`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
حسن خليفة سيد عبد الجواد
عازف الألم على أوتار الوطن
- الزمان : خريف 1960
- المكان : مكتب رئيس الجمهورية .. القاهرة
- المشهد: شاب فى العشرين من عمره يتقدم مترددا إلى مكتب الشكاوى عارضا مشكلته على الرئيس جمال عبد الناصر، متظلما من رفض كلية الفنون الجميلة قبوله طالبا بها، وهو الذى يمارس فن النحت بتوجيه أستاذه فى مدرسة الخديوى إسماعيل الثانوية المثال الكبير إبراهيم جابر، ويساعده فى تنفيذ تمثال الزعيم أحمد عرابى ، ومن قبله نحت عدة تماثيل مثل هدى شعراوى، ولشخصيات عالمية مثل شيكسبير وتشارلز ديكنز ومارى كورى وغيرهم، وطلب أن يمْثُل أمام لجنة تحكيم محايدة من أساتذة الفن لتقييم موهبته، مشككا فى نتيجة اختبار القبول الذى عقد بالكلية وقيل إنه لم يجتزه.
- كان جميع من حوله ينظرون إليه بإشفاق، فمثل هذه الأمور لايقررها الرئيس ولا تعرض عليه أصلا، وأقصى ما يمكن أن يتوقعه هو قيام سكرتارية مكتب الرئيس بإرسال طلبه إلى عميد الكلية، الذى لن يستعصى عليه إرسال رد من كلمتين يعفيه من المسئولية: غير لائق!.. لكن قوة خفية كانت تملأ الفتى يقينا بأن الرئيس سوف يتبناه كأب، وإن كان فى قرارة نفسه قد عقد العزم على دخول الكلية بأى ثمن، إن لم يكن هذا العام فالذى يليه، ولو بعد ثلاث سنوات، مثلما حدث لنحات فرنسا الشهير رودان، الذى رفضته أكاديمية الفنون الجميلة بباريس ثلاث مرات حتى قبلته أخيرا، فأصبح زعيم ثورة النحت الحديث بفرنسا فيما بعد !!
- وبرغم يقينه الداخلى من استجابة الرئيس عبد الناصر لمطلبه، كانت المفاجأة فوق احتماله، حين استدعته الكلية لتبلغه بقبوله بناء على توجيهات الرئيس، ولم يصدق أو يهدأ له جنان حتى قرأ بنفسه تأشيرة الرئيس على طلبه، وكان نصها : ` إذا لم يقبل حسن خليفة فى كلية الفنون فلمن أعدت إذن ؟!.
- هكذا التحق بالكلية بعد شهر من دخول زملائه، وأقسم أن ينجح بترتيب الأول عاما إثر عام حتى يتخرج، وكان له ما أراده لكن بأى ثمن ؟
- فى النبذة التاريخية التى تصدرت كتالوج معرضه بعد رحيله عن عالمنا عام 1999 كتب مايلى ( وهو ما راجعته زوجته ورفيقة كفاحه ) :... وكان له ما أراد بعد رحلة قاسية خمس سنوات ذاق فيها الأمرين، كان يصاحب الألم والعذاب، يصاحب السهر بجفون واجفة ودموع جافة، حتى تخرج بترتيب الأول على قسمى النحت بكليتى الفنون الجميلة بالقاهرة والإسكندرية معا بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف بنسبة 93,4% عام 1964، وعين معيدا بالكلية، وسار على الدرب يشجعه أستاذه الفنان جمال السجينى ..`
- (2)
- الزمان : 1971
- المكان : الساحة الرئيسية لجامعة بيروت بلبنان
- المشهد : يقف النحات الشاب حسن خليفة فوق سلم خشبى مزدوج بارتفاع يزيد على أربعة أمتار ونصف المتر، منهمكا فى نحت تمثال بهذا الارتفاع للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بتكليف من الحكومتين المصرية واللبنانية، وبالقرب منه أسفل السلم تقف شابة لبنانية جميلة تدرس الأدب الفرنسى بالجامعة، لقد ربط الحب بينهما، ولم يعد يشعر مع قربها منه بأنه بعيد عن وطنه. كان حسن يعانى آلاما مبرحة خلال وقوفه الطويل فوق السلم بسبب تعب فقرات العمود الفقرى، لكن فيض الانفعال الجارف والإيمان الصادق بالمهمة الكبيرة التى يقوم بها، فوق جرعة الحب المنعشة . أنسته جميعا آلامه ومنحته مزيدا من الحماس.
- إن بداخله حبا هائلا للزعيم الذى يصنع تمثاله ، حبا يتجاوز الدَّين الشخصى الذى يحمله له فى عنقه، لتحقيقه أمنية عمره بدخوله كلية الفنون الجميلة، فقد كان أحد أبناء الطبقات التى قامت الثورة لإنصافها، ومن أفكار الزعيم تكونت البنية الأساسية لأفكاره وقناعته طوال مشوار حياته، فقد آمن حتى الموت بالحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية، وكان ` السياسى` يعيش ويتفاعل فى أعماقه مع `الفنان `، بل إنهما فى الحقيقة شخص واحد، لذا لم يكتف بالهم الثقافى والجمالى، ولا بهموم حياته الشخصية، فى ظروف متخلفة لاتسمح للإنسان بالخلاص منها بالموهبة والكفاح وحدهما، بل ــ قبل ذلك وبعده ــ `بمؤهلات` أخرى لا يجيدها ولا يحبها، بل انشغل دائما بهموم الوطن، الذى اتسع معناه عنده ليشمل الأمة العربية، وكان رحيل جمال عبد الناصر المفاجىء فى سبتمبر 1970 صاعقة لكيانه أوشكت أن تدمره تدميرا، بل لعلها كانت أكثر هو لا من صاعقة هزيمة 1967.
- لذلك وجد فى تكليفه بعمل هذا التمثال الصرحى بساحة جامعة بيروت خلاصا من شعوره بالعذاب والعجز عن فعل شىء فى مواجهة الكارثة. من هنا جاء الإهاب الأسطورى الشاهق، والملامح الشامخة بالاعتداد والتحدى للفناء والهزيمة فى هيئة وقسمات وجه الزعيم المتطلعة إلى السماء واللانهائية، فيما تمسك يده اليمنى بوثيقة لعلها الميثاق الوطنى الذى لن تمحوه الأيام .
- وهكذا خرج حسن خليفة من هذه التجربة الفنية بعدة مكاسب: شفاؤه المؤقت. أولا. من إحساسه المحبط بالعجز أمام الهزيمة ومأساة رحيل الزعيم، وتحققه الكبير. ثانيا. كفنان وسط طلائع الجماهير العربية المثقفة بعمل ميدانى يخاطب الأجيال، واكتسابه. ثالثا. خبرة تقنية وتعبيرية عالية فى مجال التماثيل الميدانية وحبه. رابعا. الذى توج بالزواج واستمر كواحة ظليلة لحياته حتى آخر أيامه، كما خرج من هذه التجربة بآلام فقرات الظهر التى لازمته أيضا حتى النهاية !
- (3)
- الزمان : 1976
- المكان : كلية الفنون الجميلة بالقاهرة .
- المشهد: إعلان ترشيحه لبعثة إلى فرنسا لدراسة فن الميدالية.
- لقد كان يتملكه طوال السنوات الثمانية التى تلت تخرجه، إحساس مقيم بأن هناك من يقف فى طريق هذه البعثة، طريق هذه البعثة، وهو يرى زملاءه واللاحقين له يسافرون فى بعثات متلاحقة إلى دول أوربا المختلفة فيما عداه، فيما حتى أستاذه ورائده جمال السجينى كف يده عن مساندته بعض الوقت، وخيل إليه أنه يقف فى جانب المناؤين له، وربما كان مغالياً فى ظنونه، وربما كان لها ما يبررها، نتيجة وشايات أو أحقاد دافعها الغيرة من تميزه. وقد تكون نتيجة لنزعته الاستقلالية واعتداده الشديد بنفسه، الذى حال بينه وبين استرضائه من يملكون المنح والمنع !
- لكن الأستاذ السجينى ــ الذى عانى هو أيضا، حتى الموت, من إحساس مشابه بالغين ــ سرعان ما عاد إلى احتضان تلميذه وتبنى قضية بعثته، بل وشجعه على اختيار نفس تخصصه القديم وهو. ` الميدالية ` حين درسها فى ايطاليا أواخر الأربعينيات، بالرغم من أن رسالة الماجستير التى حصل عليها حسن كانت عن تماثيل الميادين، فوجدها فرصة جيدة للجمع بين دراسة التخصصين فى باريس، ولقد استدعى ذلك أن يبقى هناك سبعة أعوام متصلة، فتأخر لهذا السبب عن زملائه الذين سارعوا بإنجاز مهمتهم فى أقصر وقت وعادوا إلى مصر ثم أخذوه دوره فى الترقية وأصبحوا فيما بعد رؤساء له !
- غير أن ماحققه فى فرنسا خلال هذه السنوات السبع أكثر بكثير جدا من مجرد الدراسة الأكاديمية، وأكثر ثراء من آية ترقيات وظيفية. لقد تحقق كفنان مبدع وسط حركة فنية دولية تموج بمختلف التيارات الفنية، وكانت تتنازعه نزعتان متعارضتان: الأولى أن يواكب تيارات الحداثة الاوربية التى تفرض نفسها فى كل معارض الفن بباريس، جاعلة من الشكل البحت مبدأها ومنتهاها، بل ومتجهة نحو تحطيم الشكل ذاته وصولا إلى اللا شكل، أو إلى شكل يقضى نهائيا على مفهوم النحت ليصل إلى صيغة هجين تجمع بين المخلفات والنفايات الصناعية والمنزلية فى تركيب عشوائى يتكامل مع المحيط الفراغى الذى يعرض فيه، وهو ما يسمى بالأعمال المركبة أو التجهيزات الفراغية. والنزعة الثانية: أن يظل على وفائه لمفهومه الراسخ عن فن النحت، الذى يستوعب قيم النحت المصرى القديم والحديث أيضا، كما قدمه مختار والسجينى، وقد واجه كل منهما نفس الأزمة أثناء دراسته فى أوروبا بين بديات القرن العشرين وأواسطه، ونجحا فى تحقيق صيغة جمالية ثالثة ، تستفيد من منجزات الفن الأوروبى الحديث، وتستبقى جوهر القيم الاستاطيقية فى تراثنا الحضارى، وجوهر الشخصية المصرية الأصيلة، متجنبة المحاكاة الوصفية للطبيعة والواقع، متطلعة إلى استخلاص معان كلية مطلقة للتحرير والنهضة.
- هكذا حل حسن خليفة المعادلة الصعبة، فزاوج فى أعماله الفنية التى أنجزها فى باريس خلال سنوات بعثته السبع، بين سكونية ( أو لِنَقُل : سكينة ) الكتلة الصرحية فى النحت المصرى القديم، وبين دينامية الحركة فى النحت الحديث، مع تحليل الكتلة وتحريرها من منظورها الوصفى، بامتلاك الجرأة على الهدم والبناء، واستعان على ذلك بمنجزات مدارس التكعيبية والتعبيرية والتجريدية والبنائية، متخففا من أى شعور بضرورة إضفاء القداسة أو الوقار المجانى الأجوف على الشكل، وكذا من وجوبية التمثل بالتراث القديم أو بمظاهر البيئة الشعبية، التى يلجأ إليها البعض استدرارا للتعاطف الوقتى أو لفت الانتباه، دون أن يؤسس كل من هؤلاء مشروعه الجمالى الخاص على أرض صلبة .
- لكن الالتزام الوحيد الذى التزم به هو تعبير العمل الفنى عن معنى إنسانى عميق، ولم يكن ` خليفة ` بحاجة إلى البحث عن هذا المعنى، فهو يعيش دوما: الألم الإنسانى ، فالألم هو النبع الأساسى لحياته وأعماله، إنه كالنزيف الداخلى الذى لم يتوقف حتى فى فترات السلام والتحقق والاستقرار فى حياته، ولا نستطيع الزعم بأن ذلك راجع بالضرورة إلى معاناة خارجية كالمرض أو الظلم أو الفشل أو الفجيعة فى عزيز، لكن مايمكن أن نؤكده هو أنه كان يعتصره إحساس دائم بالمأساة الإنسانية، وبالتناقض الكامن فى جوهر الوجود البشرى، وكان يذوب ألما أمام ظلم الإنسان للإنسان، ومن ثم آلام مجتمعه والعالم من حوله .
- أنقول إنها طبيعة رومانسية ولد بها ووجدت ما يغذيها فى الواقع ؟ أم أنها تنبع من حالة اكتئابية عارضة أو مزمنة؟ أم عن موقف فلسفى من الوجود ..؟؟ إنها جميعا احتمالات قائمة تجد ما يبررها .
- أيا كان الأمر فقد جاءت اختيارات أعماله الفنية تجسيدا لمعانى الألم والحزن والضياع: فتاة تنحنى وتتكور حول نفسها فى لوعة الشعور بالوحدة، شخص منزوع القلب نافر العضلات يجلس بقوة الطغاة فوق شىء أشبه بجمجمة، عازف يحتضن قيثاره فى التحام عضوى حتى الذوبان، وجه مكدود لسيدة ثقيلة الجفون زائغة النظرات، أم تحتضن وليدها بكل الرعب من هول مقتحم ..!
- وبهذا العزف المحموم فوق أوتار مشدودة، تقدم بأعماله عام 1980 إلى صالون باريس الدولى الذى يقام كل عام. جامعا آلاف الفنانين الفرنسيين والأجانب، وتخصص له جوائز كبرى تجعله مساويا لمهرجان الأوسكار فى السينما، وكان طموحه إلى حد المخاطرة حين قذف بنفسه منفردا فى هذا المضمار، دون هيئة أو حملة نقدية تدعمه، كشأن الفنانين المحترفين فى مثل هذه المناسبات، لكنه كان ممتلىء القلب والذاكرة بجده المثال مختار وجده المصور محمد ناجى حين فعلا ذلك فى العشرينيات وفازا بغير ` لوبى ` مصرى أو عربى يقف وراءهما بالميدالية الذهبية للأول وبشهادة الشرف الثانى، متقدمين على فنانى فرنسا والعالم، مختار بتمثاله نهضة مصر، وناجى بلوحته موكب إيزيس .. فلم لا يفعلها الحفيد وهو يملك الموهبة والعناد ؟! وقد سبق له أن فعلها وفاز قبل ذلك بثلاث سنوات، حين حصل على البورتريه ` لبول ماير ` بفرنسا عام 1977، لكن الأمر هذه المرة جد مختلف !
- وابتسم له الحظ ، ففاز بالميدالية البرونزية ( الجائزة الثالثة ) فى النحت الميدانى عن تمثال اللحن الحزين !
- (4)
- الزمان : 11مايو 1981
- المكان : قاعة جراند باليه بحى الشانزليزيه بباريس
- المناسبة : توزيع جوائز صالون باريس الدولى للفن العام 81 بمناسبة مرور قرن على إنشائه.
- المشهد: هيئة التحكيك المكونة من 20 من كبار فنانى ونقاد فرنسا على المنصة، إلى جوار زوجة رئيس الوزراء السابق، ويتقدم الفنان حسن خليفة ( 41 سنة) ليتسلم الميدالية الفضية فى النحت عن تمثاله ` عذاب الإنسان `
- وأترك للفنان وصف مشاعره فى هذه اللحظات من خلال مقال له بجريدة الشباب العربى :
- `... ويتكرر المشهد الجميل وينادى رئيس الصالون اسمى متعثرا كالعادة ( يشير الفنان إلى ما حدث فى العام الماضى عند حصوله على الميدالية البرونزية فى نفس المعرض)... تقدمت بخطاى حاملاً كفاح ومجهود عمل مضنى شاق، وتذكرت مراحل مولد فكرة وعمل تمثال ` المعاناة والعذاب ` الذى يرمز للحياة وقوتها الهائلة وضغطها وثقلها على الإنسان الذى لايملك إلا الألم والأنين، فمن منا لا يملك شيئا من المعاناة فى هذه الحياة ؟ (.....) ولم يخرجنى من تأملاتى سوى بريق الفلاش المنبعث من الكاميرات أثناء الاحتفال العظيم، فعشت لحظتى سعيدا، وتوقفت معاناة فكرى لحظات، وقبل أن أغادر الصالون تولدت فى فكرى الخطوط الأساسية لتمثال `الضياع` واختمرت الفكرة تماما لكى أستعد بها للعام القادم !
- حتى فى لحظات النشوة العظمى بالفوز لا تواتيه إلا فكرة ` الضياع ` لعمله الفنى الجديد !... والعجيب أنه يتبع ذلك بقوله: ` طمعا فى الحصول على الميدالية الذهبية ... ولم لا؟!.
- وكأنما يستشعر دهشتنا فيبادر قائلا :
- ` ولعلك سيدى القارىء تسألنى سؤالا، أعرف أنه يدور فى أذهان كل الزملاء وهو: لماذا كل هذه الموضوعات الحزينة ؟! .. ` اللحن الحزين ` ..` اليتيمة ` ..المعاناة والعذاب` .. ` الضياع ` .. فأقول : ولم التفاؤل ونحن نعيش هذه الموضوعات فى واقعنا ؟.. فاللحن الحزين دوَّى صداه فى قلبى عقب هزيمة 1967 وموت الأعزاء وضياع كل غال ، وتمثال اليتيمة هو تعبير صادق عن اليتيم، وكم منا يعيش يتيما !.. والمعنى هنا ليس فقدان الأم والأب، بل يتم الحياة نفسها .. والمعاناة والعذاب: كم منا يعمل ويكد ويعانى ويتعذب فى اليوم مرات ومرات، بينما فئات قليلة تتحكم فى الرزق والحياة، فتظل تكبت أنفاس الكادحين وهم يعانون ويتعذبون ولا يملكون غير الأنين .. أما ` الضياع ` فالعالم كله يعيش فيه دون أن يدرى .. ولكن أين المفر ؟ .. الضياع الآن موجود فى أوروبا وأمريكا وسائر البلدان المتقدمة، وهو ضياع نفسى نتيجة التقدم ، أما ضياع الإنسان العربى فهو ضياع العيش والنفس.. وكيف لا.. والعدو يرقص أمامنا هادئا مستهينا بمقدرتنا وقوتنا، وكلما تزايدت فرقتنا ازدادت هوة الضياع .. فلا حاضر .. ولا مستقبل .. ولا مكان للعربى إلا بالعرق والجهد .. وأخيرا ستظل أناملى تعبث وتعزف اللحن الحزين، على أوتار الواقع الأليم !
- و`أنامله التى تعزف` ليست تعبيرا مجازيا من حسن خليفة، فهو فى الحقيقة عازف ماهر على العود، لم يكتف بالهواية، بل درس العزف دراسة منهجية لعدة سنوات بمعهد الموسيقى العربية ( بالقسم المسائى ) فور تخرجه من كلية الفنون الجميلة، إلى جانب أنه كان يملك صوتا عذبا غنى به الكثير، وكان بوسعه أن يشق طريقه محترفا فى هذا المجال لو أراد، لكنه آثر أن يحتفظ بهوايته لنفسه والمقربين إليه، ولعلها قد انعكست شجنا رومانسيا على منحوتاته، بإيقاعات غنائية يجللها الحزن .
- ولا نعرف إذا كان قد تقدم بتمثاله ` الضياع ` إلى صالون باريس 1982 كما تعهد يوم حصوله على الجائزة الفضية فى العام السابق أم لا .... إلا أن سيرته الذاتية فى دليل معرضه الأخير تتضمن حصوله على الميدالية الفضية فى صالون ` شارتر ` الدولى عام 1983 عن تمثال ` الضائعة `، وربما كان هو العنوان الذى اختاره لفكرته السابقة بعد تنفيذها .
- (5)
- الزمان : أواخر 1982
- المكان : كلية الفنون الجميلة بالقاهرة
- هكذا عاد حسن خليفة إلى وطنه ليستأنف عمله مدرسا للنحت بالكلية، مستقطبا حوله أجيالا جديدة من الطلبة الذين أحبوه إنسانا وفنانا معا، فقد كان قادرا على إذابة أية حواجز بينه وبين لشباب، وعلى بث أفكاره وآرائه فى وجدانهم بحميمية الأب أو الأخ أو الصديق، وكان خيط التواصل ممتدا كذلك بينه وبين بسطاء العاملين بالكلية، من موديلات وعمال وموظفين، انطلاقا من طاقة التعاطف الإنسانى بداخله مع الكادحين والمهمشين، ولم يكن يدرى أن هذه الصفات توسع الفجوة بينه وبين كبار الأساتذة والزملاء بالكلية، ما جعله يفضل الانسحاب بعيدا عنهم، زاهدا فى أية مناقشة أو صراع مهنى حول بعض المكاسب.
- وامتد انسحابه هذا إلى مجمل الحركة التشكيلية فى مصر، فلم يسع إلى المشاركة فى المعارض العامة، أو التقرب إلى ذوى السلطة فى الحركة وأعضاء اللجان الرسمية، الذين يقيمون الفنانين بمعايير ذاتية عند منح الجوائز وفرص العرض والتمثيل فى الخارج والمشاركة فى المهرجانات الدولية، وهى معايير تختلف كل الاختلاف عما اعتاده فى باريس، وبادله أصحاب السلطة وأعضاء اللجان نفس الشعور، فتم تجاهله تماما من وزارة الثقافة فى كافة البيناليات المحلية والدولية، وفى التكليفات بأعمال نحتية للجهات الحكومية، حيث كانت حكرا لذوى الحظوة والمتكيفين وحملة المباخر والآكلين على كل الموائد !
- ولا شك أيضا أن هذه المشاعر السلبية ــ التى لم تفارقه طوال سبعة عشر عاما ــ قد انعكست على دافعيته للإبداع ، بل ولعرض أعماله، فباستثناء معرض واحد أقامه عام 1984 لم يقم أى معرض آخر حتى وفاته، حيث قامت السيدة رفيقة حياته مع ابنته الوحيدة ــ بلا أية مبادرة أو مساعدة من الدولة ــ بإعداد المعرض الثانى له بعد وفاته بعام كامل ، وتحملتا نفقات طبع كتيب عن حياته وأعماله، واختار له المسئولون عن مجمع الفنون بالزمالك أصغر حجرة وأكثرها تهميشا بالنسبة للقاعات العديدة الشاسعة بالمبنى، ثم تكرموا عليه بمساحة مجاوره للحجرة كانت مخصصة كجراج لسيارة مدير المجمع وليست مهيأة أساسا كقاعة للعرض، ثم تفضلوا عليه بنثر بعض تماثيله فى الفناء المواجه للحجرة فبدت ضائعة وسط الأشجار والنباتات، ولم ينتبه كثير من الزائرين إلى أنها تخص الفنان لعدم وجود لا فتات تشير إلى أنها امتداد للمعرض ، هذا فى الوقت الذى خصصت قاعة كبيرة بالدور الأول لعرض قطعتين اثنتين من الحجر ألقيتا على الأرض تخصان نحاتا أجنبيا، وظلت بقية أجنحة القاعة فارغة مظلمة، فياله من احتفال يليق بذكرى فنان قومى كبير!
- الحالة الوحيدة التى كان يخرج فيها خليفة من عزلته ويستعيد من خلالها توهجه، هى الأعمال الوطنية ، وأبرزها لوحته الصرحية بالنحت البارز عن العبور ببانوراما حرب أكتوبر ( بطريق صلاح سالم )، وتمثاله عن لحظة رفع العلم خط بارلييف، وهو مقام حاليا بالساحة الرئيسية بمكتب رئيس الجمهورية بمصر الجديدة، بعد أن فاز عنه بالجائزة الأولى فى المسابقة التى أقيمت حول هذا الموضوع .
- لكن .. وبرغم نبل الدافع الوطنى لإنجازه هذه الأعمال، فإنها تمثل ردة عن منجزاته الجمالية فترة إقامته بباريس، إلى الطابع الأكاديمى التقليدى الذى سبق أن تخطاه، إن الذاكرة البصرية المعتادة ، لمدركات الواقع، مع الهيمنة المطلقة ` للموضوع `على الشكل غلبتا على النزعة الحداثية المتحررة الميالة إلى التحليل والتركيب للشكل، فجعلتا من هذه الأعمال أنساقا أقرب إلى الكليشيهات المحفوظة لفن المناسبات، ولعل الموقف السياسى للفنان، مع رغبته فى الخروج بفنه إلى الجماهير بما يتناسب مع قدرتها على التذوق، إلى جانب حرصه على الفوز بالتواجد بفنه فى المواقع الحساسة التى اشترك فى المسابقة حولها أو دعى للمشاركة فيها، كان كل ذلك وراء عودته إلى هذا الأسلوب التقليدى، لكن هذه الأعمال ــ فى المحصلة الأخيرة ــ تنم عن مقدرة فذة على السيطرة على الكتلة، وربطها بالمعانى الرمزية الى استهدفتها.
- وينبغى ألا نغفل جانبا آخر لا يقل أهمية من تراث الفنان، وهو أعمال فن الميدالية، فهى تمثل عنده أعلى مستوى لهذا الفن، حيث خلد من خلالها عشرات الرموز الوطنية والفنية والأدبية فى تاريخنا المعاصر،( مثل شخصيات سليمان نجيب، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، ثروت عكاشة، صلاح جاهين ، كمال الملاح ، الحسين فوزى، صلاح عبد الكريم ...) واستطاع الجميع بأستاذية بين ملامح الشخصية من الداخل والخارج فى وضع جانبى، فيما يمثل البورتريه الدائرى بين أعماله درجة عالية من الرصانة والقوة مع الاقتصاد فى التفاصيل، متأثرا بأجداده المصريين القدماء.
- لقد ظل الجرح الإنسانى ينزف فى أعماقه وهو فى منفاه الاختيارى رافضا مرفوضا بالنسبة للمؤسسة الرسمية للفن، بينما يتقدم تلاميذه الصفوف ويحصدون الجوائز ويتبوءون أماكنهم فى المتاحف ويمثلون مصر فى المحافل الدولية ( بغير جدارة فى كثير من الأحيان )، لكن دماءه النازفة، بدلا من أن تخصب إبداعه الفنى وتشعله بالثورة، ظلت تتسرب إلى أعماقه روحه حتى اختنق بها، وأورثته المرض العضوى الذى أودى بحياته فجأة وهو فى التاسعة والخمسين من عمره..
- واذا كانت أغنيته قد احتبست فى مضيق الحزن والألم، وشارك أغوات الفنانين وسدنتهم فى خنق حباله الصوتية قبل أن يشرق بأغانيه الربيعية، فإن قطعة واحدة من أعماله ــ مثل `اللحن الحزين ` ــ كفيلة، بإشعاعها الوهاج، بفضح هزال أعمالهم وشحوبها البائس وقت توليهم بيت المال والسلطان !
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب فنانون وشهداء
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث