محمد إسحق يجمع بين المصرى القديم والتكنولوجيا
جاءعطاء الفنان ` محمد إسحق ` من وسط جيل التحول القسرى فى المحروسة من عالم يدعو إلى أفكار نبيلة ، إلى عالم يدعو : ` دعه يهرب بجريرته ` عالم الفردية المطلقة والخلاص الفردى ، عالم السوق من عرض وطلب ، عالم السوق السوداء للعملة ، فعندما تخرج فى كلية التربية الفنية ، كان قانون استثمار المال العربى والأجنبى والمناطق الحرة 27/6/1974 ( قد شد عوده نسبيا فى ظل سياسات نظام المخلوع.
هذه المقدمة ليست ذات منحى سياسى بقدر ما هى إضاءة على عصر وقف فيه الفنان محتارا بين ما تربى عليه من قيم وواقع له سطوة جديدة ، تبدل فيها كل شىء ، فى كل الأحوال هذا الأمر يذكرنا بحركة البورجوازية الأوروبية فى تطورها ، عندما لعبت أكثر الأدوار تأثيراً فى المجتمع الأوروبى ، على نحو يضع نهاية لكل العلاقات الإقطاعية والأبوية والريفية البسيطة ، ومزقت إربا بلا رحمة هذه الروابط الإقطاعية المتنافرة التى تربط الإنسان بـ ` سادته الطبيعيين ` ولم تبق أى رابطة بين الإنسان والإنسان سوى المصلحة الذاتية المجردة ، والجزاء النقدى الفظ،.
لا تستطيع البرجوازية أن تحافظ على بقائها دون أن تحدث باستمرار تغييرا أساسياً ثوريا فى أدوات الإنتاج ، وبالتالى فى علاقات الإنتاج ، ومعهما كل علاقات المجتمع. وعلى النقيض من ذلك ، كانت المحافظة على الأساليب القديمة فى الإنتاج فى صيغ راسخة لا تتبدل هى الشرط الأول فى بقاء كل الطبقات الصناعية القديمة ، بينما كان استمرار تثوير الإنتاج ، وزعزعة الظروف الإجتماعية بلا انقطاع ، والشك والإثارة الدائمين هى ما ميزت عهد البرجوازية عن كل العهود السابقة.
البرجوازية أجبرت الإنسان أخيراً على مواجهة ظروف الحياة الحقيقة ، وعلاقاته مع بنى جنسه بحواس واعية متزنة بل وطاردت الحاجة المستمرة إلى سوق متوسعة فوق سطح الكوكب كله ، وسعت إلى أن تعشش فى كل مكان ، وأن تستقر فى كل مكان ، وأن تؤسس اتصالات فى كل مكان .
أعطت البرجوازية من خلال استغلالها السوق العالمى ، طابعا كوزموبوليتانيا للإنتاج والاستهلاك فى كل بلد.
وسحبت الأرضية من تحت أقدام الصناعة القومية التى تقف عليها من كتابى ( صراع الهوية فى زمن الحداثة ).
واذا كانت البرجوازية جاءت كحركة ثورية تهدف للتغيير عن قناعة راسخة ، تدفع مجتمع بأكمله إلى الحداثة ، ففى زمن ما بعد الحداثة الذى وجد جيل بالكامل نفسه بين شقى رحى فيه ، لم يكن المجتمع من أساسه دخل زمن الحداثة، لذلك هنا المفارقة.
فقد ظل ` محمد إسحق ` صامدا فى معقله الأكاديمى يدافع عنه ، ويمارس فنه فى هدوء بعيدا عن صخب الواقع المر، إلى أن أصبح عميدا لكلية التربية الفنية بعد ثورة يناير 2011، ليحدث بها طفرة نوعية على عدة مستويات ،أقلها الانشاءات .
هذا الأسبوع التف زملاؤه وطلبة الكلية حوله فى معرضه بمركز الجزيرة للفنون ، والذى ضم مجموعة نحتية متنوعة فى كل شىء بداية من الاحجام ، الخامات المستخدمة ، مرورا بالأساليب ، وصولا إلى طريقة التناول ، وكأنه يقول : ` تلك هى عصارة رحلة طويلة `
زخم كبير من الرؤى يقدمها ` محمد إسحق ` فى معرضه ، لكن مع كل هذا التنوع ظل الإنسان حاضرا فى كل الأعمال باستثناءات بسيطة قد لا تتجاوز نصف عدد أصابع اليد . زخما يستدعى أن المنابع التى استسقى منها أعماله الفنية كثيرة ومتعددة .
ومع ذلك يمكن نستطلع المعرض فى مستويين اساسيين ، الأول : اتسمت فيه الأعمال سواء كبيرة أو صغيرة بالرمزية ، واحتفت بالرمز ، وتعدد الملامس.
أما المستوى الثانى : فجاء بمسحة تجريدية ، اختزل فيها الفنان الكثير من التفاصيل لصالح رؤية تسعى إلى التجريدية الروحانية ، وهى أكثر أعمال المعرض نضجا فنيا وفكريا وفلسفيا.
التقى إسحق مع روح فن المصرى القديم ، فى كثير من خطوط أعماله النحتية ، متأسيا برغبة المصرى بتلوين أعماله بحثاً عن بعض من بهجه والتنغيم والتلوين والدراما ، ففى عمل الشجرة لجأ إلى تلوينها بالأخضر ، ثم فى موجة غضب أزال اللون من على الخشب بأزميله ، فى الجزء الأسفل من العمل ليحصل تعدد الملامس فى العمل الواحد ، وهى السمة التى كانت فى أغلب الأعمال ثنائية بين الخشن والناعم ، لكن فى عمل الشجرة الخضراء والتى يتداعى مع اسمها عمل الفنان عبد الهادى الجزار ( الرجل الأخضر ) ، تتعدد الملامس والألوان .
اتخذ الفنان محمد إسحق من السمكة رمزا وكذلك الطائر فى أغلب الأعمال بالمعرض ، وان كان الطائر قد ظهر ساكنا مستكينا هادئا وديعا مستلما فى المشهد بل مستقرا على كتف شخوصه ، أو على دائرة قلقة وهو غير قلق، إلا من ذلك العمل الذى جسد فيه طائر يشق الفضاء بجناحيه ، رغم أنهما ملتصقان ، والعمل لا يزيد ارتفاعه على 15 سنتيمترا ، ومع ذلك يبدو صرحيا، فلمن لم يعرف تمثال خالد لا ذكر ` محمود مختار` ( نهضة مصر) الأسكيز الأساسى الذى نال عنه جائزة صالون باريس 1919 ، لا يتجاوز ارتفاعه 40 سم .
وظف الفنان قطع الترانزستور فى تجسيده شخوصه على نحو تداخلت مع أحشائها وكأنها جزء من الجسد الإنسانى ، وحرص الفنان على أن تعيش تلك القطع الدقيقة التكنولوجية حياة جديدة مع ضمن أعضاء البشر الذين تماهوا مع شكل فن نحت المصرى القديم ، وكأنه يقول : هذا إنسان العصر .
أهم ما يميز معرض محمد إسحق بقاعة راغب عياد، هو أنه يعيد للفن النحت الصغير ، مجدا كان مفتقدا عندنا كنا نقتنيه فى بيوتنا ، ونحتفى به ونحرص على وجوده لكن مع الهبة التى اجتاحت المحروسة فى السبعينات من المتأسلمين ، اختفت الأعمال الفنية الصغيرة من بيوت الطبقة الوسطى المصرية التى كنا نرى فيها تماثيل لاعبة البالية ، وبائع العرقسوس ، وحاملة الجرة والحصان الأسود والقط الجالس .
فهل يمكن أن نرى النحت الصغير مرة أخرى فى بيوتنا ؟ سؤال صعب فى ظل أن الطبقة المتوسطة خرجت من سوق شراء الأعمال فنية على سبيل الاقتناء وتقتنى فقط جدرانا عارية من أى ملمح جمال أو روحى ، إلا إذا قدمت الصين منتجا رخيصا.. !! .
سيد هويدى
القاهرة 29-3-2016
رمزية الكتلة ودلالية الفراغ فى منحوتات الفنان `محمد اسحق
- يعتبر النحت - كأحد مجالات الفنون البصرية الإبداعية - من أقدم وسائل التعبير التى عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة وأكثرها شيوعاً وانتشاراً فى العالم، حيث يرجع تاريخه إلى العصر الحجرى أى مايزيد عن ثلاثين ألف عام، وقد عبر من خلاله الفنان عن أفكاره ومشاعره بخامات وتقنيات متعددة ، مستخدما الأحجار الطبيعية المختلفة الصلابة؛ كالجرانيت والبازلت والحجر الجيرى، كما استخدم كذلك الأخشاب بأنواعها والمعادن كالحديد والنحاس والبرونز، إلى جانب العاج والعظام والطينات اللينة واللدائن الحديثةج، وبرع المصريون القدماء منذ آلاف السنين فى عمل منحوتات مذهلة تدهش العقل لدقتها وروعتها ، وفى بلاد مابين النهرين برع البابليون والسومريون والأشوريون كذلك، كما برع الرومان والإغريق والبيزنطيون، وامتدّ تاريخ فن النحت وازدهر في بلاد آسيا الوسطى والشرق القديم، وانتشر فى الهند والهند الصينية وإندونيسيا، ووصل تدريجيًا إلى بلاد أوروبا الغربية ما بين القرن الثالث عشر وحتى الساس عشر، وكان يعتمد وقتها على التقاليد الإغريقية القديمة.
- ومنذ بداية القرن العشرين تأثر فن النحت بالتيارات الحديثة وخصوصًا الرمزية والانطباعية، وبرزت العديد من الأسماء الشهيرة التي أبدعت في فن النحت، وفى مصر تتابعت أجيال من عظماء النحاتين الذين تأثروا بتاريخ أجدادهم العريق وتميز كل منهم بأسلوبه الخاص. ويعتبر الفنان والأكاديمى أ.د. `محمد اسحق` من الفنانين المصريين المبدعين والمجددين، الذين طوعوا بذكاء الخامات المستحدثة ووظفوا التطور العلمى والتكنولوجى فى خدمة فلسفتهم الخاصة وتحقيق فرادتهم وتميزهم، وفى ضوء ثقافته ودراسته المتعمقة لتاريخ ومراحل تطور فن النحت فى مصر والعالم؛ وارتباطه الوثيق بقيم وجماليات فن النحت المصرى القديم ومخزونه الثقافى ومرجعيته البحثية والعلمية جاءت أعماله لتربط الماضى بالحاضر فى أسلوب معاصر، إشكاليته ومبحثه الأساسى هو دراسة العلاقة الجمالية والرمزية بين الكتل والفراغات مع احترامه الشديد والمتحفظ للكتلة، يتضح فى أعماله تأثره الكبير بالنحت المصرى القديم، ليس تأثراً وحسب بل تشعر وكأن قيم التشكيل والجمال والفلسفة فى النحت المصرى القديم تسرى فى إنحائه وتأسر مشاعره وتحفز وجدانه، إلا أنه يصوغ هذا العشق لحضارة أجداده فى أفكار معاصرة ومغايرة، كما تعكس أعماله تأثره بالطبيعة والبيئة المحيطة، ولعل المتتبع لأعماله يلاحظ أنها تتسم بالرشاقة والنعومة والانسيابية والاستطالة وبساطة خطوطها مع قوة المضمون والتعبير الرمزى عن الحالة لتصبح أشبه بالسهل الممتنع، البناء الهرمى أو المثلث يميز بعض أعماله ، شخصيات ورموز مصرية قديمة تحمل عبق التاريخ، المرأة لها نصيب وافر من الحضور والتواجد فى منحوتاته كرمز للحب والدفء والعطاء والخصوبة، الأطفال أيضاً كرمز للمستقبل، الحصان والطيور كرموز للإخلاص والسلام، السمكة كرمز للخير، مفتاح الحياه، المومياوات، تميزت أعماله أيضاً بالمبالغة فى كثير من الأحيان لتبدو العناصر والمفردات على غير طبيعتها، إن أعمال الفنان تعتبر بمثابة بحث عن مدرك شكلى أو معادل بصرى جديد ومبتكر عن الموجودات ، رموز ذات دلالات إيحائية عميقة، كما تتشح أعماله بمسحة يوتوبية خيالية تأخذ المتلقى فى رحلة إلى التأمل والتفكير والتدبر فى عالم بعيد مغاير للواقع، فترى الحصان المجنح والفتاة المجنحة، ودمية الحصان التى يمتطيها أطفال ، ودمية السمكة التى يمتطيها رجل وامرأة؛ يحتضن كل منهما بالآخر، وفتاة تشبه قارب النجاه ترفع بيديها سمكة ضخمة وتحمل على ظهرها صغارا فى أسلوب رمزى درامى مؤثر يعكس إبداع الفنان ومهاراته التعبيرية.
بقلم : أ. د/ عادل عبد الرحمن
من صفحات كتاب ملتقى الشرق والغرب - ميدان دورة فاطمه عباس