|
هشام أحمد عبد الحميد نوار
ـ أغامر وأقول ان الطائر عند هشام نوار هو الفنان نفسه وانه يختفى حينا فى ريش طائر عادى وحينا يفصح عن كونه حورس تحديدا . منذ 1992 ونحن نرى تجريد الطائر يلبس النصف العلوى لتمثال `الكاهنة` ونرى الطائر صراحة فى `امرأة وطائر ` حتى يبوح الفنان بهاجس حورس ، فيمثله فى سلسلة من الاعمال وحده أو بمصاحبة امراة ، ونجد ذلك حتى فى لوحاته . يلجأ هشام الى موتيفات فرعونية مثل الحرف الهيروغليفى فى ` الانسان الاناء أو يوحى بهيئة تمثال قديم ، كما فى امرأة وطائر ` الذى يذكرنا بتمثال شيخ البلد .
عدا الموتيفات ، تحمل هشام نوار فى ` اطياف العشق ` قيما مصرية عربية مثل السكينة السكون. فشخصيات هشام ساكنة غالبا أو تتحرك حركة بسيطة ، لكن تكمن سكينتها فى تلك النظرة الشهيرة ، بعينين واسعتين ، تكاد ان لا تحملان تحديدا عند انسان العين ، كأنهما تنظران للابدية ، مثلما فى وجه امرأة ` أو تمثال نصفى لامراة تشع اعمال الفنان بجلال الصرحية ، رغم انها صغيرة الحجم فى اغلب الاحيان ، لانها تذكرنا بأعمال قديمة هائلة ولان مكونات التمثال قليلة منبسطة وبسيطة ، يفرد الفنان مساحة كبيرة لكل منها على مساحة لونية واحدة.
ان أعمال هشام نوار النحتية ليست فرعونية خالصة ، بل هى تحمل ايضا ملامح التجريد ، مثلما فى تمثالى الرجلين المجنحين وغيرهما ، وهى تحمل بعدا انطباعيا ، تسيل فيه الحدود بين الكتل ، مثلما يبدو حورس خارجا من ضلع حواء/ المرأة فى `امرأة وحورس` أو تندمج خطوط الشكل، مثلما فى سلسلة تماثيل حورس، وحين تكاد تختفى ملامح الوجه فى امرأة وطائر. ربما يتبدى هنا أحد اسباب استدعاء الفنان للاطياف فى عنوان معرضه، فمنحوتاته بأنطباعيتها تكون اطيافا لاشكالا مكتملة التحدد ، وبفرعونية أغلبها تحمل حضورا لاطياف الماضى .
وليد الخشاب
فى معرض هشام نوار : الهامشى فى قلب اللوحة
- تذكرت هذه المقولة للفنان الأمريكى ( جوزيه كليمنت ) بعد مشاهدتى لأعمال الفنان هشام نوار المعروضة فى قاعة المشربية بوسط البلد حيث يعرض الفنان أكثر من أربعين عملا تصويريا نفذت معظمها بطريقة الكولاج ( القص واللصق ) مستخدما لخامات ووسائط مختلفة من الورق الملون والأقمشة والخيش والنفايات فى تأكيد من قبل الفنان على ولعه بالخامة والملمس فى أعماله التصويرية كما هو الحال فى أعماله النحتية والتى كثيرا ما يستخدم فى تنفيذها العديد من الوسائط والأشياء المهملة التى ربما لم تكن لتثير انتباهنا قبل ان يحولها هو الى جزء من أعماله النحتية الى شخوص تتصارع وتتحاور وتنبض بالحياة .
- والفنان هشام نوار له اهتمام خاص بالخامة . كما يظهر فى أعماله وكذلك بالشكل المجرد عن أى إيحاءات بعيدة عن مفردات التشكيل فهو حين يشرع فى عمل ما - كما يقول - لا يفكر فى شىء سوى الشكل دون الانتباه الى ما يمكن أن يثيره هذا الشكل من تداعيات أدبية أو لغوية لديه أو لدى المتلقى .
- هو يبحث عن هذا الشكل الذى يظل عالقا فى الذهن حتى بعد الانتهاء من عملية المشاهدة،هذا الشكل الذى يقفز الى المخيلة فى لحظة بعينها من التأمل أو الغضب أو ربما السعادة .
- هو إذا يهتم بالشكل كما يهتم بالخامة .. فقطعة القماش المزركشة هذه لم تعد سوى فصل من اللون ينغرس فى فراغ اللوحة بعد أن فقدت ليونتها وانسيابيتها المعتادة ، وقصاصات الورق الفضية والذهبية تلك المتناثرة على مساحة التوال ليست سوى ومضات من الضوء تظهر وتختفى كى تعكس فى ظهورها واختفائها مساحة الأحمر النارى فى خلفية اللوحة .
- فقدت الخامة إذا دلالاتها السابقة وتحولت على يد الفنان الى مثيرات لونية وبصرية وملامس ناعمة وخشنة مثيرة للتأمل والمشاهدة بعد أن كانت مهملة ومتوارية.. صارت جزءا من عمل نحتى ولوحة تصوير يشوبها القلق والتوتر كما هو ظاهر فى جملة الأعمال المعروضة للفنان هشام نوار والذى يعد واحدا من الفنانين الشبان والمتميزين داخل الحركة الفنية والذين شاركوا بأعمالهم فى صالون الشباب فى دوراته الأولى ونال خلاله عدة جوائز عن أعماله التى كان معظمها يندرج تحت مسمى ( الأعمال المركبة ) فهو يظهر اهتماما خاصا بالأعمال ذات الأبعاد الثلاثة، وربما لهذا عرف نحاتا أكثر منه مصورا.. ويعد هذا المعرض هو الأول للفنان الذى لا يضم فيه أيا من أعماله النحتية وهو يعلق على هذا بقوله ( إن الفكرة المسيطرة لحظة الإبداع هى التى تتحكم فى نوعية العمل وانتمائه من حيث كونه مسطحا ذا بعدين أو مجسما ذا ثلاثة أبعاد .
- وفى لمسة وفاء وعرفان لرائد الفن التجريدى فى مصر منير كنعان يهدى الفنان هشام نوار معرضه هذا الى روح الرائد الكبير فيما يشبه ( التناص ) والتداخل مع أسلوب الفنان كنعان إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح الأمر الذى يؤكد الهوية التشكيلية التى ينتمى إليها الفنان فى ارتباطها اللصيق بالتجريب والبحث الدءوب فى الخامة .. هذا الى جانب الحرص الشديد على عدم الاقتراب من أية إيحاءات لغوية أو أدبية قد تعلق بذهن المشاهد ولا أجد هنا خيرا من مقولة الرائد منير كنعان نفسه حيث قال معلقا على بعض رواد المعارض ممن يحبون البحث عن الحكايات داخل اللوحات ( أنا حين أسمع التعليقات الأدبية على اللوحات أجدها خارج الموضوع ، فإنه لأمر مضحك أن تحتاج الى الحكاية كى تنظر الى اللوحة ) .
ياسر سلطان
`الجميلات النائمات` فى رحلة الحب والموت
- الرسام هشام نوار يعتمد لغة الجسد الصامت المشتعل بالأحاسيس اللوحات التي يقدمها هشام نوار في المعرض هي انعكاس لتجربة حياتية وشعورية عميقة تنقلنا إلى عوالم الحب والجمال والموت من خلال 82 عملاً فنياً. تقسم الأعمال إلى مجموعتين تحملان لمسات فنية تجمع بين التأثيرات التراثية والمعالجة الحداثية.
- بدأت فكرة المعرض منذ 12 عاماً عندما كلف الفنان بتصميم غلاف رواية الكاتبة مي التلمساني تناولت تيمة `القبلة`. أثار هذا الغلاف مخيلة هشام نوار، فأدرك إمكان إعادة توظيف الخطوط والتفاصيل في طرق مختلفة. لكن التجربة بقيت مؤجلة حتى عام 2018 عندما تعرض الفنان لأزمة صحية كادت تنهي حياته. في سريره طلب الفنان أوراقاً وأقلاماً ليجد نفسه يغوص في عمق العلاقة بين الحب والموت، مستحضراً قراءاته كتاب `طوق الحمامة` لابن حزم وفيلم `طوق الحمامة المفقود` للمخرج التونسي ناصر خمير، ورواية الياباني كاوباتا `الجميلات النائمات`. هذه الأفكار الممزوجة بالذكريات والشعر والتأملات تحولت إلى لوحات تتحدث عن الحب كحالة وجودية تتخطى الجسد لتصل إلى الروح.
- غالبية الأعمال التي يضمها المعرض تركز على صورة واحدة تقريباً لامرأة جالسة في وضع جنيني. تظهر المرأة عارية في بعض اللوحات بينما ترتدي ملابسها في لوحات أخرى، مما يخلق حواراً بصرياً ممتداً. ومع أن الوضعية متقاربة فإن الاختلافات تظهر فى الخلفيات والتكوينات والألوان التي تحمل معانى متعددة.
- تطالعنا هنا مثلاً لوحة لفتاة نائمة ترتدى رداءً زيتياً ومحاطة بخلفية من السحب. السحب هنا ليست مجرد عنصر بصري، بل تعبير عن حلم أو غموض يلف الشخصية. وفي لوحة ثانية نرى الفتاة نفسها تقريباً مع خلفية برتقالية تضفي إحساساً بالعاطفة والدفء، ويمثل وجود شتلة خضراء إلى جانبها، رمزية للحياة والنمو. ينتقل المشهد إلى نطاق أكثر جرأة، إذ تظهر الفتاة في لوحة ثالثة وهي عارية تماماً بخلفية داكنة، وكأن الظلام يحتضن هشاشتها. بين اللوحات أيضاً ثمة لقاءات نادرة بين الرجل والمرأة، اللذين يظهر عريهما كرمز للعودة إلى الطبيعة والبساطة، ويظهر كلاهما في إحدى اللوحات مع شجرة صغيرة تمثل الحياة المشتركة أو الخلق.
- لا تخلو أعمال الفنان هشام نوار من الرمز، فهو حاضر في معظم الأعمال، فالزهرة التي تمسك بها الفتاة فى واحدة من اللوحات قد تعبر عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو البحث عن الجمال وسط العراء. وفى لوحة أخرى يتلاعب الفنان بشعر الفتاة المنسدل كأمواج البحر من خلفها، ويؤكد الفنان هذه الرمزية مباشرة، حين يرسم سفينة شراعية بين هذه التموجات، مما يخلق قصة داخل القصة.
- ليس غريباً أن يلجأ الفنان هشام نوار إلى استلهام الحضارة المصرية القديمة، بخاصة في مقارباته لتماثيل الكتلة التي اشتهرت بها منحوتات الدولة الوسطى. وضعية الجلوس المغلقة التي استخدمها المصريون القدماء لضمان استدامة التمثال عبر الزمن، تظهر في لوحات `الجميلات النائمات`. هذا التشابه يبرز اتصال الفنان بجذوره الثقافية، وهو يعيد صياغة هذا الشكل بلمسات عصرية تعبر عن مشاعر عميقة تراوح ما بين الحب والوحدة والضعف.
`- الجميلات النائمات` هو عنوان مستوحى من رواية الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا، الذي عبر عن فكرة الجمال النائم المرتبط بالزمن والهشاشة. تأثير الرواية كان عميقاً في الفنان، بحيث رأى فيها انعكاساً لأفكاره الخاصة عن الحب والموت، ولهذا يهدي إليه أعماله المعروضة. الإهداء الآخر لروح النحات المصري الكبير محمود مختار، وهو يعكس تقديره لفنان أسس جماليات `تماثيل الكتلة` وترك أعمالاً خالدة مستلهمة من الفن المصري القديم.
- وعلى رغم أن المعرض يركز على الرسم، فإن نوار يصر على تعريف نفسه كنحات. يرى الفنان أن الرسم والنحت متكاملان، فالنحات يبدأ دائماً برسم خطوط تمهيدية لعمله، لكنه اختار الرسم فقط في هذا المعرض للحفاظ على وحدة الفكرة والتركيز على تيمة `الجميلات النائمات`. أما الألوان التي يستخدمها الفنان هنا فهي تراوح ما بين الدرجات الدافئة والداكنة، مما يخلق تنوعاً شعورياً، كذلك فإن الألوان الزيتية والخلفيات الطبيعية تضيف عمقاً ورمزية خاصة للأعمال. اللون الداكن يعبر عن الغموض أو الموت بينما الألوان الدافئة تشير إلى الحياة والحب.
- معرض `الجميلات النائمات` هو تجربة شخصية تتشابك مع مشاعر الضعف والقوة، والحياة والموت، والجسد والروح. يقدم الفنان هنا رسالة مفادها أن الحب مثل الفن، هو تجربة متعددة الأبعاد، تحتاج إلى النظر بعمق كي نستوعبها. أعمال هشام نوار هي دعوة إلى التأمل في الحب والجمال من منظور مختلف، هي أعمال تتحدث بلغة بصرية صامتة، لكنها مليئة بالصخب الداخلي الذي يدفعنا إلى التفكير في معاني الحياة والارتباط الإنساني.
بقلم : ياسر سلطان
3-12-2024
جدلية الكتلة والحركة فى `الجميلات النائمات` لهشام نوار
- يجمع الفنان هشام نوار بين جنبات معرضه الأخير `الجميلات النائمات` خلاصة تجاربه لسنوات فى مجالات النحت والتصوير والتشكيل البصرى والرسم، ويضع فى القلب من التجربة الجديدة السؤال الأهم والأكثر إلحاحا فى مجمل أعماله: كيف يكون نفسه فى الفن؟ كيف يبدع موضوعا لا يتقيد بالقيم المؤكدة أو السائدة؟ كيف يمحو ما ليس منه ليخلص روحه من أشباح الخوف والتردد والاستسلام؟ طرحت هذه الأسئلة وغيرها نفسها منذ بدايات هشام نوار فى الثمانينيات من القرن العشرين وحتى المعرض الحالى المقام فى جاليرى ضى الزمالك حيث تتجلى فى `الجميلات النائمات` قيم جديدة سعى إليها الفنان واعيا، حافرا بمعوله فى أعماق تاريخ الفن وأجناس الأدب بحثا عن جوهرته المنشودة، وردا على سؤاله الأهم: كيف يصبح نفسه فى الفن.
- فى عام 2021، فى مقال بعنوان `طقوس طوطمية`، كتب هشام نوار عن مشاركته الأولى فى صالون الجمعية الأهلية للفنون الجميلة سنة 1987، وكيف فرض سؤال التجديد نفسه منذ ذلك التاريخ.
- فى المقال، يعبِّر هشام نوار عن رغبته الأصيلة فى `محو ما ليس منه`، وعن اكتشافه ذلك الصراع القديم بين القيمة الجديدة والقيمة المؤكدة، حين يصبح على الفنان أن يختار بين النجاح المضمون والمؤقت وبين القيم المستحدثة التى من شأنها أن تثبت جدارته وموهبته، وفى معرضه الحالى يبلغ هشام نوار عتبة من عتبات الفن استطاع بدأب وإصرار كبيرين أن يخطوها عبر سنوات من العمل، كنت شخصيا شاهدا أمينا ومحتفيا بها وبالتجربة التى أفرزتها، منذ أن رسم `القبلة` لتصبح غلاف رواية نشرت لى عام 2012، مرورا بنقاشنا حول مفردات الحب عند العرب والفرق بين أنواع الحب والشوق والصبوة والوله، وكيف يمكن التعبير عنها بصريا، وصولا للجميلات النائمات فى تجلياتهن الحالية. فضلا عن مسارات كثيرة جرَّب الفنان الدخول فيها وانصرف عنها غير آسف بحثا عن جوهرته الثمينة واستكمالا لما بدأه فى مشروعه الفنى الممتد والمتنوع منذ البداية.
- حوار موسَّع
- فى أعماله النحتية والتصويرية السابقة، قدم هشام نوار تصوراً معاصراً ًلموروث الفنون المصرية القديمة وتجلياتها البارزة فى فنون النحت سواء فى التماثيل أو فى نحت الجداريات. لم يتقيد بها يوما بشكل فلكلورى، بل فتح حوارا موسعا معها فى محاولة لاستنطاق هذا الموروث وتجاوزه مؤسِّسا لنفسه مسارا يخصه وبصمة لا تخطئها العين. يجمع هذا المسار بين ثقافة غزيرة ومعرفة أصيلة بمختلف تيارات الفن والتجريب فى أوروبا وبين الاطلاع على حركة الفن التشكيلى المصرية فى النحت والتصوير منذ جيل الرواد مرورا بتجارب السرياليين وجماعة الفن المعاصر وصولا للحظة الراهنة.
- فى هذا المعرض يفاجئنا هشام نوار باتساع السؤال المصرى القديم وخاصة سؤال الكتلة الجالسة، وانفتاحه على موروث التشكيل والأدب ليس فقط فى الغرب الأوروبى، ولكن أيضا فى الثقافة اليابانية الحديثة. يذكرنا على سبيل المثال بسلسلة رسوم هوكوساى الشهيرة `المشاهد الستة وثلاثين لجبل فوجى` (1831-1833) وبرواية `منزل الجميلات النائمات` لياسونارى كاواباتا (1961) وهما معا من أهم تجليات تلك الثقافة عالميا.
- ومن هذا الحوار الثرى بين روافد الفن القديم والحديث، وبين ما اصطلح على تسميته بفنون الشرق وفنون الغرب، ينتج هشام نوار معرضا متماسكا بمضمون وموضوع جديدين. فى الظاهر، يبدو موضوع الحب والعشق وأشواق الجسد من موضوعات الفن القديمة قدم التاريخ.
- وتبدو القيم المرتبطة بها تشكيليا وبصريا وكأنما قد عفا عليها الزمن. لكن هشام نوار يقدمها لنا هنا فى كامل بهائها، وفى تجددها الخلاب، ليس باعتبارها قيما ثابتة، بل باعتبارها قيما عابرة للحدود الجغرافية والثقافية، قيما إنسانية عليا، تربط بوشائج قوية عمل الفنان المصرى الراسخ بأعمال آباء الفن فى العالم وتؤكد الترنيمة المصرية القديمة التى يتردد صداها فى أعمال هشام نوار والتى تعتبر أن الجسد معبد الإله.
- طموح الرسَّام
- هكذا يأتى هذا المعرض فى التجلى الأول بمثابة تحية للجسد ولروح الفن، وفى التجلى الثانى بمثابة تحية لكاواباتا أحد كبار الأدباء الكلاسيكيين، واحتفاء بواحدة من أجمل روايات القرن العشرين، كما نرى من عنوان المعرض ومن موضوعه العام. لكنه فى العمق، يأتى ليقدم منظورا مغايرا لما دأبت على تقديمه الفنون البصرية المعاصرة.
- ويجمع هذا المنظور بين رسوخ الرسم بتقاليده ومدارسه المعروفة قديما وحديثا، والطموح لتبنى رؤية طليعية تتمرَّد على محددات وتوقعات سوق الفن، بالعودة لموروثات الفن المصرى القديم وتيارات الفن العالمية دون رغبة فى إعادة إنتاج أى منها.
- فى هذا الإطار، تبدو جميلات هشام نوار النائمات وكأنهن يحلمن بجميلات كاواباتا. لكن نوار يترجم الجسد الأدبى إلى جسد بصرى، جسد عار كما هى أجساد جميلات كاواباتا، لا يعطى نفسه بسهولة للنظر، ويكاد يخفى مواطن إيروتيكيته الخاصة بعيدا عن أعين المتلصصين، تماما كما يحظر على بطل الرواية لمس الفتيات النائمات.
- البطل العجوز `إيجوشى` يختفى هو وغيره من شخصيات الرواية من المشهد البصرى الذى يقدمه هشام نوار. ربما لأن نوار اختار أن يعيد الاعتبار للشخصيات النسائية الصامتة فى العمل الأدبى، وأن يمنحها القدرة على الحكى عبر تجليات الجسد الحسية والتشكيلية.
- وربما لأن نوار يرى نفسه المعادل الفنى للعجوز `إيجوشى` الذى يداوم على زيارة منزل الجميلات النائمات فقط ليقضى ليلة بجوار إحداهن. فى كافة الأحوال، يعطى الفنان للجسد الروائى حياة مغايرة، ويضعه فى بؤرة الضوء مخلِّصا إياه من هواجس الموت واليأس التى تخيم على البطل العجوز. يحول هشام نوار الجسد المكتوب إلى جسد مرئى حتى وإن استعصى على اللمس، ويراه عاريا تارة، مدثرا بغلالات رقيقة من النسيج أو من الأحلام تارة أخرى.
- الفنان إذن هو صانع الجميلات وهو القادر على خلق وتشكيل ولمس أجسادهن بكل ما تختزنه الذاكرة من حنين وشوق وترقب. يمنحهن حضورا بصريا لا يُستهان به، وفى الوقت نفسه يفلتهن من أسر ذاكرة `إيجوشى` كما يفلت هو ذاته من أسر الكلمة المكتوبة منطلقا فى أفق التشكيل البصرى الرحب.
- والأهم أنه فى سعيه لعمل تنويعة على تيمة الرواية، يحرر الشخصيات النسائية من قدر الاستغراق فى صمت النوم، يمنحهن القدرة على التجلى، بل والحكى عبر أجسادهن، ووجوههن، مستعينا بسطوة التصوير والتجسيد. فجميلات هشام نوار النائمات لا ينمن حقا. إنهن فى حالة غفوة مؤقتة تهددها أحلام اليقظة أو هن على وشك الاستيقاظ.
- لا يستغرقن فى نوم عميق ولا ينسحبن من الواقع بالنوم، لقد أرحن الرأس على الركبتين، أحطن أجسادهن بشعر مموج حر، اتخذن وضع الجلوس أو وضع الجنين، ورحلن إلى عالم الحلم القريب. وكأنهن نائمات متيقظات، يغصن برهة من الزمن فى تلك المنطقة الغائمة بين الصحو والنعاس، بطمأنينة واستسلام هين توحى بهما إغفاءة النائمة فى وضع الجلوس.
- يتأكد هذا عبر التشكيل البصرى الهندسى والمنظور المسطح اللذين استلهمهما الفنان المصرى القديم، وكذلك الرسام اليابانى، كلٌ على طريقته وبأدواته وموضوعاته الخاصة. هندسيا، يتقاطع المربع والمستطيل مع الدائرة والمثلث، فيؤكدان على تماسك الكتلة من ناحية وعلى وضع الجلوس ووضع الجنين من ناحية أخرى. فمثلا يتقاطع مستطيل الجسد النائم ككتلة واحدة مع مثلث الساقين المعقودتين تارة، ومع الذراعين المرفوعتين تارة أخرى فيتخلل ثبات الشخصية وتبدو وكأنها على وشك الاستيقاظ من إغفاءتها. - وينقسم مربع الجسد أحيانا لعدد من المثلثات المتداخلة، يصنعها اتحاد الساقين أو الذراعين، تجمع بينها استدارات الثديين أو اكتمال دائرة الرأس مع الذراعين أو اتصال تموُّجات الشعر بتموجات غلالة النسيج التى تلف الجسد النائم. فى كل الأوضاع والأحوال، نحن فى حضرة كتلة ثابتة تنبت من داخل ثباتها حركة.
- وعلى الرغم من صرامة المفردات الهندسية وبالرغم من استقرار الشخصيات فى وضع الراحة، تؤشر تلك التداخلات الهندسية على حركة لا تخطئها العين، قد تكون حركة الطفو التى تشبه حركة الجنين فى رحم الأم، وقد تكون حركة النسيم الذى يطيِّر شعر النائمة.
- إنها حركة تبث الشك فى نفس المتفرج فيما يخص ثبات الواقع نفسه وتثبت أن النوم ليس غيابا عن الوعى وليس نقيضا للحركة. تؤكد بعض اللوحات على الوضع الجنينى للشخصية من خلال هالات اللون والضوء فى الخلفية، فتبدو الشخصية وكأنها تطفو فى عالم موازٍ، فى برزخ الأحلام أو فى المنطقة الوسيطة بين الخلق والميلاد، وكأنها تنبض بالحياة من قلب الغياب. إنها حركة من داخل الثبات، تؤشر رمزيا لتداخل العالمين الواقعى والحلمى، المرئى واللا مرئى، والتى من خلالها يبرز هشام نوار مراوغة التشكيل البصرى فى معظم لوحات المجموعة.
- الكتلة والسطح
- هذا الجدل بين الثبات والحركة، بين الموت والحياة، يتجلى عبر استخدامات اللون والتشكيل والمنظور، فالخطوط السوداء تحدد الشكل وتفسره أو تبرزه للنظر، وتعمد لتشكيل الكتلة وظلالها، وتسمح بخلق انطباع عن الكتلة والسطح.
- بينما يؤثر التلوين والتظليل على الكتلة ويجعلها رغم ثباتها الظاهر فى حال من الطفو سواء جلست على خط أفقى محدد فى اللوحة، أو بدت رغم الجلوس وكأنها تسبح فى فضاء حُر. هنا تبرز ألوان الأرض الحارة التى احتفى بها الفنان، وتطغى درجات الأصفر والأحمر على درجات الأخضر والأزرق الباردة التى تم استخدامها بحساب.
- من ناحية التشكيل، وعلى الرغم من استمرارية المنظومة البصرية من خلال شخصية الجميلة النائمة، إلا أن الفنان ينحو للتنويع على نفس التيمة وذلك عبر تقنيات متنوعة تفتت الكتلة وتكسر هندسيتها الداخلية الصارمة. هكذا نرى فى بعض اللوحات، كسرا للشكل الجنينى عن طريق إدخال عناصر تكعيبية تسمح بتشظِّى الكتلة سواء بتكبير أحد أجزائها فيما يشبه عمل المنظار أو الميكروسكوب، أو بفصل الرأس عن الجسد وإدراج الجسد فى مشهد آخر، مشهد مائى على سبيل المثال، أو مشهد قبلة فى تجلٍّ آخر.
- وفى لوحات أخرى، تتقاطع مع كتلة الجسد عناصر بصرية خارجية، سفينة شراعية تبحر على تموجات الشعر أو وردة حمراء فى يد الجميلة النائمة، أو غيوم فى سماء زرقاء ساطعة يتدرج لونها الأزرق بين لحظة الصحو ولحظة الدخول فى هدأة النوم.
- أما المنظور المسطح فمراوغ أيضا على طريقته، تعمقه الظلال أحيانا، وتخلخله انحناءات الجسد وتعاريجه أحيانا أخرى. كل جسد كتلة، وكل كتلة تكشف أو تخفى تضاريسها وفقا لموقعها من الناظر أو المتفرج. أما كتلة النحت فعادة ما تدفع المتفرج للدوران حولها واكتشاف زواياها وخباياها ومنطقها الداخلى. فى كتلة التصوير، يختلف الأمر.
- وكأن الفنان هو من يقوم بفعل الدوران حول الكتلة عوضا عن المتفرج. هكذا ينجح هشام نوار بخبرته الأصيلة بفنون النحت والتصوير معا فى إيهامنا بتنوع أبعاد الكتلة وقدرتها على البروز خارج إطار الخطوط السوداء، بل وخارج سطح اللوحة.
- ينشغل بهيئة الكتلة الخارجية بنفس قدر انشغاله باستخدام اللون والإيحاء بملامس الكتلة المحتملة. يتأمل المتفرج تلك الكتل المسطحة فإذا بها تبرز من السطح وتدعوه للمسها: يبدو بعضها طينيا بلون الطمى، ويبدو بعضها الآخر عاجيا أو حجريا أو مصنوعا من الأبنوس، خامات النحات المصرى القديم المستخدمة فى صنع التماثيل والنقش البارز، وألوان البشرة المصرية المتنوعة كما يراها الفنان.
- نساء هشام نوار جميلات بدرجات ألوان بشرتهن، بعيونهن المستسلمة للنعاس، بظلالهن وخطوطهن الحانية، بشعورهن المتعرجة فى انسياب تارة، المستقرة على هيئة كتلة لونية موحدة تارة أخرى، بأجسادهن المنحوتة بصريا فى وضع الجلوس.
- لكنهن يستعصين أيضا على التكرار والتنميط ويشكلن وحدة متناغمة ومتحركة فى آن واحد، تتكرر بتنويعات وإيقاعات مختلفة. فهناك ذات الثوب أحمر التى تثنى ساقا تحتها وتترك لحركتها الغافية حرية الانفلات من أسر الكتلة ورتابة التوقع. وهناك فى المعرض نفسه ظهور مميز لشخصية الرجل فى مجموعة لوحات ورسوم بالأبيض والأسود بعنوان `عشق`.
- وربما تكون اللوحة المهداة لعبد الهادى الوشاحى درة التاج فى تلك المجموعة، حيث يندمج رجل وامرأة على كرسى يشبه العرش، قد يعبر رمزيا عن عرش الوشاحى المتوهج فى مملكة الفن، فى عناق تتمازج فيه الأجساد والألوان مع وضع الجلوس الموحى بالحركة والشهوة معا.
- وفى لوحات المجموعة التى تصوِّر قبلة بين رجل وامرأة تلتحم الشفاه وتبرز لونيا وتشكيليا فتحيل تارة لمنحوتات المصرى القديم وتارة أخرى لتراث الفن الأوروبى، تدعمها من آنٍ لآخر مفردات شبقية من بينها مفردة المينوتور الرامز لقوة الجسد الذكورى وعنفوانه الوحشى، ومن بينها حلم المرأة النائمة الإيروسى فيما يُقبل شريكها على لثم ثديها.
- إنها تلك الحياة التى `يمكنك لمسها بكل أمان` بتعبير كاواباتا التى يدعونا هشام نوار لتأملها من خلال هذا المعرض المدهش. وكأنه يدعونا للاستلقاء مثل بطل الرواية إلى جوار نائمات المعرض الجميلات. لكننا بدلا من أن نستلقى، نحلق، أو نطير. بدلا من أن نغرق فى النوم، نغرق فى الصحو، وتلتمع أعيننا بجمال الفن وانتصاره على قبح الحاضر.
- بدلا من أن نتمنى `الموت بجوار امرأة جميلة`، نتمنى الحياة فى حضرة الفن، وندرك بعض أسرار الوجود كلما تأملنا خطوط الجسد وظلاله، ملامسه وتشكلاته، سطحه وعمقه.
- جوهرة ساطعة
- يبحث هشام نوار عن تلك الجوهرة الساطعة بين أكوام الرماد، ويعثر عليها فى معرضه الجديد، فيجلو عنها ما علق بها من أتربة، ويكشفها لنا فى أبهى صورها، بنفس القدر من التأنى والروية الذى يطبع كل أعماله. يكشف لنا صورة الفن المزدوجة وروحه العميقة: صورته الذاتية المفتوحة على أسئلة الشباب والكهولة، الذاكرة والنسيان، الحلم والواقع.
- وصورته الجماعية المفتوحة على فعل المقاومة الدؤوب، مقاومة القبح السائد بالضرورة، ومقاومة التوقعات المسبقة المفروضة قسرا على الفنان المعاصر.
- يكشف لنا أهمية مقاومة الموت من خلال صحوة الوعى، ومقاومة الذكورية القاتلة من خلال الحفاوة بالجسد الأنثوى، ومقاومة الاستسهال البصرى من خلال التعمق الفكرى والفلسفى، ليثبت من جديد قدرة الفن الصادق على تجاوز الحدود وكشف ما ليس منه.
بقلم : مى التلمسانى
جريدة : أخبار الأدب 24-11-2024
|