|
مصطفى محمد أمين الفقى
وداعًا أستاذنا الفنان مصطفى الفقى
- عن عمر يناهز 87 عاما.. رحل استاذنا الدكتور مصطفى الفقى.. معلم الاجيال بقسم التصوير بالفنون الجميلة بالقاهرة.. بعد رحلة من الابداع.. أمتدت لما يربو على ستين عامًا.. بمراحل عديدة.. تمثل حالة خاصة فى الفن المعاصر.. فى أعمال شديدة الانسانية.. كشخصيته التى تحمل من البساطة والتواضع.. ما يجعلنا نعتز بأنه.. كان بيننا.. بما يمتلك من حكمة فيلسوف.. ولمسة أستاذ فى فقه التصوير.. وهو مروض الضوء الذى تالق.. فى لوحاته بمحطات ومراحل عديدة من القاهرة.. كما فى دنيا الحمام والنبض الشعبى للبسطاء من أهالينا.. إلى مناظر من إيطاليا وتركيا.. مع أبتهالات الكعبة المشرفة.. فى مجموعة `الحج` بما تحمل من عمق الوجدان.. تضفى عليها شلالات الضوء.. تلك الحالة من الأشراق الصوفى وعمق الابتهال.
- مروض الضوء بين هديل الحمام.. وابتهالات الكعبة المشرفة
- الإسكندرية.. القاهرة
- تعددت لقاءاتنا مع الفنان الفقى.. إلا أن اللقاء الأكثر ثراء فى الحوار كان بملتقى الاقصر الدولى للتصوير.. وكان مكرمًا فى دورته الخامسة عشر عام 2022.. وهو من شارك فى دورته التاسيسية.
ولد فناننا عام 1937 بمدينة طنطا.. لأب يعمل مهندسا بهيئة السكة الحديد.. وفنانا فى لوحة الخط العربى بسلاسل الذهب من دنيا الخطوط والزخارف العربية.. وكان هذا الإبداع ما جعل الأبن ينجذب لعالم الفن.
- وهو فى الثالثة من العمر.. أنتقل والده إلى الإسكندرية.. ومع تشبعه بروح البحر والمدينة المفتوحة على مختلف الاجناس والثقافات.. أكتشف أستاذه فى التربية الفنية بمدرسة `امير البحر` موهبته فى الرسم.. وكان ينال تذاكر مجانية من أستاذ اللغة الفرنسية.. ليشاهد أحدث الأفلام بسينما `بلازا`.. تشجيعًا واعجابًا برسومه.
- كانت الأقامة بعد ذلك بالقاهرة.. ألتحق الأبن بمدرسة الزمالك الفرنسية.. هناك زينت رسومه فصول وإبهاء المدرسة.. وفى مدرسة الخديوية الثانوية بالسيدة زينب.. تصدرت لوحة صرحية واجهة المدرسة.. رسم فيها جمال عبد الناصر وانجازات الثورة بالوان زيتية.
ومع أجماع أساتذته على سطوع موهبته فى الرسوم.. ألتحق بالفنون الجميلة بالقاهرة بقسم التصوير.. وتخرج منها على يد أساتذة كبار من رواد التصوير: يوسف كامل وحسنى البنانى وبيكار وعبد العزيز درويش وعز الدين حمودة وامين صبح.
- وعالمه
- تخرج فناننا عام 1964.. فى واحدة من أقوى دفعات قسم التصوير.. كان نجمًا مع نجوم لامعة من بينهم: محمد رياض سعيد وصبرى منصور وحسن عبد الفتاح.. ونذير نبعة من سوريا.. وقد شكل لنفسه مساحة متفردة.. تألقت فى التصوير المصرى المعاصر.. بأعمال تعد بحق فى عمق `التعبيرية`.. جمع فيها بين روحانية النبض الشعبى وابتهالات الضوء.. خلاليقاعات تنوعت بثراء فى التعبير والاقتصاد اللونى.. فى أغلبها أقرب إلى `المينوكروم` أو اللون الاحادى لكن تبدو.. متعددة الألوان بتجليات وإشراقات الضوء الهامس والجهير.. بدرجات السلم الموسيقى.. ما أشبهه بعازف الناى يطرب ويشجى.. بتلك المعزوفات البصرية.
- محطات
- وإذا كانت الغربة تلقى بظلالها على عالم الفنان عمومًا.. وهناك ثلاث محطات سافر فيها الفنان الفقى: كانت بدايتها إلى روما فى رحلة بحث للحصول على الدكتوراه فى السبعينيات `حصل عليها عام 1979`.. وأنتقل إلى السعودية للعمل أستاذا هناك من 1983-1989.. كما سافر إلى تركيا لمدة عامين من عام 1995.. إلا أن فناننا ظلت ريشته متوهجة مع تجدد طاقته التعبيرية.. حتى أنه أضاف الكثير إلى عالمه من هنا وهناك.. وتعد فترة سفره بالسعودية.. فترة من التألق بمجموعة `الحج` التى تمثل أضافة وحالة تعبيرية من السحر الصوفى.. وأشراق الصورة الدينية بالمفهوم المعاصر.. بعيدًا عن التكراريات النمطية.
- والفنان الفقى يعبر عما يعيشه ويستشعره فى فضاءات التصوير.. من خلال ما حوله من عناصر وأشياء وكائنات.. وما توحى به الطبيعة وصور الحياة اليومية.. فى أعمال تمثل دراما من التفرد.. بهذا العالم الذى يمتد من دنيا الحمام.. إلى مناظر من شوارع قاهرة المعز.. جعل منها أسطورة فنه.. فيها روح الحياة وبهاء العمارة.. التى تتنفس بملاحم من الأضواء والظلال.. وتنوع فى التشكيل ورصانة فى الايقاع ولغة لونية خاصة.. مع حركة البشر.. فى حوارات وإيماءات.. ممن يشكلون `عطر الاحباب`.. بالتعبير الجمالى ليحيى حقى.. هذا مع تنوع موضوعات لوحاته لمناظر الطبيعة والزهورو الطبيعة الصامتة.
- وربما كانت لوحة `سنان السكاكين` بايقاعها الفريد.. ومسحة القدم والحركة الدائرية مع الغموض الذى يكتنف الوجه المختزل.. بمثابة مفتاح لأيقونة فنه فهى مع براحها التعبيرى ودراميتها بين التلخيص والاختزال.. تعد من أجمل ما قدم من فن مصرى معاصر فى العمق الشعبى مع أعماله الأخرى.. من خلال هذا الترديد بين الحركة الدائرية فى `عجلة المسن` والحركة القوسية للرجل.. مع تلك الألوان الهادئة الخافتة.. فى همس بين أطياف البيج الهامس والابيض البرىء.
تقودنا إلى غرابة شخوصه.. التى تعكس مع روحها الانسانية.. الصمت والغموض فى دراما تعبيرية.. ما يجعلها خارج الأطار الطبيعى.
- هديل الحمام
- ولا شك أن لوحات الحمام عند الفقى.. تبدو مساحة من التامل تجاوز فيها المعتاد والمالوف بلمسته.. واختلاف الايقاع من لوحة الى اخرى.. من تنوع البورتريه `الصورة الشخصية للحمامة`.. إلى جماعات الحمام من الثنائيات والثلاثيات والرباعيات وحتى المشاهد الجماعية.. فى أوضاع وحركات مختلفة أشبه بحوارات البشر.. بكثافة النور والعتمة وهمس أقرب إلى الهديل.. فيها مناجاة ومناغاه.. بلغة الصورة من الصمت والسكون.
- وإذا كانت حمامات الفقى مع خصوصية منطق التشكيل والتعبير.. تذكرنا كموضوع بأستاذه وأستاذنا الرائد يوسف كامل فى لوحته `الحمام`.. ولوحات بيكاسو للحمام التى اتسعت مساحتها فى مرحلة من مراحله وأشهرها حمامة السلام `1949` وحماماته الشهيرة من `البلكونة`.. التى تمرس بها من الخمسينيات.
- إلا أن دنيا الحمام التى عكف عليها.. بتأملاته اتسعت مساحتها فى ديوان شعرى حافل بعشرات اللوحات.. بدت فيها الأضواء تذكرنا بالضوء عند رمبرانت.. ولكن بلغة اخرى أسهم فيها اللون.. مع هذا المزيج والتوليف العجيب من التآلف والأمتزاج بين الحمامات وعناصر من الطبيعة الصامتة من الأوانى.. والقنينات ولمبة الغاز بما يوحى بالحركة والسكون.. والثابت والمتحرك.. والجماد الذى تدب فيه روح الحياة.. ينتقل بنا خلالها إلى أفق آخر وفضاء تصويرى متفرد.. فى قلب وعكس الضوء.
- وفى لوحاته العديدة لبورتريه الحمامة.. تنوع الأيقاع فى التكوين والتلوين.. فبدت أحداها مسكونة بالضوء.. خارجة من `بنية` فى فتحة دائرية على خلفية من البيج.. كما بدت أخرى غارقة فى الظل مسكونة بالغموض.. باثتثناء بقعة من الضوء الباهر على الصدر.. بينما تستقر أحداها بالأبيض الشاهق والمنقار الأصفر على مسطح تكعيبى داكن بهيئة منضدة.. وبين الخلفية الغارقة فى الظلال تبدو بقعة دائرية ضخمة من البيج من أعلى ما يعطى حالة درامية.. نرى فيها حمامة السلام من التفاؤل والأنفراج.
- وأقتراب الفنان من النبض الشعبى والتالق الروحى.. يدفعنا إلى تأمل عالمه بعين الفن والفكر حين نطالع لوحة `بائع الفول`.. وقد بلغ فيها بلمسته ايقاعًا ضوئيًا فريدًا يمثل ذروة من ذرى الفن المصرى.. حين ينساب الضوء بلا أنتهاء.. فى بؤرة اللوحة.. يسرى متوحدًا حول الأوانى والقدر ويطوف برؤوس البشر فى حركة دائرية.. فتذوب الأشكال من فرط البهاء.. ما يمثل البعد الروحى لهؤلاء البسطاء من أهالينا.
- اختار الفنان الفقى البسطاء من الشعبيين.. والذين ينسجون أغنية للحياة بالعمل والأمل.. مع بائع الفول: الناس فى الأسواق والمطعم الشعبى والسوق وحلقة السمك.. بما يحملون من آلفة فيما بينهم على مسرح الحياة من عبقرية المكان.. مع تلك المشاهد الذاخرة بتعدد الأفاق والانتقال من حالة إنسانية إلى أخرى.. وإذا كان قد خرج وأنتقل فى الزمان.. إلى مكان آخر بالقطار حين تناول ركاب الدرجة الثالثة من هؤلاء الشعبيين.. إلا إنه أضاف بعدا اخر ومساحة مختلفة.
- وألوان الفنان تضفى المزيد والمزيد.. من البعد فى الزمن والاحساس بالقدم وكأننا نعيش حالة ميتافيزيقية كونية.. بتلك الوجوه التى تحمل من الغموض لإنعدام التفاصيل والتى تبدو مثقلة بالصمت والتساؤل.. ألوان هادئة هامسة يغلب عليها الرماديات من البنيات وكأنها من طمى النيل.. مع أمتزاجها بلون الأفق المتمثل فى لمسات محدودة من الازرق.. وإذا كانت شخوص الفنان تعكس للاحساس بالغربة بحياديتها فبدت سابحة فى زمن خاص.. زمن يمتد بمسحة ميتافيزيقية أو ما فوق العالم الطبيعى.. إلا أن المكان ومفرداته ينتمى إلينا.
- السحر الصوفى
- وتمثل مجموعة `الحج` مع ما تحمل من عمق الوجدان.. البعد الروحى للمكان تضفى عليها شلالات الضوء.. تلك الحالة من الأشراق الصوفى وعمق الأبتهال.. كما فى لوحته `رمى الجمرات` جعل منها مع توحد البشر فى بحر من الشوق أمتدادا فى زمن لا نهائى.. وجعل من `الكعبة المشرفة والطواف` أرتباطا قلبيًا بين البشر والتوحد مع المكان.. بدت الكعبة فى البعيد القريب.. ومستويات ومنافذ الدخول والخروج بين الأعمدة والأقواس.. بعدًا آخر فى الزمن.. مع الأختزال والتلخيص.. فى معنى لإكتفاء المتزود بالنور والجلال.. وأمتدت لوحات الفنان بالسعودية إلى مناظر السهل والجبل.. ومشاهد البيوت بروح المكان وتنوع وثراء فى تلخيص واختزال.
يقول الفقى: `كانت تجربة السعودية بالنسبة لى.. فترة خصبة فى الابداع مع الأمتلاء الروحى.. كنت موزع القلب بين الكعبة المشرفة والمدينة المنورة وأهلها الطيبين.. بالصفاء النفسى والهدوء الشاعرى`.
- تركيا.. المنظر والتجريد
- ولقد جاءت تجربة الفنان الفقى فى رحلته إلى تركيا.. محملة بشحنة تعبيرية تمثل أمتدادًا لعالمه.. مع أختلاف المكان والزمان.. بدئًا من مشاهد الطبيعة من الأشجار فى الخريف.. والبيوت التى بدت فى أيقاعات لونية غنائية يغلب عليها الألوان الدافئة من الأحمر ودرجاته الهادئة وما يتخلله من مساحات خضراء رصينة.. وإلى مناظره التى أختزل فيها العناصر والمفردات فبدت فى أيقاعات تجريدية خالصة أمتزج فيها الأفق بالأرض فى وحدة واحدة.. إلا من أطياف تشخيصية هامسة.
- تحية إلى هذا العالم بما يحمل من خصوصية.. ينتمى إلى ديوان التصوير المصرى المعاصر.. وسلام على مصطفى الفقى الفنان والأستاذ وتحية إلى روحه.. مع عزائنا للسيدة زوجته والأبنة الفنانة غادة والأسرة.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة 19-11-2024
قاعة أفق تحتفى بأعمال الفنان الراحل مصطفى الفقى
- وخلال مسيرتى داخل القاعة تخيلت الفنان مصطفي الفقي متواجد بيننا يستقبل الزوار وهو سعيد بهذا التكريم المتأخر، ولا أدرى لماذا لا نقدر الفنان فى حياته .
- كان الفنان الراحل دكتور مصطفى الفقى أستاذي فى مادة التصوير وقد تشرفت باختياره الإشراف علي رسالتى فى مرحلة الدكتوراه ، فكنت قريبه منه وأتعامل معه بصفة مباشرة كأستاذ وقد عرفته من خلال بعض المواقف التي تنم عن شخصية حساسة لأبعد الحدود ورغم سرعة غضبه إلا أنه كان متسامحا بمجرد أن تلقى عليه التحية ، وكان بمثابة الأب الذى ينصح أبناءه ، وكنت أذهب لزيارة قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة ، لأجتمع بأساتذتى ونستعيد معا ذكريات الدراسة ونضحك كثيرا ونتحسر على الماضي الجميل حيث كانت أعدادنا قليلة ساهمت فى تقارب المسافة بيننا على المستوى الإنساني والفنى ، وكان الفقى أيضا مترفعا عن المشاركة والتواجد في المعارض العامة ، حتي أن اسمه لم يذكر في معظم الدراسات النقدية للحركة التشكيلية المصرية ، كما يعاني بعض الفنانين التشكليين من تدخل الأهواء الذاتية في فرض النظم والتحكم في مصائرهم الفنية من يكون أو لا يكون ، وعندما كنت أكتب في سلسلة ذاكرة الفن بالهيئة المصرية العامة للكتاب ، وكنت قد شرعت في كتابة دراسة عن أعماله ومشواره الفني لولا وفاة الناقد الفنان عز الدين نجيب الذي كان يرأس السلسلة وقد حالت وفاته دون استكمال الدراسة ، ولكن الله عوضه بمن يمنحه هذا التقدير الذي يليق به فكانت قاعة ضي قبلة للفنانين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم الفنية من كبار الفنانين لأصغرهم ، فأصبح الفنان مصطفي الفقي عضو نشط وفعال في الندوات والمعارض وعضو في لجان التحكيم ، في مهرجانات المؤسسة الثقافية ضي التي أطلقت اسم الفنان مصطفي الفقي علي الدورة الخامسة لمهرجان ضي للشباب العربي، وقد خلقت قاعات ضي ذلك التوازن الثقافي المفقود في الحركة التشكيلية المصرية ، بحيث أصبح هناك مكان رحب لاستقبال طاقات شباب الفنانين وكبارهم ، وخلق سوق جديد يمنح الفرص لهؤلاء الفنانين لتسويق أعمالهم ، وتجديد الدماء ، وتخفيف العبء عن قطاع الفنون التشكيلية.
- وعندما نتناول أعمال الفنان مصطفي الفقي بالتحليل فنحن أمام فنان خارق متمكن من أحاسيسه وأدواته ، ينعزل داخل مرسمه ساعات طويلة ينفرد بلوحته هائما في حبها مهتما بالكيف، رغم رغبته الشديدة في التواجد بين الجموع ، وتتنوع أعماله بين التشخيص ، وفن المنظر ، واتجه إلي التجريد آخر مشواره الفنى ، والفنان مصطفى الفقي تخرج من كلية الفنون الجميلة قسم التصوير عام 1964 ، وحصل علي درجة الدكتوراه من روما 1979 ، وقد عمل بأحد جامعات المملكة العربية السعودية من عام 1989 إلى 1993 ، ثم ذهب إلى تركيا منذ 1995 لمدة عامين.
- والفنان مصطفى الفقى عاصر المد الثوري لثورة 1952 واهتم فيها الفنانون المصريون الذين درسوا فنون الغرب ، وكان الاتجاه السائد في تلك المرحلة هي تأكيد الهوية القومية المصرية ، فكانت لوحات الريف المصرى ، والأحياء الشعبية ، والتراث ، تتصدر المشهد الفنى المصرى ، وكان الانصهار الإنسانى بين المصريين فى أسمى مراحلة ، ولم يكن تناول الفنان مصطفي الفقي لتلك الموضوعات لمجرد مسايرة الأحداث أو الالتزام باتجاه معين ، بل إنه قام بالتعبير عن ذلك الواقع الذي يبدو قبيحا عند البعض بمخليته الفنية الحادة ليحول هذا القبح إلى قيمة جمالية لهؤلاء الشخوص البسيطة والشاكرة والتى نراها ضئيلة ، مقزمة ، فنشاهد (بائعات الخضار)،
( بائع السمك ) ، ( عربة الفول ) ، ( الحلاق ) ، ( لاعبي السيجا ) ، ( ركاب القطار ) ، ( عمال السكة الحديد ) ، ( صندوق الدنيا ) ، ( ماكينة الخياطة ) ( والسيدة التي تجلس على ماكينة ) رمزا للشقاء ، ( سنان السكين والمقص) ، ( زوار الأضرجة ) ،
( المقابر ) ، ( الحجاج حول الكعبة ) ، هو أراد أن يواجهنا بتلك الطبقة الكادحة ، لنرى فيها ذواتنا ، لتصبح مصدر لإلهامنا بما تتمتع به من ثراء إنساني ينبض بالحياة رغم تلك لمعاناة ، فنحن أمام مشاهد درامية محاطة بالسكون الذي يدفعك للتأمل والتغلل في أعماق هؤلاء الشخوص المنحنية ، والقابعة في تخاذل ، والمستنجدة بالله ، وهذا الرجل بوجهه المخيف الذي يشبه الشبح علي عصاه الغليظة بكلتا يديه بقوة محاولا اصطياد السمكة مؤكدا علي شدة الجوع ، وكأنه الساكن الوحيد في هذا المكان الموحش ، وفي مشهد آخر لرجل آخر يقبض علي سمكة كبيرة بيديه يحتضنها بقوة يخشي هروبها ، وهي بفاهها المفتوح في لحظة الاحتضار كأنها تتوسل له أن يتركها لتعود للحياة0
- وتنتمي أعمال الفقي للمذهب التعبيري وهو المذهب الوحيد الذي يلتصق بالرومانسية ، فيجمع بين الحركة الجسدية من جانب والحركة النفسية في التعبير من جانب آخر ، وعنصر الضوء في أعمال الفقي هو البطل الرئيسي ، مثيرا للشجن والعواطف فالضوء هو الطاقة المشعة التي يتجلي من خلالها العالم البصري ، وكأنه عالم لا محدود ، وقد استخدم الفقي اللون الأبيض في مساحات كبيرة خاصة الشخوص التي تبدو بملامح خفية غامضة وتكتسي ملامح الوجوه بالخوف والشرود لتثير في نفوسنا الرهبة والمهابة ، وفي فن المنظراستطاع التقاط مواطن الجمال خاصة أثناء إقامته في تركيا حيث ألوان النقية بلا غبار ، والغابات الشاسعة التي أتاحت له اختيار زوايا تبرز جمال المنظر الذي يذكرنا بالفنان ألفريد سيسلي ، والروح التأثيرية وقد استطاع الفقي تحويل تلك الشوارع القديمة ، والبنايات العشوائية أن يحيلها إلي مبان شامخة .
- واللون الأبيض لا يعتبر لونا وهذه نظرية استحدثها التأثيرين ، وللون الأبيض إيقاع الصمت ، وهو ما يعمق المحتوي الدرامي للمشهد فهو إيقاع يؤثر فينا تأثيرا سلبيا، كما اللون الأسود يرمز لصمت الموت ، وهو خلفية محايدة تبرز بقية الألوان ، وظلالها ويبرز شعاع الضوء ، وفي البورترية الشخصي للفنان رسم نفسه يرتدي البدلة سوداء وتظهر يديه باللون الأبيض الناصع كأنه روح شفافة ترتدي ثوب آدمي حتي أنه لم يهتم بتفاصيل الجسد ويظهر ، وجهه في الظل ، ويضع يده علي خده في لحظة تأمل واستسلام للقدر ، فالمبدع هو الشخص الوحيد في العالم الذي يشعر أن لديه الكثير والزمن لا يكفي كل ما تحتوي نفسه من إبداع فهو يحتاج لعمر آخر ، وقد استخدم الفنان الأبيض والأسود وما بينهما من درجات الرمادي الممزوج ببقايا ألوان أخري مثل الأخضر ، والأزرق ، حتي لا يصطدم بحركة الإبصار.
- ويرمز الأبيض إلي التجلي والحقيقة والتنوير، والشفافية الروحية ، والقوة التي تبدد الشر، وكما يرتبط بالحياة والحب فهو أيضا يرتبط بالموت والدفن ، وفى مشهد المقبرة حين سلط الضوء علي السطح الجانبي للمقبرة فظهرت باللون الأبيض يقف فوقها طائران بينهما مسافة والطائر الثالث يقف بعيدا علي الأرض في مشهد حزين بخلفية سوداء تمثل الظلام والعتمة ، وكأن فكرة الموت لم تفارق خياله ، وتفصح عن روحه الصوفية خاصة استخدامه للأبيض والأسود وهما من الألوان الصعبة التى لا يجرؤ أى فنان على استخدامهم بهذه الحرفية ، وقد اختار الفنان هذا اللون ليحول أشكاله وشخوصه إلي مخلوقات نورانية ، فالضوء هنا يحيط بالكتل والأجسام ، وهو يتسرب من الخلف ليبرز المعني العظيم وهو تهميش تلك الطبقة من المجتمع التي لا يسلط عليها الضوء من الأمام ليعكس حالة التجاهل واللامبالاة بهؤلاء البشر المهمشين.
- ولم يكتف بالتعبير عن الإنسان فقط بل اقتحم عالم الطيور وكأنه وجد فيها تلك المشاعر التى يفتقدها فى البشر، وبدأ يغير من نمطه ، فنشاهد هذا التنوع فى المضمون ودرجات اللون ، وتنوع مصادر الضوء الذي يتسرب من ثقوب وفتحات النوافذ ، والعشش ليسقط على أجسام الطيور التى تقف فى وضعيات مختلفة متآلفة مفعمة بالحركة والحياة والحب.
بقلم : أحلام فكرى
جريدة : القاهرة 14-1-2025
مصطفى الفقى و(الخيط الرفيع بين فقة التصوير ومغامرة التجريب)
- قراءة فى التشكيل المصرى المعاصر
- `جانباً من الدراسة الخاصة بالفنان الكبير د./ مصطفى الفقى`
- (الفقه) فى الإصطلاح هو درجة رفيعة من درجات الإدراك والفطنة، وهو الفهم التام للشيئ والعلم به والإلمام بأحكامه وقواعده، ويمكن أصحابة من ممارسة القياس والإستنباط بتمكن وفق القواعد والأصول والمرجعيات دون إخلال ومخالفة للأصل، فالفقيه هو ذلك المدرك لماهية الشيئ والواعى بباطنه قبل ظاهره، والقادر على التفريق بين الأصول فيه ومشتبهاته، ولديه القدرة على البت فى قضاياه وملتبسات أراءه لكونه يجيد ويحسن الإدراك بماهيته، و(المغامرة) هى فعل ينطوى على المخاطرة والجرأة وكسر القاعدة والإتيان بفعل يخالف النمط وهو فعل غير مضمون النتائج والمخرجات، ولكنه يمنح ممارسه تلك الإثارة ويكسبه هذا الشعور بالتفرد والتميز والإختلاف، أما (التجريب) فهو مصطلح يعبر من إسمه عن ممارسة فعل غير مسبوق، وغير مضمون النتائج، ويمارسه هؤلاء الطامحين والشغوفين بتحقيق نتيجة مغايرة بغرض إستكشاف أبعاد جديدة وأفاق مختلفة، ويصاحب ذكره تلك الدرجات المتفاوتة من القلق والحذر والمجازفة أحياناً، ومن وجهة نظرى أرى أن ما يدفعنا نحوه ممارسته ينحصر فى دافعان أساسيان، إما الفضول وإما الإضطرار.
- وعلى تلك الخلفية المبسطة رأيت تلك التجربة التشكيلية للفنان والمبدع الكبير/ مصطفى الفقى، والتى كان لى الحظ فى الوقوف على أرصفة محطاتها من خلال جلسات حوار طويلة، أسهبت مع مبدعها د/ مصطفى الفقى فى جنباتها وتفاصيل مكونها ومثيرات الإبداع فيها وإستمتعت بسرده وشرحه لملابسات بعض مثيراته الإبداعية والتى لعبت دوراً كبيراً فى نصه البصرى، وكذلك مغامراته الدائمة فى ممارسة التجريب على عدة مستويات، وأتممت رحلتى فى إستعراضها من خلال تقديم مختصرها داخل هذا العرض الذى أطلق عليه البعض لفظة (الإستيعادية)، وهو ما أختلف معه جملة وتفصيلاً، فالعرض بعيدأ كل البعد عن تقديم عرض إستعادى لهذا الفنان الكبير وتلك التجربة الرخيمة والدسمة والأيقونية والتى ترقى إلى جعلها وحدة قياس للتجربة التشكيلية الحقيقية ، فالعرض الإستعادى لهذا الفنان الإستثنائى يحتاج لتلك المساحة المضاعفة من جدران العرض، وذلك التوثيق الدقيق لمحطات المنجز، وإبراز كافة التجارب التى مارسها مصطفى الفقى المجرب الفذ من خلال نص بصرى موازى لتلك التجارب، وكذلك الإسهاب فى التناول والقراءة من قبل نقاد حقيقين يحمل كل واحد منهم وجهة نظر فيها وقراءة مغايرة، ويعملون على تشريح تلك التجربة على خلفيات متعددة ونوعية، فهو واحد من الذين قدموا إسهاماتهم للحركة التشكيلية المصرية الحديثة والمعاصرة مع أقرانه من الفنانين الحقيقين دون جلبة مصنوعة وإبراز مفتعل، وممارسة لفنون (اللقطة) التى يطل علينا ممارسوها ويمنحون أنفسهم ألقابآ ويضعون لمنجزهم تراتبية مزيفة ومصطنعة، فهى واحدة من التجارب التى لا يختلف عليها المتلقى بشكل عام على إختلاف ثقافته رفيعة كانت أو متدنية، متخصصة كانت أو غير متخصصة.
- وهى تجربة لا يليق بها مجرد مقال مواز لعرض، ولا مجرد تناول بالشرح والتحليل لبعض الأعمال بل هى واحدة من التجارب التى تستحق التوقف المطول عند عتباتها والإسهاب فى تشريح وتناول مراحلها الدسمة، وتحليل محطات منجزها من أكثر من قلم وأكثر من فكر ووجهة نظر، فمن وجهة نظرى أن تجربة/ مصطفى الفقى، هى أعمق من مجرد عرض يضم جانبآ من أيقوناته البصرية وملمحآ من مرسمه الذى يتسم بنكهة من نكهات الأصالة وينضح بعبق يجبرنا على إستحضار جانبا من كلاسيكيات المشهد المصرى فى القرن العشرين، فأعمال مصطفى الفقى فى غالبيتها توازى تلك المتون التى توثق لزمن بعينه فى بقعة بعينها وأعتبرها تأريخاً للواقع المصرى متمثلاً فى الجانب الشعبى أكثر من غيره، وأعتبره دعوة منه لنا لنتعايش بصريأ وذهنياً مع أبطال أعماله وواقعهم ومفرداته وأجواءه....إلخ.
- وقبل التطرق إلى بعض من كل تجربة الفنان الكبير د/ مصطفى الفقى وهى بالتأكيد تستحق بجدارة دراسة مستفيضة ومتأنية ومتبحرة فى أغوارها كنت وما زلت مستمتعاً بالعمل عليها والتعلم منها، تلك التجربة التى لا يفشل أى مخرج بصرى لها من أن يجعلنى أتوقف للتمعن والفحص والسياحة ببصرى فى أرجاء مسطحه الذى ينم عن تلك الدراية بالفعل التشكيلى بشكل عام، والوعى بمكونات هذا الفعل من أسلوب وخطوط وتكوين ولون وتقنية مميزة ورامزة لإسم مصطفى الفقى بوضوح وخصوصية وتميز، ففقه هذا الفنان تحقق على خلفية وضعه لتشريعات خاصة به فى أعماله، وقد نجح بصورة مذهلة فى ضبط تلك التشريعات على كافة مرحليات تجربته الإبداعية، بداية من دراسة المثير الإبداعى دراسة تتصف بالشمولية وبالدراية الواعية بماهيته، ومقرونة بمعايشة حقيقية لهذا المثير شخصاً مفردا أو مجموعة كان أو منظرا أو عنصرا جامدأ أو مكاناً أو بناء معمارياً أو حدثاً معاصرا لوقته أو مؤرخاً ومسجلاً لحادث من زمن سابق، فهو لا يرسم بدافع الإستعراض أو بدوافع الغيرة الإبداعية، ولكنه ينجز مرادفاً بصريا لمعالجته الفكرية والبحثية للمثير الإبداعى، وهو لا يكتفى بذلك المشهد العاكس لهمه وإهتمامه بالمثير فقط، بل لا يتنازل عن تصدير تلك الدراما الجاذبة والناتجة عن أجواءه السحرية للمشهد، وسخريته الدائمة وتلاعبه بالظلال والأنوار فى تمكن وإقتدار وثقة.
- وأجد منجز الفنان الكبير د./ مصطفى الفقى قد تخطى تلك المساحة المحدودة من كونه منجز قيم وثرى مشبع بالقيمة والتفرد، ليصل إلى طرح إشكاليات جوهرية فى الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر الذى لا يتسع له هذا المقال المقتضب عن هذه التجربة الإستثنائية، فمنجزه التصويرى يعود بنا إلى نقطة البداية وهى الأدوات الأكاديمة التى أجاد إستخدامها ووعى تطويعها ليدخل تجربته التى نحن بصددها، فهو لم يمارس الواقعية التعبيرية والتعبيرية التجريدية وأخيرا التجريدية التعبيرية، قبل أن يلم بالكلاسيكية الأكاديمية ويجيد ممارستها ويظل مرتكزا عليها وعلى أحكامها طوال ممارسته التجريب الذى لا ينكر متذوق ولا باحث مدى وضوحه فى تجربته الطويلة والتى أصبحت من علامات التصوير المصرى الحديث والمعاصر، كما يطرح منجزه الإشكالية الأكبر وهو كونه إرتكز على أسلوبه وليس على تأثره بأساتذته، وهو ما نراه منتشراً بفجاجة فى واقعنا المعاصر، وهى إشكالية يطول الحديث فيها والمتهم الأول فيها هو الأستاذ الذى يدرس أسلوبه ولا يدرس القواعد الأكاديمية وليس الطالب الذى يعتقد أن حلول الأستاذ وأسلوبه المكتسب هو القاعدة ومن هنا تنبثق المشكلة وتتضخم.....، كما لا نغفل أهمية التجريب فى تجربة مصطفى الفقى ومغامراته التى أتت بمنجز نشعر معه بتجنبه لمشكلات التأثير والتأثر، فنموذج التجريب فى أعماله أثمر عن غزل خيط دقيق ومتين ربط بين فقه تصويره فى الواقعية التعبيرية وبين شغفه بمغامرات التجريب فى الشكل واللون والوسيط، فتجربة مصطفى الفقى تلاعبت بالوسيط ببراعة وحصلت من زهد الوسيط على ثراء المنجز، الأمر الذى عجز غيره عن إستخلاصه، وبرز ذلك فى وسائط ك (النشا والقهوة) ومعالجته لثبات الوسيط ودوامه الطويل نسبياً، هذان الوسيطان اللذان أنجز بواستطهما العديد من أعمال التجريد الأيقونية....
- ونستطيع حصر أعمال الفنان الكبير د/مصطفى الفقى بين عملين يمثلان نقطتى البداية والنهاية لمنجزه البصرى الذى امتد من عام 1964 وهى عام تخرجة من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وحتى رحيله فى 2024، تلك الرحلة التى إمتدت لستة عقود، أثمرت زخماً بصرياً ذا خصوصية وتميز وتفرد، والعمل الأول هو لوحة (عمال السكة الحديد) والتى كانت من مصوغات التخرج فى كلية الفنون الجميلة كمشروع لتخرجه فى هذا الصرح الكبير، وهى من الأعمال التى عكست قوة أداءه وبشرت بالقادم من تجربته، والتى تحتاج لمساحة نصية وبحثية كبيرة لإستعراض نصها البصرى بتفاصيله الهاضمة للمشهد وأبطاله وشخوصه وسينوغرافيته الممتدة بين أبطاله ومنتهى أفقه، وصولاً إلى عمله الأخير والمعنون بإسم (صندوق الدنيا)، هذا الصندوق الذى لعب دوراً كبيرا فى الواقع الشعبى المصرى حتى النصف الأول من القرن العشرين ولا أجد أفضل من وصف الكاتب الكبير/ إبراهيم عبد القادر المازني في وصفه بمقدمة كتابه الذى يحمل نفس الإسم (صندوق الدنيا)، والذى جاء فيه `كنا نفرح (بصندوق الدنيا)، ونحن أطفال...نكون في لعبنا وصخبنا فيلمح أحدنا (الصندوق) مُقبلاً من بعيد فيلقي ما بيده من (كرة) أو نحوها ويطلقها صيحة مجلجلة ويذهب متوثباً ونحن في أثره، ونتعلق بثياب الرجل أو مرقعته علي الأصح. يصف المازني في مقدمته مشهداً كاملاً للرجل صاحب صندوق الدنيا فيصفه قائلاً: لحيته الكثة الغبراء مثنية على صدره. ويوضح أيضاً وصفاً للأطفال المنجذبين حول ذاك الرجل فيلتفوا حوله من أجل المتعة، فتندفع الأيدي على الجيوب تبحث عن الملاليم وانصافها فتفوز بها أو تخطئها...، ويقبل `المُعدم` على المُوسر يستسلفه مليماً، ويحدث في عالم الصغار ما يحدث في عالم الكبار، من جود وبخل...، ويقعد السعداء ويُقبلون على `الصندوق`. ويُصوّر أيضاً ما يعرضه الرجل من خلال ذاك الصندوق حين يقول: ويطل الرجل من عين في جانب `الصندوق` ويدير `اليد` فتبدو لعيوننا المُشرئبة صور `السفيرة عزيزة` ربة الحُسن والجمال، و`عنترة ابن شداد` الذي كان يهزم الجيش منفرداً و`الزير سالم` و`يوسف الحسن` إلخ...... `فى هذا العمل الرخيم للمبدع الكبير د/مصطفى الفقى. أجده قد تخطى مجرد العروج على وسيلة ترفيه شعبية رخيصة مثلت نافذة على الدنيا للصغار والكبار فى هذا الزمان، ولا يذكرها السواد الأعظم من المعاصرين منا، ويجهلها الغالبية منا، وذهب إلى إستحضار روح الحالة التى عايشها هو شخصياً برمتها وأجوائها وشخوصها، إستحضر اللهفة فى عيون الأطفال والمعاناة فى شخص صاحب الصندوق المجهد من السعى فى الحارات متطلعاً فى جمع ملاليم وقروش يومه.
- وما بين العملان يفصل ستون عاماً من التناول والمعالجة والتسجيل لموضوعات وشخوص الواقع مصرى ذات الخصوصية وأسلوب الحياة المميز له عن غيره من المجتمعات، عالجه الفنان والمجرب الفذ/ مصطفى الفقى بأدواته الفكرية والمفاهيمية والتقنية بإقتدار وتمكن ومن زوايا بصرية وتعبيرية وتقنية ولونية خاصة به، ولا يفوتنى العروج على معالجاته التشكيلية لحادثة (دنشواى) الشهيرة فى مطلع القرن العشرين، تلك الحادثة التى تفاعل معها أساطين التشكيل المصريين وأنجزوا لنا مشاهد جسدت الحادثة بمراحلها المختلفة من وقوع الحادث مروراً بعمليات القبض ثم المحاكمات وصولاً إلى مشهد المشانق الشهير.. ولكن أتى فكر وفرشاة مصطفى الفقى لتقبض على لحظة لم يلتفت لها الكثيرون وهى لحظة (الفجيعة) على وجوه أهل من تم إعدامهم، فى مشهد تراجيدى يحمل فى وقعه روح (سينما) مصطفى الفقى كاميراته الخاصة التى صورت لنا ذلك المشهد، وأتت تقنيته بروح ال (Action painting) والتى تجعلنا نجزم بأنه قد سجل تلك اللحظة فى ساعتها وحينها وبرمزيات الطيور المعبرة عن الشوءم والخراب فى الثقافة الشعبية المصرية كالبوم والغربان، وكذلك برمزيات تدلى الأرجل فى أعلى العمل ليستكمل خيالنا مشهداً لا نختلف عليه فى تصور المعدومين يتأرجحون على المشانق، المشهد فى جملته لم ارى فيه هذه التراجيديا التى قد يراها البعض منا.. ولكننى رأيت فيه براعة المعالجة، وجماليات الصياغة وحرية المصور المتفاعلة فرشاته مع الحدث، بل وجدت أيضاً فى ملامسه الخشنة التناغم مع طبيعة المشهد، ووجدت فى درجات ألوانه التى تجنح إلى (المونوكروم) توفيقاً غير عادى للمناسبة والحالة والأجواء، وصرخات النفوس وأنات القلوب، لقد نجح هذا المبدع الكبير فى أن يمنحنا زاوية جديدة لتلك الحادثة لم يتطرق لها غيره من الأساتذة والمبدعين.
- إن عالم هذا الفنان الكبير لهو عالم جدير بوقوفنا أمامه طويلاً، ولا يستطيع مقال متواضع مثل هذا أن يبرز نسبة مئوية بسيطة من مساحته الشاسعة وتضاريس فكره وآلياته الخاصة فى التناول والمعالجة، فتجربة مصطفى الفقى لا تنحصر فقط فى نصه البصرى الظاهر، بل هى أعمق وأثقل من مجرد مصور محترف تحقق تفوقه منذ البداية، لكنها أيضاً تضرب لنا مثلاً لنموذج من طرق التفكير فى الفن وإحترامه والتعويل عليه فى مجابه الزيف والجهل وتقديم القيمة الكامنة فى بساطة التفاصيل، وهى تؤكد بقوة أن الأصالة أبداً ليست فى صراع مع الحداثة وليست أبداً ضد مفاهيم التجريب المعاصر للوصول إلى حداثة ذات صلة بالجذور، وأخيرا أجد فى هذه التجربة نموذجا لكيفية تعبير الفن عن الهوية من خلال الإنتصار للموروث والتراث عبر النظر من زوايا جديدة، وتجريب تناولات ومعالجات تحمل وجهات نظر حرة غير مقولبة، لتخرج لنا سينما تشكيلية منتصرة للعوام والنخبة على حد سواء، وأجد فى فن وتجربة المبدع والأستاذ/ مصطفى الفقى إبداعا ومنجزاً يحمل مقومات الفن للجميع.. فإن كان هناك لقب الفنان الشعب فسأمنحه بإرتياحية ويقين لمصطفى الفقى. ليس لكونه تناول (البروليتاريا) فى عمال السكة الحديد ولا المهمشين فى اروقة المجتمع ولا جلسات المقاهى للبسطاء ولا طقوس الحج ولا الباعة الجائلين ولا عمارة المحيط الخاص به ولا مشاهد الطبيعة وعناصرها، ولكن لكونه نجح إلى حد بعيد فى وصل التشكيل وهو من متستهدفات النخبة بذلك الخيط الرفيع المتين ليتدلى إلى العامة من مشكلى الهرم الطبقى فى المجتمع على إختلاف ثقافتهم وتراتبيتهم، وينتزع أعجاباً وتقديرا وإحتراماً لدى النخبة لا يقل فى حجمه عن إعجاب وتقدير وإحترام العامة ويترك لنا تلك المعادلة الصعبة التحقيق والتكرار، ترك لنا نافذته الخاصة لننظر من خلالها على (سينما) مصطفى الفقى بثرائها وألوانها ودراميتها وأنوارها وظلالها ونضج حالتها.
بقلم: ياسر جاد
جريدة: القاهرة - يناير 2025
|