- حوارات `القاهرة` مع فنانين يُشكلون علامات فى حركة التشكيل المصرى المعاصر .
- نواصل فى صفحة `أتيليه` تقديم حوارات مع فنانين فى مختلف مجالات التشكيل شكلوا بمشاريعهم الفنية علامات مؤثره فى حركة التشكيل المصرى المعاصر..نقدمهم لنقرأ من حواراتهم أفكارهم وتوجهاتهم الفكريه والفلسفيه والفنيه التى شكلت هيكل مشوارهم الفنى.. ونقدم هذا العدد الحوار مع الفنان التجهيزات فى الفراغ يوسف ليمود المقيم ما بين سويسرا والقاهرة.. وآخر عروضه فى القاهرة بمشاركته بعمله التجهيزى فى الفراغ بعنوان `مادة معتمه` من خلال المعرض العام الـ43 عام 2022 بقصر الفنون.
- الفنان يوسف ليمود:
- تنطلق أعمالي من فكرة تحولات المادة
- إنستليشن `الخبز` همزة الوصل لدى بين التصوير والعمل الفراغي
- ` التجميع المفكك` هو طبيعة عملي ولا أميل لإستحضار السياسة في عملي.
- تآكلت سلطة الناقد وإمتزج النقد بنوع من الغوغائية والإدعاءات
- المثير للسخرية إنتاج أعمال استهلاكية تنتقد فكرة الإستهلاك.
- ما يتم مناقشته الآن هو فكرة موت `ما بعد الحداثة` حيث الشك عملية الشك نفسها.
- أنا إبن الثقافتين الشرقية والغربية
- لو إستطاعوا أن يهبوا الذكاء الاصطناعي وعيا إنسانيا وروحيا حينئذ يحق لنا أن نرتعب منه.
- بدايةً.. ما هو الكونسبت العام الذى تُبنى عليه أعمالك؟
- يوسف ليمود: ينطلق عملي أساسا من فكرة تحولات المادة.. هذه الظاهرة الفاتنة التي تشمل كل شيء في الوجود، من المتفردة التي انبثقت منها مليارات المجرات في كوننا المنظور، إلى أصغر عنصر في هذا العالم، بما فيه هذا الجسد الضعيف الذي يعود للأرض مرة آخرى وينتشر في الطبيعة في أشكال ودورات لا نهائية. هذه السيرورة أو الصيرورة تحوي في ديناميتها كل المعاني والتناقضات، حيث الموت هو بداية لحياة أو لحيوات جديدة. وعملى يعتمد أساسا على ما يسمي بال Found Objects أى الأشياء والعناصر التي يلتقطها الفنان من الواقع، وأنا تجذبني بقايا وحطام الأشياء التي كانت تشكل في يوم ما جزءا من حياتنا.
- يمكن تصنيف أعمالك كمناظر تركيبية أم كأعمال تجهيز فى الفراغ.. وهل يمكن تصنيف مجال عملك بالكولاج الأرضى؟
- يوسف ليمود: أنا لست مغرما بالتصنيفات الفنية وخصوصا لأن لدينا، في اللغة العربية، مشكلة مصطلحات تضطرنا أحيانا إلى استخدام المصطلح الغربي. أظن أن مصطلح `تجهيز في الفراغ` صار يشير إلى ما يسمى `الانستاليشن` وهو ما أقوم به، أما الأعمال المركّبة فهي الأعمال المتماسكة، صغيرة أو متوسطة الحجم، والتي يمكن أن يكون مكانها البيت أو أي حائط عرض، وهي تدخل أيضا في نطاق انتاجى الفنى الأساسى.
- ما رحلتك التى أوصلتك لتميزك فى تركيباتك الارضية؟
- يوسف ليمود: أنا رسامٌ مصورٌ في الأساس. والرسم والتصوير يعتمدان بشكل أو بآخر على فكرة الإيهام أو الخداع البصري. هذه الخاصية بالتحديد هي ما لم أكن أحبه في الرسم والتصوير، حتى منذ بدايات دراستي الأكاديمية. يبدو هذا تناقضا، ولكنه الحقيقة. كنت أكثر ميلا إلى فكرة تسطيح الأشكال. وفي فترة متأخرة من ممارستي التصوير كنت أستبدل الأشكال التصويرية المجردة بالكولاج. الحقيقة أنني كنت أبحث عن واقعية الشكل، عن حقيقته الذاتية. إلى أن وصلت إلى مرحلة الزهد حتى في فعل الرسم والتصوير. وكان البديل الذي أشبع شغفي هو الأعمال المركبة التي كنت، ومازالت أبنيها بما ألتقطه من عناصر. تطور أو تمدد هذا فيما بعد إلى فراغ المكان.
- عروضك أقرب للمسرح الذى يلتف حوله المشاهدون أرضاً.. هل تستشعر هذا؟ وهل تستشعر أيضا أثناء العمل أنك فى حالة أداء بيرفورمانس جسدى مشترك مع الفكرة؟
- يوسف ليمود: شيئ ما في طبيعة الأعمال الفراغية يشبه خشبة المسرح بعد رحيل الجمهور والممثلين. فقط الإضاءة وبعض الاكسسوارات. لحظة الصمت هذه تحكي بشكل ما عما كان يحدث فوقها. وأنا أجد نوعا من الحنين لفكرة المسرح التي أنظر إليها بنوع من القداسة، حيث المسرح هو أحد أقدم الفنون التي جسّدت الدراما الانسانية. أما البرفورمانس فهو حساسية مختلفة، من حيث اعتماده على الحركية المتواصلة، في الغالب، وإن كنت أشعر في لحظات خاطفة أنني في أداء، إلا أن التفكير وعمليتَيّ البناء والهدم يحجمون هذا الشعور.
- على اى درجة من البوب آرت تعمل مفرداتك البيئية؟ أم تعتقد ان لديك نهجا دادائيا إلى حد ما؟ وهل ترى انك تقدم اعمالا هجينة بين المجسم والرسم؟
- يوسف ليمود: عملي أبعد ما أكون عن البوب آرت. كذلك الدادائية التي هي مرحلة في تاريخ الفن يمكن وصفها بالعبثية أو العدمية أو الفلسفية أو أيا ما يكون، إلا أنها لا يمكن الرجوع إليها بحكم أن ظرفها التاريخي صار ماضيا. ولا أظن أنني أفعل غير حسابات الرسم والتصوير مضافا إليهما حسابات - البعد الثالث.
- فزت بجائزة ليوبولد سنجور من بينالى داكار آرت 2016 عن عملك بعنوان `مقام` ذكرته الصحف بأنه `عمل هاديء يذكرنا بهدوء ما بعد العاصفة` ما مفهوم ذلك العمل؟
- يوسف ليمود: كنت أحاول أن أجسد مقاما نفسيا في الأساس. وكنت ألعب أيضا على دلالات اللفظ التي تحيل إلى مقامات الموسيقى الشرقية. كان الوصول الى هذه المدينة مغمورا بإحساس نفسي بالعودة إلى مصر التي عشتها في طفولتي في مطلع السبعينيات: بساطة الناس، الأصوات، الضوء، صوت الأذان من غير ميكروفون… تضافر كل هذا مع المواد والعناصر التي جلبتها من البيئة المحيطة في خلق هذا العمل الذي أنجزته في أربعة أيام، تحت ضغظ نفسي شديد. الغريب أن الكثيرين ربطوا بينه وبين مدينة داكار التي لم يكن هناك حتى فرصة للتعرف عليها جيدا أثناء عملي فيه، فيما عدا الانطباعات الأولية التي ذكرتها.
- كيف توثق أعمالك وهى قطع منفصلة وليست كتلا قابلة للحفظ على شكلها النهائى.. أي هى عروض سائلة.. أتعتبرها عروضا سائلة؟
- يوسف ليمود: هي بالأحرى عروض زائلة. صفة الزوال أو التحول والاندماج في عمل آخر تؤكد على المفهوم الذي انطلقت منه. أما التوثيق فيكون عادة عبر الفوتوغرافيا أو الفيديو.
- المكان
- اصبحت تركيباتك هي نفسها المكان ولا تنتمي اليه وجوداً فقط، هل تعتبر نفسك صانع مكان؟
- يوسف ليمود : لا أحد يصنع مكانا.. المكان والزمان أو ما يسمى في لغة العلم بـ`الزمكان` حاضر دائما، وغالبا منذ الأزل، ونحن مشمولون في نسيجه. المسألة تكمن في الاحساس بالمكان والإنصات له ولما يهمس به كأحد عناصر العمل الفني. عموما غاية ما أطمح إليه أن تصل الأُلفة بين العمل والمكان الذي يحويه حد عدم التفريق بينهما.
- هل من هدفك الفنى أن تدفع المشاهد للانغماس في التجربة المكانية؟
- يوسف ليمود: هدفي الاساسي أن أنتج عملا جيدا، هذه هي حدود سيطرتي. أما دفع المشاهد أو توجيه شعوره لزاوية فكرية أو شعورية ما، هو أمر بعيد عن اهتمامي أصلا، ناهيك عن سيطرتي.
- أرى أعمالك تكشف عن مرور الزمن وما يتركه وراءه من آثار هشة فى المكان؟
- يوسف ليمود: جميل أنك لمستِ هذا الملمح أو الجانب. سؤال الزمن يشغلني دائما، على المستوى الوجودي كما على المستوى العلمي، وبلا شك ينعكس هذا على المستوى الفني. الزمن يعني هذا الحاضر الذي لا يُمسك، ويعني هذا المستقبل الذي سيصير ماضيا، وفي قلب هذه السيرورة تموت خلايا أجسادنا وتولد أخرى ونتحلل وندخل في العناصر.
- الأرض
- كيف كانت النقلة من اللوحة ذات البعدين إلى افتراش العملِ الأرضَ في أبعادها الثلاثة؟.. وهل عملك `خبز` الذي استخدمت فيه لوحة عبد الهادي الجزار `الكورس الشعبي``والذي يجمع بين التصوير والعمل الفراغي كان يمثل هذه النقلة؟
- يوسف ليمود : لديكِ عين ثاقبة فيما يخص التطور الزمني لعملي.. لقد كان فعلا هذا الإنستاليشن الحائطي همزة الوصل بين التصوير والعمل الفراغي، ولكن حدث هذا بالصدفة المحضة. إذ لم يكن المقصود من رسم شخوص لوحة الجزار على الحائط التوفيقَ بين فكرة التصوير والعنصر الفراغي (الخبز). بل كان الرسم في جوهره عنصرا يشير إلى المسافة الزمنية بين الواقع في لوحة لوحة الجزار وبين الحاضر. وصدفة أن الرسم مسطحٌ على الحائط لا تنفي كونه عنصرا فراغيا، بسبب ديناميكية العلاقة بين الشخوص المرسومة وبين الخبز العفن الملقى أمامهم، كما لو كان ملقى لبهائم.
- أحيانا تستخدم عناصر مباشره من جسد الأرض كالرمل أو التراب، هل تعتبرها أعمالاً متصلة مباشره بـ`فن الأرض`؟
- يوسف ليمود: لا علاقة لعملي بفن الأرض. فهذا الأخير يتعامل أساسا مع عناصر الطبيعة في مكانها وبيئتها وبمفاهيم محددة لا تخرج عن حدود الطبيعة. أما استخدامي للرمل وللتراب في عملي، يعود إلى عاملين أساسيين، أولهما هو الإحالة الفكرية أو الشعورية لهذين العنصرين وما يوحيان به بشكل واسع، والعامل الآخر هو ارتباطهما في ذاكرة طفولتي بالقرية البسيطة التي نشأت فيها، حيث الأرض حاضرة تحت أقدامنا الحافية بكل بهائها وفي كل تفاصيل الحياة حولنا، وحيث المقابر القابعة على طرف القرية بترابها الناعم كترنيمة خافتة تتخلل أصوات القرية البعيدة.
- أعتقد أنه لا يمكن تقدير قوة أعمالك بالكامل إلا على مستوى الأرض دون الاعتماد على رفعها فوق قواعد؟ هل القواعد تسلبها شئ من حضورها الحي المفعم بحياة الأرض؟
- يوسف ليمود: هذه ملحوظة ممتازة.. وبلا شك، فإن العمل يستمد ثقله من احتكاكه مباشرة بالأرض. إنه مستقر بفعل جاذبية أخرى غير التي نعرفها. وفي النهاية لا يوجد مبرر لرفعه عن مستوى الأرض.
- تركيباتك تبدو لى أحيانا وكأنها غضاريف الأرض وعظامها النافرة فى تمرد على سكونها الأرضي.. هل استشعرت أو قصدت هذا؟ وهل تحمل أعمالك فكرة الانهيار الحتمي وبالجاذبية لأي شئ تجاه الأرض؟
- يوسف ليمود: جميل أن يسمع الفنان كيف يرى الآخرون عمله. هذا يضيف إلى عمله بشكل ما. وهذه من الجوانب الرائعة في عملية الحوار بين العمل والمشاهد. أنا حريص على تجسيد فكرة الهشاشة في عملي. إنها أحد الملامح التي ينبني عليها عملي كمفهوم.
- هل ترصد أنه كلما تحرك المشاهد فى أي زاوية أو داخل تركيباتك تعيد تركيباتك تشكيل معانيها ذاتياً؟
- يوسف ليمود: على الأقل، أرصد هذا، بصريا، مع حركتي في الزوايا المختلفة وأنا أقوم ببناء العمل. أنا أعمل بشكل عفوي في المكان مستخدما الحدس وحساباتي الرياضية (لكل فنان رياضته الخاصة)، فأن يحدث هذا مع المشاهد، على مستوى المعنى، لهو شيء يسعدني حتما.
- هل تقدم وجهات نظر سياسية رمزاً بذلك الفكر التجميعي المفكك؟
- يوسف ليمود: هذا مصطلح مبتكر وجميل.. ولكني أظن أن هذا `التجميع المفكك` هو من طبيعة عملي، وليس المقصود به مداعبة أي مفهوم سياسي. وبشكل عام لست أشعر بأي ميل لاستحضار السياسة في عملي. أحيانا تلامس المفردات التي استعملها ملمحا اجتماعيا أو تاريخيا ما. ولكني في الأساس أخلق مزاجا ما أو لنقل `مقاما` موسيقيا ما تتموج داخله هشاشة العالم.
- هل للأرض أخلاقيات يجب مراعاتها فى عملك؟
- يوسف ليمود: بلا شك. لا توجد وصايا عشر لمثل هذه الأخلاقيات وإنما يتم خلقها أو تحقيقها عبر الحسابات الرياضية بين العناصر بعضها ببعض، وبينها وبين فراغ الغرفة، وعبر الصدق، أولا وقبل كل شيء.
- فى تواصلك المباشر والارض، كيف هى لغة الأرض وصوتها؟
- يوسف ليمود: على الفنان أن يكون هو نفسه الأرض.
- من يطوع الآخر للعمل: أنت أم الخامة أم وعي المكان؟
- يوسف ليمود: أظن أن التفاعل بين الذات والمكان والمادة هو ما يحدد مسار العمل. الروائي يضطر أحيانا لقتل أحد شخوص روايته.
- كيف تختار خاماتك، بالاعتماد على ذاكرتها فى المكان أم على جمالياتها، وهل تجد صراعا بين وعيك ووعي الخامة؟
- يوسف ليمود: أختار المادة والعناصر حسب السياق والفكرة التي ينبني عليها العمل، ولا أنكر أن للجمالية حيزا كبيرا في عملي. في النهاية أنا لست فنانا مفاهيميا (هنا أضع ايموجي ابتسامة).
- تتميز اعمالك بدائره مرتبطه بالجودة الفكرية فتستخدم خامات بسيطه لتقديم أفكار ثرية، أيهما يقودك الجودة ام الفكرة؟
- يوسف ليمود: الثلاثة.. الجودة والفكرة والخامات البسيطة.
- أحياناً أستشعر انك تجهز مشروع تركيباتك تمهيدا لمراسم كالدفن الجزئي؟
- يوسف ليمود: فكرة الموت والطقوس تسكننا بشكل خاص، نحن المصريين.
- العمارة
- تركيباتك مأهولة بالعمارة.. هذا صحيح؟
- يوسف ليمود: بلا شك.. أعمالي معمارية بالدرجة الأولى.
- أرى أعمالك تسكن مساحة غير مستقرة في مكان ما بين التصوير والحد الأدنى التجريدي (المينيمال) داخل معمارية ثلاثية الأبعاد ومجوفاتها؟
- يوسف ليمود: هذا حقيقي. أعمالي الفراغية نابعة في الأساس من تجربتي التجريدية في التصوير وهي حاصل ضرب المعماري المكبوت داخلي، في رجل الصحراء الذي يرى ما تفعله العواصف والرياح في الأفق.
- فى أعمالك يمكن بسهوله استكشاف بنية خطية مفتوحة، فالنهايات مفتوحة فى أعمالك فيما عدا عملك `متاهة`؟
- يوسف ليمود: المتاهة كانت عملا هائلا في الحجم، وأظن أنه من الصعب الحكم عليه إلا بتجربته فيزيقيا. هي في الأساس أحد الأعمال المركبة الصغيرة الحجم، ضمن سلسلة تحت عنوان `أطلال`، وقد تم تكبيره.
- التجهيز والحداثة.
- تبدو تركيباتك التخطيطية كخريطة لأرض منقرضة يمكننا السير عليها مما يؤدي إلى عدم وضوح الفرق بين الخريطة وواقع الارض؟
- يوسف ليمود: الانقراض هو قانون هذه الأرض التي نعيش عليها. والتحديات التي تحاصرنا في هذا العالم تتغذى على أجسادنا أكثر مما تغذي الحياة فينا. يكفي أن نعرف أن الأرض مرت بخمسة انقباضات كبرى راح ضحيتها أكثر من 99 في المية من الكائنات. الأرض مهيأة أساسا لانقراضنا وليس لبقائنا.
- هل الفن الما بعد حداثي أو الميتا حداثي اليوم فى نظر الجمهور يبدو كمن يرتدى قبعة كبيرة لا تمر عبر مدخل ضيق فلا يراها ولا يدركها المشاهد؟
- يوسف ليمود: أظن أن الأزمة تكمن في وصول الأفكار والممارسات المعاصرة إلى ثقافات لم تشارك في انتاج هذه الأفكار وتلك الممارسات. هذه الحالة كانت تشكل دائما أساس المشكلات والتحديات التي تواجه ثقافات كثقافتنا. كان على الفن المصري، على سبيل المثال، منذ نشأته في بداية القرن العشرين أن يبحث عما يسمى بالهوية المصرية، وكان ذلك تحديدا بسبب استقدام الحداثة وأساليبها من الغرب. كان هذا نوعا من الاغتراب. نفس المشكلات والتحديات الآن مع أفكار وممارسات فنون ما بعد الحداثة. بكل تأكيد أنا لست ممن يقولون بفكرة الهوية، على العكس تماما. ولكن الإشكالية واقع ولا معنى لإنكارها.
- حدثت على نطاق واسع مناقشات حول فكرة `موت الحداثة`، حضرت احد هذه المناقشات؟
- يوسف ليمود: أظن أن من المفيد للقارئ هنا أن نحاول أن نزيل اللبس بين هذين المصطلحين، `الحداثة` و`ما بعد الحداثة`، ولو بشكل عابر، حيث الخلط بينهما حاصل وفي قطاعات ثقافية عريضة. بدأت مرحلة الحداثة في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر مع انفجار الثورة الصناعية وظهور أفكار الفردانية والإيمان بالحرية والعقل والعلم....الخ. وكان لهذا الفكر العام أثره على الفن حيث بدأت الحداثة في الفن مع الانطباعيين. وخرج من بطن هذه الحركة المدارسُ الفنية المعروفة من بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه. بعد كارثتي الحربين العالميتين وفقدان الإيمان بالمسلمات أو السرديات التي انبنت عليها الحداثة، بدأت تتبلور في منتصف الستينيات أفكار ما بعد الحداثة، سواء في الفلسفة أو الممارسات الفنية. هذا باختصار شديد. عن نفسي لم أشارك في مثل هذه المناقشات ولكن ما يتم مناقشته الآن هو فكرة موت ما بعد الحداثة. حيث الشك في كل شيء طال عملية الشك نفسها.
- هل فى أعمالك حس روحاني؟ وما هو مكان أعمالك من فنون ما بعد الحداثة؟
- يوسف ليمود: هذا يعتمد على ماذا نقصد بـ`الحس الروحاني`. إذا كانت الروحانية تعني تحقق العمل فكريا وجماليا فهذا ما يطمح إليه كل فنان. أما مكان أعمالي، أظن أنه ليس أنا من يجيب على هذا السؤال.
-هل تقدم مقاطع لمدينة تتوالد فيها الأشكال وتتواصل ميكانيزمياً؟
- يوسف ليمود: لا أتقصد بناء مدن. ولكن يحدث أن يخرج العمل في شكل جزر مستقلة بعضها عن البعض، وللمشاهد أن يمد بينها جسورا وهمية أو يراها كما هي: أعمالا قائمة بذاتها.
فنك والأنثروبولوجيا هل يتقاطعان أحيانا؟ وهل للأسطوره موضع فى أعمالك؟
- يوسف ليمود: كل نشاط انساني وخصوصا الفن له صلة مباشرة بالأنثروبولوجيا. أما الأساطير فلم تراود عملي بعد.
- ارتباطاتك عبر الثقافات المختلفة إلى أي قدر توحي لك لصنع مدن مستقبلية؟
- يوسف ليمود: أنا ابن الثقافتين الشرقية والغربية، إلى جانب مؤثرات عميقة من الثقافة الهندية، والشرق آسيوية بشكل عام، وهذا يجعلني أتوجس من كلمة `مستقبلية`. أنا لا أؤمن بهذا المفهوم خصوصا كونه وليد الفكر الرأسمالي.
- لبعض أعمالك حس متجذر بالبدائية.. كأنها مرتبطة عضوياً بمجتمع وثيق الصلة بالأرض؟
- يوسف ليمود: هذا السؤال هو أفضل إجابة على السؤال السابق عليه مباشرة. وجميل طبعا أن أسمع هذا، لأن هذا ما أشعر به أيضا.
- النقد والحركة التشكيلية
- فى رأيك ما التهديدات الرئيسية لحرية التعبير فى عالم الفن المعاصر.. ولا ننسى ما حدث من غلق جناح روسيا فى بينالى فينيسيا 2022؟
- يوسف ليمود: أظن، إن لم أكن مخطئا، أن غلق الجناح الروسي في بينالي فينيسيا 2022، كان بسبب انسحاب فريق الفنانين المشارك فيه احتجاجا على غزو روسيا لأوكرانيا. فهو بالعكس كان تعبيرا عن موقف يُحترم. ولكن هذا لا ينفي وجود قمع وتهديدات لحرية التعبير في عالم الفن المعاصر، وقد رأينا كيف لغت ألمانيا وانجلترا سلسلة معارض للفنان الصيني أي وي وي بسبب تغريدة له ضد الإبادة الجماعية في غزة. ولكن في نفس الوقت هناك أيضا الجانب الآخر الذي يواجه هذا القمع، ومثال ذلك الانسحاب الجماعي لفنانين وقيّمين من عدد من الفعاليات الفنية الهامة في ألمانيا بسبب دعمها اللا انساني لتلك الإبادة. ربما لا تحتمل هذه المساحة سرد كل الجوانب ولكن أبرز هذه التهديدات، أو لنقل التحديات، هي مسألة العلاقة بين المؤسسة الداعمة للمشروع الفني وبين الفنان. عملية الحسابات والرقابة الذاتية من الفنان نفسه على عمله كي لا يخسر هذه العلاقة هي من أكثر المواضيع إثارة للشجن في هذا العالم الفني المتشدق بموضوعات صارت تقترب من الرخص والابتذال، كموضوعات الهوية والجندر والجسد والنسوية والبيئة والاستهلاك….الخ
- فى عالمنا العربى نعيش كما فى مصحات الامراض العقلية.. حروب لا منطقية.. وحياه وبشر لا منطقيين.. لمن تقام الفنون إذن؟
- يوسف ليمود: ليس فقط في عالمنا العربي، بل في كل الأماكن وفي كل العصور كانت دائما الحروب والأوبئة والمجاعات والجنون، ولكن لم يمنع هذا من حضور الفن. العصور الوسطى الأوروبية مثال جيد على هذا التناقض بين ظلام الواقع ونور الفن. الفن طاقة موجودة وتُمارَس أحيانا رغما عن صاحبها، ولها فاعليتها في دوائرها، حتى لو كانت محدودة.
- هل تعتبر منتج الذكاء الاصطناعى فن؟ وهل سيصبح الفنان فى مواجهة تهديد وجودي مع الذكاء الاصطناعى؟
- يوسف ليمود: لو استطاعوا أن يهبوا الذكاء الاصطناعي وعيا إنسانيا وروحيا وذاتا تمكّنه من أن يتألم وأن يشعر بآلام الآخرين، حينئذ يحق لنا أن نرتعب. الذكاء الاصطناعي يهدد الوجود الانساني في نواحٍ أخرى غير الفن، الذي قوامه أساسا الوعي.
- ما رأيك في كيفية تغيير الإنترنت لـ `مشهد` النقد الفني بكثرة ما يكتب من انطباعات؟
- يوسف ليمود: بالطبع تآكلت سلطة الناقد وامتزج النقد بنوع من الغوغائية والادعاءات، ولكن رغم هذا، أو ربما بسبب هذا، صار الفن والكلام عنه أكثر شعبية، وهذا جيد.
- هل تعتقد أن النقد الفني نشاط موازٍ؟ أم نشاط فرعي؟
- يوسف ليمود: بالنسبة لي، النقد الفني، والكتابة بشكل عام، ليست نشاطاً فرعياً. أنا أتعامل معهما كتعاملي مع العمل الفني تماما. هي فقط مسألة كيفية التعامل مع وسيط مختلف: الكلمات.
لك كتاباتك فى الفن.. أيهما تعتقد لصالح العمل: الكتابة التمثيلية الانطباعية أم الترجمة لأفكار الفنان أم تفسير العمل طوبوغرافياً؟
- يوسف ليمود: هذا يعتمد على مدى تأثير العمل فيّ. بشكل عام، عندما أكتب عن عمل فني ما أحبه، أستشعر في نفسي ميزانا حساسا فأحاول خلق نص أدبي يعادل تماما النص البصري.
- هل هناك حداثة زائفة كتلك التى أدت بجرأة لتحول المنتج الثقافى إلى منتج استهلاكي؟
- يوسف ليمود: المثير للسخرية أكثر هو إنتاج أعمال استهلاكية تنتقد فكرة الاستهلاك.
- هل ترى أن اشكال الفن الحداثية وما بعدها تمثل حالة ضغط شديد على المشاهد العربى؟
- يوسف ليمود: المشاهد العربي لديه ضغوط أخرى أشد وطأة: المستقبل غير الواضح، التفكير في الهجرة، الكبت الجنسي وعدم القدرة تكاليف الزواج…. أشكال الفن المعاصرة بالنسبة له أشبه بنكتة يتندر بها.
- هل ما بعد الحداثة كثقافة معاصرة تتشابه ومشهد يجلس أمامه الفرد الانسان يتفرج عاجزا حتى عن طرح اسئلة حول واقعه؟
- يوسف ليمود :ربما هذا هو الحال في بلادنا العربية أو البلاد النامية عموما. لكن مستوى وعي الفرد في البلاد المتقدمة لا يسمح له بهذه الوضعية. هناك حد أدنى من الوعي بما يجري في عالم الفن.
- فى بداية الالفية الثالثة شهد العالم تحولات جيوسياسية وعلمية وتلاعب جينى وهندسة وراثية وحروب وعسكرة للأرض.. ما مدى تفاعل الفنان العالمى والمصرى مع تلك التحولات؟
- يوسف ليمود: لست متابعا جيدا لكل ما يحدث في عالم الفن، ولكني أرى أن الفن ما زال بعيدا عن اقتحام المجال العلمي، ربما لأن الفلسفة وخصوصا فلسفة الأخلاق هي من بادر الى اقتحام ذلك المجال، وهي تستطيع أن تخرج بنتائج تمس صميم الحياة العملية فيما يخص أخلاقيات العلم.
- ما الذي يحمله المستقبل القريب لمشروعك الفنى القادم وأين سيكون؟
- يوسف ليمود: في نهاية نوفمبر هذا 2025، أشارك بنسخة أخرى من الـ`متاهة` في معرض بمدينة باكو ــ أذربيجان، وسوف يستمر حتى مايو 2026. كانت قد عُرضت سابقا فى باريس وروما وكوريا الجنوبية.
بقلم : فاطمة على
جريدة: القاهرة 4-11-2025