`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
كمال السيد أحمد خليفة

- أثنان واربعون عاما فقط كانت سنوات عمره .. مع ألم دائم فى الحياة لمعاناته للإعاقة الصحية .. ورغم هذا كان بيته الصغير فوق سطوح بيت قديم فى بابا اللوق .. كان حضنا لكل فنانى ومفكرى عصره 1926
-1968 .
- فى هذا العمر القصير كان هذا الفنان حداثيا .. سابقا عصره بإيجازيه متفردة بأسلوب مفعم بالمشاعر الإنسانية الراقية والمتجردة لحد التسامى .
- كان بيت هذا الفنان ندوة يومية لمناقشة الحياة والفكر وحينما كنت طالبا بكلية الفنون صغير السن سعدت حظا بمقابلة أحمد بهاء الدين ومصطفى محمود وحسن فؤاد وأحمد حجازى والأبنودى وعبد الرحيم منصور ويوسف إدريس وزين العابدين فؤاد ونجيب شهاب الدين ونجيب سرور وخليل كلفت ومحمد سيف وحسن عبد الغنى وسمير ظريف ومحمود إبراهيم وسمير عبد الباقى وعشرات غيرهم كانوا يأخذون من هذا القعيد أملا ووهجا .. كان كمال ظروفه الصحية والاقتصادية .. كان مدرارا كشلال ينهمل يوميا بأعمال تعبيرية سبقت عصره .. ولقد استفاد من أسلوب جيل منهم آدم حنين وأحمد فؤاد سليم وجمال محمود وغيرهم ، كانت أعماله لا تخطئها عين ، حيث تبدو وكأنها تسبق عصرها متواصلة مع أحدث صور الحداثة دون تعمد ، بل بتلقائية عبقرية ومتواضعة ، توجز التفاصيل لتصل بك إلى جوهر الأشياء بسلاسة متناهية فى البساطة ، أما أعمال النحتية محدودة العدد فهى صورة كاملة للجديد والمتطور والمؤثر معا .
- رحل كمال خليفة صغيرا كما رحل مختار وسيد درويش ، لكن أعماله ستبقى علامة جودة لصادق لم يحرم مشاهديه احترامهم مانحا إياهم إبهارا وإبداعات مشحونة بالتعبير البليغ المحمل بمشاعر عاشق متيم .. تحية لشرويت شافعى وقاعة سفرخان على هذا المعرض القيمة .
بقلم : إبراهيم عبد الملاك
صباح الخير - 2009
! الراحل كمال خليفة ... شهيد على مذبح جائزة الدولة
ذكرتنى جائزة الدولة التى أعلنت هذة الايام هذه الايام بمأساة فنان جليل هو الراحل كمال خليفة ` 1926ـ 1968 ` وهو نحات مبتكر، انقلابى الطابع ، ومثقف وكاتب من طراز فريد ، ومصور مجيد ومثير للعجب ، تذكرته نعم، اذ كان صديقاً حميماً، ووفياً ـ وانما أنا اقول للفنان الكبير النحات أحمد عبد الوهاب الذى حاز جائزة الدولة هذا العام باستحقاق ، مبروك ، فانك اوفر حظا من خلفك النحات كمال خليفة الذى خانته الجائزة ، واغتالته لجنة الحكم منذ اربعين عاماً : ففى تلك الأعوام البعيدة نزعت الجائزة ممن كان يستحقها ، ومنحت لآخر لم يكن يستحقها فى زمانها. وتضاربت اللجان بعضها ببعض ، وتبدلت الآراء بعد ان حقنت من اتباع عصابيين ، فزاد النحر دون ان يأبه الناحرون ان فعلتهم تلك قد تقتل فناناً عف عن السؤال ، وعن الطلب القليل ـ وانما هاهو التاريخ يقلب فى الاوراق المطلوبة دون رحمة ، ويكشف النقاب .
ففى شتاء عام 1962 ثم ترشيح الفنان التشكيلى الراحل / كمال خليفة لجائزة الدولة التشجيعية على مجمل انتاجه الذى احدث انقلاباً فى مفهوم النحت المصرى بعد انتظار طويل منذ رحل محمود مختار عام 1934 ، ادرج اسم كمال خليفة بمضبطة اللجنة ، وبعد حين تم اخطار الفنان باعتباره فائزا بالفعل بالجائزة بموجب خطاب رسمى قامت بتوصيله الى مرسمة مديرة قاعة الفنون ` السيدة نايلة فهمى ` فى مسرح الجمهورية مقر اعلان الجائزة انذاك، وقام مكتب وزير الثقافة ـ انئذ ـ بتكليف مديرة هذه القاعة بالاتصال بالفنان لإبلاغة ، طالبة منه سرعة نقل تمثاله الشهير ` ملكة القطن ` لعرضه اثناء الاحتفال بتوزيع الجوائز فى مسرح الجمهورية . واثناء عمليات النظافة اليومية بقاعة الفن فى مسرح الجمهورية سقط التمثال فوق الأرض الرخامية، وكسرت بعض اجزاء فيه ` كان تماثلا من الجص النحتى المباشر على هيكل معدنى يبلغ ارتفاعة نحو 120سم وعرضة نحو 80 سم وسمكة نحو عشرة سنتيمترات ` .
وقع كالصاعقة على رأس مديرة الفاعة التى انهارت تماماً ، وبخاصة ان الحادث وقع قبل الاحتفال بأيام قليلة ، فراحت تذرف الدمع من الحزن واليأس ـ ثم إذا بها تحادثنى تليفونيا طالبة منى الحضور على عجل لأمر جلل.
كانت مديرية القاعة رقيقة الروح ، جميلة الطلعة ، ممشوقة القد ، وكانت هى صديقتى التى أأنس إليها حين يحل بى الحزن، وحين وقعت عيناى عليها إذا بها تنخرط فى بكاء مرير ، اذ لم يكن الروع عندها بسبب كسر التمثال ـ وانما فى تلك المفاجأة المخيفة التى ألقت بها فى وجهى ، وعقدت بها لسانى ( لقد عادت لجنة الجائزة وانعقدت انعقاداً استثنائياً ـ فجأة ـ استجابة لبعض الشكاوى ـ الله اعلم ـ ورجعت فى كلامها ، وغيرت حكمها ، واختارت فناناً آخر للجائزة وطلبت منى اعادة التمثال لصاحبه والاعتذار عن اخطارة من قبل )
جلست قبالتها وقد احتوانى الهم وهاجمنى الغضب.
واقترحت عليها ان نذهب الى كمال خليفة معاً ، وان نحكى له الحال كما جرى ووقع ، ولكننا ظللنا فى الطرق قرابه ساعتين نغالب ترددنا وإحجامنا، مع أن المسافة بين مسرح الجمهورية وبيت كمال خليفة لاتتعدى عشر دقائق سيراً على الاقدام ، صعدنا الدرج حتى نهاية الدور الرابع والاخير ، الى حجرة وحيدة قبالة السطح فى احدى البنايات القديمة المطلة على مترو باب اللوق سابقاً ( ازيلت محطة المترو بعد انشاء مترو الانفاق ) دخلنا الغرفة الوحيدة فلم نجد بها شيئاً سوى حصيرة من القش فوق ارضها ، وكمال خليفة مسترخياً عليها وبجواره ادوات الشاى المكونة من كيس سكر ، وكيس شاى شعبى ، وغلاية / وموقد سبرتو صغير ، وقدح نحاسى لصناعة القهوة ، وبضعة أكواب زجاجية صغيرة ذات لون شعبى يميل الى الخضرة ، ونافذة ملصق فوقها اوراق الصحف للحماية من البرد، وحوض ماء للغسيل ، واما الجداران فهى متهالكة ، رطبة ، باردة ، تفوح ، منها رائحة الوحشة ، والوحدة وظلمة الليل . نظر الينا كمال خليفة بعينية الضيقتين النافذتين ، وكأنه غاص بناظريه الجارحتين فى صميم بطوننا ـ ثم باغتنا بقوله ( انتما تحملان لى شيئا فليكن ، انا لاتعنينى الجائزة فلا بأس عليكما ، وانما اولئك الذين ينتمون للفن هم من اصدقائى ) فلم اصدق قدرته تلك على هتك المستور ، والنفاذ الى الغائب .
كانت المناديل البيضاء مبعثرة حوله وقد تخضبت بالدماء وكان صدره وفمة ينزف نزفا ، وتصفق انفاسة حتى انك تسمعها من على البعد ، كان الدرن اللعين قد سكن جسده الحى وتغذى على رئتيه ، واخذ ينهش من زمنه الباقى ماشاء له النهش ، وكانت محاولات ادارة التفرغ بوزارة الثقافة قد باءت بالفشل عندما رقعت المذكرات تلك المذكرات لعلاجة فى الاتحاد السوفيتى ، اذا ذاك لم يعد كمال خليفة قادرا على عجن اللدائن وخلطها بكلتا يديه كما كان يفعل ، او الإقتراب من خامة الجير الحارقة التى يصنع منها التماثيل ، او استخدام ماكينة لحام المعادن لتشكيل هياكل الفورمات عصى عليه النحت فأخذ يتأمل الجص الخام دامعا لسنوات قليلة حتى أسلم الروح من ذل هذا العالم .
أسرع كمال خليفة للإحتفاء بنا وقرأ الصداقة والوفاء فى عينى الاثنتين ففاض فى وجهه المتعب السلام للحظات ، وانحنى على الأرض وقد دبت الحياة فى اوصاله كى يطبخ لنا شايا ساخنا ـ ثم وجه إلينا الحديث قائلا : ` لا تخشيا احتساء الشاى فى تلك الأكواب فهى نظيفة وخالية من الخطر، تأتى اختى يوميا وتقوم بالواجب !` ثم نقل عينية بيننا محاولاً قراءة المستور، ولكنة طوال تلك الجلسة التى بدت مليئة بالنبوءة لم يستطع ان يمنع عينية من الاقتحام الدائم لصديقتى، حين قلنا له ان التمثال وقع على الارض وكسرت ذراعة ضحك قائلاً : ` لايهم ، او كل هذا الدموع الفياضة فى عينيك بسبب ذلك ` فردت علية قائلة :` بل هى الجائزة قتلتنى صباح هذا اليوم ` فرد عليها قائلا : ` انما الجائزة هى التى يصكها التاريخ ` فلا تلقى لهذا الامر بالا `
كان كمال خليفة حميماً قريبا الى القلب ، ومثقفاً متمرداً يتدفق شوقاً للحياة الدنيا ولعصيرها العذب ، يملك عينين اخاذتين كصقور البرارى القاسيات ، وكان منحنى الظهر قليلاً منطويا على وجوديته ، وعلى سره الكونى .
وكنت اذهب الى بيتى بعد كل زيارة واتقلب فى فراشى الليل بطوله ، وقد هجس الليل فى ظلمة الصمت ، فأرى كمال خليفة وقد نام بعيون ياقظة على حصيرته يستدعى لذاكرته خيالات هذا العالم ، ويواجهه هو وحدة ظلمة الليل فوق السطوح العارية ، نعم كان هو وحدة فى مواجهة الوجع الجسدى والروحى .
قلت لكمال خليفة يوماً ` ولماذا لا تكتب ما يعن لك من افكار ` فاذا به يفاجئنى برزمة من الأوراق المكتوبه بخط اليد قائلا ` تلك هى سلواى، لقد انجزت حتى الأن خمسمائة صفحة وهأنذا أسابق الزمن ` - ثم قرأ كل منا فى عينى الآخر السؤال ذاته ، والجواب ذاته ، إذ كان الوداع قريبا .
وحين رحل كمال خليفة اخذت ابحث عن اوراقة فلم اجد لها اثراً ، وانما تلك الأعمال القليلة التى نشاهدها الان بمتحف الفن المصرى الحديث هى اثره الباقى وهى شهادته على حياته التى لم تهدأ يوماً فقد خرج كمال خليفة بالنحت المصرى من الحبس الاسلوبى والحصار المدرسى ، وفتح لنا الباب نحو منعطف جديد فى مفهوم كثافة الكتلة النحتية وجعلنا نرى الجحوم وكأنها رسمت بطريقة ظلية ـ بل اننا اخذنا نكتشف فى منحوتاتة تلك الجمالية الجديدة التى كانت تمتع عيوننا فى العرائس المحشوة بالقطن ، وفى عرائس الموالد السكرية فى المواسم الدينية وفى تماثيله الجصية المرققة المبططة ـ وكأنها نصبت من بعدين اثنين كنت اتذكر التميمة الورقية التى كانت تصنعها لنا الجدات الطيبات فى الازمنة البعيدة حين كن يقمن باشعال النار فى التميمة حتى تمنع الحسد وتقينا من العيون الشريرة فى الأحلام الليلية .
واما فى روح واسلوب ` الاسكتش ` الرسوم الاولية السريعة ـ فقد اعطى لنا خليفة مايدعونا الى الاعتقاد بأن الاسكتش يمكن ان ينطوى على طاقة حية لا تفرغ وبأنه عمل فنى كامل ينازع المنحوتة والصورة مكانتيهما الراسختين ، فهل من ينصف اليوم اسم الراحل كمال خليفة ، مثلما انصفنا عن حق وعن جدارة نحاتنا الكبير أحمد عبد الوهاب .
أحمد فؤاد سليم
جريدة الوفد- 2002
المثال والرسام والكاتب.. كمال خليفة
- ولد الفنان المفكر كمال سنة 1926.
- كتاباته التى بلغت نيفا وست عشرة الف صفحة ما بين الفلوسكاب وصفحة الكراس، تتضمن خليطا من اليوميات والمذكرات والتأملات والخواطر والفلسفة والآراء الفنية.. والوصف التفصيلى أحيانا لأحداث تافهة وقعت فى الماضى.
- دون هذه الكتابات بالاسقاط الفورى بخط يصعب حل طلاسمه على غير الخبراء. غالب الظن أن إبداعه التلوينى والنحتى والأدبى تأثر بوحدته مع مرضه القاتل ففى حجرة فوق سطح البيت رقم 46 بشارع منصور باب اللوق حيث كان قطار حلوان (قبل المترو) يمضى من أمامه كل خمس دقائق محدثا جلبة واهتزاز مطلقا دخانا أسود يغمر السطح الخفيض ويقتحم محراب الشعر والخيال.. ويتسرب إلى الرئتين العليلتين .
- كتب عنه الدكتور مصطفى محمود فى مقدمة كتالوج المعرض الذى أقامته شقيقته `جمالات` فى المركز الثقافى السوفيتى بالاسكندرية سنة 1973، كتب يقول:
- `مات كمال خليفة بغرفة على السطح بعد حياة قصيرة من الكفاح، ومرض أنهك منه القلب والجسد. مات زميل الفن وخليل العذاب وصديق العمر وإنى لأفتخر بأنى عشت فى عصر كمال خليفة. ومصر سوف تفتخر بأنه ولد بها. ولكن ما أقل من يعرف قيمة كمال خليفة اليوم.
- .. يبدو أن وحدته معظم الوقت بلا زوجة أو أنيس أو جليس دفعته الى محادثة نفسه على صفحات الورق كلما أراد التعبير بغير الألوان أو الصلصال. وان كنا ندرى أنه كان ملتزما بنظام يومى لا يحيد عنه، الا حين يقهره المرض، وكثيرا ما كان يفعل، كان ينام متأخرا يستيقظ مبكرا ليبدأ يومه بالكتابة حتى الظهيرة. ثم يركن الى القراءة والتأمل وقضاء الحاجات حتى يجن الليل، فيحيا مع فنه ما بين نحت ورسم وتلوين. يومان فقط يخرج فيهما أو يستقبل الاصدقاء القليلين، ومن بينهم الرسام `عدلى رزق الله`، والمصور الفوتوغرافى `أحمد نور الدين`، وعالم النفس الشهير الدكتور `يحيى الرخاوى`.. والكاتب المعروف مصطفى محمود وندرة أخرى من المثقفين.
- نشير إلى هذه الملاحظات عن كتاباته وحياته الخاصة، لنلقى ضوءا على لوحاته وتماثيله لأنها لم تنبع من فراغ بل تضرب بجذورها فى أعماقه حيث يستقر مخزن الذكريات ومرجل التفاعل بين الفكر والخيال والانفعال، فتمثال `عيشة` الذى أبدعه من الجص وصورتها التى لونها بالجواش لفتاة ريفية لابد انه التقى بها وهو تلميذ فى الابتدائى بالإسكندرية، أو بالقسم الداخلى بثانوية طنطا، حين كان يزور الأسرة فى الاجازات فى `العامرية` أو `الزعفران`: المدينتين الريفيتين حيث كان والده موظفا فى `الخاصة الملكية` فى فجر الأربعينيات.
- وتمثال وجه عيشة وصورتها الملونة يتسمان بالغرابة فى كل من الشكل والمضمون، أما التمثال فيزيد على الحجم الطبيعى ويبعد عن المحاكاة، يرتفع إلى ثمانين سنتيمترا ويستقر الرأس فوق عنق طويل مستدير، مهيب كأعمدة المعبد. ينبثق بدوره من كتفين قويين. فيحس المتلقى أنه فى حضرة كائن اسطورى على قدر أكبر من الإنسانية. ويستشعر إشعاع السحر الذى تتميز به أعمال الفنان. ويلمس تعبيرا فريدا عن الخصوبة والأنوثة الشرسة. أما من حيث البلاغة التشكيلية فقد غطى الرأس بتاج من الشعر فى حلول مبتكرة، قد نجد لها جذورا فى النحت المصرى القديم، وأسقط كل التفاصيل مكتفيا بتقوس التكوين للتعبير عن الخفر والدلال. لكن الاختزال والاختصار لم يمنعاه من تزيين جيد الفتاة بحبات عقد بسيط يوازن الاتجاه التجريدى العام.
- فى كتالوج المعرض الثانى فى ابريل 1960 فى قاعة متحف الفن الحديث - قصر هدى شعراوى سابقا - كتب مقدمة وجيزة قال فيها: أجمل ما فى الحياة ليس الوردة. بل الحياة ذاتها، وليس هناك بطل واحد للحضارة.. وإنما كلنا أبطال فيها. أما لمن هو الدور الأول.. فهى ليست مسألة.
- .. أى عشق صوفى للحياة كان يغمس ريشته فى عواطفه المشبوبة بكل ما هو نبيل وشريف وكريم فى هذه الدنيا. عشرات التماثيل ومئات اللوحات المائية وآلاف الصفحات الخطية، حاول به أن يجسد احساسه بالحياة التى يعلم أنها بالغة القصر. نحت ورسم ولون وكتب كما لو كان يتنفس ويمارس عملا حيويا لا يطيق الكف عنه. لذلك جاء ابداعه شيئا عجبا لم نشهد له مثيلا.. لم تدرك قيمته وزارة الثقافة فلم تجدد له منحة `التفرغ` بعد العام الأول سنة 1963. تركته وجها لوجه مع المرض القاتل والنزيف المتواتر والحياة الصعبة بعشر معشار رئة، لولا تداركته حكمة الوزير `ثروت عكاشة` فأعادها إليه سنة 1965 حتى فارق الحياة، وحيداً مع الحمام والدجاج وحوض الزرع.. ووالدته التى كانت تربطه بها علاقة شديدة الخصوصية. كانت معه مصادفة فى مساء العاشر من أكتوبر سنة 1968، حين انخرط فى نوبة سعال عاصفة، إنتفض بعدها واقفا صائحا بالشهادة، ثم سقط بين أكوام الرسوم والألوان والأوراق المبعثرة هنا وهناك.. والمصباح المدلى من السقف الى ما يقارب الأرض والتماثيل المتناثرة كأنها تتطلع الى الجثمان المسجى بينها نخبة فريدة من رسوم كمال خليفة الملونة تعرضها الألمانية اورسولا شيرنج فى جاليرى خلف فندق شيراتون القاهرة. سافرت الى طنطا واحضرت مجموعة منتقاة من لوحات الفنان الراحل، وقامت بالدور الذى كان ينبغى للمركز القومى للفنون به بمناسبة الذكرى الستين لميلاده.
- الصدق الكامل والحيوية المفرطة والتحام الشكل بالمضمون كعلاقة داخلية، هى العوامل الدائمة لقوة تأثير العمل الفنى واثارته وجاذبيته. وستبقى الطابع الجوهرى لإبداع كمال خليفة وتميزه عن كل ما نعرفه من التصوير المصرى الحديث، وتضعه بجدارة فى طليعة الحركة التشكيلية التى تلبى احتياجات الثقافة المعاصرة لهذا اهتزت حركتنا الثقافية حين دخل دائرة الضوء بمعرضه الأول سنة 1958.
- لدى شقيقته مائة رسم كامل بالحبر الشينى ممهور بتوقيعه ومؤرخ فى مطلع الستينيات ومئات اللوحات الملونة بالجواش مع خمسة وعشرين تمثالا.. هذا كل ما تبقى من أعماله كتراث حديث للحركة التشكيلية فى بلادنا.
- إذا تتبعنا رسومه وعجالاته زمنيا، فلا يفوتنا اندفاعه السريع نحو التبسيط والتجريد، والتحدث بلغة العصر عن مشكلات العصر، اتجه الى الاستعاضة بالجزء عن الكل مع تعبير مأساوى عن الحياة، رسم وجها لامرأة أحيانا بعين واحدة ، فى الوسط من تحتها فم دقيق ثم أحاطه بهالة من الشعر يحددها بخط صريح واضح أو بخطوط حلزونية أقرب إلى شخبطة الأطفال كان يهوى النساء ولم تشهد له وجوه رجال بين ما ترك من رسوم ملونة وعجلات بالحبر أو القلم الرصاص لكنه لم يتزوج سوى مرة واحدة ولزمن لا يتعدى أربعة أشهر فى عام 1961. وكانت المبادرة من الفتاة فى كل من الارتباط والانفصال ولم تقطع العلاقة بينهما فى كلتا الحالتين لشدة اعجابها به وبفنه وأفكاره وفلسفته وإنسانيته الفياضة.
- يقول يحى الرخاوى - صديقه ومواكبه سنواته الثمانى الأخيرة - إننا لا نستطيع إدراج شخصيه `كمال خليفة` تحت تصنيف معين من التصنيفات الكلاسيكية المتعارف عليها لأنه كان طرازا فريدا ليس كمثله مثل، كانت الأبواب مفتوحة على مصاريعها داخل جهازه التنفسى، وكانت له قيم ومدركات خاصة لكل ما يجرى من حوله فى الحياة. لا يؤثر فيه المرض والفشل والعجز والحاجة كما يؤثر فى باقى الناس. كان يجاوز كل شئ ويمضى فى الحياة محتفظا بقدرة إبداعية لا حدود لها، وحكمة استقاها من قراءته حينا ومن بصيرته وعبقريته فى معظم الأحيان.. ولا شك فى أن المتلقى الواعى يستطيع أن يستقرئ كل ذلك وهو يتأمل سلسلة `الثنائيات` التى صورها بالجواش فى مساحة صغيرة فى حجم كراس الرسم.
- تتألف هذه السلسلة من قرابة المائة لوحة، بدأها بعد انفصاله عن زوجته `شهيرة ` - كما يروى صديقة الفنان أحمد نور الدين - تبدو هذه الرواية منطقية لأن هذا التاريخ يواكب تعارفه بصديقه عالم النفس، وبداية مسيرته فى تسجيل يومياته ومذكراته تحت عنوان `شجرة السكر` آلاف الصفحات ختمها فى مساء الثلاثاء السابق لوفاته وكأنه أنهى بها أيام حياته، قد نجد تفسيرا متبادلا بين رسوم وكتابات تلك السنوات الثمانى 1961/1968 وان كان الدكتور الرخاوى يرى أنهما مكملان لبعضهما البعض، وأن هذه الآلاف من الصفحات ينبغى ان تخضع للدراسة والتحليل، حتى تتضح طلاسم ابداع هذا الفنان الفذ وخفايا شخصيته الإنسانية المنفردة فمن المعروف - فى التحليل المعاصر للأعمال الفنية - أن موضوع الإبداع مجرد تكأة يتيح بها الفنان لنفسه فرصة التعبير عن مكنونها، فعشرات اللوحات التى صورها بعنوان `ثنائيات` لا تختلف عن بعضها البعض الا فى مذاق النظم اللونية والتوافق بينها و`الملابس البصرية` التى تتوزع المساحة. تتآلف جميعا من سحب لونية مختلفة الدرجات نصوعا تتداخل وتتلاحم وتتباعد وتتباين وتتوافق تهمس احيانا وتصخب أخرى، ثم تبرز من أعلى بقعتان صغيرتان مضيئتان تشعران المتلقى بانهما وجهان لفتاتين بلا ملامح أو تفاصيل، لكنهما مفعمتان بالحيوية والديناميكية، فى تعبير نادر عن مأساة انسان العصر الحديث.
- الفرق بين الجد والعبث شعرة لا يتبينها الا المتلقى الواعى والأمية الثقافية فى عصرنا قد تخدع بعض مثقفى العالم الثالث فيخلطون بينهما، الأمر الذى يتيح لأستاذ أن يعبث متسترا بألقابة ومكانته فيصدقه الناس وهى السبب فى قصور لجنة وزارة الثقافة التى أوقفت منحة التفرغ عن الفنان سنة 1964 ورفضت علاجه على نفقة الدولة فى الخارج. ولم تقبل عرض شقيقته `جمالات` بان تهدى الوزارة أعماله على أن تخصص لها غرفة فى متحف الفن الحديث.
- حين كتب `كمال خليفة` ورسم لوحاته ونحت تماثيله، كان يكتب ويرسم وينحت لنفسه، كان يتخلص من احساس ممض باقتراب شبح النهاية، ويعبر عن شعور جارف بروعة الحياة، هذا التناقض والتضاد هو السر فى القدر الهائل من الحيوية والديناميكية الكامن فى هذا الإبداع الأصيل، كان كريم النفس وعلى درجة من الصلابة تعز على الكثيرين من الاصحاء الاقوياء. نذكر هذه الابعاد لندلل على مبلغ الصدق الذى يكمن فى ابداعه فهو يرسم وينحت `ليبيع` إنما رسم ونحت `ليقول`!.
- لم يقدم التماسا فى حياته لجهة ما كانت أسرته تتولى عنه ذلك، وترك الدراسة فى كلية الفنون الجميلة سنة 1953. مفسرا قراره بانهم لا يعلمون فنا، ولا حرفة وانما يمنحون شهادات لا يحتاج اليها، ساعده على الاعتكاف اشتداد وطأة المرض الذى بدأت قصته معه فى سن التاسعة عشرة.
- سلسلة `الثنائيات` التى كان يسميها أحيانا `الشقيقيتان`، ملحمة درامية موسيقية شعرية، عبر بها عن الآلام غير المحتملة التى عاناها فى العقد الأخير من حياته، الآلام النفسية والفكرية.. والجسدية أيضا ومن السذاجة فى مثل هذه الأعمال الفنية النادرة غير العادية ان نقيسها بمعايير عادية، فكل عصر به معاييره، ومعايير الجمال والقبح بل والقيم والاخلاقيات ذاتها، تختلف من عصر الى عصر وناهيك عن ان الابداع الفنى سابق على النقد والتحليل ووضع المعايير، فلا ينبغى ان نخضع إبداع `كمال خليفة` لمقاييس التكوين والايقاع والتوازن وما الى ذلك من الأبعاد التى حددها علم الجمال، شأنها فى ذلك شأن شخصية الفنان نفسه التى أشار يحى الرخاوى الى تفردها بين المعايير المعتادة للقياس النفسى.
- حياة الفنان الراحل حياة ثرية دسمة ومشحونة بالأفكار والمبادرات الابداعية، الأمر الذى يستلزم عدة مقالات ودراسات، فالحياة لا تقاس بالشهور والسنين بل بالعطاء والاسهام فى البناء الثقافى - كما قال `كمال` فى كلمته عن أننا جميعا أبطال فى الحضارة، والتماثيل التى أتيح له نحتها خلال أيامه القليلة تعتبر نقطة تحول فى فن النحت العصرى المعاصر بعد البعث الذى فجره محمود مختار، عشق هذا الفن منذ نعومة أظافره وكثيرا ما قضى الساعات يحفر سطح البلاط المعصرانى ويشكل الموضوعات، حدث ذلك وهو تلميذ فى الابتدائى ثم طالب فى الثانوى فى طنطا والقاهرة حيث التقيت به حين كنت مدرسا فى المدرسة الخديوية سنة 1949 وكان طالبا فى الصف الرابع، ينصرف عن الدروس إلى غرفة منعزلة فى الفناء ليهيم مع الصلصال وما يشكله من تماثيل.. وحين التحق بكلية الفنون ولم يجد لدى أساتذتها ما يعلمونه اياه.. وإذا استعرضنا تمثال `الجلاء` لسنة 1957، تبينا القدر الهائل من البلاغة وصدق الإحساس وقوة التعبير، وكيف يتخطى المعنى السطحى الذى يتبادر الى الذهن، ارتفاعه ستون سنتيمترا، من الجص المطلى باللون الأسود لا يتعدى السمك سنتيمترا واحد فى معظم الاجزاء ولا يزيد على خمسة عند القاعدة يحدد الخط الخارجى ما يشبه الرأس والمنكبين وذراعا مرفوعة وجسدا بلا تفاصيل تلخيص وتكثيف للشكل مع تعبير يغور فى نفس المتلقى لأول وهلة يفوق فى سطوة تأثيره وشدة ايحائه اعمال الرومانى `برانكوزى` الذى يعتبر قمة البلاغة النحتية فى القرن العشرين.
- إذا تأملنا التمثال من المواجهة، نجده قد اتخذ شكل الصاروخ المتأهب للانطلاق فبقدر بساطة السهل الممتنع فى الشكل، يتعقد المضمون وتكثر معانيه وتتنوع ولا يقل تمثال المسألة روعة عن تمثال `الجلاء` أما `المرأة الجالسة` أو `التفكير` فيختلف فى التناول ومنطق التشكيل، ارتفاعه ستون سنتيمترا من الجص المصبوغ بالأصفر الخفيف حتى يبدو كالحجر لم يبالغ هنا فى الاختصار والتغاضى عن التفاصيل، لكنه عمد إلى الاستطالة فى بعض الأطراف، حتى بدت السيدة كأنها كائن من عالم الجن، يختلف فى ذلك جذريا عن استطالات الايطالى `جاكومينى` الذى تحول عن المضامين الإنسانية الى موسيقى الأشكال حين يتطلع المتلقى الى تمثال `المرأة المفكرة` أو الجالسة، يخيل اليه أنها لن تلبث أن تعتدل وتبادله أطراف الحديث، كان يحب المرأة ويقدسها الى حد أنها كانت النسيج الخفى الذى يلف حياته، وربما احساسه العميق بوجودها، هو السر الغامض للحركة والحيوية والسحر الكامن فى صورها وتماثيلها، كان مثقفا فى ذلك مع أجدادنا الأوائل الذين اعتبروا المرأة منبع الحياة.. بل الحياة ذاتها، يقول الدكتور الرخاوى ان `كمال` وصل بمفاهيمه ومدركاته عن الجنس الآخر الى درجات وأعماق غير مسبوقة ونحن نتخذ من هذه الملاحظة نبراسا نضيئ، به طريقنا الوعر فى أدغال الابداع الرفيع لفناننا الراحل.
- مضمون الثورة والاحتجاج والتحفز، هو الذى يطبع صوره وتماثيله مهما كان الموضوع أو المعالجة والأسلوب نراه فى تماثيل الديوك المتهارشة أو الصائحة وهى تمد أعناقها وتوقف عروقها، أو تماثيل `الجلاء` والمسألة و`عيشة` و`امرأة جالسة` أما تماثيل الأسماك التى اشتهر بها فى خشونة معالجتها ولونها الأسود واشكالها الصخرية الصلبة، وملامسها الموحية بالحركة والانطلاق، فتوحى بالتوتر والغضب النابع من شبح اليأس والهزيمة، ولا شك فى أن هذه الاحاسيس كانت تعتمل فى جوانحه أحيانا ككل الناس، وبخاصة وهو إنسان مرهف الحواس، تؤيد هذا الادعاء كتاباته التى امكننا فك رموزها، تحدث فيها عن النزيف المستمر الذى كان ينتابه حين تستبد به العلة، و`الحيرة` فى مواجهة مواقف الحب، فكثيرا ما يكرر كلمة `لا أدرى` لعدة مرات فى صفحة واحدة إشارة الى التسليم، لكن الأمر بالنسبة للرسم والتلوين يختلف عن النحت وان اتفق المضمون، فالألوان هى لغة التعبير وليس الحجم والكتلة والفراغ والنور والظل، والاسقاط الفورى متاح بكل ابعاده، فرسم اللوحة لا يتطلب إعداد `قالب` وصب نسخة جصية ثم تلوينها حتى تسمح الظروف باستخراج النسخة البرونزية التى يحلم بها كان الرسم فى سنواته الأخيرة شغله الشاغل لا يكاد ينتهى من لوحة حتى يلقيها فوق الأكوام المحيطة بمقعده فى الغرفة، ثم يشرع يلون غيرها وكأنه مكلف بابداع آلاف اللوحات فى وقت ضيق، لكنه إذا عرضها اعدها بما هى جديرة به براويز انيقة مناسبة، وعلى الرغم من ضيق ذات يده..
- .. كان يرسم فى غرفته فوق السطح على طريقة `الاستدعاء الذاتى` وهو أسلوب معاصر يشحن العمل الفنى بطاقة داخلية مشعة للخارج ، لابد من تبنى صفات خارجية صادرة من نموذج حى أو منظر طبيعى، فكل مشاعره تحرمه من حرية التعبير عنها، وقد ترجم هذه الفكرة فى تقديمه لاحد معارضه بقوله: ان العمل الفنى خلية حيه قائمة بذاتها ولها حياتها الخاصة.
- صور الجسم الآدمى بلا رأس أو أطراف وسط هياج من الألوان الداكنة، تتخللها شرارات من الأصفر كالنجوم فى سماء ليل بهيم، ورسم بالفرشاه بالأبيض والأسود خطوطا غارقة فى أمواج رمادية متدرجة، لكنه استخرج فى كل الأحوال تعبيرا غريبا حافلا بالأسرار مشعا بالسحر، يوحى بمشاعر دلال يتخلص منها المتلقى قبل ردح من الزمان.
- رحل عنا `كمال خليفة` منذ 20 عاما وتوقف عن الابداع، لكن لوحاته وتماثيله مازالت تمدنا بالمزيد من الرؤى والأفكار والأحلام، كلما اتيحت الفرصة لتأملها حتى يأتى يوم يستيقظ فيه المسئولون عن الحركة التشكيلية فيفردون لروائعه حجرة فى `متحف الفن الحديث` الذى لم يشيد بعد ولنا عودة..
الناقد./ مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول)
مقاومة العدم بالفرشاة
- كم رأينا من فنانين باغتهم الموت فى ريعان شبابهم، وكم قصف من أغصان مثمرة، بل رأينا منهم من كان يستشعر شبحه الزاحف نحوه على مهل، ومع ذلك ظل ممسكا ريشته ومواصلا إبداعة وهو يعرف أن النهاية آتية لا ريب فيها، فترجم أحاسيسه المأسوية فى آيات من الفن تعبر عن آلامه، أو حاول بها ترويض هذا الشبح والتعايش معه فى علاقة فلسفية تفضح عبثية الحياة، لكن هل بوسعنا أن نتخيل فنانا يصر على رسم الزهور المتفتحة ووجوه الصبايا اليانعات، ويصدح بفرشاته بألوان البرتقال وخضرة الحقول، وينشر لمساته العفوية فى براءة الأطفال، بينما ينزف صدره كل يوم دما، ويعرف أن أيامه الباقية فى الحياة معدودة؟
- إنه أمر يفوق الإنسانية، لكنه حدث بالفعل للنحات والمصور كمال خليفة، الذى لفظ أنفاسه الأخيرة يوم 10 أكتوبر 1968 مصابا بمرض صدرى، وحيدا فى حجرة بائسة فوق إحدى العمارات قرب ميدان باب اللوق بالقاهرة، بلا قريب أو طبيب، مفلسا لا يملك نفقات العلاج، عن عمر يناهز اثنين وأربعين عاما وعدة شهور، وإذا عجز فى سنواته الأخيرة عن العمل فى النحت أو حتى عن رسم اللوحات الزيتية فلم يكن أمامه غير الورق الأبيض يدفق عليه ألوانه المائية ويشكل بالمساحات اللونية واللمسات الطليقة رؤى تعبيرية جياشة بالحياة والأمل فى عشرات أو مئات الصور، كأنما تفيض من نبع عميق لا ينضب ، أو كأنما يدخل بها مبدعها فى سبقا محموم مع الموت الماثل أمامه، وفى هذا السباق اللاهث لم يقف ليلتقط أنفاسه أو لينظر إلى ما أنجزه بالأمس أو حتى يتأمل ما يفعل، بل وأشك فى أنه كان يفكر آنذاك فى مصير كل هذا الإنتاج، وفيما إذا كان سيعجب أحداً أم لا؟ فهو لا يبالى بالمعايير الجمالية السائدة حول الفن ولا بالتفاصيل الواقعية أو بالأشكال الطبيعية للأشخاص والأشياء، ورغم ما يملكه من إمكانات فنية فى هذا المجال حسبه أن يجعل الوجه بقعة كبيرة صفراء ليس بها غير ثقبين مكان العينين والجسم مساحة عريضة خضراء والشعر قوساً أحمر مشتعلاً وآنية الزهور مستطيلا برتقاليا تخرج من دائرتان خضراوان فوق مساحة داكنة.. هكذا يسقط مشاعره الفورية معانقا الحياة فى جوهرها البدائى البسيط، ويصوغ الأشكال كرموز تكفيه للتعرف عليها، ولا يعنيه كثيراً أن يتعرف عليها غيره، لكنها بقوة الصدق والتواصل مع نبع الحياة أصبحت لغة حية متجددة مع الزمن، وإضافات فنية كالكشوف الباهرة تضئ الطريق لأجيال من الفنانين.
- ولد كمال خليفة بمدينة طنطا يوم 29 مارس 1926 وأتم دراسته الثانوية بالمدينة، ولا نعرف شيئا عن ظروف نشأته أو متى أتم دراسته الثانوية بالتحديد، لكنه التحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1949 ( أى وهو فى الثالثة والعشرين) ولم يستكمل دراسته بها، ويبدو أنه كان يعانى ظروفاً اقتصادية ومعيشية صعبة دفعت به إلى حالة من عدم الاستقرار، فوق ما كان يعانيه من قلق دائم، مهموما بمشكلة الوجود وباحثا عن معنى له، متمزقا بين واقع غليظ لا يبالى بترف التأمل الوجودى، ولا حتى بحياة الفرد الموهوب إذا خرج عن القطيع، وبين تطلعات رومانسية إلى عالم يسوده الحق والعدل والجمال. ووجد فى القراءة والفكر والشعر عزاءه عن تحقيق ما يحلم به، كما وجد فى النحت والرسم أداة لامتلاك توازن نفسى مستحيل، وجعل من اللوحة خريطة للبحث عن السر وراء الأشياء البسيطة واللون هو دليله الخاص، على أمل الهروب من مأزق التيه الدائم بالعالم الخارجى، والكشف المستمر فى طبقات الذاكرة عن الهدوء الداخلى، لذلك لم يكن شاغله حلاوة اللوحة أو دغدغة مشاعر المتفرج ، بل كانت عملية الخلق ذاتها وسيلته، كى تتزن خلال لحظات الإبداع الموسومة بالفوضى مقومات النفس الواعية بإمكاناتها فى التعبير بمادة صعبة اسمها اللون والخط: حسبما كتب الأديب نبيل نعوم فى تقديمه للمعرض التذكارى الذى أقامه له عام 1989.
- وهو إذن شخصية اتسمت بالقلق وعدم الاستمرار منذ شبابه الباكر، لا يستطيع الرضا بسهولة عما حوله أو عما يفعله هو نفسه، ومن ثم فإنه ترك كلية الفنون الجميلة بعد ثلاث سنوات من الدراسة، لعدم اقتناعه بالمنهج الأكاديمى المعتمد أسلوبا وحيدا للدراسة، وترك نفسه للواقع يمارس مهنا مختلفة، لكنه يحاول العودة إلى مدينة طنطا، بل عاش حياة بوهيمية يمتزج فيها الفن بالسياسة، والشعر بالصعلكة، فى ظروف من الفقر الشديد، وبرغم ذلك كان قادرا على الحلم بحياة أفضل لوطنه، متخذا من التوجيهات الثورية طريقا للحلم لتغيير العالم، إلا أن المرض الصدرى يتمكن منه ويقهر إرادته على الانطواء والاكتئاب، عاجزا عن تدبير النفقات الباهظة لعلاجه والغذاء الضرورى لمقاومة ضعفه، فى مناخ من ضعف الحركة الثقافية - خارج الإطار الرسمى - وعجزها عن احتضانه وحمايته.
- كان المجال الذى برزت فيه موهبته قبل مرضه هو النحت وقد ترك لنا ثروة من التماثيل تعد رائدة لمصادر هذا الفن فى الفترة التى ظهرت فيها (الخمسينيات وأوائل الستينيات) تأثر فيها بالاتجاهات الحديثة بالنحت العالمى، جاعلاً من جسد المرأة مجالاً للبحث الجمالى فى شكله المطلق، وإن كان يتمثل فيه بكثير من القيم الجوهرية فى النحت الفرعونى، من رسوخ الكتلة ورصانتها، وتحررها من التفاصيل النثرية ، بحثا عن علاقة الإنسان بالأبدية، كما يتمثل فيه بالفنون الفطرية والبدائية جاعلا من تضاريس الجسد وملامسه المتنوعة ايقاعا نغميا بالغ الرهافة ومن المبالغة فى نسبه وتحريرها واختزالها الشديد شكلا متفردا يقف بين الواقع والاسطورة.
- أما فى لوحاته فإن الشكل الفنى لديه وثيق الصلة بنزعته التعبيرية الجياشة، إنه تعبير عن علاقة التوتر الدائم بين الفنان والعالم الخارجى، بل بينه وبين العالم الداخلى وأعماقه، فضلا عن علاقته المتوترة بسطح اللوحة ومن ثم فإنه لا يفكر أثناء الرسم فى الشكل لذاته لكنه أيضاً لا يربطه بموضوع معين أو بمضمون محدد سلفاً، بل يخضع غالباً لحالات وليد شحنة عاطفية رومانسية حادة يفرغها دفعة واحدة وبحرية مطلقة فى جمل تشكيلية عفوية ، اقرب إلى حالات اللعب بالألوان والخطوط ، مثل طفل مشدود إلى بهرة الاكتشاف لعالم مجهول، ومن هنا قد يستوى أن يكون موضوع لوحته وجه فتاه أو آنيه زهور أو أِخاصا واقفين أو جالسين أو مجرد مساحات لونية متداخلة لأن كل ذلك ما هو إلا ذريعة لنقل انفعال لحظى من خلال التوازن البنائى الذى يقوم علية العمل الفنى، لذلك فإننا نجهد انفسنا بغير طائل، لو حاولنا تفسير هذه (التيمات) تفسيراً موضوعياً أو حاولنا مشابهتها بالواقع الخارجى، لانها لا تشبهه فى شئ ولا تسعى إلى ذلك ..
- ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نتصور أنه كان يملك رفاهية التغنى بلغة الشكل المطلق وإن بدت كذلك لوحاته التى تقترب من الدراسات العفوية فى الخط والكتلة والمساحة واللون، حيث يردها الى جذورها الهندسية، مجردة فى أشكال الدائرة والمستطيل والمثلث.
- إننا نرى الشكل، وإن بدا أكثر ميلاً إلى التجريد فى لوحات كمال خليفة، بمثابة قارب يجوب به النهر الممتد من ماضيه إلى حاضره ومستقبله الغارق فى الظلام، محاولا به إضاءة وحدته الممزقة ، بوهج الألوان والورود ووجوه الأطفال، وإن اجتاحته بين الحين والآخر نوبات من الكآبة تطمس هذا الأشراق فى لوحاته بلون الموت، إن لوحاته - مثل حياته القصيرة - تنويعات موسيقية على لحن زساسى يعلو ويخفت بين تجليات الحياة والموت.
- وبالرغم من قصر حياته فقد حصل على عدد من الجوائز المهمة فى النحت والتصوير مثل جائزة صالون مختار 1952، والجائزة الأولى لصالون القاهرة 1964، والجائزة الثانية لبينالى الإسكندرية والجائزة الثانية بصالون القاهرة 1967.
- أما أهم معارضه أثناء حياته فكانت موزعة بين متحف الفن الحديث فى مبناه القديم بشارع قصر النيل وقاعة اخناتون التى أقيمت فى الستينيات مكان المتحف، وقاعة أتيلية القاهرة، وقاعة أتيلية الإسكندرية.
- وما أكثر ما ترك كمال خليفة من لوحات وتماثيل ظلت لسنوات طويلة لا تجد من يحتفظ بها ويرعاها إلى أن اهيم بها أصدقاؤه ومحبوه وأقاموا بها عدة معارض متفرقة وباعت أسرته العديد منها بأرخض الأثمان دون حصر أو توثيق يساعد على متابعتها لدى أصحابها، ويبقى أن تبادر وزارة الثقافة الى اقتناء ما يتاح توفره من أعمال ووضعه فى المكان اللائق به بمتحف الفن الحديث، كما يبقى أن تهتم بالبحث عن مذكراته التى ملأت كراسات عديدة، كان يحرص على أن يسجل فيها آراءه وخواطره ومشاعره حتى وهو يعانى سكرات الموت.
- فهل نأمل فى جمعها وتحقيقها ونشرها فى كتاب لتصبح واحدة من أهم الوثائق فى حياتنا المعاصرة؟
تأليف: عز الدين نجيب
من كتاب (فنانون وشهداء)
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث