزم بموضوعات او اشكال تقليدية - تلتزم فقط مما يتيح له هذه الحرية من الأنطلاق و يستكشف بها ماهو غير مرئى من اشكال او معانى وهو لا يصطنع هذه الحرية بل هى طبيعة اصيلة فيه لاحظتها عنده وهو لايزال طالبا بكلية الفنون الجميلة فى سنة 1940 .
- سار فؤاد كامل منذ صباه مع موكب المجددين و المكتشفين العالميين فى عديد من الاتجاهات الفنية المعاصرة بفهم ووعى ثم انتهى الى السير فى الاتجاه المجرد .
- وهنا لابد لنا الوقوف طويلا امام لوحاته فى هذا الميدان لفهم ماتحمله من قيم عالية وتقييمها تقييما تستحقه هذه الحياه الفنية المناضله .
عبد القادر رزق
مدير عام الفنون الجميلة والمتاحف

- ولد فؤاد كامل فى بنى سويف فى 28 إبريل 1919 ، وتوفى فى القاهرة فى 25 يونيو 1973 ، تتلمذ فنياً على يد يوسف العفيفى من رواد التربية الفنية ودعاة الفن المعاصروشارك فى تأسيس جماعات الفنانين الشرقيين الجدد، وجماعة الفن والحرية ، وجماعة جانح الرمال، وجماعة نحو المجهول من 1937 الى 1958 وشارك فى معرض السريالية الدولى بباريس عام 1947 تخرج فى المدرسة العليا للفنون الجميلة عام 1947 وفى المعهد العالى للتربية الفنية عام 1955 ، وعمل بتدريس الفن فى عده مدارس مصرية ثم حصل على منحة التفرغ للإبداع الفنى من عام 1960 ، وهو فنان مجدد عميق الثقافة والفكر.
آثر فؤاد كامل تفجير طاقاته التعبيرية فى إطار التجريدية التعبيرية ذات النمط التبقيعى، بعد ان أطاح بجذوره السيريالية التى استغرقته إبان نشاط جماعة الفن والحرية وتداعياتها الصاخبة، مع رمسيس يونان وكامل التلمسانى والشاعر جورج حنين، فى دفاعهم عن حرية الفن والفكر الذى يتفاعل مع الحلم والرمز والمصادقة.
- فى هذه المرحلة التى نشط فيها أعضاء جماعة الفن والحرية بشروا بالخروج على نواميس الأكاديمية والتأثيرية المتمسحة فى التيارات التى خفت صوتها فى أوروبا وفتحوا طاقة التفاعل مع المذهب السيريالى واستهدفوا استنفار الدهشة فى عيون ووجدان الجماهير، وتبنى فؤاد كامل تكوين جماعة جانح الرمال عام 1947 ، التى بشر فيها بالفن الأوتوماتيكى ، ليفتح الباب أمام التجريدية التعبيرية فى الفن المصرى المعاصر فى النصف الثانى من الخمسينيات، كان مصدره فى ذلك التحول طليعة الفن الأمريكى المعاصر من أمثال ` جاكسون بوللوك` ـ ja ckson pullock ` جون ليفر` john lever ، ` فزانز كلاين ` franz Kline ` ` وايفز كلين` ` YvesKlein` الذين اكتشفوا فى التنفيس المشبوب للحركات الفسيولوجية الناتجة من اندفاع الذراع والكتف وحركة الجسد أثناء قذف الألوان على سطح اللوحة، باعتبار أن هذه الحركات المندفعة بلا تروى ، بمثابة إنعكاس تلقائى مواز للإيقاع الداخلى لحركة الجسد التى يسيرها القصف الذهنى المنطلق ، وقد استطاع فؤاد كامل أن يشق لنفسه أسلوبه الخاص ، وبصمته المميزة فى هذا الإطار، إذ اعتمد على التبقيعيه وضربات الفرشاة العريضة، ليعبر عن ما يشبه تدفق الحمم البركانية، معتمداً على اللون الأزرق والأحمر والأسود مع الأبيض ، فقد جافى الأصفر والأخضر والبنفسجى والبنيات واستبعدها من مجموعاته اللونية.
- كان فؤاد كامل يبحث عن عالم عظيم مدمر بفعل قوى طارده تتشعب وتتناثر، وعن العلاقة بين الطاقة والمادة الصماء فى تموجاتها وانفعالاتها المتحررة من المعانى، من خلال تلقائية السكب وفاعلية تخليق البقع وتوتراتها على السطح، واصطدامها باًثار الحركة الجسدية بإمكاناتها الدافقة.
- وبالرغم من استغراقة فى تجربة التجريدية التعبيرية والتبقيعية، فإن روحه الشاعرية حفظت رومانسيتها وجذوره السيرياليه التى تقدس العقل الباطن ـ ظلت كذلك مشحوذة فيقول عن أعماله التبقيعية : ` أنها عشق وعجب ومغامرة أتخطى بها عالم المرئيات وأفضل مادة الفن عن صورته، كما أقيم فوقها الشكل المطلق، استكشف به عالم المجهول وهى قدر متربص وكون صامت، لكن أقترب من سراديب مطمورة كامنة فى الأغوار البعيدةـ ويقول ` إنى اتخذ من ذرات السحاب ضروباً من السحر.. أقترب بها من سماواتى الداخلية `.
- ومنذ عام1969 تقلبت تجربة فؤاد كامل التصويرية فى تلك الفترة وبعد التحرر من المرحلة السيريالية فى ثلاث مراحل:-
- أولها المرحلة الرمادية والسوداء التى كانت بمثابة تمرد خالص على العقل والوعى من كل نوع، طرطشات وتسييل البقع اللونية فى كل اتجاه ، كانت بمثابة مرحلة اكتشاف الطريق الوعر الجديد الذى قصده، مستخدماً الطلاءات التجارية البلاستيكية سريعة الجفاف ، حتى يتجنب اغراءات التموية والتدريج والتسوية ، ثم انتقل إلى مرحلة غلب على لوحاته فيها اللون الأزرق ، وفيها مزج بين الطلاءات البلاستيكية ، وبين بويات اللاكيه الزيتية ذات الشحومة الزلقة والسمك وهى التى ميزت أعمال ` جاكسون بولك لتسيل عروقها وتتجعد جزرها على سطح لوحاته ، وفى هذه المرحلة اكتشف فؤاد كامل تأثير ضربات الفراجين العريضة جدا التى تترك إيقاعاً من حزم الخطوط المتماهية فى مسارات تتلوى لتحدث إيقاعاً ملموساً داخل فوضى التبقيعية ، وفى المرحلة الثالثة والأخيرة، التى اتخذت من اللون الأحمر النارى أساسا لها، بدأ فؤاد كامل فى اكتشاف عوالم جديدة ، من ضربات عريضة بالفرشاة تؤطر فراغاً وهميا على سطوح لوحاته، وتخط مسارات مقروءة ترجم فيها خلاصة إيقاعه الداخلى، بعد ان أتم تعرفه على نبضه وحركته الصاعقة فى سرعتها ، وظل فؤاد كامل فى مصر يمثل العصر البطولى فى حين ترك كامل التلمسانى المعركة مبكراً ، وسافر يونان مهاجراً إلى باريس كما يقول إيمية أزار.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
فنانون منسيون فؤاد كامل ..فلسفة التمرد بين جمالية الفكر والتجريد
يعد الفنان فؤاد كامل احد الرواد الاوائل الذين ثاروا على المالوف والمعتاد.. والقوالب المدرسية الجاهزة والمحفوظة فى الفكر والفن .... وقد امتدت رؤيته الجمالية مع خصوصية عالمه فى فضاء التصوير.. والذى ينتمى الى السيريالية فى البداية ولفترة طويلة وانتقل الى التجريد بعيدا عن مقاييس العقل والمنطق والمعرفة التقليدية.
وهو واحد من ثلاثة فرسان من ارباب الفكر فى الابداع المصرى الحديث.. كان مع رمسيس يونان وكامل التلمسانى وكان اصغرهم ..وقد حفروا عميقا بفلسفة التمرد فى نهر الفن الخالى من شوائب السكونية والتقليد مثلما قادت نظرتهم المتقدمة وافكارهم الطليعية السباقة الى افاق الحداثة
ولد كامل فى ابريل من عام 1919 ببنى سويف وعاش طفولته هناك بين الحقول وصخب الطبيعة وهدوئها فى وضح النهار والامسيات المرحة فى الليل ..وكان يرسم كل مايراه من حوله ..وتلقى دروس الفن الاولى عن ابيه الذى كان متخصصا فى رسوم الخرائط ..ثم فى المدرسة السعيدية عندما انتقل الى القاهرة ..على استاذه يوسف العفيفى الفنان ورائد التربية الفنية واحد دعاة الفن الحديث ..وعند العشرين بدا يتجه نحو السيريالية والرمزية وقد ظل سيرياليا حتى عام 1958 ..عندما انتقل الى التجريدية التعبيرية..او الفن اللاشكلى اذى يخلو من الملامح التشخيصية .
عام 1937 وكان فؤاد كامل مازال طالبا بالثانوى كون مع زملائه `جماعة الشرقيين الجدد ` التى كانت تهدف الى ايجاد الشخصية المصرية فى الفن ..واشترك فى جماعة الفن والحرية عام 1939 وبدا عرض اعماله عام 1940 قبل تخرجه بعامين ..وفى فترة النازى فى المانيا وكانت تنفى اعمال ماكس ارنست وبيكاسو وتتطارد لوحات بول كلى وكاندنسكى وكان يعتدى على صور رينوار بتمزيقها ..كان الفنانون فى ذلك الوقت مطاردين من بطش هتلر ومن معه فى هذا الوقت اصدر رمسيس يونان مع زملائه بيانا يندد فيه بهمجية القوى الفاشية والنازية ..وقد
صدر البيان فى 22ديسمبر عام 1938 وقع عليه 37 فنانا وشاعرا على راسهم جورج حنين وكامل التلمسانى و فؤاد كامل الذى لم يتخرج بعد من الفنون الجميلة وكان عنوان البيان `يحيا الفن المنحط ` باعتباره ردا على الحركة الرجعية التى اتخذت شعارا لها ` مقاومة الفن المنحط ` . وجاء فى البيان :
`نحن نعرف باى عداوة ينظر المجتمع الحالى الى اى ابتكار ادبى او فنى يهدد بطريقة مباشرة او غير مباشرة القيم الفكرية والفنية التى تضمن البقاء والاستمرار لهذ المجتمع ..هذه العداوة تظهر اليوم فى البلدان الدكتاتورية بالذات فى المانيا الهتلرية.. تظهر فى العدوان المريع والوضيع ضد فن يصفه الذين يعتقدون انهم عالمون بكل شىء بانه فن منحط ..يا ايها المفكرون والكتاب والفنانون ..فلنتقبل هذا التحدى فنحن متضامنون مع هذا الفن المنحط بصورة مطلقة ..وفيه تكمن جميع قوى المستقبل ..فلنعمل على نصرته على القرون الوسطى الجديدة التى تهب فى قلب الغرب ` .
كانت معارض الفن الحر السنوية التى نظمتها جماعة ` الفن والحرية`.. منذ اول الاربعينيات مسرحا لثورة عارمة فى الفن التشكيلى حررت الموضوع والخيال
والشكل التلقائى من قواعد المرئيات وتنسيقها الاكاديمى ..وكان فناننا مشاركا بفكره وفنه ..كما اسس جماعة جانح الرمال التى انتقل من خلالها الى التعبيرية التجريدية والفن الاوتوماتيكى التلقائى بعد ان قال :` انا ابن الصدفة التى يتحكم فيها الامتثال لالتماع البرق والقلب ولا اخشى ان اطيح بصورة اى كائن فاننى لا اعلم ابدا ما انتهى اليه اذ لا اخضع للحظة ارسمها مقدما ولا اشكل مادتى وفق مشروع سابق `
..وعالمه
ظل فؤاد كامل سيرياليا لفترة طويلة وكان عالمه يمتد بالكائنات الغريبة من الوحوش والجياد النافرة والشخوص المتوجسة والاذرع والسيقان والعيون الشاخصة من خلال تلك العلاقات التى تنتسب للخيال وتتجافى الواقع وربما عبرت لوحته `الشمعة الزرقاء ` عن مساحة من هذا العالم صور فيها رجل فى حالة من الوجوم والقلق بفزع داخلى يضع يده على قاعدة شمعدان اسود مشوب بالزرقة يحمل شمعة زرقاء ويبدو كوبا ازرق مجاورا للشمعدان .. ثلاثية زرقاء تذكرنا بتعاسة شخوص بيكاسو فى المرحلة الزرقاء لكن تبدو العناصر فى رمزية اقرب الى الممارسات الطقوسية تتجاوز الواقع الطبيعى الى مافوق الواقع .. وهى تمثل واحده من اعماله السيريالية ..الا انه انتقل الى التجريد بقوة وعنفوان فى ثورة وانقلاب على كل ماله صلة بالحياة والطبيعة وعناصر الحياة ..متجها الى التجريد اللاشكلى او اللاموضوعى .
يقول الناقد محمد حمزة :` ان فؤاد كامل لايقتحم رؤياه الجديدة بخوف او وجل ..وانما كاى بطل تراجيدى ينزع من بين جنبيه قلب الرعب ويركب بدلا منه قلب سباح مخاطر لايدرى هل يصل الى الشاطىء حقا وماذا يجد على الشاطىء الجديد ؟ ..انها اعظم الدوامات التى `صادفت ` فؤاد كامل فى رحلته الهادئة.. لقد ترك الصنعة والحرفة على الشاطىء القديم واصبح عرافا يرى الصدفة هى اليقين الوحيد ..ولاشك ان التعبيرية التجريدية التى بدات تنمو داخله منذ الخمسينيات استخدم فيها اسلوبا واحدا وان اختلفت الوانها فقد فجر الوانه حتى بدت فى حركة دائبة على سطح القماش الابيض تاركا لوحة الحامل ساكبا عجائن الوانه على لوحاته المتراصة فوق ارضية مرسمه بكل عفوية فطرية ..مازجا معها رؤاه وفلسفته وكيانه ووجدانه `.
وهو بتجاوزه لقيم التصميم الواعى هنا يلتقى مع الاسلوب الاوتوماتى الذى يعد من اخصب اشكال التجريد بتعبير فؤاد كامل نفسه والذى يشخصه :هذا التجريد الذى نما وتطور من بعض اساليب السيريالية ومن اوائل من اتخذ هذا الاسلوب فى امريكا :ارشيل جوركى مع مجموعة من طليعة المصورين من بينهم جاكسون بولوك ووليم دى كوننج وروبرت مندرويل ..اخذوا يبذرون بذور الشك فى قيم القواعد واسس التصميم ..وهو يلخص هذا الفكر فى الاداء والمعنى بان اكثر الابحاث اثرا وفاعلية فى الفن الحديث فى امريكا `هى خليط من وصايا كاندنسكى فى روحية الاشكال المنطلقة ومن ترتيبات موندريان وتنظيماته الهندسية ومن كائنات السيرياليين الاسطورية ومن مسخ مخلوقات بيكاسو الخارجة على الطبيعة ثم من اشياء بوللوك اللولبية المذهلة `.
فى عام 1967 اقيم معرض فؤاد كامل بالجامعة الامريكية وفى المطبوعة المصاحبة للمعرض كتب يقول `اللامعنى خارجنا كما هو داخلنا ` ..على وحدى ان انطلق فى الظلام اتطلع الى الاشكال التى تستيقظ على وحدة نفسية كونية جديدة لاتحدها مقاييس العقل واطواق المنطق تزاوج الطاقة والحركة باختلاجات المادة الصماء ..التى تتخلص من الملاحظة الوصفية والمعرفة البصرية `. وهو يجد وصفا للوحاته مؤكدا نها تنبع من :` الخيال والاحلام الطليقة والتمرد والقلق المزمن !`
فى لوحاته التجريدية الاولى تالقت فيها الرماديات من تلك الانفجارات اللونية التى لاتحدها قيود او حدود ..انفجارات وبقع تمتد من اطراف اللوحة الى بؤرتها تسطع وتخبو وتتوقد لاترتكز على اى عناصر من الحياة المعاشة او الطبيعة ولكن فيها من بقايا الاشياء وروحها وتنتمى فى النهاية الى خلجات النفس والانفعالات الداخلية وصلتها بالخارج .
وعندما انتقل الى مرحلته الزرقاء نقلنا معه الى تلك الشفافية وهذا الانطلاق الى جيشان الشعور والشواطىء الليلية المبهمة والسحب الغامضة ..من خلال تلك التركيبات اللونية التى يتداخل فيها الاسود مع الازرق والكحلى والابيض ..التى لانعرف كيف جاءت ولا من اين اتت اشبه بالنوافير التى تتدفق بلانظام فى فضاءات لوحاته .
وكان توهج الاحمر فى عالمه اكتمالا لثلاثيته اللونية التى بدات بالرماديات والازرق ..وقد تربع متعانقا مع الاسود المشوب بالكحلى والابيض مجسدا كائنات غامضة وانفجارات لاتهدا وقد يبدو بهية دائرة بمثابة شمس معلقة فى الافق الاسود مع صيحة اللون القوسية والتى لاتنفصل عن روح الطبيعة رغم غيابها .
تاملات فى الفن
ويعد كتاب فؤاد كامل الصغير ` تاملات فى الفن ` على صغر حجمه ` من القطع الصغير لايتجاوز 120 ` بمثابة اشارات وعلامات مضيئة فى فلسفة الفن كتبه بروح فنان وفكر فيلسوف ولغة اديب مع كتابات ودراسات كثيرة له ..قدم فيه عصارة فكره وجاء بعمق شديد وهو فعلا تاملات عبر من خلاله عن القيم الجديدة فى دنيا الحداثة وقد تناول فيه موضوعات عديدة شديدة الحيوية عامة وخاصة فى الفن المصرى والفنون الغربية وكلها تمثل انعكاسا لشخصيته وفكره الفنى ..والكتاب بمقدمة مطولة مستفيضة ومهمه للناقد بدر الدين ابو غازى تضىء على فؤاد كامل وعالمه التشكيلى وفكره النظرى ..ومن بين فصوله :`اللامنتظم اللامحدود - هذا المجتمع وهذا الفن - الحقيقة والحلم - المذاهب الفنية - يجب ان يكون الفن فنا قبل كل شىء - الفن والمجهول ` كما تناول بعض الشخصيات الفنية المؤثرة فى تاريخ الفن من بينها ` مودليانى - - نولد - دى كيركو - موندريان - بيكاسو - وجاكسون بولوك ` ومن مصر :` محمود سعيد - رمسيس يونان - عفت ناجى `.
تحية الى فؤاد كامل وسلام عليه وقد رحل عن عالمنا عام 1973 ولم يتجاوز الرابعة والخمسين ..لكن بعد رحلة عريضة صاخبة بالفكر والفن .


صلاح بيصار
جريدة القاهرة بتاريخ 8-1-2019
التجريد- نحو المجهول
- ظهر الفنان `فؤاد كامل` (1919-1973) ضمن حركة `الفن المصرى الحديث` جريئاً، وهو يستخدم فى فنه أكثر التقنيات غرابة فى عالم الفن، عندما سكب الألوان على سطوح لوحاته، وحركها بعفوية ودون تخطيط مسبق، حتى سالت وانسابت، وتمازجت معها أحاسيسه وانفعالاته. أما حركة الألوان فى لوحة `تجريد` (1968) فإنها اتخذت شكل الدوامة، وعلى الرغم من نزوعها الواضح نحو اللاتشخيص والتجريد، فإنه بوسع المشاهد أن يستخلص من بين تجريداتها مشاعر كونية، حول مجابهة القلق الإنسانى بالتمرد الثائر. وكذلك يمكن إدراكها كتصور شكلى لحركة `التوالد` أو `التكاثر` أو `التصارع` على النحو الفلسفى للمعنى. ويتمثل تمرد الفنان فى تحديه لمبادىء الفن الأكاديمى، مثل هيمنة قواعد `المحاكاة` أو النظر إليها كشرط أساسى للفن. وقد تجاوز الفنان تلك القواعد، وهو يقتحم المناطق المجهولة والغامضة من عالم الفن، بطريقة منحته فرصة التوصل إلى حلول مدهشة، مثل رسم ما وراء المظاهر وتصوير الأفكار والانفعالات والعواطف بطريقة ملموسة، دون اللجوء إلى التشخيص، ودون التقيد بالحدود الزمانية والمكانية الواقعية، إذ أن المراد التعبير عنها كحقائق وجودية. وقد برهن الفنان على إمكانية تصوير أكثر الأفكار إنسانية من خلال الأشكال اللاتشخيصية.
- ومن منطلق التعامل مع الخطوط والألوان ككائنات حية تتنفس، فى حالة استخدام التشبيهات والاستعارات، يمكن وصف حركة اللون فى لوحات `فؤاد كامل` بالمتوترة أو بالمنفعلة أو السائبة. أما `العفوية` فى الرسم فتسمح للصدفة بأن تلعب دورها، كبديل عن التخطيط المسبق للعمل الفنى. وحينما تترسخ قناعة الفنان حول حقيقة أن كافة أشكال الحياة قد نشأت عشوائيا عن قوة باطنة هى النفس، حينئذ سوف تمثل الموجودات فى الواقع مثل الأشجار والجبال والأحجار `قوى كونية` لها تأثيرها على مسار تجربة الفن.
- وللفنان `فؤاد كامل` فهمه الخاص حول مسألة تحقيق فكرة `الأصالة` التى شغلت اهتمام معظم الفنانين المصريين فى العصر الحديث. وقد لخص فهمه فى التعمق أكثر فى `عالمه الذاتى`. ومن الممكن تطبيق أفكاره الجمالية لفهم مغزى لوحته بعنوان `تكوين` (1970) حيث البطل الرئيسى فيها هو `التجريب` الذى أصبح منهجاً وسبيلاً لتوسيع مجال الرؤية، ولإحداث مزيد من التنويع والطرافة والجدة. وقد ىتحول مفهوم `العمل الفنى` هكذا إلى مجال خصب للاكتشافات الجديدة فى عالم الجمال، وبخاصة وأن أصول الفن عديدة، مما يستوجب تجديد الرؤية وإنقاذها من العادة، لتصبح أكثر تشويقاً ، وليس بالعقل وحده يخوض `كامل ` تجاربه الفنية؛ لأن الفن عنده هو مجال للإحساس والتصور، وب`الخيال الحر` يدرك `الجمال` وليس بالمنطق. وعلى عكس الفكرة الشائعة عن أن غاية الفن هى `المحاكاة البصرية` للواقع، اتبع الفنان الفكرة المناقضة فى إنجاز لوحته، التى تجسد فكرة الفن المترسخة فى الذات وفى العالم الروحى والنفسى، ومصدرها `الحقيقة الشعورية`.
بقلم : د./ محسن عطية
من كتاب طليعة التجديد فى الفن المصرى الحديث(سلسلة ذاكرة الفنون عدد- مارس 2016)
مصور الصراع
- إن الحديث عن لوحات فؤاد كامل - أو أى فنان معاصر آخر - يستلزم تفسير معنى الإتجاهات الجديدة فى الفن التشكيلى. قد يتصور البعض أن المسألة لا تعدو إخفاء معالم الشكل السطحى للأشياء فى سبيل جوهر الحقيقة. لكن.. حتى هذا التصور .. يرتكز على تقاليد قديمة ترجع إلى باكورة القرن العشرين، حين أوضح سيزان حقيقة العلاقة بين الفنان والواقع المرئى من حوله. فالموقف السلبى فى الماضى أصبح موقفا جدليا يتضمن التعامل مع الطبيعة والبيئة المحيطة. وأكد ماتيس هذا المعنى سنة 1908 بقوله إن التعبير لا يكمن فى ملامح الوجوه وحركات الأجسام، بل فى التنظيم العام للصورة. ثم كان القضاء على مفهوم القيم الجمالية التقليدية، على يد الداديين سنة 1916 حين أعلنو `أن الفن قد مات`. وقصدوا بذلك أن القرن العشرين قد أقبل بمفاهيم جمالية جديدة تختلف كيفيا عما كان قائما. وانبرى السريالى ماكس أرنست يستلهم الأحلام والخيالات.. وجنح دى بوفيه إلى القصص والأساطير.. وأكد بول كلى أن الفنان والطبيعة مثلهما مثل الشجرة والأرض، يمتصها ويحولها إلى أشياء جديدة. حتى الأوانى والزهور تحولت فى لوحات ميرو إلى ما يشبه الكتابات الهيروغليفية..
- حقيقة إن العصر الذى آمن فيه الإنسان بالتقدم البطئ البسيط.. قد انتهى.لم تعد الأشكال السطحية تقنع الفنان. ولم يعد التشكيل عملية ميكانيكية. بل أصبح يعكس حالة الفنان فى ظروف معينة، مرتبطا بتاريخه وتاريخ الإنسانية كلها. فالفنان الآن يعيش من خلال تقاليد العطاء والبحث والأحتواء وتجديد النفس بأفكار وأهداف جديدة تتخطى كل ما هو قديم، فالجديد يتقادم سريعا ويتحول إلى أكاديمية لا يتبعها إلا كل هارب من الواقع أو المجتمع أو المناخ أو الزمن.
- خلال النصف الأول من القرن، تمكن الفنانون من التسلل بعيدا عن قبضة الطبيعة السطحية.. وعملوا على تعديلها وتغييرها فى لوحاتهم من زوايا مختلفة ورؤى متنوعة، حتى ظهر التجريد لينكرها تماما أو يكاد. لكنه فى واقع الأمر كان يرتمى فى أعماق الحقيقة أكثر من أى وقت مضى. فقد انطلق يصور وجهة نظر العصر، الفضاء.. المادة.. الطاقة.. وما يقترن بكل هذه المدركات من شعور وإحساس وأبعاد العقل والشعور، وما يلابسها من إرتقاء المقاييس وتداخل السنوات والأيام والساعات. فالفن جزء متكامل من التاريخ مرتبط بالحضارة لا يستطيع أن يحيد عنها هبوطا أو صعودا، فالتصوير التشكيلى - كان وسيبقى - هو الأسلوب الرفيع للتعبير، طالما أن الإنسان يحس بالحاجة إلى الاتصال بالآخرين بوسيلة أخرى غير الكلمات. وطالما استمر الجنس البشرى وتجدد. يحتفظ التصوير التشكيلى بهذه المكانة عن طريق خيال الفنان وكفاءته الفردية وقدرته على أستيعاب العالم.. والحياة..
- إن فنون النصف الثانى من القرن العشرين ليست مناهضة لفنون النصف الأول.. أو لفنون ما قبله بآلاف السنين.إنها ليست سوى تطور تلك الفنون ونموها وتفاعلها وثرائها وإزدهارها..
- من هذه الزاوية، نستطيع أن نتأمل لوحات فؤاد كامل وعوالمه وتهاويمه وصراعاته. نستطيع أن ننصت إلى همسات أشكاله التى تغمرنا بطائف من الأحاسيس بعيدا عن سطحية أشكال الطبيعة، لكن قريبا من جوهرها وحقيقتها، `بعيدا عن مقاييس العقل وأطواق المنطق` الذى اعتدنا عليه وتعلمناه فى بيئتنا التقليدية، لأن لوحاته ليست سوى `تزاوج الطاقة والحركة واختلاجات المادة الصماء`.. خارجة عن نطاق الملاحظة الوصفية والمعرفة البصرية.
- يحاول فؤاد فى بعض كتاباته أن يقرب الأمر الى عيوننا فيقول `إن صورى بعض ملامح تلك القبة اللازوردية التى لا تنتهى، أو تلك الأرض السوداء التى تدور عليها الكائنات`. إلا أنه يقترب تماما من وصف لوحاته حين يؤكد أنها تنبع من `الخيال والأحلام الطليقة والتمرد والقلق المزمن` ففى هذا التعبير اللفظى تكمن عصرية أفكار فؤاد كامل، فهو يعبر بلوحاته عن فزع الإنسان المعاصر حين واجه الكون الشاسع ووضع قدميه على صخور القمر فلم يزدد الا جهلا وضآلة وضعفا إزاء مصيره الحتمى الذى لا يجد منه مفرا..
- لوحات فؤاد كامل حقيقة تاريخية أخرى موازية لحقيقة الأزمة النفسية التى تجتاح الإنسان وهو على عتبة الكرة الأرضية، يستعد للانطلاق منها نحو كواكب يستغرق الوصول اليها آلاف السنين.. نحو المجهول. فهكذا يقف الفنان على عتبة مرسمه وأمام لوحته التى لم يبدأها بعد. يقف بين الصمت والتوقع والرهبة. يحيطه صراع مع نفسه ومع الطبيعة ومع الخامات والألوان والأدوات والموضوع، ففى صدره كلمة يريد أن يقولها ولا يعرف كيف، لكنه لا يستطيع أن يقف أمام رغبته العارمة فى أن يكشف للناس هنا وفى العالم.. فى الحاضر والمستقبل. عن ماهية `الصراع بين ذاته الحرة والعالم الخارجى`. يريد أن يكشف عن ذلك بلغة لا تصلح لها أى كلمات عرفها الإنسان من قبل، إنها لغة الشكل إذن.. واللون.. والملمس.. اللغة التى عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، فيبدأ فى نسيج لوحاته من أبجديات هذه اللغة الخالدة.. كأنما ينسج النفس الإنسانية ذاتها..والأفلاك والنجوم بعينها.. وتفجر الحياة فى قشرة الأرض وفى أكوان بعيدة لم تشاهدها عين ولم تسمع بها آذن..
- الخامات والأدوات التى يستخدمها الفنان جديدة بدورها، فالشكل الجديد لا تصلح له أدوات وخامات تقلييدية.إنما هى أنواع من السكاكين والفراجين والأمشاط والعجلات والملاعق والأوانى والعلب والزجاجات والمناضد وأوراق الصحف والصناديق، لقد اختفى من مرسم فؤاد كامل الشكل الفخم للمراسم التقليدية، اختفى المقعد الوثير.. و` الموديل` الفاتنة.. والستائر المخملية.. والإضاءات المحسوبة.. و`الباليته` البيضاوية النظيفة تنتطمها ألوان الزيت متدرجة من الأبيض والأصفر حتى الأزرق الداكن والأسود، إنه مرسم من نوع جديد، ورشة، معمل، مكان للخلق.. ترتمى فيه اللوحة على الأرض فوق أوراق الصحف مستسلمة للفنان الخالق، قد يضعها على الحامل أحيانا ليلمسها بخط هنا أو بقعة هناك، ثم يعود يلقيها ليسكب عليها لونا يعنى بضحالته أو سمكه فى أماكن خاصة، فلا تلبث ألوان `الاكريليك` أن تتجمد سريعا وتتشقق كالأرض البور فتتفتق عن الهدف الذى يبحث عنه، ورويدا رويدا.. تتحول اللوحة إلى كائن قائم بذاته، فهى ليست تجسيدا لخطة معدة أو تصميم سابق، إنها تنضج وتنمو مع الفنان حتى تحقق حلمه وخياله كأنها `جالاتيا` تتحرك بين ذراعى `بيجماليون` بطل الأسطورة الاغريقية، إنها تتحول إلى مزيج غريب من السحب والأمواج وألسنة اللهب، قد تستغرق عملية الإبداع والخلق أسبوعا أوأسبوعين يمتزج خلالها فؤاد بألوانه وأدواته وأفكاره وإنفعالاته فى وحدة متكاملة تسفر عن عطاء سريع أحيانا.. وبطئ متعثر أحيانا أخرى، فهى دوامة ميلاد الكائن الجديد الذى نسميه `صورة` فيما بعد، وقد يفشل الفنان بعد كل هذا العناء ويكتشف أن `جالاتيا` خائنة لم تتقمص روحه وفكره.. فيعيد الكرة بعد الكرة حتى تتفجر الحياة فى تكويناته التجريدية، فتدور حول بعضها البعض الآخر فى تكوينات مغلقة كالأزهار قبل التفتح، أو تنبسط وتتناثر عناصرها كالثمرة التى بلغت قمة نضجها، أشكال من الأسود والأبيض تتسلل إليها مساحات زرقاء أو حمراء أو صفراء.. أو هذه الألوان جميعا.
- منذ عام 1958 بدأ فؤاد رحلته مع التكوين التجريدى واللون.. مع اللغة الأدبية التى يفهمها كل البشر.. لغة الفن التشكيلى، أبجدياتها معروفة لكن كلماتها مبتكرة يبدعها فنان أصيل على هواه، فكما استخدم جيمس جويس نفس الأبجدية الإنجليزية فى صياغة كلمات لم تخطر إلا بباله فقط، استخدم فؤاد كامل نفس الألوان والخطوط والأشكال التى استخدمها الإنسان منذ البداية.. لكن ليشكل منها مضامين وتكوينات ججديدة لم تخطر إلا بباله. إن الطلاقة التى يتمتع بها تتيح له أن يبدع عشرات اللوحات دون أن تتشابه منها اثنتان، البعض يغمرنا بغلالة من الحزن والاكتئاب والبعض الآخر يلفنا بطائف من البهجة والمرح لكنها جميعا تخاطب فينا شيئا آخر غير العقل والمنطق والمعرفة التقليدية..
- بدأ فؤاد حياته فى 28 أبريل 1919 فى مدينة بنى سويف بالصعيد، وقبل أن يبلغ العشرين بدأ حياته الفنية باتجاه جارف نحو السريالية والأسلوب الرمزى، ومع إندفاعه إلى القراءة المعرفية الواسعة، شارك فى المعارض الجماعية المعترضة على الأساليب التقليدية، مبتدئا بمعارض `الفن الحر` التى أسهم فيها رمسيس يونان ومحمود سعيد وأبو خليل لطفى وراتب صديق، وهى المعارض التى استهدفت تحطيم الأسوار الأكاديمية والأنطلاق نحو اللامحدود، استمرت النزعة السريالية مع فؤاد حتى المعرض الجماعى للرسم الأوتوماتيكى سنة 1947 ذى النزعة التجريدية، لكنه سرعان ما ارتد إلى التشخيصية السريالية حتى معرض `كولتورا` عام 1958 حيث بدأ الرحلة مع التجريد.. وبدأت المعارض الفردية المستمرة، كلما تقدم به العمر.. تقدم بها عمقا ونضجا وثراء، فالتجريد عنده ليس تكراراً على وتيرة واحدة، أنه تعميق وتفاصيل ورؤى، فالمعرفة.. والخامة.. والأداة.. والمهارة.. وزاوية الإدراك.. وجسم فؤاد نفسه، كلها تتضافر لتحدد مسار لوحاته، وهو مسار متشعب نام متغير لا يقف إلا بوقوف الحياة ذاتها. بعد سنوات من تشكيلات الأبيض والأسود تسلل اللون الأزرق إلى تكويناته ذات الملامس الموزعة بحكمة فطرية: ملامس الكهوف..أو ملامس التشققات الأرضية المتفتقة عن عصر جديد، ثم وجد اللون الأحمر مكانه فازدادت التشكيلات درامية وقسوة واتخذت قوة المنطق، ثم توالى الأصفر والأخضر، وبقدر ما لهذه الألوان الصريحة من طاقة زخرفية بقدر ما ابتعدت عن سطحية المضمون وتوغلت فى تهاويل الكون وعظمته وخلوده، إن لوحات فؤاد كامل صرحية الطابع.. تشع أيحاءات القوة والجلال والرهبة..
- هل تصوير فؤاد كامل مقطوعات موسيقية؟.. كلا إنها مقطوعات تشكيلية، إننا حين نصف الجمال بالشاعرية ننسبه للشعر، لكننا هنا نواجه جمالا ليس كمثله جمال آخر، شأنه شأن الشعر والموسيقى وأى فن آخر.
- كان فؤاد كامل يهوى الموسيقى فى طفولته وكم تدرب على عزف الكمان، إنه توقف عن العزف الآن وبقيت الموسيقى ضرورة يومية لحياته كالطعام والشراب، فهو شغوف بالاستماع إلى الحديث القديم منها على السواء، كما يهوى قراءاة الشعر والأدب والفلسفة وعلم النفس وعلم الأجناس.. ومكتبته عامرة بطرائف المعرفة ومراجعها، كما يهوى التجديد لذاته.. فلا تفوته رواية فى السينما التجريدية أو المسرح الحديث إلا واستمتع بمشاهدتها. نشط دائما رغم أنه عاد من باريس عام 1971 بصمامين جديدين من صمامات قلبة الأربعة. يعيش ليبدع فنا، ساعده على تحقيق هدف حياته أن وزارة الثقافة منحته فرصة التفرغ الكامل بعد أن أثبتت عشرات المعارض الداخلية والخارجية، والجوائز العديدة التى فاز بها.. أن تفرغه للإبداع الفنى أثمن من أن يشغل وقته بأى عمل آخر.
- وكما يتخطى فؤاد كامل عالم المرئيات إلى عالم التجريد، يتخطى بلوحاته حدود العالم الفسيح: سوريا. فرنسا. أمريكا. البرازيل. إيطاليا. الهند. بريطانيا. ألمانيا. بلجيكا.. فى معارض فردية أو جماعية أو مقتنيات متحفية أو خاصة.
- هكذا تشارك لوحات فؤاد كامل فى تيار الكشف عن القيم الفنية الجديدة فى الربع الأخير من القرن العشرين..
بقلم : مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير- الجزء الثانى )

- كانت السمة السائدة لعطاء ورسالة فؤاد كامل هي الحصافة والفطنة الواقع ، أن هذا الفنان الأمين الذي ظلّ يتأمل فنه منذ قرابة عشرين عاماً لم يجلب لا إلى لوحاته ولا إلي رسومه ، أمارة مخفقة 0 إنه حالة جد نادرة وتستحق أن يشار إليها ، وبالأخص عندما تتعلق بذهن فضولي ، قلق ، وعلي الدوام في طليعة حركات الفكر أو الفن عندنا 0 الذي لا يحبه فؤاد كامل هو المغامرة كمجال لحرية يساء فهمها ، ولكنه يحبسها كمؤشر أمان للرد علي أكثر تساؤلات وجودنا إلحاحاً 0 ولعل البعض سيكف لذلك عن فهمه ؛ ولكن ذلك لن يحبط همته عن أن يشق طريقه ، عبر ما يدق عن الوصف ، موقناً بأن إدراك الحقيقة ينتمي إلي ما ليس له حدود . وبالإضافة إلي ذلك ، فإن ثمة توازناً كبيراً ينتظم كل مسلمات مشكلته الداخلية : ألا وهي إسهامه هو نفسه في التوازن الحواسي الذي يوحد بين الكائنات الحية في نظرة تساؤل إلي حياة الأشكال ، والألوان ، والأنغام اللانهائية لدقائق الفوارق الروحية من السيريالية ، ثم التعبيرية التي مارسهما في بداياته ، إلي الفن اللاتشخيصي في مرحلته الحالية ، ليس ثمة انفصام ، بل هناك تواصل .من المؤكد أن الخطوط قد اتخذت لغة جديدة، بينما علي العكس احتفظ بالتكوين ، وقام توازن عضوي في اللوحة ، أما عن الفكر ، فيجب الاعتراف بأنه تحرر من معوقات الشكلانية كي يختط طريقه في المجال البكر لشاعرية الألوان.
- سوف يكون من السهل أن نمضي إلي تنمية فكرة محورية كثرت مرات الإفصاح عنها، للرابطة بين الشعر واللون لكن هذا ليس موضوعنا ، ولنضع في الحسبان فحسب كمال الرؤية ، وتوجهها إلي حد كبير نحو أسرار الضوء والظل والحقيقة ، وإيماء التفاصيل بدورها إلي المنحني الفكرى غير المحدود ، لقلب في مواجهة التنوع اللانهائي للأغاني المضمرة 0 وتنطوي الألوان ونمنماتها ، علي رصيد بتعاويذ تلك الليالي الباردة ، الرطيبة ، بل والمفعمة بتهاويم الروح أيضاً ، كما يبين النهار في بعض الأحيان بقسوة حقيقته وصرامتها 0 وليست كلمة الهروب هي المناسبة للاستخدام في موقف مثل هذا ، بل كلمة التحرر ، وإن لم يكن فؤاد كامل بدفوف النقد ضارباً ، فإن تزوده بأسلحة الحقيقة ، قاد مواطنيه نحو التجريد.
بقلم: إيميه آزار
من كتاب التصوير الحديث فى مصر
الوجه الثقافى الغائب للفتى البصير
- يشاء القدر أن يُطابق أسمُه اسم سميه الكاتب المترجم النابه ` فؤاد كامل عبد العزيز` (1928ــ 1995). والذى اشتهر هو أيضًا فى الحقل الفلسفى بـ` فؤاد كامل`، والذى رأس ` البرنامج الثانى` فى الإذاعه المصرية فى فترة ازدهاره الذهبية .
- ويشاء القدر كذلك ألا تقتصر هذه المطابقة الاسمية على مجرد التماثل فى اسم الشهرة بين الاثنين؛ اذ تعدُتها الى مماثلة اخرى، أبعد غوراً واثراً فى تطوره الابداعى؛ ذاك أن الفنان `فؤاد كامل ` (1919ــ 1973)، أحد أقطاب جماعة `الفن والحرية`، وأحد عرابى الاتجاه التجريدى فى مصر. كان بدورة ذا نزعة فلسفية.غير أنها أفضحت عن نفسها بصرياً، فى مختلف مراحل تطوره الفنى. التى توجت بالمرحلة الاشهر حين ترك العنان لفيض وجدانه كى يندفق على أديم مسطحاته التصويرية وفق مذهب التجريدية التعبيرية Abstract expressionism.
- بدأ انقداحُ شرارة الوعى البصرى قبل ما يزيد على عقد من انضمام` فؤاد كامل` لمؤسسى جماعة ` الفن والحرية` إذ تفتحت بصيرته الفنية على نحو ممنهج وهو لما يزل بعد طالبًا فى `المدرسة السعيدية` الثانوية جراء تشرُبة مبادئ تربوية لم تكن مألوفة آنذاك . وكانت تحمل فى طواياها بذورا للتمرُد الطليعى على الشائع من اتجاهات الطليعية. ففى تلك الأونة كان بعض معلمى الفن المتخصصين ممَن ابتُعثوا إلى الخارج واطلعوا على اتجاهات الفن ونظريات التربية الفنية المحدثة وقتها قادرين على تطبيق زمرة من النظريات التربوية التى لقنوها فى الغرب على أساليب تعليم الفنون التشكيلية فى المدارس، وبخاصة فن الرسم. وكان من أبرز هؤلاء؛ ` يوسف العفيفى` و`حبيب جورجى` و`حسين يوسف أمين`. وقد عمل `العفيفى` مدرساً للرسم فى ` المدرسة السعيدية` وكان من طلابه `فؤاد كامل` و` كامل التلمسانى`. اللذان سرعان ما سيغدوان من أبرز نجوم ` الفن والحرية`.
- تأثر` فؤاد كامل ` بأستاذه ` العفيفى`، الذى فتح عيونه على معين فياض للإلهام الفنى الخارج عن المألوف من السياقات الأسلوبية فى مصر وقتها، وهو الفنون البدائية، فكان حريًا بهذا الموهوب اليافع أن تعتمل فى وجدانه دوافع الطموح إلى مُغايرة السائد، وأن يتسع أفقه بما يجاوز الشائع بين أقرانه من دارسى الفن، قبل أن يكمل دراسته الأكاديمية فى ` المدرسة العليا للفنون الجميلة `, ثم فى ` المعهد العالى للتربية الفنية`.
- وكما كان الشأن مع زميله العتيد `رمسيس يونان`، فقد كان على `فؤاد كامل` أن يعمل لفترة لم تظل مدرسًا للرسم فى بعض المدارس الحكومية، قبل أن يتفرغ لمشروعه الإبداعى تفرغُا تامًا.
- ثم كان أن انضَمٌ إلى فنانى `جماعة الفنانين الشرقين الجدد` عام1937، وكان أصغر أعضائها، حيث توثقت علاقته بـ `كامل التلمسانى` فى إبٌان تلك الفترة. وكانت هذه الجماعة قدت تأسست قبل `جماعة الفن والحرية`، وحرص مؤسسوهاعلى صياغة هويًة ابداعية، تستهدى القيم الفلسفية الكامنة فى فنون الشرق، وفى الفن الشعبى، طموحًا للوصول إلى صيغه فنية حديثة لا تُغفلُ طفرات المؤثرات الفنية الغربية.
- وفى تقديرى أن هذه المنطلقات التأسيسية الأولى، التى التحم `فؤاد كامل` بمقتضاها بينابيع الفنون البدائية، والشرقية، والشعبية، والتى تعرف بفضلها كذلك على طفرات الفن الغربى آنئذِ، هى التى يمكن أن تكشف لنا عن سر تلك النبرة الكونية، التى صدح بها قبل ست سنواتِ من رحيله، فى نَصَ بديع ضمن كُتْيب معرض، ضم مجموعة من أعماله التى تمثل زروة إقتحامة عالم التجريد . كان هذا المعرض قد افتتح فى أبريل من عام 1967, بعد مُضىَ ثلاثة عقود على تقبله بين ` الشرقيين الجدد` و`الفن والحرية`. وإذا بــ `فؤاد كامل` يُدبًج فى الكتيب المشار إليه ذلك النَصَ الكاشف، الذى يومى من خلاله إلى انتسابه لأسلاف قدامى، واسترفاده لمخزون إبداعىَ قديم، قائلاً ما نصُه :` علىّ وحدى أن أنطلق فى الظلام، أتطلع إلى الأشكال التى تستيقظ على وحدة نفسية كونية جديدة، لا تحدُها مقاييس العقل وأطواق المنطق، تزاوجَ الطاقة والحركة باختلاجات المادة الصماء التى تتخلص من الملاحظة الوصفية والمعرفة البصرية `.
- `أجل إن صورى بعض ملامح تلك القبة اللازوردية التى لا تنتهى، أو تلك الأرض السوداء التى تدور عليها الكائنات ولا تكف عن الدوران، ومن الخيال والأحلام الطليقة والتمرد والقلق المزمن والأشواق الغامضة المتأججة، أحتفظ لنفسى بحقى فى اختيار ما أشاء منها مادة لفنى، لتؤلف جزءًا من مخزون قديم جداً، مما ورثته عن الأسلاف، عن الفضاء المحدود، عن الحس الكونى كله`.
- إن أهمية هذا النص لتتعدَى محض الكشف عن اختمار المبادىء التربوية والفنية التى تلقاها `فؤاد كامل`فى صدر شبابه وازدهار نتاج بذورها فى مرحلتة الفنية الأشهر، بعد عقود من تفتح بذرتها واستواء طرحها على عودة، بالتجريب، والمران، والأطلاع المستمر. أقول: تتعدى أهمية هذا النص المتأخر، زمنا، كل هذا إلى أمرين أراهما لا يقلان أهمية لاسيًما وأن أحد لم يلتفت إليهما، على كثرة الأقلام التى تناولت إبداع ` فؤاد كامل` بالتاريخ والنقد والتحليل.
- أما أول هذين الأمرين فهو تأكيد رسوخ قدم `فؤاد كامل`فى ميدان الكتابة بإسلوب ظلىً يحمل من مقومات السبك ونضارة اللفظ ما يؤكد تمكنة من العربية تمكناً يضارع كثرة من مشاهير الكتاب فى زمنه.
- وتتمثل أهمية هذا الأمر فى كونة كفيلاً بتصويب مغالطة، طالما تبنَاها كثرة من نقاد الفن المصرى ومؤرخيه، ممن كانوا يذهبون دوماً إلى الجزم بأولوية المرجعية الثقافية الغربية لدى أقطاب جماعة `الفن والحرية` وتعميم هذا الجزم على جميع أعضاء تلك الجماعة، دون الأخذ فى الإعتبار بالفوارق الفردية والتكوينية بين كل منهم.
- وأحسبَ أن هذه المغالطة قد نجمت بالأساس عن التركيز على شخصية عرّاب الجماعة، الشاعر`جورج حنين`، الذى غلبت شهرة تكوينه الفرانكوفونى على الصورة الذهنية الشائعة عن شخصيته برغم جذوره المصرية، وبرغم كتاباته العربية التى بث بعضها فى مجالات على غرار `المجلة الجديدة`، والتطور كما أحسبُ أن تلك المغالطة ذاتها قد عززها إنضمامَ عدد من الفنانين الأجانب، على فترات متعاقبة، إلى الفاعليات التى كانت تتبناها جماعة ` الفن والحرية ` فضلاً عن العلاقات الوثيقة التى ربطت بين أعضاءالجماعة وطائفة من الكتاب والفنانين والمثقفين الأجانب؛ مما أدخل فى روع بعض الأقلام غير المدققة أن فنانى الجماعة كانوا كلهم منبتى الصلة بالثقافة العربية، أو من غير المتحمسين لها على أقل تقدير، وهى رؤية غير منصفة، فضلاًعما تفتقر إليه من المصداقية التاريخية. فإن أقل مراجعة لمقالات`رمسيس يونان`ولترجماته ولكتابات`أنور كامل`، ولأسلوب` كامل التلمسانى` الفيًاض بالألمعية وخفة الظل، لتؤكد بما لا يدع مجالًا لشك أن أقطاب` الفن والحرية` كانوا على بصيرة من أمرهم فى ميدان التعبير بعربية سليمة تتسم لدى كل منهم بسمة تنبئَ عن طابع شخصيته وعن تكوينه الثقافى وانحيازاته الفكرية على نحو جلىُ.
- أما الأمر الأخر، والذى يفوق سابقه أهمية فهو أن هذا النص ينبهنا لوجوب مراجعة النتاج النصَ لـ`فؤاد كامل` ! إذ هو نتاجَ لم يحظ بما حظى به نتاجُه البصرى من تناوَلَ جاد على مستوى التحليل والنقد.
- إن مراجعة هذا النتاج تكشف عن أن `فؤاد كامل` كان كاتباً مُكثرا، وأن كتاباته تمتد عبر سنوات طوال، توهج أسلوبه وتطور خلالها، ليصل مستوى رائق من الإشراق خلال عقد الستينيات من القرن الماضى، مُزامناً فى ذلك لأوج توهُج تجربته التجريدية الناضجة.
- وبرغم عشرات النصوص المهمة التى كتبها `فؤاد كامل`، التى تنوعت بين متابعات المعارض، والمقالات النقدية، والتأملية، وتلك التى قدم فيها لمراحل واتجاهات من تاريخ الفن العالمى، فضلاً عن مقالات الرأى فى الشأن الثقافى، برغم كل هذه النصوص المتميزة، مضموناً وأسلوباً، لم يعن أحد بتناولها على النحو الذى يمكن أن يستوفيها تحليلاً ودرساً، بما يُفضى إلى إستخلاص كوامن الفرادة فيها فكراً وصياغة.
- المحاولة الوحيدة التى هدفت إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نتاج `فؤاد كامل` النصَ تمثلت فى ذلك الجهد المحمود الذى اضطلع به الناقد المؤرخ الدكتور` بدر الدين أبو غازى`؛ حين تعاون مع أرملة` فؤاد كامل` على تجميع كتاباته ونشرها، وهو تعاونَ أفضى إلى جمع 22نصُا مما تيسر جمعه آنذاك من تلك الكتابات، التى كانت قد نشرت مُنجمة على إمتداد سنوات، فى الصحف والمجلات ونشرات المعارض، وقد أعيد نشر الأثنين وعشرون نصَا المشار إليها فى كتاب قُدم له `أبوغازى` بمقدمة رصينة، وصدر الكتاب عن `دار المعارف`عام1992 تحت عنوان` تأملات فى الفن`.
- كما صدرت طبعة جديدة من الكتاب مؤخراً عن دار`المرايا` تشمل على عشرة مقالات غير منشورة لـ`فؤاد كامل` وهى مقالات لم تتضمنها الطبعة السابقة.
- وعلى الرغم أن هذا الكتاب بطبيعته الأولى والجديدة المزيدة ــ لا يشمل كل إنتاج `فؤاد كامل` النصّى، الذى مازالت الصدفة تكشف عما كان مجهولاً منه تباعَا، فيما يظهر من آن لآخر من بقايا الطبعات القديمة للصحف والمجلات، وما كانت تطويه بعض المجموعات الأرشيفية الخاصة والرسمية، فإن إعمال التأمُل المنصف فيما بقى لدينا من هذه الكتابات، ليَثبتَ أننا بإزاء كاتب من طراز خالص، ذى نفس أسلوبَى يؤكد إمتلاكه ناصية اللغة على النحو الذى يمكنه من الضرب قصياً فى فيافى الأفكار ببصيرة مستنيرة، يُسعفها أسلوبَ رائقَ واضح العبارة.
- ثم إن هذا النتاج، المتنوع فى كثرة، ليضَعَنا، من ثمّ، أمام سؤال جدير بمحاولة الإجابة عليه : ترى، لماذا لم يقيض لـ`فؤاد كامل` أن يُسلك فى عداد الفن المصرى؟على كثرة ماكتب من تأملات، وتحليلات، ومراجعات فى هذا السياق؟ ولماذا لم ينظر إليه بنفس المنظار الذى قيست به إسهامات زميله الفذ `رمسيس يونان`؟
- فى إعتقادى أن مدخلا من مداخل الإجابة عن هذا السؤال إنما يتمثل، بالدرجة الأولى، فى إختلاف طبيعة شخصية أحدهما عن الأخر، وكذا فى وقائع حياة كل منهما، بما أفضى إلى دفع إنتاج `يونان` النصّى إلى بؤرة الضوء بأكثر مما جرى لكتابات `فؤاد كامل ` التى لا يزال يُغشَيها ظلً عدم الإقبال البحثى والإعلامى على سبر مكنونها .
- فمما لا يخفى على دارسى تاريخ جماعة `الفن والحرية` أن ما ارتبط بشخصية `يونان` من سمات مزاجية وفكرية، وما عاشه من تقلبات حياتية، وصعاب ومكابدات معيشية، ارتبط جزءً كبيرً منها بمسيرته السياسية وقناعاته الفكرية التى طالما شغلت الرأى العام، كان لها جميعًا أثرً فاعَل فى تكريسه كمثال للمثقف الثورى الذى يصلح اتخاذه نموذجاً درامياً ذا سيرة حياتيه جاذبة .
- فى المقابل، كان `فؤاد كامل`ــ على رغم ثوريته الطليعية، فكرًا وفنا ًــ ذا تكوين شخصىُ أقرب ما يكون إلى نموذج المبدع المتأمل، العاكف على تجربته عكوفاً يشغله عن الالتحام الصاخب بتقلبات الشأن العام؛ وهو ما يُتح له ما أتيح لـ`يونان`من أن ترتبط كتاباته من آن لآخر بقضايا تستقطب اهتمام القاعدة العريضة من قراء الصحف والمجلات آنذاك، فضلاً عن أنه لم يتخذ من الكتابة مهنة يعتمد عليها فى اكتساب رزقه، ولم يتفرغ لها، كما كان حال `يونان `؛ الذى اضطرته منعطفات حياته إلى احتراف التحرير، والترجمة، والكتابة، لتعويض ما فوته عليه حراكة السياسى من رواج فى تسويق أعماله، ومعاناته فى الحفاظ على منحة التفرغ التى كان يواجه عند التقدم إليها بعراقيل ناجمة عن اختلاف القائمين عليها معه فى التوجه الفكرى .
- كذلك فقد كانت أولويُة التجربة الفنية على سُلُم اهتماماته عاصمَا لـ`فؤاد كامل` دون استهلاك قلمه فى اللهاث خلف متابعات المعارض ـــ على رصانة ما قدمه فى هذا السياق ـــ ودون اقتطاع القسط الأوفى من وقته فى الكتابة، كما كان شأن مُجايليه من النقاد، سواءً من جمعوا بين الإبداع الفنى والأشتغال النقدى ـــ كما كان شأن `حسين بيكار`ــ أو من هجروا إنتاجهم الفنى لصالح النقدى، كما كان شأن `كمال الملاخ`، و`صبحى الشارونى`، على سبيل المثال لا الحصر.
- وبصرف النظر عن الاعتبارات التى سُقتها تؤا، والتى تمثل رؤيتى لبعض أسباب عدم إدراج اسم `فؤاد كامل` ضمن من شغلوا بؤرة الضوء فى الإشتغال النقدى الفنى بمصر من مُجايليه، فإن إنتاجه فى هذا السياق يلفتنا إلى مزيًةِ لم يُلتفت إليها الالتفات الكافى من قبل من أرُخوا لإبداعه أو حللًوا تكوينه الفكرى/الفنى. تلك المزيَة تتمثل فى وجه ثقافىُ غائب لـ `فؤاد كامل` لم يُتفرْس بعدُ فى قسَماته علىِ النحو الذى يُجلًى معالمها على نحو تام . تتضح بعض قسمات هذا الوجه الثقافى مبكرًا؛ حين تصدعت `جماعة الفن والحرية`، لتظهر فى أعقابها جماعة لم تُقيًض لها شهرةُ مماثلة لسالفتها، وهى جماعة `جانح الرمال`، التى تكونت من بعض فنانى `الفن والحرية` وقد أقام فنانو `جانح الرمال` معرضاً فى عام 1947، تحت اسم `معرض الأعمال الأوتوماتية` كرَسوه لتطبيق ذلك المفهوم الذى بشر به من قبل عرًاب السريالية الشاعر الفرنسى `أندرية بريتون`، والذى استقطب سابقاً اهتمام عدد من مشاهير السرياليين. وهنا كان نصيب `فؤاد كامل` كبيراً، لا فى الإسهام الفنى لتوطيد دعائم هذه الجماعة فحسب، بل وبمواكبة نشاطاتها وحراكها بسلسلة من الكتابات التى كشفت عن حماسه التجريبى الطليعى المتوفُر .
- وعلى امتداد العقدين التاليين، حتى رحيله عام 1973، ظلت كتابات `فؤاد كامل` المنسيُة تتأجًجَ بشغف تنويرىُ، يستبطنُ فى أعماقه رسالة ثقافية، لم تنفصم فى رؤيتها العامة للحياة وللمجتمع عن قناعات صاحبها الإبدعية، ولاعما كان يوالى استكشافه وطرحه فى كل مرحلة من مراحل تطوره الفنى.
- وبرغم أننى لست هنا فى معرض تحليل كتابات `فؤاد كامل` ـــ إذ هى مهمة تستلزم جهداً بحثياً مستقلاً كما أسلفت، وهو ما يخرج عن نطاق هذا المقال ـــ فيكفى أن أسوق مثالاً واحداً، يكشف بجلاءِ عن هذا الوجه الثقافى الغائب، ويكشف فى الأن نفسه عن حس المسؤولية الإجتماعية التى كان `فؤاد كامل` يحمل همَها بإعتباره مبدعَا يتشوُف إلى نشر رسالة التنوير.
- ففى مقال له بعنوان `الثقافة الفنية`، يكشف `فؤاد كامل` عن هذا الوجه الغائب، الذى يتناقض تماماً مع ذاك الذى دأبت كثرة من مؤرخى الفن ونقاده على رسم صورة مُتوهَمة له، يظهر فيها `فؤاد كامل` وبقية صحبة من أقطاب `الفن والحرية`، كما لو كانوا زمرة من المثقفين المتأنقين المنعزلين فى أبراج عاجية عن زخم المجتمع وهمومه وتطلعاته، فإذا بهذا المفال يوضح خطأ تلك الصورة ؛ مبيناً كيف كان التواصُل مع المجتمع، والرغبة فى تنويره، وتلمًس احتياجاته الثقافية، أهدافاً كبرى على رأس أولويات `فؤاد كامل` وصحبه.
- يعبر `فؤاد كامل` عما سلف خير تعبير فى مستهل هذا المقال قائلاً: `ليس بخاف أن الثقافة الفنية ـــ وربما فى ميدان الفنون التشكيلية بخاصة ــ هى إحدى الميادين التى نعانى فيها تخلفاً معيباً. ولا يقتصر هذا التخلف على الطبقة المتوسطة من الناس وإنما يشمل حتى الجمهرة من المثقفين ورجال الفكر بيننا. ولا شك أن علاج هذا التخلف يتطلب جهوداً عدة، سواء من حيث تنظيم المتاحف وإقامة المعارض، أو من حيث نشر المؤلفات المتعلقة بتاريخ الفن وتاريخ النقد الفنى وفلسفة الجمال ونحو ذالك.
- ولكن ربما كان من أهم ما نحتاج إليه فى ظروفنا الثقافية الراهنة، مؤلف يتناول موضوع الفن تناولاً مباشراً، وتكون غايته الأساسية مساعدة الفرد على `قراءة` العمل الفنى وتذوقه، أى أن يضع القارىء وجهاً لوجه أمام العمل الفنى، وبدلاً من أن يتخذ الفن وسيلة لتوضيح نظرية فلسفية الجمال أو تاريخ الفن ،لا يلجأ بالعكس إلى النظريات إلا بالقدر اللازم للكشف عن عمل فنى معين وتوضيح مضموناته.
- ولكن ليس معنى ذلك أن هذا الؤلف ينبغى أن يكون ضربَا من `مبادىء القراءة` فيعمد إلى التبسيط وتلافى المشكلات المتشعبة التى يتضمنها موضوع الفن بطبيعته، وإنما معناه على العكس، السعى إلى مواجهة هذه المشكلات `على الطبيعة` ـــ سواء منها المشكلات السهلة أو العسيرة التناول
دون هبوط بمستوى الفكر أو إخلال بمقتضيات الموضوع`.
- لا أعتقد أن هذه الفقرة المستلَة من مقال `فؤاد كامل` المذكور بحاجة إلى بيان مدى اتساقها مع مَجمل ما ظل مُخلصَا له من قناعاتِ وأفكار، على إمتداد رحلته الإبداعية، ليتخلًل كافة ما صدر عن قريحته، كتابةً وفناً، راسمُا بذلك قسمات ذلك وجه الفتى البصير، الذى كان أصغر أعضاء جماعته الفنية سنَا، والذى امتلك من البصيرة ما قيض له تسنم ذروة التمرد على خطابات القولية والتقليدية.
بقلم : د./ ياسر منجى
جريدة : الأدب ( العدد 1650 ) 9-3-2025
فؤاد كامل .. فن لا شعار
- فى كتالوج المعرض الثانى للفن الحر (1941) ،كتب كل مشارك جملة قصيرة يعرف بها نفسه. كتب فؤاد كامل بإيجاز؛ ` مصور . شاعر عندما لا يكون لديه ما يشترى به ألوانه. دائماً صامت `. ربما تكثف العبارات الثلاثة، المكثفة سيرة حياة فؤاد كامل (1919ــ 1973) وتكشف الكثير عن حياته القصيرة .
- تزامنا مع ثورة شعبية امتدت فى كل أنحاء مصر ولد فؤاد كامل ،وربما كانت حياته وأختياراته تمثيلاً لهذا الثورة .
- كان والده عثمان كامل رساماً للخرائط فى مصلحة المساحة المصرية ، كما كان بارعا فى عمل تصميمات من الصدف، ورث فؤاد من أبيه الولع بالفن، ومن هنا اختار دراسته للفن. فى المدرسة العليا للفنون اصطدم فؤاد بأساليب الدراسة الجافة والتقليدية، ثار على أستاتذته، ليصل إلى يقين بأن الدراسة ليست `الوسيلة المثلى لصنع الفنان، إنما يصنع الفنان نفسه بنفسه، ومسؤلية أى فنان أن يضع نفسه فى قلب العصر`.
- كانت حركت فؤاد كامل ولوحاته وكتاباته التى تقترب من أن تكون شعرا، ومعاركه هى محاولة لأن يكون فى قلب العصر،لا على هامشه. ربما من هنا وجد فى رفاق الحركة السريالية ما يلبى طموحه. فى سبتمبر 1924 نشر أندريه بريتون البيان السريالى الأول. كانت الحركة التى اعتبرت نفسها مضادة للعقل والواقع بمثابة رد فعل على ما أصاب العالم من جنون بسبب حرب حرب عالمية أودت بحياة الملايين. ومن ثم سعت إلى تحرير الفكر، والنضال ضد الأفكار والقيم الموروثة ، وكان سلاحها لذلك اللجوء إلى الأحلام واللاواعى ..وشعارها تغيير الحياة .
- وجدت الحركة صدى فى كل العالم، ومن بينها مصر عندما أعلن مجموعة من المثقفين عام 1938 تأسيس جماعة الفن والحرية التى ضمت : جورج حنين، و رمسيس يونان، وأنور كامل، وكامل التلمسانى، وكان فؤاد كامل واحداً من هؤلاء المثقفين، بل كان أصغرهم .
- لم تكن السريالية المصرية نتاج حرب، كما فى أوروبا، بل كانت حسب لويس عوض رداً فنياً على معاهدة 1936 التى أدت إلى إنفصال السلطة عن الشعب الذى رأى بعد المعاهدة الجمود فى كل شىء، وأن نضاله وكفاحه من أجل التحرر قد تم إحباطهما، فكان لابد من التحديث، و ثورة فى الفكر والفن والحياة تعبر عن الروح المصرية. إنها ليست فقط بشاعة الحرب، ولكن بشاعة الفقر والمرض والجهل .
- كان فؤاد كامل فى التاسعة عشرة من عمره عندما وقع على بيان `يحيا الفن المنحط ` وكان أصغر فنانى الحركة المشاركين فى معرضها الأول، وربما أكثر جسارة ومغامرة وقلقا وتمرداً وصمتاً أيضاً فى النقاشات، لكن صمت التأمل والأستيعاب من أجل وعى جديد. كانت السريالية بالنسبة له ` فن جدير بلحظة لم تولد بعد ` حاول من خلالها أن يحقق شيئاً من رؤى العالم الذى لا يرى، وأن يطأ أرضا لم تلمسها قدم، وأن يحررـ مع رفاقه ـ ما اعتبروه ` خيالاً سجينا `.
- تحرير الخيال السجين اعتبره نقاد الفن وقتها نوعاً من `الشخبطات`، لكن فؤاد دافع عن شخبطاته :(لقد حاولت أن أعبَر عن مشاعر الكرسى عندما تجلس عليه ` معتبراً أيضاً أن رسالة الفنان التى قد تبقى هى جسارته التى قد يحقق بهاـ بفضل بقية من ذكاء ـ شيئًا من رؤى ذلك العالم الذى لا يرى . لذى عندما شارك فؤاد كامل فى معرض السريالية بباريس عام 1947 جنبا الى جنب مع بيكاسو وسلفادور دالى وخوان ومارسيل دوتشامب كتب عنه بول كلى : `إن رؤى فؤاد كامل تمتد من الحاضر عبر الماضى أكثر عمقاً، فهو فنان مفتون بتصور أساسى، هو الخلق لذاته، مثله مثل التكوين `.
- لم تعمر السريالية طويلا ، لكنها مهدت طرقا، وحطمت أساطير, وصنعت أساطير أخرى . ظل فؤاد كامل مخلصاً ـ حتى فى انتقالاته الفنية ـ للتجريب، للخروج الدائم بحثاًعن المجهول الذى `لا يزال ` أو لما يسميه الارتجاج، ثم مزيد من الارتجاج : ` نعم.. إن الفنان الراهن فى حاجة إلى مزيد من الإرتجاج ` كان ينتقل من أجل استلهام ما يمكن أن نسميه حقائق جديدة ..تختفى فى خلايا أو تحت جلودنا .. وتزدهر أحيانَا على هتك النوافذ المغلقة .. فتتيح للعين فضح الفضاء المعتم!
- بعد يوليو 1952، فرض الصمت على الجميع ،هاجر من هاجر ، وبقى فؤاد كامل وحيدا . ظل وحده يمثل ` العصر البطولى ` حسب تعبير الناقد إيميه آزار.
- كان صمته هذه المرة مختلفاً عن صمت التأمل . انتقل إلى ما أسماه الفن الأتوماتيكى، تعبيراًعن التداعيات الحرة للأشكال والألوان ، ثم إلى التجريد المطلق ، جاعلا ، كما يقول الناقد عز الدين نجيب `من ضربات فرشاته العريضة الثائرة وبقع ألوانه المتداخلة والمتصارعة بقانون الصدفة ، عالما من الصراع الكونى ).. ولكنه حتى فى تجريده المطلق كان يبحث عن نوع جديد من السريالية ` ينحو نحو التهويمات الميتافيزيقية فى الكون الخارجى والنفس الداخلية فى آن `.
- حسب إيميه أزار لم يكن هناك انفصام فى كل تحولات فؤاد كامل بل تواصل ` تحرر من معوقات الشكلانية كى يختط طريقه فى المجال البكر لشاعرية الألوان، ساعيا نحو أسرار الضوء والظل والحقيقة `.
- كانت عوالم فؤاد كامل الجديدة ضد المعنى، أو ضد البحث عن معنى مباشر، أو موضوع محدد فالمعنى ـ كما يقول ـ بداخلنا واللامعنى أيضاً. الفن هنا صراع بين الذات الحرة والعالم الخارجى، ومن هذا الصراع يتوالد المعنى. يكتب فى كتالوج أحد معارضه :`علىّ وحدى أن أنطلق فى الظلام ، أتضرع إلى الأشكال التى تستيقظ على وحدة نفسية كونية جديدة،لا تحدها مقاييس العقل وأطواق المنطق، تزاوج الطاقة والحركة بإختلاجات المادة الصماء، التى تتخلص من الملاحظة الوصفية والمعرفة البصرية`.
- ولكن لم يكن تحرر فؤاد من المعنى كاملاً ، ربما لم يستطع فى عالمه التجريدى أن يصبح لا منتمياً بشكل، كتب عام 1962 متأملاً تجربته الجديدة : `إن كل اتجاه أصيل فى كل فن أصيل، يؤدى بطبيعته وظيفته الإجتماعية، سواء اتخذ له موضوعا جاريا واضح المعالم والعناصر ومرتبطا بزمان خاص وبمكان معين ،أو لم يسلك هذا السبيل، وعكس الحياة ذاتها عن طريق اللغة الفنية وخلق الصورة فى وقت واحد وفى تأثير متبادل، فيقوم العمل الفنى ككل بوظيفة إيجاد الوسط الإيقاعى للتعبير المطلق . هذا، إذا استطاع الفنان والجمهورـ بحكم نضج ثقافتهما ووعيهما الفنى ـ التمييز بين التقليد الذى لا يقوم على أسس ابتكارية من التعبير الفنى وبين استخدام قوانين البصريات على المظهر الطبيعى للأشياء، دون التضحية بالمبادىء والقيم الدينامية، الخاصة بالعمل الفنى الرفيع . ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه اللغة الفنية هى أساس الإستجابة والتقدير سواء أكان الفن تجسيدياً أم تجريدياً `.
- قبل رحيله بساعات، طلب فؤاد كامل أوراقاً وألواناً، تحامل على نفسه وأخذ يرسم ، كانت لوحته الأخيرة التى لم تكتمل ، كان بالفعل كما عرّف نفسه `مصورا` حتى النفس الأخيرة .
- هذا الملف تحية لـ ` فنان الشكل المطلق ، والتعبير المجرد الذى تظل لوحاته تصحبنا فى رحلة بلا حدود `. حسب وصف الناقد الراحل بدر الدين أبو غازى فى تقديمه لكتاب ` تأملات فى الفن ` الذى تضمن مقالات فؤاد كامل أو أشعاره التى كان يكتبها عندما لا يجد ثمن الألوان .
بقلم : محمد شعير
جريدة : الأدب (العدد1650) 9 -3-2025
شىء يحترق
- فى كتابه Tertium Organum (العضو الثالث) يكتب أوسبنسكى : ` أى شىء يقيد حرية الفكر خاطىء ` وفى جزء لاحق يقول : ` الحقيقة ذاتها حركة . ` إذا لم يعد العصر الحديث مفسرًا بحسب هيرقليطس ، ولم يعد من الممكن فهمه ؛ فلم يعد من إلا تحمله. لأن الفكر لا يساوى شيئًا إن لم يملك تلك الإمكانية الحيوية لأن يتفكك بمجرد أن يتشكل المعيار الوحيد هو النزوة التى تصح الفكر، وبفعلها ذلك تضمن الحياة. نظن أننا نعتقد شيئًا، وفجأة يبرز شىء ما من تأملاتنا، وفى النهاية يكون هذا ` الشىء الأخير ` الذى يبدأ فى العد التنازلى ، مثل تكات قنبلة، أقل من أن يكون خيالاً وأقرب إلى أن يكون وظيفة .
- الشكل و الموضوع لحظتان فى حالة حركة . نحن من نمنحهما مظهر الدوام . كان بمقدورنا أن نقول إنهما يملكان قوة الرؤية ، لو لم تكن الرؤية ذاتها اختزالاً لقوة الالتقاط الأصلية ، والتى تقلصت هى ذاتها لأنها دفعت ثمن انتمائها إلى الكينونة .
- مثل كل الأنشطة البشرية، يرتبط التصوير بتطور الإنسان. نحن فى مرحلة اكتساب المعرفة من خلال الانفجار. منذ زمن ليس ببعيد، كان الوجه عالًما. أما اليوم، فمقاومة المادة وجه.
- يعمل المصور على أشكال القطيعة. فى الواقع، هو يطيع الدعوات للعب لعبة مزدوجة لها طبيعة هى الأشد راديكالية : يحطم ما يراه، ويفكك ما يولده، ويطرد ما يستحضره.
- إن تجربة فؤاد كامل مثيرة للأهتمام؛ لأنه يستخدم وسائل حرفته لاكتساب ذلك التأثير، لدى مصورين آخرين، المماثل لتأثير التعطش للدماء ينقض بعض المصورين على قماش اللوحات مثلما ينقض نسر على فريسته. يرفع فؤاد كامل غطاءً. يعمل دون تعجل. يوخز الواقع ويجبره على كشف تفاصيل دقيقة لا نهائية لمخطط ينفضح بمجرد أن يتأكد .
- إن أحدث لوحات فؤاد كامل هى طلقات موجهة إلى الخطر الأبدى للوجود. تحذرنا من أن شيئًا يحترق فى مكان ما، وأن النظرة لم تصبح رمادًا بعد .

بقلم : جورج حنين
جريدة : الأدب (العدد1650) 9 -3-2025
الفن فى مصر : فؤاد كامل
- لجج من ظلمات. عالم، يوما بعد يوم يبقى بلا شمس، وسيظل حتى نهاية الحياة. عالم هجرته هذه الشمس. لم يستطع تحمل ضوءها القابض على رؤى حب إنسانى ومخفيا منظورات ألم وتعاسة. شمس مستحيلة مستبدة. وحدها، توجد عندما تؤلفها عناصر مجهولة :إشاعات غامضة منضدة فى ظلال هذا العالم، كلما تغوص الأشياء بالتدريج فى الظلمات، تستحم القلوب فى النور. أدخنة ينحشر فيها الأزرق غير الناضج بالأسود، حول أجساد مجهولة وغامضة، متحولة إلى حب ومعرفة .
- لجج من ظلمات... عتمة تجعل حياتك الرتيبة القاسية عديمة الألوان عسيرة التمييز.بأى وحشية ستفر من وجودك، الذى يبصق فيه البشر أنهارًا من التفاهات، وحيث الضحك السوقى المجرد من كل شعور يرقص على إيقاع لا ينى يزداد حدة .
- ابتسامات فاجرة كاذبة تتكشف فى كل مكان من حولك، بل تصدر عن المرأة التى بدا أنها باقية إلى جوارك، كنت أول من ابتسم لها، وبعد ذلك أول من بكى عليها. لم يبق شىء إلا أن ترحل وتدفن نفسك بين الأحياء .
- لجج من ظلمات ... سواد باهر يغطى عينيك، غير القادريين على الرؤية، حيث العالم ملآن بهذا الضوء الذى يضاعف وحشية عديمى الشعور. يراكمون المظالم على الحصانات، بينما تمضى أنت والعذاب ينخرك بأسمال ممزفة نحو قبرك فى الصحراء. ستعيش منبوذا طريدًا للعدالة بين كثبان الرمال البكر، تلطمك. أمواج الألم التى تجعل الأجام المعذًبة والأشجار الوحيدة ترتعش. فقط فى تلك اللحظة ستعيش مع عتمة تحسدعليها وسواد جميل .
- لجج من ظلمات ... الرجال مصابون بالعمى، لأن عيونهم تظهر كل درجات الرؤية والتلوين، ولا تصل إلى الغوص فى أعماق الحب الإنساني. كل فرد موهوبا عيونا واسعة أحيانا ضيقة . عيون سوداء بلا إبصار، زرقاء بلا ابصار، خضراء بلا إبصار، ينطلق الإحساس العام من عيون مسيجة، كغلاف ضبابة كثيبة وكبيرة، مؤرخا باليوم الذى انقطع فيه الضوء عن اللعب، وأسدلت الجفون برقة .
- لماذا إذن ظهرت عيونهم البذيئة، تتمرغ فى الترف، سعيدة بطريقة وحشية ؟ حدقات اعتادت على أشعة مشبعة بالكريستال والمخمل والزهور. تعربد فى عبودية الفن والعلم الشديدة. لكن ماذا تعرف عن الألغاز والدوافع ؟ يا لثقل هذا الضوء ، ويالها من عيون تثير الغيظ !
- لجج من ظلمات، يغوص فيها حزن البؤس البودليرى. جدار يواجه ساحة الدار، يتعفن ويبلى من أثر المطر والزمن جدار من الطين، بنته أيدى الفقراء . نافذة ليست أكثر من خرقة مشؤومة تسوطها ريح الخريف فلتخترقى أيتها الخصوبة الساطعة عديمة الجدوى، ولتسكبى موجاتك الكريمة التى لا حاجة لها.أى نفع تقدمه لكلمات مبقورة الأحشاء فقط لتصنع حفرة سيغوص فيها فقر الجيران وصراخ العجائز ؟ هذه المخلوقات، لتى يهاجمها العالم كى ينتزع آخر قطرات الدم وفتات اللحم، ورثت المعاناة الأبدية من آبائها، ميراث فريد محاط بالريح والطين والمطر .
- لجج من ظلمات، تملأ أنفاسها الزقاق الذى يربط الخراب الكبير للمدينة القديمة، التى تفوح منها رائحة البول، بعالم متلألئ من واجهات المحلات وصالونات التجميل ... أربعة أقنعة للمعاناة، تنتمى لأجساد تتعفن منذ عدة أيام، انجرفت الأبخرة إلى السماء ولم يبق شيء إلا مزق من لحم مختلطة بجدران متهدمة فى محاولة فائقة للتعاضد .هذه المخلوقات، متحللة الأجساد، توقفت عن امتلاك الرغبات، ووجودهم المستمر الغامض مجرد تشبث بسلوان العذاب المطلق .
- لقد حفرت الظلال الألم على وجوده الأسرة التى عاشت دومًا فى هذا الكوخ الحقير. آه ! كم تعشق قلوبنا هذه الوجوه، وكم تبدو عيوننا المغلقة حساسة تجاه تعبيراتهم! لقد جرحت الرياح بشرة هذه الوجوه المعذبة وسلخت جلودها الممزقة رؤوسهم ذابلة رغم صباهم، وبدأت عظامهم تختفى. سالت عيونهم من محاجرها، وتوقف النبض عن دق إيقاعه الحيوى فى صدورهم. لكن بقيت رئة واحدة . أما الأعضاء الأخرى فذابت فى دموع الليل .
- لجج من ظلمات... إخراج مشبوب بالعاطفة من فؤاد كامل يفيض بحب للإنسانية المطلقة ،وبأفكار معذبة، وحده فؤاد كامل قادر على تغذيتها هو الذى اصطدم بهذا العالم، وعانى كل أهوال الألم، الذى جعل صمته جسداً من كل عضو صامت فى عائلة الأوجاع. والذى عبرت روحه الهادئة تلك الأطياف التى اتحدنا معها فى الألم... نحن - الأخرين- الذين لا نتمتع بالشباب.
بقلم : كامل التلمسانى
جريدة : الأدب ( العدد 1650) 9-3-2025
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث