وليد محمد عبد الله قانوش
حوارات متوترة فى أعمال وليد قانوش
- المجتمع المصرى بأزمته الممتدة وحاجته الملحة للتحديث فى مواجهته مع العالم فى ثوبه الجديد المتسم بالكونية وثقافة الحدود المفتوحة المعززة بسيل المعلومات والمدعومة بتفوق تقنى هائل وفارق حضارى شاسع واختلافات ثقافية وعقائدية ملموسة يجد نفسه فى مواجهة من نوع آخر وصراع من نوع مختلف مواجهة مع الآخر بكل مخزونه الثقافى والقيمى والعقائدى وصراع مع أفكار وفلسفات مكتسحة لا ترضى لها شريكا أو منافسا وعليه - أى المجتمع المصرى – بكل حاضرة المتخلف والواهن أن يصد الهجوم أملا فى الحفاظ على هوية ثقافية وحضارية خاصة.
- إن تلك الملامح الثلاثة التى تميز المجتمع المصرى المعاصر ( المواجهة والصراع والتراكم) هى الأساس الفكرى للتجربة الفنية للفنان وليد قانوش, ذلك لكونها تصلح أن تكون عنوانا لتلك الفترة من تاريخ المجتمع المصرى المعاصر.
الناقد : محمد الناصر
مجلة نصف الدنيا يوليو 2010
وليد قانوش …. الأشكال تحقق وجودها الخاص
- من أبسط تعريفات الجمال وأقدمها وأشملها أنه محاولة لخلق أشكال ممتعة ، والمشكلة الأولى التى تواجه المصور هى مشكلة الشكل بمعنى البحث عن أشكال خاصة تؤكد تفرده ثم صياغة هذه الأشكال فى علاقات تنظيمية جديدة ، والمتأمل للتجربة التى يقدمها الفنان وليد قانوش فى هذا المعرض يكتشف أن
المثير الأهم بالنسبة له هو الكشف عن قانون الأشكال الخاص والاستمتاع بتوالدها وتكرارها ونموها واستحداث تراكيب جديدة منها ، ونستطيع أن نقول أنه يحقق عالماً موازياً للطبيعة بأشكالها التى لا تكف عن التغير والتطور والحركة المستمرة متآلفة معاً عن طريق ضرب من التماثل والتناظر أو التشابه . إذ ينظم مفرداته على صورة مجاميع وأنماط من المعطيات الشكلية ما بين هندسية تحمل صرامة العقل وحذقه وعضوية تحمل نزق العاطفة وانسيابها وكأنما قام بتجريد لانطباعاته الحسية والعقلية وتمثلها فى تلك الأشكال المتوالدة من بعضها البعض والمتآلفة فيما بينها و التى تُنسج معاً فى محصلة تطلق تعبيراً ما يختلف من عمل إلى أخر محققاً لما أطلق عليه علماء الجمال ` الحالة التعبيرية للذهن` ، فهو يقدم أشكاله من خلال نظام من الوحدة داخل التوتر ونظام من التآلفات الهارمونية الفيثاغورية الخاصة بالشكل واللون والتى تتأرجح بين انهمار وتدفق العاطفة وانتظام وهندسة العقل وربما نستحضر هنا كلمة كاندينسكى التى قال فيها `أن الحدود المسماة بالهندسية توفر للون إمكانيات إحداث إهتزاز خالص وأكثر مما تعطيه حدود أى شىء . فالحدود الهندسية أو الحرة غير المرتبطة بالشىء تثير انفعالات أكثر حرية ومرونة ..أنها ببساطة تجريدية. وأن الفنان يغتال الشكل الهندسي إذا استخدمه بصورة ميكانيكية وبدون وازع داخلى .
- وإذا كانت الدائرة والمربع والمثلث هى أصول لكل أشكال الطبيعة إلا أن صياغتها تصويرياً تقتضى وعياً لإحالتها لأشكال تعبيرية وقد نجح الفنان فى تحقيق هذا الحس التعبيري وشحنها بحس إنسانى واضح ، وهو يقيمها على خلفية خالية من أي علامات توحى بارتباط مكانى ما و لا يلتزم بوضعها فى أبعاد حقيقية ولا يهيىء لها مكانا مناسبا يحتويها من الناحية المنظورية بل يجعلها تبدو وكأنها تطفو فى فضاء مبهم ، إيماناً منه بقوة الشكل الهندسي وقدرته على تغيير المجال الذى يتواجد فيه ، والفنان يحقق مشاركة ناجحة فى الأعمال بين التركيبات الخطية وبين المسطحات اللونية للخلفية ، وقد اعتمد على الخصائص الملازمة والأصيلة فى أى خط أوشكل أو أو لون باعتبارها ` طاقات نفسية ` تساعد فى تأكيد القيم التعبيرية فى العمل الفني. وهو حين يستجيب بلا تفكير مسبق للبدء فى تلك الأعمال فكأنه فقط يستسلم لتلك ` الرغبة الغريزية فى التشكيل ` التى تستند لنوع من المثيرات البدائية للغريزة التى تدفع الفنان إلى أن يرتب احساساته تجاه الموجودات فى شكل من الأشكال . ويقوم الفنان وليد قانوش بمحاولة تفهم قيمة الشكل ومفهومه فى فن التصوير فى إطار أن الشكل قد يحمل فى ذاته العديد من القيم البديلة عن قيم المحاكاة والمشابهة . وهو يقدم تنظيماً خاصاً لأبجديات الشكل ليقيم بينها روابطاً جديدة تستحق التأمل ليصل من خلال بحث دؤوب لطرق خاصة فى صياغة تكويناته حتى أصبحنا نستطيع التعرف من خلالها بسهولة على أعماله فهو يمتلك عين الفنان البناءة التى تستطيع عن طريق التركيب اكتشاف ما فى أبسط الأشياء من جمال واستخراج حياة تتحرك في جنباتها الأشكال فتخرج عن طبيعتها السكونية . وفى النهاية يقدم لنا الفنان وليد قانوش أعمال جديرة بالاكتشاف تحمل خطواته الهادئة الواثقة فى صياغة تجربته التصويرية الخاصة .
أ.د: أمل نصر
وليد قانوش فى `ألعاب العقل`: قانون اللعب والاتزان
- `إذا رأيت حبلا يشد من الطرفين لشخصين متساويين في القوة، فسوف ترى الحبل ثابتا في مكانه، لكنه سوف يكون في نفس اللحظة مشحونا ومحملا بالطاقة`.
رودولف إرنهايم - الفن والإدراك البصرى.
- إذا افترضنا أن لغة الشكل إذا اتبعت نظاما دقيقا أو لنقل، نزعة رياضية المنحى. فهل سيمكنها ذلك من أن تصل إلى ما يصفي القانون الجمالي المعتاد دون التخلي عن إرثه ليجعلها تنفذ إلى شكل من أشكال التفكير المعادلي تصيغ من خلاله توازنا لمنطق جمالي خاص؟ أو ربما إعادة صياغة الحركة داخل مغامرة لها منطقها الرياضي. بحيث لا يكون هذا من قبيل الثقة الكاملة بحقيقة هذا المنطق أو طريقة التناو.، بقدر ما يكون الزَجُ بالشكل في احتمالات متعددة، يمكن أن نصفها بإحدى `ألعاب العقل` مع الواقع، وربما مع عبثية الحياة من باب آخر.
- عندما قامت النزعة الفلسفية المعنية بالمنطق وفلسفة الرياضيات والمناخ الأخلاقي المختلف في العالم الغربي في بدايات القرن العشرين. كان من أهم توجهاتها التعرض لمنطَقةِ اللغة باعتبار وجوب دقتها لتحقق المعنى فيها. ويعتبر ذلك التوجه الفلسفي مؤسسا لفلسفة اللغة التي أرهص بها راسل وتحققها فتجنشتاين، (دون الدخول في تفاصيل تلك الأفكار). فإن ما يعنينا هو الإشارة فقط لتلك الدقة التي يتحقق فيها المعنى/ وليس من خلالها. بمعنى أن اللغة هي حضور الفكرة، وليست فقط وسيطا لصياغتها، اللغة والمعنى كيان واحد. ولا يعني هذا أيضا أن اللغة هي كائن مجرد بقدر ما تكون هي الحركة التي تنبئ عن ذاتها من خلال الحياة والتجربة والمغامرة.
- إذا هل يمكن أن تكون المغامرة هي لعبة العقل نحو التآلف والموازنة داخل لغة الشكل؟ وهل يقوم العقل ببناء جملة العلاقات ما بين الممكن والعصي والمستحيل لجعل الحياة محتملة؟ إن كلا الشقين (انضباط اللغة وتوافقات العقل مع الواقع) هما اللذان يحققان ذلك التوازن ما بين ظواهر الحياة والوعي العميق بها. ويبدو أن ذلك هو الحراك الأساسي الذي نفذ خلاله الفنان وليد قانوش في مجموعة أعماله المعنونة بألعاب العقل.
- ويتبدى من اللحظة الأولى للرؤية أنه يحاول بجهد صياغة ذلك الميزان من خلال حبكة البناء وتنوع الكتلية التي تحفظ ميزان الحركة وعلاقته بمركز الثقل. ذلك الثقل الذي يبدأ من الزوايا متوجها إلى مركز العمل والذي يخضع لقانون بصري حاول الفنان إحكامة وترسيخة في بنائية صارمة أحيانا. تلك البنائية التي تتخلل وتتماهى مع منطق الشكل المجرد فتتوالد الحركة على المسطح من خلال بنية التقاطعات التي تحكم دائرة الإبصار في رحلتها عبر المسطح لتقودها إلى الارتكاز على النغمة الرئيسية التي صعد منها مقام الحركة.
- أفق الموسيقى ورحلة الشكل
- يظهر لدينا بوضوح تلك الصلة بين الإيقاع والشكل، أو لنقل الشكل في إيقاعيته. ونلحظ ذلك في مجموعة رسوم الألوان المائية المؤطرة بالزجاج، والتي يبدو فيها التشكيل وقد أخذ نغمات تتراوح بين التصاعد والهبوط. والتكرارية التي تنحو بنا لما يشبه سماع المقطوعة البصرية التي تتنوع ما بين الزخم والتهادي ومن ثمة التبسيط. إن هذا التشبيه يقربنا من روح الحالة البصرية التي يخاطبنا بها وليد قانوش في حبكتها. وذلك لارتباط الموسيقى بعلوم الرياضيات من حيث الانضباط والحدة ومن ثم الاتزان الذي تحكمه قوانين. إضافة لكونها (أي الموسيقى) في جانب مهم منها هي اتساق الحس الإيقاعي للحركة والوجود.
- كما تذكرنا جملة هيرمان هيسه في لعبة الكريات الزجاجية حيث يقول: `أما قواعد اللعبة ورموزها وأصولها فعبارة عن شيء قريب الشبه بلغة سرية بلغت درجة فائقة من التطور. أسهمت في تكوينها علوم كثيرة وفنون عديدة، وخاصة الموسيقى (أو بالأحرى علم الموسيقى). كل هذه المادة الهائلة من القيم الفكرية يلعب بها لاعبو الكريات الزجاجية. كأنها… أرغن بلغ كمالا لا يكاد العقل يتصوره، لوامسه ودواساته تلمس الكون الفكري كله`.
- الخط ومسار التكوين، وفاعلية التجريد
- تكمل مسارات الخطوط حالة اللعبة، لتزيد ربما من تلك السخرية التي تبدو وكأنها موقف من العالم المعاش. فالشخوص لا تظهر منها غير رؤوس شبه تائهة ومغماه بما يشبه نظارة الثلاث أبعاد. أو بما يشبه غطاء رأس سيقبع مستقبلا فوق الرؤوس ويجعلها على هيئة واحدة. ينتفي هنا حضور قطع اللعبة ورقعتها (الشطرنج) بمعنى أنها لا تعطي تلك الفرضية بأنها هي الإشارة الأساسية المقصودة لفكرة ألعاب العقل.
- فالعمل هنا يتعدى فكرة واحدة عن لعبة تتصف بالصنوية والتحدي والمواجهة. حيث تأتي الرؤوس هنا مراقبة أو متفرجة وبالأحرى متورطة في عبث ما يشير إلى فكرة التناطح التي تنبعث من الإشارة إلى لعبة الشطرنج. ليتبدى لنا أن اللعبة ليست لعبتنا، نحن فقط متوازيين مع تلك القطع التي تحركها قوة غير محددة بالضبط. توضح هشاشة الخط هنا الجانب العبثي بين الكتلة والكيان الذي لم يكتمل لصياغة اللعبة. وربما لصياغة الجزء الباقي من الحياة. ويذكرنا هذا بالرسوم المصرية القديمة على أسطح المعابد وفي جداريات المقابر عندما نجد الجانب المخطط من الرسم الحائطي. والذي لم يكتمل بنهاية حياة صاحب المقبرة أو الملك. وبالتالي تغلق دائرة الحركة الغير مكتملة لتجعل من ذلك النقصان مفهوما دالا على النهايات الغير متوقعة. أو على ذلك النقصان الهزلي الذي نسميه الحياة من جهة أخرى.
- يتبدى البشر وكأنهم فقط مساحات داخل القانون الهندسي للشكل، باعتباره موقف فكري لصياغة الرؤية. حيث يتحول كل شيء لصالح الاندماج في حالة التسطيح التي تصفي الشكل ربما إلى بعض عناصر أساسية يفرضها مكون العمل وقانونه. ولا أفضل تسميته بالتجريد كتسمية مطلقة في الحقيقة. ولكن أفضل أن أقول أن العناصر هي التي تتبع قانون الشكل. أو سيرورة التجربة التي يضطلع بها الفنان. لأن ذلك ربما يفتح أفقا أرحب للتفكير من المصطلح النقدي الذي تأسس عبر أحقاب ماضية لا يحتوي في اعتقادي على مفهوم مكتمل واضح.
- تأتي صناعة المنظور في مجموعة الأعمال المعروضة وكأنها تكشف عن عبثية البعد الثالث الذي تأسس سابقا في تاريخ التشكيل عبر معادلة الضوء والظل. حيث يبدوا هنا المنظور مكشوفا، أي أنه يبدو مسطحا أيضا وليس منظورا مجسدا للكتلية عبر الضوء والظل. وكأنه يكشف عن عبثية الإيهام بذاته، الأمر الذي يذكرني بحالة السينوجرافيا المسرحية حين يتم فيها إدماج عناصر الديكور التشكيلية مع حركة الشخوص. لكشف الوهم الذي تقوم عليه فكرة بناء الديكور، بل وتحويل ذلك الوهم إلى حالة هزلية ساخرة.
- الإيهام باللعبة
- كما أسلفنا بإيجاز أن حضور مكونات اللعبة (الشطرنج) الذي كان هاجسا للفنان يستقبل عناصرها ورقعتها على المسطح. ولكن يبدو أن حركة الفنان مع المسطح تجاوزت حدود اللعبة أو مفهوم اللعبة. بقدر ما كان شقي الوجود المتعارضين هما الأوفر حضوراً في طاقة التعبير البصري لدى الفنان. بما هو مشابه لشقي الحياة اليين واليانج في عقيدة التاو الصينية. فما بين ذلك التكسر للأفق وشبكة الخطوط المتقاطعة وعلاقتها بثبات رقعة الشطرنج، ينطرح ذلك التعارض. بل ينطرح أكثر من صراع طرفين، حيث الحياة تتكون من نقيضيها الأزليين.
- وإذا عدنا إلى مقولة إرنهايم حاول وليد قانوش الحفاظ على حبل اللعبة متوترا بشد أطراف اللعبة على مستوى الشكل. فقد وضعنا طوال الوقت أمام ذلك التكسر والتعارض للخطوط القائمة والمائلة. بينما يصنع الإيحاء بوجود القارب في أحيان كثيرة حالة من التيه في علاقته مع فضاء اللوحة. فهو ليس في حالة رسوٍ ولا حالة طفو، إنه فقط إيحاء تائه. بينما تتناغم أشكال المراكب في حالة طفولية فنتازية ليكون المقعد الفارغ كزوال للوضعية السلطوية عنصر يساهم في هزلية المشهد.
- إن تلك السخرية في رأيي ليست هي فقط موقف من العالم. حيث يبدو أنها تصنع واقعا موازيا يخص البحث عن انسجامية للروح في هزلية العالم، أو أنها طوال الوقت محاولة للتعادل. فتصبح هنا اللعبة مطابقة للحياة، وربما تكون هي الحياة نفسها فليس هناك فاصل في الحقيقة حيث إنه ليس هناك حقيقة بالفعل.
- يبقى هنا أن نقول أننا نتعرض لمفهومية العمل من خلال التفاعلات المؤسسة داخل العملية الإبداعية أو المتخللة العمل نفسه. فليس هناك أصدق من التعامل مع الظاهرة إلا في حالة حضورها النشط وتحولاتها مع الواقع والوجود. وهذا هو جوهر الظاهراتية فهي تتمحور بين التحقيب في الظاهرة وحضورها النشط في ذات الوقت.. ليكون هذا هو المحور الأساس في عرض وتقصى أعمال الفنان وليد قانوش.
بقلم : مهاب عبد الغفار
الناشر : باب مصر 27-2-2025
هرم وقمر وشجر فى دائرة الإرتقاء
- تظل الطبيعة هى البئر الغنى الذى يشبع الإنسانية دائماً على الأصعدة المادية والوجدانية والروحية منذ بداية الخلق البشرى ، لذا فقد ارتبطت المفردات البيئية بالتحولات الآدمية حسياً وحدسياً ، وهو مايتجلى فى تأثيرها على كثير من المبدعين فى مجالات متنوعة على رأسها التشكيل ، ومن أبرزهؤلاء الفنان القدير د . وليد قانوش ، حيث قدم خلاصة علاقته بالطبيعة فى معرضه الأخير ` هرم وقمر وشجر ` الذى أقامه فى قاعة ` النيل ` بالقاهرة ، عبر حوالى ثلاثين عملاً تصويرياً أنجزها خلال عامى 2020م و2021م على أسطح مختلفة من القماش والخشب بخامتى الألوان الزيتية والأكريليكية ، عبر مساحات صغيرة ومتوسطة إعتمد فيها على قدراته المألوفة فى التصميم والبناء والتلوين ، والتى ميزته منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1994م ، بعد أن عاش طفولته وصباه فى بلدة ` إيتاى البارود ` التابعة لمحافظة البحيرة ، بما أثر عليه فى الإندماج مع الطبيعة الريفية .. ورغم سيطرة العقل على بنائه التصويرى لعدة سنوات ، إلا أنه فتح فيه لاحقاً عدة أخاديد وجدانية وروحية أمدته بالنداوة والطراوة الرافدة من عشقه للطبيعتين الجغرافية والأنثوية عبر تجربة ثرية ممتدة ، وهو ما تجلى فى معرضه الحالى الذى ارتكز فيه على حالة من الإرتقاء السماوى ، متأرجحاً بين الإستحضار التراثى والحضور المرئى ، من خلال علاقة مثيرة بين الحدسى والحسى تمثلت فى ذلك الهرم ذى القاعدة المربعة الممثلة للجهات الجغرافية الأربع ، وحولها أربعة أقواس تشكل الدائرة التى تصغر تدريجياً مع الصعود مقترنة بطاقة العروج ، قبل أن ترتفع عليها أربعة مثلثات مشطوفة القمة لتكوّن أعلاها ` التل الأزلى ` كموطىء للإله تبعاً لتصور المصرى القديم ، ، علاوة على كونها تمثل سلسلة الدوافع السببية لتجليات الظواهر الطبيعية ، فى ألق روحى تواءم مع ميل وليد قانوش للإندماج الوجدانى مع القمر بشكله الدائرى وتوهجه النورانى ، وعلى جانب آخر كان تفاعل الفنان منطقياً مع النخلة بسموقها وسمتها الإرتقائى عبر استطالة الجذع بملمسه الحرشفى الخشن وافتراش السعف للفراغ الرحيب .. وعلى التوازى مع هذه التراكيب الحبلى بقوة الدفع لأعلى دائماً سنلحظ غرام وليد بالجسد الأنثوى إنطلاقاً من بعض تجاربه السابقة ، بما دفعه فى بعض المواضع التصويرية لدمجه بجزع النخلة ترميزاً للخصوبة والميلاد المتجدد ، وهو ماخلق لديه سلافاً مدهشاً بين الروحى والبدنى .. بين الوجدانى والجسدى ، رغم جنوح تراكيبه التصويرية إلى التجريد الخالص الخالى من الوجود البشرى المتعين إلا قليلاً ، بما جعله يجول فى براح الصورة عند مشارف الطيران ، حتى أن المتلقى ربما يشعر أحياناً أن بئراً للطاقة يربض فى قاعدة التكوين قبل أن تندفع منه التواليف التجريدية لأعلى فى طريقها صوب قمة المشهد الذى يكاد ينفرج على الجانبين لتبدو الكتل وكأنها ستغادر حيز الرؤية من فرط احتشادها بطاقة الدفع .. وفى هذا الإطار تتعدد مساقط التكوين عند قانوش ، بداية من الرؤية الأفقية وحتى منظور عين الطائر ، مروراً بتبدلات التلقى فى كل أركان المشهد ، بما يساعده على إحداث تباديل وتوافيق تصويرية مهجنة بالحركة الصاعدة من أسفل لأعلى ، وكذلك الدوامية المستمرة لكتل تبدو أحياناً بللورية كريستالية بفعل خطوط تحد حواف الأشكال التى يتصدرها غالباً الهرم من عدة زوايا ، وفى أحيان أخرى تظهر ممشطة بالفرشاه عبر عفوية أدائية تحت سيطرة وليد عندما يجسد جذع النخلة التى توحد معها فى مدينة ` رشيد ` عبر اقتران إيهامى خصيب بجسد الأنثى .. والمدهش هنا هو أن الملمس عند الفنان يحتل دوراً محورياً فى صياغة رمزيات الصورة ، حيث التنوع بين ملامس حراشف النخيل ولبنات الهرم وأوراق الشجر وشطائر الخبز ولحم السمك وبشرة الأنثى ، وهو الخليط البصرى الذى ارتكن فيه إلى دراسات دقيقة لعناصر غزل الصورة ، إضافة إلى حريته فى الكشط والكحت والمسح والنطر عبر علاقة لافتة لديه بين العفوية والنظامية .. بين التلقائية والصرامة ، على خلفية مهارته فى إحكام الصلة بين العضوى والهندسى فى كل أعماله التى بدت فيها الحركة الترددية لفرشاته بين البعدين الثانى والثالث .. بين التسطيح والتعميق ، ليتحول المثلث إلى هرم ، والمربع إلى مكعب ، والدائرة إلى كرة ، والعكس فى الإتجاه المضاد ، عبر حس تبادلى بين الإنكفاء والإرتقاء .. بين الإنقباض والإنبساط .. وربما كان الضى هنا عاملاً مؤثراً فى تحديد أبعاد المشهد على المستويين البصرى والروحى ، حيث ذلك المزج الساحر بين النور الرافد من الروح ، والضوء الوافد من العقل ، وهنا قد يصعب على الرائى فى مواضع كثيرة تحديد مصدر الإنارة أو الإضاءة ، بمايعطى قانوش حرية الدفع بمفرداته المحورية من الهرم والقمر والشجر داخل دائرة الإرتقاء .
- وقد أتى اللون أيضاً معبراً عن بهجة الحالة الإبداعية ووليد نفسه ، حيث الوهج الصدّاح للأحمر والأزرق والأصفر وتخليقاتها المتنوعة من الحنائى والأخضر والبنفسجى والطوبى والفيروزى والبرتقالى وغيرها من التواليف اللونية التى يحضّرها الفنان لحالة الأداء التصويرى اللحظي .. أما الأسود فقد استخدمه قانوش بحرفية ومهارة وقدر محسوب وكأنه رمز للرهبنة والقداسة فى الطبيعة والإبداع معاً .. وعند هذا المنعطف فى المشوار الإبداعى للفنان القدير وليد قانوش يتأكد لى أنه قطع خطوات إضافية واسعة فى الإشتعال الوجدانى والروحى الذى غذى سطحه التصويرى بالنداوة العاطفية المؤدية بالضرورة لطراوة المفردات ذاتها وتراكيبها المتمايزة ، سيما مع تسمياته للأعمال مثل ` شجرة الميلاد ` ، ` ضوء القمر ` ، ` شجرة الحب ` ، ` شجرة الألغاز ` ، ` هندسة الخلود ` ، ` شجرة الحياه ` ، بما يميط اللثام عن اختزاله الصفرى للمسافة بين الأنا والأنا العليا والطبيعة والإبداع والعرش السماوى ، قبل أن يدخل مع الهرم والقمر والشجر فى دائرة الإرتقاء .
بقلم : محمد كمال
بمعرض الفنان وليد قانوش بقاعة النيل
|