`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد عبد المنعم إبراهيم مرسى جاد
محمد عبد المنعم يغازل الحرف العربى فى اكسترا
- لا مفر من أن تطالع تجمعات الشباب من الجنسين والثنائيات فى حالة هيام على كورنيش جزيرة الزمالك الغربى فى طريقك الوحيد إلى قاعة إكسترا لعرض الفنون فقد أطلق على الشارع شارع الأحباب `المنتزه` وفى هدوء يليق بالموقف الرومانسى فى منتصف شارع الأحباب عرض محمد عبد المنعم ابن صعيد مصر سوهاج أغلب لوحاته وتجاربه التى أنجزها بعد التحاقه بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا عام 1984وحتى الآن فقد غازل محمد عبد المنعم الحرف العربى على نحو يستنطق فى كوامنه الجمالية والتعبيرية وهو ما نراه فى لوحة جارة الوادى ثم تأثر بطريقة وأسلوب أحد رواد السيريالية الشعبية حامد ندا 1924- 1990 وإن كان ينفى ذلك وإن اللقاء الذى سعى إليه مع الفنان حامد ندا لم يتم واحتفى محمد عبد المنعم باللون فى كل الأحوال على نحو خاص جدا يكشف انتماءه إلى جنوب الوادى واحتضان النيل للجبل فى رفق لكن يبدو أن علاقته بالعواصم الكبيرة كمدريد حيث درس أو القاهرة حيث يقيم قد دفعته إلى التعبير عن عنفوان المشهد البصرى سواء من حيث الخط وتمرده أو اللون وتفجره على نحو يذكرنا بالفنان فرنسيس بيكون .
- جاءت الوجوه التى رسمها محمد عبد المنعم لتحمل كل تناقضات الواقع المعاش من رقة وقسوة وتردد وتطلعات واحباطات ورجاء لكنها تميزت بتعدد الألوان التى زحفت بجسارة على البشرة المتداعية لتكشف عن حزن دفين نبيل متسام .
سيد هويدى
روزاليوسف - 14/ 11 / 2006
أسطرة الحياة ... تكوين الموت
-فى جاليرى المشريبة بالقاهرة جاء أخيرا معرض التشكيلى المصرى محمد عبد المنعم إبراهيم الذى كان ميلاده بصعيد مصر ( 1965) وتخرج فى كلية الفنون الجميلة بالمنيا ( 1988) ثم حصل على ماجستير تصوير من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة بعنوان `القيم الإبداعية فى التصوير عند حامد ندا ` ( 1995) ويعد الآن لرسالة دكتوراه `إبداعية الأداء فى التصوير عند ماتيس وبيكاسو - دراسة مقارنة ` وأقام معارض خاصة عدة ما بين القاهرة وألمانيا .
- يقول إبراهيم ` إن فترة الدراسة بكلية الفنون الجميلة كانت أكاديمية كلاسيكية بمعنى المحافظة على النسب والتشريح والتكوين والقيم الجمالية لكننى منذ العام الأول لدراستى الفنية الجامعية كنت ارسم اسكتشات لاحظ أساتذتى وجود شئ غريب فيها وهو أن الأشكال عندى تحدث لها أحيانا حال استطالة وحال تضخم فى الأطراف أحيانا أخرى أو يجرى تكسير فى التشريح تقبله العين ويصدقه العقل وفى العام الثالث من الدراسة بدأت تظهر عندى تعبيرية لاذعة تحدث صدمة لدى المشاهد وكان أساتذتى يقولون لديك شئ تود قوله أما فى البكالوريوس فبدأت الأعمال تأخذ جوا ميتافيزيقيا لم يكن لى تصرف فيه لكن القدر دفعنى إلى ذلك ففكرة الموت تحاصرنى منذ الطفولة حيث مات والدى وأنا فى الخامسة فقمت بتنفيذ مشروع التخرج من الفنون الجميلة تحت عنوان ` الحياة والموت رؤية ميتافيزيقية ` .
- ويضيف قائلا لقد حدثت عندى نقلة أثناء آدائى للخدمة العسكرية بالجيش المصرى حيث قرأت كثيرا فى الفلسفة وعلم النفس وكان المسيطر على هو التأمل فى مناخ الصحراء من سماء ورمل شعرت أن القمر فى الليل أضخم من أى وقت سابق وله سيطرة غريبة على المكان إضافة إلى النجوم المبعثرة فى سماء الليل ونتيجة للمناخ النفسى الذى انغرست فيه بكل جوارحى ونظرا لطبيعة المكان الصحراوى البعيد تماما عن المجتمع المادى مجتمع شبه بدائى لكنه يخلو من العنصر الأنثوي كنت أقول فى أحلام اليقظة أو فى تأملاتى إن آدم وحواء لو عاشا فى هذا المكان البدائى بعيدا عن أى تلوث أو حضارة مادية فمن المؤكد أن الوجود سيكون رائعا حدث انفجار داخلى وأردت أن أرسم بشراهة فبحثت حولى عن أدوات أرسم بها فوجدت زجاجة بها صبغة أحذية ذات لون بنى وكان لهذا اللون تأثيرا شديدا على لأنه لوننا لون الفراعنة لون الأرض لون له زمن غريب تشعر أنه جزء منك كما وجدت دفترا وفرشاه قديمين فبدأت أرسم بالصبغة على ورق الدفتر حواء وآدم فى علاقة رومانسية أحيانا وحميمية أحيانا أخرى وبدأت الأحلام تزيد أحلام أن تصنع كونا جديا أبطاله حواء وآدم والقمر ومع الأحلام التى تزيد بدأ الطمع الإنسانى فكنت أتمنى أن يكون هناك نهر أو بحر يكسر حدة خطوط الصحراء كنت أرسم يوميا ( 5 ) أو ( 6 ) لوحات وأنا خارج الوعى لا أشعر بنفسى وبدأت خطوط الرمل تلين وتتحول إلى أمواج فوقها قمر دائم الوجود وبالطبع دخلت مع حواء وآدم مفردات شعبية مثل القطة والديك والكلب والحصان فكلها عناصر ملتصقة بالإنسان .
* انتقال ..
- ويتابع قائلا : بعد انتهائى من أداء الخدمة العسكرية انتقلت العناصر نفسها والمفردات نتيجة لقراءاتى فى الأدب الشعبى والميثولوجيا إلى المناخ الأسطورى فتناولت فى مجموعة كبيرة من اللوحات بداية نزول حواء وآدم إلى الأرض وبداية ظهور الأسطورة حيث رافق ذلك نشأة أول فكر فلسفى ناتج عن العقيدة نفسها رسمت لوحات استعرت فيها من الفن المصرى القديم فكرة التكرار فأخذت المربع أو المستطيل كوحدة وقمت بتكراره فى مساحة العمل ووضعت بداخله العنصر البشرى فى أوضاع وحركات مختلفة وفى خلفية المربع خلف حواء وآدم ظهر فى البداية فضاء لكن بعد ذلك ظهرت فكرة المعبد بالإضافة إلى الحيوانات والمسوح الغريبة ثم حدثت نقلة أخرى هى وجود أبطال الأعمال نفسها ` حواء وآدم ` داخل المربع مع ظهور الجدار الذى أصبح رمزا لواقع معتم يحجب الضوء والمربع فى حد ذاته قد يشير إلى وجود عصرى حديث ` الغرفة الأسمنتية ` ثم بدأ يحدث صراع بين العنصر البشرى والجدار وبقعة الضوء التى تساوى الحياة أو الوجود وكان الإنسان فى هذه الأعمال يدير ظهره للمشاهد.
- ويضيف `أعدت صياغة بعض تلك الرسوم باللون على مساحات كبيرة باستخدام باليته ألوان الفنان المصرى القديم لتأكيد مصريتى أولا وللتأكيد على أهمية الحضارات القديمة كتاريخ وتراث ثانيا ولأقدم للمشاهد انطباعا يشاركنى من خلاله الإحساس بالزمن القديم ثالثا أما النقلة الجديدة فى معرضى الأخير فبدأت منذ الربيع الفائت حيث جذبتنى زهور الربيع الطالعة زهور لم تأخذ من كآبة الوجوه أو تلوث الحياة جذبتنى لأعيش معها وارسمها فقدمت المجموعة المعروضة حاليا أحيانا بخامة الزيت على التوالى وأحيانا بالصبغات والباستيل .
عصام أبو زيد
الاتحاد - 15/ 3/ 1999
الجسد أيقونة
- محمد عبد المنعم بعد رحلته إلى أسبانيا لمدة عامين حدث تغير فى أعماله أو تغير فى بعض السمات هى طبيعة الدهشة التى تصاحب الانتقالات من مكان إلى مكان آخر مختلف .
- الذات لا تكون إلا ببعدها عن نفسها ومن هنا تكون معرفة الآخر من هنا يجب النظر إلى أعمال الفنان قبل سفره الأعمال السابقة كانت تمثل عندة أيقونا واحدا هو المرأة الجسد الأم الوطن كل مسميات المرأة التى نعرفها ومن بداية أعماله قبل السفر كان جسد المرأة ويدخل جسد الرجل كهامش يدخل معها فى علاقة مركبة على حسب حالة العمل لكن جسد المرأة هو الأساس هذه المرأة محددة المعالم والخطوط تتحرك فى مساحة السطح تتداخل فى أبنية وتكوينات استفاد منها الفنان من موروثه المصرى القديم حتى الألوان المصرية القديمة حولها الفنان إلى صياغة جديدة فى أعماله .
- المرأة الأيقونة الواضحة المحددة التى كانت تحمل فى آخر عمل له زهرتى لوتس أمامها موائد القرابين المصرية القديمة استبدال لتاريخنا بأشياء استهلاكية جديدة تغزونا .
- هذه الأيقونة ظلت فى أعمال الفنان تصغر وتكبر فى مساحات فيها أشياء كثيرة متنوعة من لون وخطوط كائنات غريبة متداخلة مع الأجسام .
- فى أعمال محمد عبد المنعم الجديدة أصبح هذا الأيقون الخاص به يبهت قليلا أو تختفى حدته باكتشاف الآخر تتضح الذات وتكشف عن وعيها بذاته فيظهر الأيقون مرة أخرى المرأة نفسها أوما يحيل إليها تحتل كل المساحة فى قوة وخشونة وقوة كأنها ستخرج من السطح امرأة لا ظهر المرأة الأولى آلهة الخصوبة القديمة امرأة لا تظهر ملامحها لكنها تحتل كل المساحة أجسام قديمة حوشية الطابع إنفعالية تملأ المساحة أجسام تشبهنا أجسام مليئة بالأنوثة القديمة الموغلة فى القدم أجسام وحوهها باهتة مختفية ملامحها ينفعل محمد عبد المنعم مع السطح بارتجال وعنف يتراءى للمتلقى عوالم داخل الجسم الذى يملأ المساحة عوالم هى بيوت وأناس وطرق ومسافات وأشكال أخرى غريبة آتية من مناطق قديمة فى موروثنا الثقافى .
- يستعمل محمد عبد المنعم فى أدائه صبغات تعطى هذا الإحساس بالدم صبغات تستعمل فى كتابة الأحجبة والتعاويذ درجة من اللون تعطى جوا سحريا وإحساسا بالقدم والتآكل درجا لون بدرجاتها التى تتمازج مع بعضها مع خامات أخرى لتشرخ جسد هذه المرأة الأيقون يظهر على السطح خشونة واختلاء فى مناطق وتآكل فى مناطق أو امتدادات من أسفل السطح إلى أعلاه فى حركة عنيفة .
- جسم برى وحشى جسم يعطى هذا الرجوع للمجتمع الأمومى الذى كانت المرأة فيه تمثل الارتباط بالأرض والإخصاب .
- هذه الألوان التى يستعملها محمد عبد المنعم تستعمل فى كتابة الكتب القديمة والمخطوطات كأنها تعتق الزمن كأنها كتابة ضد الاختفاء ضد المحو .
- بطريقة تظهر أثر الفرشاة أثر اليد أنها كتابة غير محسنة أو مهندمة طريقة فى الفعل تثير أسئلة حول هذه الأجسام المكتوبة أجسام أنثوية متدفقة لا تظهر ملامحها لكنها أجسام تثير وتفور بالرغبة أجسام فيها رائحة الأقنعة الإفريقية وخشونة الفن القبطى وفطريته أجسام بروح بدائية تظهر نهايتها متحورة على شكل أيد مختفية أجسام بها شئ باق تحيط بها دوائر صغيرة متناثرة كأنها نجوم السماء أجسام هى الكون هى العالم الذى يعرفه محمد عبدالمنعم فيها خشونة الجدران القديمة حوائط المعابد أضلاع المبانى الإسلامية الأثرية البيوت الطين فى صعيد مصر أجسام فيها حيرة السنين الطويلة .
- يظهر أيقون آخر فى شكل نوعى مختلف امرأة هى أيقون أسبانى موديل شهيرة أو نسخ للوحة من عصر النهضة الأوربى أيقون جميل قام محمد عبد المنعم بطبعها على السطح امرأة جميلة عارية تقريبا هى نموذج للجمال المصنوع صنعته يد الميديا الآله الجهنمية لصناعة الجمال بنمط تفرضه على العين امرأة جميلة تقف فى مواجهة أيقون الفنان الخشن الحوشى الإثنان فى مساحة واحدة كل أيقون يحتل جزءا من اللوحة كل ايقون بصياغة مختلفة أيقون مستنسخ بروح أخرى لكن أرى أنها باردة فاترة الروح والفنان حين قام بطبعها أفقدها أيضا حتى روح اللون ووضعها فى مقابلة مع أيقونته الخشنة بوجودهم معا هما ثقافتنا مختلفتان تتجاوران أو تقلقان بعضهما البعض لكنها مختلفتان يستعمل الفنان درجة من اللون الأزرق يحيط بها أيقوناته موجودة فى كل الأعمال تقريبا هى لون السماء فى أسبانيا كما يراها الفنان وهى درجة من درجات الأزرق المصرى القديم الموجودة فى المقابر درجة يستعملها فى الإحاطة بشخوصه وحولها كإطار يحيط بالأجسام أو يتداخل مع ألوانه القديمة المتآكلة كأنه لون وحيد حاملا درجة هادئة تعطى سكونا لخشوع السطح تدخل فى أى مكان تحيط بأماكن أخرى هى درجة زرقة النيل درجة زرقة السماء وأطباق الخزف الإسلامى هى درجة لها علاقة بالقدسية درجة مقدسة تحيط بالقدسين فى ملابسهم هى درجة لون بشرة آمن رب السماء الفنان يحيط أشكاله بها كأنه يحميها من الضياع كأنه يرحم قوتها النافرة بأن تهدأ الأرواح الشريرة التى تلبست الخشنة كأنهن أصابهن ذعر وخوف وقلق أجسامهن ليست ملكهن ملك أرواح بدائية قديمة أجسام متفجرة ثائرة لكن الفنان يحول اللون الأزرق كأنه تميمة لتهدأ هذه الأجسام يخفف بها انفعاله هو ذاته فى العمل على المسطح يحاول أن يهيب لها السكينة والراحة هذه الإنتقالات اللونية تصنع توافقا بين حالتين أو مناطق للمرور بالعين من الخشونة إلى النعومة .
- أيقونات محمد عبد المنعم الخشنة تأتى الأشكال الهندسية أو الخطوط الحادة لتخدش المساحة تعطى إحساسا زائفا بالتجسيم لكنها لا تلغى ما خلفها هى فقط ظاهرة تمثل زماننا زمن متوال بخشونته أيقون خشن يأتى بزمنه وأشكال هندسية تأتى بزمنها وبطبيعة الثقافة التى انتجتها لتشارك الأيقونة مساحته لكتها تترك له موضوعه وأجواءه .
- هذه الأشكال والخطوط منها صليب أصفر واضح فى قلب أحد اللوحات تحيط به خطوط لها ظلال تعطى بعدا للسطح لكن عالم محمد عبد المنعم الفؤاد يتحرك تحت هذا النظام أو هذه الثقافة المختلفة تماما كأنه يرى أن يغطى هذه الإنفعال كأنه يؤطر هذه المشاعر والتوتر البعيد عن ثقافة النظام والعقلانية .
- تقابلات مثيرة ومواجهات تثير الدهشة فى أعمال الفنان الأخيرة انفعالات ومساحات للهدوء ثقافتان على مسطح واحد محمد عبد المنعم يعيد صياغة عوالمه التى يعرفها ويضعها أمام عوالم جديدة أشكال متعايشة مع بعضها متجاورة تطرح أسئلتها قدم حلولا فى أعماله ليرى نفسه وليرى ما حوله ليرى اشراقات زمنه وتاريخه وليرى النظام والعقلانية والثقافة المختلفة ليعرف ذاته ويستعيدها مرة أخرى .
محمد الجنوبى
القاهرة - 11/ 1/ 2005
اتجهت فى أعمالى الأخيرة إلى الشخبطة الارتجالية ذات الشحنة الانفعالية
- افتتح الفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية معرضا بعنوان ( تصوير ) بقاعة إبداع بالقاهرة اشترك فى المعرض ثلاث فنانين هم محمد عبد المنعم، وائل درويش ، لاوند عمار وضم المعرض 131عملا فنيا مختلفة الأحجام وحضر الافتتاح عددا من الفنانين التشكيليين ويستمر حتى نهاية يوليو الجارى .
- وقال الفنان محمد عبد المنعم لجريدة ( اليوم ) فى أعمالى الأخيرة اتجهت إلى ما يسمى بالشخبطة الإرتجالية ذات الشحنة الانفعالية العالية مع حدة التوتر والممارسة الحرة غير الخاضعة لأى قوانين متعارف عليها فى محاولة للخروج من سجن القوالب الأكاديمية لا إلى فوضى الروح بل إلى عالم آخر مجهول ملئ بطاقة حركية وعصبية تسرى كالنبض فى أرجاء اللوحة وتتشابك كلها وتتلوى وتثير الدهشة والتساؤلات فى نفس المشاهد .
- وتابع قائلا : دائما أحاول أن أفسح مجالات لخروج مخزون اللاوعى فارضا وجوده بشكل كلى ومرتجل على السطح الإجمالى لقماش العمل كمرحلة أولى ثم أدع الخبرة الفنية تقوم بعملية الاقتصاد اللونى .
- أما وائل درويش فيعلق على لوحاته قائلا : إن الهدف الأساسى لرسم مجموعة من الأشخاص ذوى الدلالات التعبيرية التى انطبعت على وجوههم وأجسادهم ومشاعرهم تجاه أنفسهم وتجاه من يشاهدهم ليس كما تراهم أعيننا قدر ما نراهم داخل أنفسنا فى حضورهم التعبيرى المفعم بالحركة تلك الحركة التى أكد عليها اللون وهمجيته التعبيرية وخربشاته التى انطلقت تعبيريتها من جموح النفس البشرية لمجموع رغباتها السجينة التى انفجرت فجأة فى مسطح تصويرى وكانت لحظات من الحرية والصدق مع النفس تلك الحالة التى نتمناها فى صدق أحلامنا ونأمل أن تكون فى واقعنا .
- ومن جانبه أكد الفنان السورى لاوند عمار أنه ليس من السهل الاعتقاد بأن الأشياء التى نريد تغييرها بأي ثمن هى الأجساد البشرية وبأن معظم البحوث فى الفن تدور جميعها حول علم التشريح فالإنسان على طول الدوام هو محور الإبداع الفنى .
محمد الفقى
جريدة: اليوم - 11/ 7/ 2006
محمد عبد المنعم (التجريب بين الإستحضار والمعالجة والإستقراء)
- الحلقة (1)
- تأتى هذه التجربة التشكيلة للفنان المميز د./ محمد عبد المنعم، كواحدة من التجارب الجادة والمتسمة بثقافة صاحبها ووعيه بما يخوضه من ممارسة للتجربة بمذاق مميز وسمات ذات خصوصية، وشغف ظاهر للعيان بإيجاد جملة بصرية ذات دلالة ورمز، فهى من التجارب القوية والمفعمة بدرجة من النضارة على مستوى الشكل، وكذلك نجد دسامتها وطزاجة طرحها على مستوى المفهوم والفكر، وطرحها لإشكاليات متنوعة على مستوى الموضوع، فمنها ما طرحه فى مباشرة واضحة، ومنها ما صاغه من خلال تراكبية تتناسب مع تعقيد وتشعب الفكرة، ونجد حرصه الدائم على تدعيم قوائم تجربته تارة بكلاسيكيات الممارسة من كروكيات وتخطيطات نشعر معها بإستعراضه لتفاصيل الفكرة، وتارة بممارسته التجريب من خلال الحلول والوسائط، فنلحظ تناوله لموضوعات ذات علاقة بشخصه، كما نجده يشتبك مع إشكاليات واقعه ذات الخلفيات المختلفة والمتنوعة، وتنوع منجزه وتدرج على مستوى المعالجة التقنية والتى جمعت بين البساطة والسهولة فى الشكل والوسيط وبين الثقل والقيمة فى الصياغة والمعالجة، وصول? إلى تلك النضارة فى أعماله المكتملة والتى إتسمت بإستيفائها لعناصر العمل الإبداعى المميز والتى أتت متوجة لمراحل التجربة وأنتجت حالة أيقونية معبرة عن تجربته وحضور شخصيته فى تفاصيلها.
- ولتجنب الإلتباس والخلط فى تناول تلك التجربة الهامة، والذى قد ينتج عن القفز بين جنباتها الثرية والمفعمة بالتفاصيل والمحطات والمراحل ، فقد فضلت قرائتها على خلفية متدرجة زمني?، مبتدئا بالمحطات الأقدم والتى تمثلها مرحلة الدراسة الأكاديمية، مرور? بمرحلة تأديته للخدمة العسكرية والتى أعتبرها حجر الزاوية فى تلك التجربة الهامة ومحطة مفصلية فى (التكوين والموضوع) لديه، ونقطة تحول مبكرة فى إشتباك شغفه مع مثيرات إبداعية محدودة ووسائط تقنية فقيرة، إلا أن دعم إستنباطه المشبع بإفرازات خياله الخصب أوجد ثراء ملموس? فى منجز الرسم لديه فى تلك المرحلة، ثم مراحل الحوار الفكرى والذهنى مع الآخر من خلال ورقته البحثية فى (الماجيستير) عن واحدا من أيقونات التشكيل المصرى الحديث فى القرن العشرين وهو الفنان والمبدع (حامد ندا)، والإحتكاك الفنى والأكاديمى مع عالم التشكيل الغربى وتحديد? الأوربى والذى أعتبره موازي? لما نطلق عليه صقل أدوات العملية الإبداعية وتشذيب أدواتها، وعروجه على عوالم الكبار فى إستعراضه للقيم الجمالية فى أعمال إثنين من أقطاب عالم التشكيل الحديث فى أوربا والعالم (هنرى ماتيس وبابلو بيكاسو)، وصول? لأطروحاته البصرية والتى أنجز من خلالها مشاهده المفعمة بالدراما التعبيرية التى عبرت عن جملته البصرية الرخيمة.
- وتبدأ رحلة الفن فى تجربة الفنان / محمد عبد المنعم كالغالبية من المبدعين فى السنوات الأولى من العمر وتبدت فى ذلك الميل التام تجاه الصورة والشكل بصفة عامة وبتلك الخدوش والخطوط على السطوح المختلفة، والتى تمثلت فى مناوشاته الدائمة فى الرسم بعفوية الأطفال وفطرية الهواية منذ الصغر وتطورت فى تعلقه بالصورة من خلال حركتها فى الدراما المصورة بشكل عام، بل وتطور الأمر إلى حلمه فى ممارسة صناعة الصورة المتحركة (السينما) ورغبته وحلمه فى الإتجاه نحو هذا المجال من خلال بوابة الدراسة، إلى أن أدت به الظروف إلى دراسة الفنون فى كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا والتى انتظم فى دفعتها الأولى عام???? ليدخل عالم الفن من باب شرعى متخصص وفر له الأسس الأكاديمية لدراسة الفن بشكل عام وفن التصوير بتخصصية وإستفاضة، وقد إتسم أداءه فترة الدراسة بشغفه الواضح بالتحصيل وتنمية المهارة الذاتية، ونهمه فى المطالعة البصرية لأداءات الفن لدى المتحقيقين من المبدعين، إلا أنه رغم حرصه على الإلتزام بالممارسة الفنية حسب توجيهات مدرسيه إلا أنه كانت لديه تلك الممارسات ذات الخروجات الحرة للموضوعات والحلول فى اللون والتكوين.
- وقد أتت فترة الدراسة الأكاديمية بمنجز حمل نوع? من الخصوصية والتميز فى أداءه، ولعب أساتذته دور? مهما فى تجربته وعلى رأسهم الفنان الكبير االراحل (زكريا الزينى) و (شعبان مشعل) وغيرهم من الأكاديمين، ليس على مستوى ظبط الأداء المهارى لديه فقط فى إطار القواعد الأساسية لممارسة الرسم والتصوير، ولكن على مستوى إتاحة الفرصة له والتشجيع من خلال تقيمهم لأعماله ونقاشه ودعم طرحه الأول تحت مظلة الأكاديمية، وقد طغت التعبيرية على جملة أعماله الأولى وما زالت، وتعد التعبيرية بكافة تصنيفاتها هى القاعدة الحاكمة لمنجزه فى جملته، وقد تميز منجزه الأكاديمى رغم كلاسيكية تنوعه فى تناول الموضوعات كالتشخيص والبورتريه والطبيعة الصامته ومشاهد العمارة واللاند سكيب بتلك النزعة التعبيرية والأداء النازع إلى إبداء وجهة النظر فى الأسلوب ومعالجة الموضوع تصميمي? وتقني? ولوني?، وربما أوجدت لديه مشاركاته الأولى فى العروض سواء الشخصية أو الجماعية ذلك الإلتزام ودرجة الحتمية على المواصلة فى تجربته وتطوير أداءه بشكل أسرع، كما أثمرت خصوصية مذاقات المشاهد ومعالجات المتطلبات النوعية فى المقرر الدراسى فى أعماله الأولى فى فترة الدراسة على إتخاذه هذا القرار المبكر فى إستهداف طريق الإشتغال بالفن، والتفرغ له وصقل أدواته وتحصيل ثقافته، والطموح فى تحقيق خطوات أكبر فى قادمه، وربما منحه موقع كلية الفنون الجميلة بالمنيا وقبله نشأته فى صعيد مصر وإنتمائه لجغرافيا تحمل فى باطنها وظاهرها إرث? بشري? وحضاري? ذو تفرد وثقل ودسامة، منحه كل ذلك وعي? فكري? يرتكز على مفردة (الزمكان) والتى وصمت تجربته على إمتدادها، فلعب المكان والزمان دور? رئيس? فى تجربته على إختلاف موضوعات تناولها وحلولها، وأتت أطروحاته فى مجملها تحمل مصرية شديدة من ناحية المحيط والمجتمع وتفاصيله تارة، ومن التاريخ وإرثه من حقائق وأساطير تارة، ومن الماضى والمعاصر وإعمال القياس والإستشراف للمستقبل تارة أخرى، وحتى تلك الموضوعات الإنسانية التى قد طرحها على خلفيات ذات علاقة بمتغيرات وإشكاليات عالمية خارج نطاق جغرافية محيطه، نشعر معها بتلك المعالجة المرتكزة على فكر ربيب مصرى واع بما يطرح ويسجل نصوصه البصرية.
- وبلا شك أتت فترة الدراسة وملابساتها حجر زاوية فى تلك التجربة الإبداعية من حيث أهميتها فى إرساء قواعدها، فممارسة الرسم من (الموديل) سواء فى التشخيص أو البورتريه أو الطبيعة الصامتة أثرت فى تجربته ذلك الثراء التعبيرى المحمل بالحس والشعور وحجبت عنه ذلك الجمود والرتابة والبرود، وكذلك تسجيل المشهد الخارجى المفتوح من الواقع سواء فى العمارة او اللاند سكيب، وقد أتوا بذلك الحضور المفعم بالإنطباع الذاتى له فى المعالجة، ومنحته أيض? الرسوم السريعة والكروكيات ذلك التمكن من الإمساك بتلابيب المثير الإبداعى وتفاصيله واولويات وزوايا رصده، وهى من التجارب التى تطرح إشكالية الدراسة الأكاديمية وضرورة العودة بها إلى الأساليب الكلاسيكية والتى أصبحت مفتقدة فى واقعنا الأكاديمى فى غالبية مؤسساتنا التعلمية، وأفرزت ممارسين باهتين جل همهم انتاج مسطح ملون او مخطط منزوع القيمة، او كتلة شاغلة لفراغ بلا هدف ولا مفهوم وتفتقر لوجهة النظر.
- ونأتى للشق البصرى الذى أفرزته تجربة الفنان / محمد عبد المنعم فى المرحلة الأكاديمية (الجامعية) والذى ضم كروكيات التأسيس وأعمال المشاريع الزيتية والتى أجدنى أتعامل معها كتجارب محترفة تنم عن جدية وشغف وليس عن محاولات وإرهاصات طالب الفنون، وعكست تلك الأعمال جوانب شخصية للفنان محمد عبد المنعم اكثر من عكسها لمصوغات تخطى السنوات الدراسية، وقد تنوعت بين كروكيات التدريب على الأوضاع التشريحية وزوايا رصد الرسوم السريعة وإقتناص بعض الوضعيات التى مثلت إثارة إبداعية لدى الفنان/ محمد عبد المنعم، والقبض على بعض اللحظات فى مناسبات مختلفة، وكذلك المعالجات لموضوعات مجتمعية فى واقعه المحيط، وأكثر ما جذبنى فى تلك المحصلة الإبداعية المعبرة عن فترة الدراسة الأكاديمية هو شخصية وأسلوب / محمد عبد المنعم التعبيرى والذى حمل بصمته سواء فى الكروكيات اليومية او فى لوحات المشاريع الزيتية والتى لا نجد فصاما فى روح العمل لديه بينهما، فقد حمل الخط لديه نفس الموسيقى البصرية والتى غلبت عليها أوصاف كالمعاناة والشجن والصبر والجلد والتمنى والأسف وغيرها من مكابدات شخصياته فى الواقع والتى مثلت غالبية محيطه، وجميعها مثيرات إبداعية مفعمة بالجانب الحسى الذى يبحث عنه كل ممارس للفن بشكل عام، لما تحويه تلك المثيرات الإبداعية من تفاصيل ودرجات صعوبة وأجواء وحالات تعكس بعد? درامي? فى المشهد.
- وقد تنوع الوسيط لديه فى الكروكى بشكل ملحوظ وأستظل بكثير من الوسائط، ما بين قلم الرصاص وخامة الفحم والأصباغ والمائيات وألوان الخشب وأقلام الحبر السائل والجاف، وأقلام الفلومستر والباستيل..... ورغم زهد الخامة الواضح فى الكروكيات، إلا أنها حملت ثراء المنجز نتيجة كيفيات المعالجة والإستخدام وحلول المساحة وتوزيع العناصر فى بعض الكروكيات المتقدمة، وكذلك طبيعة الموضوعات محل الكروكيات ولا سيما تلك المعالجات بالقلم الرصاص لمجموعات (الغلابة) والتى أتت فى تعبيرية رائعة تنم عن قدوم فنان جيد وواعى بفعل الرسم، كما أنها ابرزت أننا بصدد مصور يمتلك حسن إدارة لمسطحه، ولا يمكن إغفال تلك الكروكيات المتقدمة والأكثر تطور وحرية والتى لعبت الأصباغ فيها دور? رئيسي?، كما ابرزت تلك الكروكيات بعض العناصر الحيوانية (كالقط) ومعالجاته فى الشكل والرمز والبطولة فى المشهد، ومجاميع الشخوص، ومعالجات الجسد البشرى للرجل والمرأة فى كروكياته التى حملت شق? تعبيري? ذو مسحات سوريالية والتى بدت فيها إشتباك خياله وتصوراته فى معالجة مشاهد قابعة فى ذهنه وذاكرته كان يجترها بين الحين والأخر، وقد عكست تلك الكروكيات المركبة بعد? دفين? فى شخصيته التى ترفض إغفال فترة زمنية فى حياته وتحرص على وصل مرحليات حياته من خلال هذا الخيط الرفيع والمتين الواصل بينها، والذى يمكنه من إحداث عمليات الإستحضار تارة، والإجترار تارة أخرى لأى من تلك الفترات ليعيد تمثيلها وتصويرها من خلال خطوطه وأصباغه وصياغات الوسائط عنده فى المستقبل، فهو يرفض طمس تفاصيل الماضى فى عقله ووعيه، ويحرص على معايشة الواقع فى زمنه من خلال إشتباك أعماله معه، ويميل كما سيأتى فى قراءتنا إلى إستشراف المستقبل.
- ونأتى إلى المنجز الزيتى لمحمد عبد المنعم فى مرحلته الدراسية والذى يستوقفنا وقفة ليست بالقصيرة، فهو رغم كونه بالنسبة له فى وقته مجرد خطوة يخطوها لإجتياز مصوغ إنتقال إلى مرحلة أكثر تقدما لإجتياز مرحلة الدراسة الجامعية، إلا أنى أعتبرها مرحلة فى غاية التميز فى تجربته التشكيلية فى جملتها، وقد حملت لوحاته التصويرية مذاق الكبار فى هذه السن المبكرة من عمر تجربته، وأتسمت بجملة لونية فى غاية التميز والخصوصية، ونستطعم فى جملتها مذاق? مصري? خالص?، سواء فى أجواءه اللونية او فى مفردات عناصر التكوين لديه، فنشعر مع مطالعتنا البصرية لجملة أعماله بدرجة من الثقل والقيمة ونجزم بإمتلاكه شخصية فى المعالجة سواء المفاهيمية أو التقنية او الفنية والتى غلبت عليها (الواقعية التعبيرية بصورة طاغية)، ولولا نزعات التجريب والتى صار شغفه بها يحكم تجربته فى قادمها لكنا بصدد فنان واقعية تعبيرية من طراز الرواد الأوائل فى الحركة التشكيلية المصرية، ولنا ان نتخيل تناولته لموضوعات أخرى إذا ما إستمر فترة أطول فى ممارسة التصوير من هذا المنظور الفنى فهو يمتلك إثنان من مقومات القوة فى العمل التعبيرى الواقعى، الاول هو أسلوبه الفنى المعالج للموضوع محل المثير، والثانى وهو التوليفة اللونية التى تمنح الفنان رقمه القومى الخاص إن جاز التعبير، ولكن يبقى عزائنا فى كونه مجددا فى تجربته وأفرز لنا من خلال تجريبه وإنحراف التعبيرية لديه من الواقعية نحو التجريدية والرمزية أحيانا ومسحها بلمسات السوريالية فى احيان أخرى أمتعتنا برؤية جديدة فى معالجات تجربته الدسمة والمتجددة والتى لا يتسرب لمتابعيها الملل فى كافة مراحلها.
- ونتوقف فى أعماله الزيتية فى مرحلة الدراسة عند عملين أجدهما محملين بشغفه القديم فى ممارسة ودراسة التصوير السينمائى، وكلاهما يعكسان جانب? شخصي? لديه، وهما عمله المعنون (إنتظار)، والأخر هو عمله المسمى (بعد العزاء)، وكلاهما يحمل تلك الدراما التى تدهش المتلقى الشرقى أكثر من غيره، وكلا الموضوعين نجدهما قاسما مشترك? لنا جميع? كشخوص وأفراد، فغالبيتنا قد مروا بكلا الحالتين على إختلاف (سينوغرافيا) المشهد حسب الإقليم والطبقة الإجتماعية والشريحة المجتمعية التى ينتمى إليها كل منا، وطبيعة التعبير عن دراما الواقع حسب الثقافة والبيئة والعرف والتقليد المجتمعى الإقليمى لكلا الحالتين، ولكنهما يتشابهان لدى غالبيتنا فى كونهما يشتركان فى نفس الحالة والتى توازى ما يمكن وصفه بالضدين المتلازمين (صراخ النفس الباطن، وسكون وصمت الشكل الظاهر).
- واللوحتان تحمل كل منهما فصل? لحادثة مؤثرة فى حياة الفنان/ محمد عبد المنعم وهى فقده لأحد أخواله الذى كان فى رحلة الحج، والتى سبقها فرحة العائلة والأهل والجيران لهذا الخال، وتوديعه من خلال أجواء من المباركة والفرحة، عقب سفره قامت العائلة بتهيئة المنزل وطلاءه وتزينه بالرسوم التى تتناسب مع فرحة عودته من الحج والتى قام محمد عبد المنعم بتنفيذها، واتى موعد الوصول ولكن الخال لم يعد وظلت الأسرة فى قلق وإنتظار لأسابيع ولكن دون جدوى وأخير? أتى خبر وفاة الخال فى الأراضى الحجازية ودفنه فيها، وكان الخبر له وقع هائل على الجميع وخاصة محمد عبد المنعم الذى إستحضر فقده فى عمر الخامسة لوالده ومن بعده جدته، وبات مشهد الفقد محتل? لمساحة ليست بالصغيرة فى نفس محمد عبد المنعم، وعلى تلك الخلفية المفجعة والحزينة أتت ثلاثيته التصويرية المعبرة عن هذا الحادث متمثلة فى لوحات (إنتظار ? التشخيصية) ثم لوحة (بعد العزاء) وأخير? لوحة (إنتظار?/ طبيعة صامتة).
- ومثلت لوحة (إنتظار?) وهى لوحة مستعرضة أنتجها فى عام ???? ونفذها بتقنية الألوان الزيتية على الأبلاكاش بقياس ???×??سم، وتمثل مشهد لشابين فى حالة إنتظار قلق فى مدخل المنزل المفتوح الباب وكلاهما يحمل ذلك النوع من القلق المشوب بدرجات الترقب والخوف واللوحة تخلو من أية عناصر أخرى كالأثاث وغيره مما قد نجده فى مداخل المنازل الريفية، وصدر محمد عبد المنعم الشابين وما يعتلى وجوهم وأجسادهم التى تشع إرهاق? وتعبيريتهم التى تنضح هم? وقلق? من جراء الإنتظار وربما فقدت أعينهم تعلقها بالباب المفتوح فى منتصف العمل من جراء طول الإنتظار، والعمل اتى دسم? فى تقنيته وعبرت درجات لونه عن أجواء الوجوم والصمت الذى يرقى إلى درجات التساؤل الصارخ، والمشهد فى مجمله يحمل درجة كبيرة من الدراما والشجن ورغم ذلك يحمل درجات الأمل فى عودة الغائب والتى عبر عنها محمد عبد المنعم من خلال ذلك الباب المفتوح والذى يشع هذا الضوء الممثل لشعاع الأمل.
- اما العمل الثانى وهو لوحة (بعد العزاء) وهى لوحة شبه مربعة بتقنية الألوان الزيتية على التوال وبقياس ??×??سم تقريب? وانتجها فى ???? وأتت بمثابة الفصل اللاحق للوحة (إنتظار ?)، وهى تمثل جلسة أرضية لشاب يرتدى جلباب? أزرق فى حالة صدمة الفقد، وإعياء نفسى واضح وجلى يفوق الإرهاق والإعياء الجسدى الذى يتبع إنقضاء مراسم العزاء، وما يعج بها من مشاعر الحزن االمتواصلة، وما يتخمها من كلمات المواساة التى تلعب دور? عكسي? فى إشعار الفاقد بالمفقود، وقد جلس متجهم? صامت? ومنصت? فى نفس الوقت لصوت ما بداخله، ويده اليسرى تربط على ذراعه الأيمن فيما يشبه تعزية النفس وإحتضان الذات، وفى أقصى يمين منتصف اللوحة، نجد ذلك الباب الصغير المفتوح وهذا الشعاع الخافت من الضوء الداخل منه، وكأنه ما زال يحمل أمل? ضعيف? فى حدوث معجزة ما او إستفاقة من كابوس يحدثهما عودة المفقود الراحل، وكلا العملين يمثلان حالة تراجيدية نشعر معها بتمكن محمد عبد المنعم من تجسيد هذا النوع من دراما الحياة، وبراعته فى إسناد البطولة لشخصياته فى المشهد وتوظيف السينوغرافيا المناسبة وكذلك الملابس الملائمة ودرجات اللون التى تعكس طبيعة المشهد وتحديد الكادر المطلوب دون زيادة أو نقصان يضران بالمشهد، أو يلعبان دور? مالئا دون إحتياج او ضرورة، وقد رأيت من وجهة نظرى فى كلتا الحالتين وظيفة جديدة للمثير الإبداعى فى العمل الفنى، فالغالبية يتعامل معه كرافد رئيسى لإمداد الفنان بما يلزمه من عناصر وأدوات وتفاصيل تخدم الصياغة، اما فى تلك الحالة فوجدته متنفس? رحب? للتعبيرعن الحزن على المفقود دون السماح بفقده، وهو نموذج لرصد حالة صدق إنسانى لا يشوبها شائبة رياء، وصفحة تضع علامة على لحظة زمنية خشية ان تذروها رياح النسيان، اما على المستوى التشكيلى وهو حجر الزاوية فى قرائتنا فكلا العملين كنموذج إبداعى مبكر وهام فى تجربة محمد عبد المنعم، لهما الأهمية فى رصد التعبيرية كمساحة إنتقاها وأختارها مبكرا ليكمل فى فضائها الرحب مشواره الإبداعى.
- ونختتم تلك المرحلة بعمل هام وهو مشروع التخرج والذى سيكون مدخلنا فى الجزء القادم من تلك القراءة ............يتبع
بقلم : ياسر جاد
القاهرة : 7-2-2025

محمد عبد المنعم الحلقة (2)
- ونصل إلى نهاية مرحلة الدراسة الجامعية والتى تتوج لدى كل دارسى الفنون الجميلة بمشروع (التخرج)، والذى قد يتعامل معه البعض كخاتمة للأعمال الكلاسيكية على خلفية الواقعية التعبيرية فى اعمال محمد عبد المنعم، إلا أننى رغم إعتباره من النقاط الفاصلة فى تجربته ونقطة تحول هامة فى مسيرته التشكيلية بشكل عام من زاوية الموضوع وبداية التمرد على نمطية المثير والمحفز الإبداعى النمطى، وأجده محطة فارقة فى مفهوم التكوين لديه والمعالجة خارج إطار الواقعية التعبيرية، فمشروع التخرج لمحمد عبد المنعم والذى تكون من ثلاثة أعمال زيتية منفصلة، وكذلك دراسة تشريحية للتشخيص، طرح فيهم معالجات ميتافيزيقية لمفهوم الحياة والموت، ومعالجة بصرية لإشكاليات نظرته للماورائيات والتى ستتطور فيما بعد على مر تجربته وستشتبك مع مفاهيم المكان والزمان من واقع محصلاته الثقافية ونتاج معالجاته الفكرية لتلك المحصلات، ورغم ما قد يبدو من بساطة للعناصر فى تلك الأعمال الثلاثة، وتشكيل محدد الإطار وعاكس للماهية لكل عنصر، إلا أنها طرحت إشكالية ما وراء الشكل وما يقبع خلف رمزيته، كما أننى أجد هذا المشروع قد بدأ لديه من وقت أقدم من تاريخ العام 1988وهى سنة التخرج، وذلك من مطالعتنا لأعماله عن المولد وكذلك لوحات مثل(إحتضان/ السحر الأسود/ بعد الخطبة) وهى نماذج تأصل لأداءه فى عمل الحياة والموت الممثل لمشروع التخرج.
- وقد أتت اللوحات الثلاثة حاملات لأسلوبه السابق فى معالجة المشهد التصويرى طوال مدة الدراسة الأكاديمية، وكذلك بتلك المجموعة اللونية المعهودة لديه فى ذلك الوقت والمميزة لأعماله فى التصوير الزيتى على إختلاف موضوعاتها، وتنوعها بين التشخيص والطبيعة الصامتة والمشهد الخارجى، وقد عكست الأعمال الثلاثة جانب? من شغفه بالمفهوم والمضمون أكثر من الشكل، فأجده قد ألبس المضمون ثوب (الروح) والشكل ثوب (الجسد) إن جاز التعبير، وهو ما سيتضح بصورة أكبر مع التالى من أعماله على مر التجربة، كما أن العمل عكس فلسفات الوظيفة للشكل والتى تأثر بها محمد عبد المنعم من الموروث المصرى القديم، والذى وازن وعاير العلاقة بين الشكل ومضمونه الفلسفى فتخطى الوظيفة الجمالية للشكل والتى أداها ببراعة وتمكن، وعبر من خلالها نحو الوظيفة الفكرية والفلسفية والمفاهيمية للشكل.
- وقد اتت اللوحة الرئيسية فى مشروع التخرج والتى عنونها تحت مسمى (الحياة والموت) رؤية ميتافيزيقية، فى قطع مستعرض بقياس 274×170سم) وبتقنية الألوان الزيتية على (سيلوتكس)، وانتجها فى عام التخرج 1988، واللوحة تطرح العديد من الإشكاليات وتعكس مدى إتساع الحوار الذاتى لمحمد عبد المنعم مع أفكاره ومفاهيمه ورؤيته عن الوجود وعطشه للوقوف على إجابات تشفى الغلة لأسئلة جمة، منها ما يحمل المنطقية ومنها ما يجمح نحو الخروج عن المنطق، وثالثة تناقش الحدث الواقع فى المسافة بين المعلوم والمجهول، ورابعة تطرح التساؤل عما وراء المجهول، وقد إختزل هذا الكم الشائك من القضايا الفكرية والفلسفية والتى تقبع فى عقول الكثيرين منا فى رمزية (الحياة والموت) على إثنين من المستويات، الأول : هو الجانب `الإنسانى` فى مطلقه متمثل فى شخوص وأبطال العمل بما يحملونه من معلوم متمثل فى `جسد` ومظاهر حس وشعور وردود فعل وإنطباعات، وفى`روح` لا يتم الوقوف على ماهيتها وتكوينها وحدودها من أين اتت؟ وإلى اين تذهب؟ واما المستوى الثانى: هو الجانب `المادى` متمثل فى عناصر الطبيعة الصامتة والتى أتت فى المشهد مستهلكة وفاقدة للوظيفة ومنزوعة الفائدة ومستسلمة لعوامل الزمن التى ستفنيها او على اكثر تقدير ستتركها كأثر بعد عين، وعلل ظهورها بهذا الجمود بكونها قد فقدت روحها المتمثلة فى وظيفتها قبل أن تنتهى صلاحيتها وتفسد أنظمة الوظيفة الخاصة بها، والمشهد فى مجمله يمثل تصور عقلى جامح أكثر منه ترتيب منطقى مقبول، وقد رصع المشهد بهذا الكم من الرمزيات والأشكال الدالة على فلسفات ميثولوجية منحت العمل جانباً من تفاصيل سينوغرافيا (عالم) محمد عبد المنعم العقلية والخيالية، وأرى أن دلالات العمل التفصيلية وما تحويه من شروحات محددة لترجمة العمل مفاهيمياً قد يقتصر على شخص مبدعه، بينما ما أجد له الأهمية فى تلك القراءة على المستوى (الإنسانى) هو مجرد طرح الإشكالية فى مفهومى الحياة والموت، أما على المستوى (التشكيلى) وهو الغالب على هذه النظرة لأعمال محمد عبد المنعم، هو المعالجة التشكيلية فى بناء العمل وتوظيف العناصر وإعمال مبادئ (أسس التصميم) بوعى للوصول إلى ذلك التنسيب ووهذا `التراص` للعناصر والتوليف المتجانس بين تلك الأضداد والحلول المنضبطة تارة ، والمشوهة عمداً بإخراجها عن معايير القبول المنطقى، لتحقيق الغرض من فلسفة العمل، وكذلك إيقاع المجموعة اللونية وتوظيفها لخدمة الرؤية الفنية والفلسفية، ونستطيع أن نلخص ما سبق فى عبارة منطق غير متأثر بنصوص الموروث أنه ` قد يكون هناك تلك(الشكوك) فى تفاسير مختلفة لمفهوم الحياة ونشأتها من خلال شواهدها ومظاهر وجودها وزمنيتها، ولكن يبقى الموت (كحقيقة) ثابتة لا نختلف على حدوثها تمثل المجهول الذى لا يستطيع أى شخص توقع لحظة قدومه ومعرفة ما خلف أبوابه`، وإن كانت نصوص المورث على إختلاف شرائعها سماوية كانت او حضارية او تاريخية، قد أوجدت السيناريوهات المختلفة وما يلحقها من مراسم ومرحليات لما بعد الموت، والتى أتى إختلافها مترتب? على أفعال الحياة من صلاح وطلاح.
- ولا نغفل ان التقيم المنصف لهذا المشروع والذى ألحق محمد عبد المنعم بهيئة التدرس فى تلك المؤسسة الناشئة والتى أفرزت للحركة التشكيلية المصرية تجارب إبداعية مميزة، ومبدعين أثروا الحركة التشكيلية المعاصرة، قد أسهم بصورة كبيرة فى إنكباب محمد عبد المنعم الفنان على المضى قدماً فى تجربته التشكيلية، وأسهمت تجربته الأكاديمية فى ضبط مساراته البحثية فى عالم التشكيل سواء على المستوى الإقليمى او المستوى الأوربى كما سيأتى، تلك المسارات التى خدمت بصورة كبيرة تجربته الإبداعية، والتى أستطاع منجزها المميز كما سيأتى فى قادم قراءتنا فى إقتناص مساحة قدم مريحة ورحبة لمحمد عبد المنعم فى رقعة التشكيل المصرى الحديث والمعاصر، كفنان مميز ذو أداء رفيع ووجهة نظر تستحق التوقف والدراسة والبحث.
- نأتى إلى مرحلة التجنيد وتأدية الخدمة العسكرية والتى كان لها تأثيراً كبير فى إحداث النقلة النوعية فى الوسيط فى أعمال محمد عبد المنعم، والأهم هو النقلة النوعية فى خوض تجربة فى غاية الأهمية، نظراً لظروف وبيئة العمل واللتان كانتا تفتقدان إلى عنصريين أساسيين فى العملية الإبداعية بالنسبة للفنان التشكيلى، الأول: وهو عنصر (المثير الإبداعى/ توافر رفاهية المثيرات الإبداعية فى جغرافية المحيط)، والذى إتسم بزهد مفروض يقتصر على صفرة المسطح الصحراوى الشبه خاوى من مظاهر السطح الملهمة، ولكن كان الحل ممثلاً فى فضاء السماء التى كانت بمثابة الرافد المتغير الخاضع لقوانين المناخ، الممثل فى عشوائية الأشكال المكونة للسحب فى بعض الأوقات وكثافتها، والتى حملت تلك الوفرة والغزارة والتنوع فى أشكال وعلاقات السحب والتى أمدت خياله بتلك الأشكال الخراقية وكذلك الأشكال الشبه مطابقة فى المعنى والدلالة وليس فى التشريح لمخلوقات وكائنات وعناصر، منها ما ينسب لمثيله فى الواقع، ومنها ما يستجد فيوظفه ليناسب قوالب الخرافة فى مفهومه وتصوره لمفرداتها وعناصرها، أما العنصر الثانى : فهو (الخامة/ وسيط الرسم) والذى استعاضة بتلك الدفاتر القديمة والمهملة والمسماة بدفاتر (الكهنة) القديمة والتى عثر عليها ملقاة فى الصحراء، والتى إعتبرها مسطح متاح يمكن أن يستقبل وسيط صبغى متمثل فى صبغة الأحذية العسكرية والتى كانت تتوافر فى ضرورة وحتمية ذات علاقة بالضبط العسكرى، وعليه فكانت تقنية الرسم بالصبغة المدعومة ببعض الخطوط من أقلام الحبر الجاف هى التقنية المتاحة فى تلك الظروف.
- وقد لعبت تلك الظروف دوراً هاماً فى أسلوبية الرسم فى تجربة محمد عبد المنعم على اثنين من المستويات، الأول: كان فى التمرد على التكوين والبناء الخاص بالشكل فى المسطح والذى أصبح يتمتع بحرية أكبر وبراح اكثر إتساعاً، وطريقة عكسية فى بناء المشهد، فبالتمعن فى اللوحات نجد أن محمد عبد المنعم كان يقوم بإظهار الموضوع وعناصره ومفرداته فى المسطح من خلال العمل بالصبغات على محيط الأشكال والشخوص والعناصر والمفردات، وبذلك الأسلوب وتلك الطريقة كانت تظهر المفردات المكونة للموضوع بأسلوب السيلوت الأبيض (السالب)، وهو ما مكنه فى الرسم من تصدير أجواءه الخاصة الجاذبة للمتلقى لتفحص العمل ومحاولة إكتشاف سمات أسلوب الرسم، وأما المستوى الثانى: هو تقليص دور المثير الإبداعى الشكلى المباشر، ورغم أننى لا أجد مجالاً للشك فى أن تلك المرحلة الحاسمة قد جعلت من أسلوبه فى الطرح للموضوع والمعالجة للتكوين والذى بات أكثر تعقيداً وإزدحاماً أعتبرهما قد خدما المنجز لديه فى إضفاء العناصر السينوغراقية الأكثر تجريداً والتى أكسبت العمل تلك الأجواء الشبه ملحمية، والمتناغمة مع عنونات الأعمال لديه فى تلك الفترة، كما أعتبر أن تلك المرحلة تعد نموذجاً مثالياً لطرح واحداً من إشكاليات تقدير وتفنيد مكونات القيمة فى المنجز (الإبداعى/ التشكيلى تحديداً)، فهى رغم بساطة وزهد وسيطها وفقر خامتها، إلا أنها كانت تنضح بدسامة الشكل والمضمون، ولا أدل على ذلك من فوزه بجائزة (الرسم) فى مسابقة (صالون الشباب/ الثانى) من خلال إثنين من منتج هذه المرحلة وهما (علاقات إنسانية/ ذكريات من الزمن القديم).
- وقد إستطاع محمد عبد المنعم فى تلك المرحلة (فترة التجنيد) إنجاز مجموعة إستثنائية من أعماله فى الرسم بالأصباغ والقلم الجاف (الأحمر والأسود) وهى مجموعة رائعة ومميزة وأيقونية من وجهة نظرى فى تجربته التعبيرية الجانحة بقوة إلى التجريد الموظف، التى أستطيع أن أصفها بـ (التعبيرية الأسطورية) إن جاز التعبير، وقد أنجز من خلالها مجموعة من الأعمال المتخمة بالدراما، والمفعمة بالحركة تارة والرومانسية تارة أخرى والشجن ثالثة والبهجة والفرح رابعاً... وكذلك نجد فى تلك المجموعات ذلك الوضوح لتفاعل الشخوص المرسومة مع مفردات التكوين التى تلعب دور المكملات البصرية لفراغات المسطح، ولا أدل على ذلك من مجموعة (من الزمن القديم وما حوته من أعمال رائعة ك(لقاء المحبين / رحلة مع ضوء القمر/ رحلة من الزمن القديم / إيقاع طبلة /ذكريات من الزمن القديم / الليل والقمر / أحلام فوق الماء / فتيات وقمر / السماء السوداء / أحلام تحت الماء.... وغيرها) من الأعمال المصدرة لتلك الطاقة الهائلة التى كانت تغمر / محمد عبد المنعم فى تلك الفترة، والتى بلا شك منحتنا بلا شك واحداً من فنانى الدراما التعبيرية بمذاق سينمائى، لديه القدرة والبراعة فى صياغة السردية البصرية بلغة مميزة تحمل مذاقات أصالة الرسم المصرى القديم الذى كان يعج بالتفاصيل والمفردات الموظفة والخادمة لحبكة المشهد.
- والمطالع لأعمال تلك المرحلة يجد أنها وإن كانت تصنف زمنياً فى مرحلة لاحقة لمرحلة الدراسة الأكاديمية (الجامعية)، إلا أن بوادر تلك المرحلة قد بدأت مبكراً أثناء فترة الدراسة كنوع من الممارسة الحرة التى كانت تصدر عنه كنوع من إرهاصات الحلول السريعة والمناسبة لكروكياته فى فترة الدراسة، وربما مكنته فترة التجنيد من صقل تلك التجربة والوقوف على أدواته فى تنفيذ وإنتاج تلك المجموعة المميزة من الأعمال، وبات واضحاً إرتكازه فى تلك المرحلة على المثير الإبداعى الغير مباشر، والذى تمثل فى قراءاته ومحصلاته الثقافية، وذكرياته الشخصية ومحصلته من الموروث على إختلافه، حكاية كانت أو أسطورة أو ملحمة متوارثة أو أثر، ولا تخلو تلك المرحلة من أعمال ليست بالكثيرة، والتى لعبت فيها المثيرات الإبداعية المباشرة دور البطولة، وشاركها فى تلك البطولة تقنية الخط المباشر بأقلام الجاف، وتمثل منجزها فى تلك الكروكيات السريعة للجنود وزملاء الخدمة العسكرية وخاصة تلك الكروكيات التى سجلت مجاميع منهم، ورغم جماليات تلك الكروكيات الخطية، إلا أننى أجدها مجرد نوع من الحفاظ على لياقة الرسم للشخوص، وكذلك لياقة تسجيل الإنطباع بأسلوبه التعبيرى المعهود، وهى بالتأكيد ممارسة لا إرادية لكل فنان حقيقى حريص على رصد المتغير حوله من أحداث وشخوص وأماكن....إلخ من مثيرات، وتوثيق إنفعاله وتفاعله مع تلك المثيرات.
- وخلاصة القول فى تلك المرحلة المبكرة فى عمر تجربة الفنان / محمد عبد المنعم أجد ان تلك المرحلة تعد هى الأساس الذى أقيمت عليه تلك التجربة القيمة، وهى حجر الزاوية الذى يظل يدعم تلك التجربة خلال خوضها للعديد من مغامرات التجريب التى سنأتى على ذكرها فى تلك القراءة، والتى أتت التجريب من زوايا عديدة وغير نمطية فى كثير من الأحيان، فالتجريب لدى البعض ينحصر فى زوايا مثل الخامة والتقنية والوسيط، ولدى البعض الأخر فى المعالجة الشكلية للسطح ووقعه البصرى على المتلقى، ولكن لدى محمد عبد المنعم سنجد أن التجريب لديه قد خاض غالبية ما سبق ولكن كان أكثر تركيزاً على معالجة المضمون بصريا وإيجاد إسقاط بصرى مباشر لما يجول فى خاطره من تصورات للمثيرات الفكرية، وعوالق الذكريات، ومحصلات المخزون الثقافى النوعى على إختلافه لديه، وجموح خياله فى تصور العناصر الأشكال والحجوم وأجواء اللون وسماكة الخطوط... على إختلافها، إنسانية كانت أو جغراقية او تاريخية (زمنية)، كما أنها أبرزت مبكراً أهم سمات تلك التجربة التشكيلية وهى إستهدافها لإشكالية الزمان والمكان من وجهة نظره، وتقدير حجم أهميتهما فى عقل محمد عبد المنعم وإهتمامه، ومحاولاته الحثيثة والدائمة فى السياحة والسعى فى أركان الزمن الثلاثة (الماضى بما خلفه ووصل إلى علمه عنه بالمطالعة أو السرد، والحاضر بما يحدث فيه من معايشته له، والمستقبل بما يتوقع حدوثه ويستقرأ قدومه من وجهة نظره)، وعلاقة تلك الأركان الثلاثة بالمكان من وجهة نظره، وقد أتت تلك الخواطر التى كان يسطرها كغيره من المبدعين ويحرصون على تدوينها لتكمل المشهد الإبداعى فى تجربته، وتقوم بفعل التأصيل لمنجزه البصرى المتسم بالتميز.
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة : 14 -2- 2025
محمد عبد المنعم..... (عقد من الزمن / نظرة عن كثب)
- الحلقة (3)
- نصل فى قراءتنا لتلك التجربة الثرية لهذا الفنان الكبير.. محمد عبد المنعم عند منجزه الممثل لهذا العقد الهام والمحورى فى تجربته والذى تلى فترة الدراسة الجامعية ومنجزه الذى صاحب فترة الخدمة العسكرية، وسبق فى نفس الوقت فترة وجوده فى (مدريد/ اسبانيا) لجمع المادة العلمية لورقته البحثية لنيل درجة الدكتوراه، والتى تعد واحدة من عواصم الثقافة والفنون التشكيلية بشكل خاص، والثقافة والفنون على إختلافها بشكل عام، وهى الفترة من العام (1989) وحتى العام (1999)، ذلك العقد الهام فى تجربة الفنان / محمد عبد المنعم، والتى تأتى أهميته فى انها ليست وقوفاً ينكب على المنجز االبصرى لهذا الفنان وما حمله من تطور بالغ فى معالجاته للتشريح الخاص بالعناصر فى مسطحه المرسوم، وكذلك من تنوع يحمل صفة (الغنى) فى الأطروحات وتوظيفها فى رقعة مسطح الرسم لديه، ووقوفنا عند وجهات نظره وفلسفات منظوره تجاه مفاهيم إنسانية وإحتماعية وفلسفية وروحية... إلخ من جانب أخر، وأعتبر منجزه البصرى لتلك المرحلة هو من أهم سمات تجربته على طول إمتدادها، بل ومن أيقوناتها ومن روافد القيمة فيها، ونظراً لما أجده من تشعب كبير فى القيم الجمالية والفلسفية وإشتباك المعالجات السالبة والموجبة للعناصر وحضور النص المكتوب بتلك القوة فى المشهد لديه والذى أتى حضوراً تشكيلياً ذو بعد بصرى مفصلى، أكثر منه حضوراً نصياً ذو بعد أدبى، كما لعب اللون فى تلك الأعمال المنجزة فى تلك الفترة دوراً هاماً ذو دلالة وإسقاط وإنعكاس لمحور الزمن كما سنأتى تفصيلا على تلك الجزئية فى القادم من تلك القراءة،، ولا نغفل تصدير الفنان محمد عبد المنعم للتأصيل لمفردات عناصره من زاوية الهوية فى تلك الفترة والتى حرص على صبغها بتلك الصبغة الذاتية والتى تنضح بإنتمائه إلى جغرافيا حضارات الشرق الأدنى القديم المؤسسة للتطور الإنسانى بشكل عام.
- ونستهل قرائتنا فى تلك المرحلة المهمة بالوقوف على محور الموضوع محل الأعمال، فقد تباينت أعمال تلك الفترة وتنوعت من حيث الموضوعات، فاتى الذاتى منها معبراً وعاكساً عما يدور فى فكر وعقل ومفهوم وثقافة/ محمد عبد المنعم وحصيلتها على إختلاف تنوعها، وحضر العام منها عاكساً تفاعله مع الواقع ومحاولاً إستقراء القادم منه، وبلا شك فقد عكست تلك المرحلة مدى الثراء فى الموضوعات لدى محمد عبد المنعم، فأتت غالبتها حاملة ثقلاً فكرياً ومفاهيمياً وهموماً وإهتمامات عجت بها أفكار عبد المنعم، وكذلك نجده مثمراً فى نفس المتلقى ويدفعه نحو إجترار المثيل والمشابه لديه، مما ينتج عنه إيجاد أجواء من الحميمية بين طرح محمد عبد المنعم البصرى ونفس وعقل المتلقى، خاصة فى تلك الأطروحات التى تناولت المفاهيم والأفكار الإنسانية المشتركة والتى قد تتباين فى الأهمية بين شخص وآخر، ولكنها تتماثل فى الوجود بداخل كل منا، وقد تناول محمد عبد المنعم فى أعماله ومشاهدها فى تلك الحقبة موضوعات التشخيص بصورة أكثر عمقاً وتشاركت المرأة والرجل فى موضوعاته البطولة وإن غلبت المرأة على معظمها وإنفردت ببطولة بعض الأعمال الأيقونية فى تلك الفترة، فنرى لوحات مثل (الغواية) و(إمرأة وتمثال على قاعدة) و(إمرأة ومرأة وطائر) و(ملكة إفريقية) و(الفتاة والنحلة).. وغيرهم من الأعمال التى نشعر فيها بإقترابه أكثر من الموضوع عما سبق من أعمال، فنجد فيها بعداً يأخذنا إلى عالم الشخصيات، ورمزية الأعمال، وقصديات محمد عبد المنعم كمصمم للصورة والشخصية، وككاتب سيناريو بصرى متمكن، وبارع أيضاً فى إختزال النصوص البصرية فى مشهد واحد يحمل الدلالة والرمزية للقصدية والغرض، كما لا نستطيع إغفال تلك السمة البارزة للتحرر والثورة على المشهد فى الموضوع من خلال الأداء التقنى والذى سنأتى عليه لاحقاً كما عرج على (البورتريه) بصورة أكثر عمقاً فى تعبيريتها، وأستطاع أن يقتنص من خلاله تلك النقطة الواقعة فى زروة التعبير عن حالة كل شخصية، ومدلولات عمقها كما فى أعمال (الدهشة) و(النظرة المستكينة) و(سن البلوغ) و(ملكة إفريقية)، وغيرها من وجوه تلك الفترة، والتى طرح من خلالها الإنطباعات التى تعلو الوجوه وترسم وتصدر تلك اللحظات التى تمثل مكنون الشخوص، وإستطاع أن يصف لنا المضمون عبر الشكل فى سلاسة وبساطة، وأتت لوحاته عن الفتيات والتى تارة أتت فى مجموعات (فلاش باك فى حضورآ ية / زمن مجهول)، وتارة أتت كأعمال منفردة تمثل حالات بعينها منها ما هو ذو خصوصية فى عالم الفتيات ومنها ما هو عام، وما هو حسى وما هو مادى ملموس، ك (فتاة راقدة) و(فتاة مع إحدى ثمار البطيخ).... وغيرهم من الأعمال.
- ولا نستطيع إغفال تطرقه الرائع لموضوعات الطبيعة الصامتة فى تلك المرحلة، وهو الموضوع الذى صدر لنا مدى تطور معالجة المشهد لديه، وابرز مدى ميل محمد عبد المنعم إلى التجريب عبر تحطيم القيود الأكاديمية وكسر حواجز النمطية لآليات تناول الطبيعة الصامتة وهى من نماذج (Act of Painting) المهمة فى تجربة محمد عبد المنعم الجامحة نحو التجريب طوال الوقت، ولا أدل على ذلك من عمله الراصد والمستقرء لظاهرة الإستهلاك مادياً كان او نفسياً، والمعنون تحت إسم (حاسب على نفسك / عم فكرة مائدة القرابين) والذى أنتجه فى العام 1999 وهو من الأعمال المستعرضة والمكونة من جزئين متلاصقان بقياس إجمالى 400 سم×194سم، والذى تم تأويله بصورة خاطئة عند عرضه فى صالون الشباب وإجتزائه فى العرض إلى النصف نتيجة تأويله من قبل لجنة التحكيم التى زجت به فى إسقاط سياسى غير مطروح من محمد عبد المنعم، ولذلك جاء قرار الإجتزاء للعمل وعرض نصفه فقط، وعلى الرغم من ذلك منحته (جائزتها) فى هذا العام، والعمل بإختصار يتناول إشكالية الطاقة الإستهلاكية لدينا كمجتمع بشرى، وقد عج العمل والذى صاغة محمد عبد المنعم بتقنية الخامات المختلفة والكولاج برمزيات الطاقة من مصابيح وهواتف وإكسوارات الإحتراق الميكانيكى.... وغيرها من الرموز الإستهلاكية.
- ولا يفوتونا أبدا الوقوف عند طرح هام فى الموضوع لدى محمد عبد المنعم فى تلك الفترة الهامة، وهو ظهور النص الأدبى فى إحدى محطات تلك المرحلة، هذا الظهور الذى أضفى على أعمال تلك المرحلة جوا من الوعى بعنصر الحرف فى العمل التشكيلى، فنحن هنا لسنا بصدد فنان يحاول إبراز النص المكتوب كعنصر مالئ من زاوية أدبية تمنح المسطح ثراءاً مفاهيمياً وثقافياً داعماً للمشهد، بل أتى النص فى أعمال محمد عبد المنعم من زاوية تشكيلية بحتة، ذو علاقة بالصورة أكثر من علاقتها بالمعنى الذى لم تفقده أبدا فى مسطحه، بل أتت بفعل التجسيد للمعنى والشعور بدلالات النص، ولا أدل على ذلك من أعماله التى أتت على خلفيات صوفية وروحية، كعمله الذى نفذه على خلفية البيت الشعرى للحلاج والذى يناجى فيه ربه (ليت الذى بينى وبينك عامر، وبينى وبين العالمين خراب)، وعمله المعنون تحت إسم (غريزة الإنتماء الكونى) والذى أتى فى بيت شعرى شهير لغياث الدين أبوالفتوح عمر بن إبراهيم الخيام فى رباعياته الشهيرة (إن لم أكن أخلص فى طاعتك، فإنى أطمع فى رحمتك)، وكلا العملين نشعر معهما بتلك الأجواء المشبعة بالصفاء رغم ذلك التداخل للحروف والكلمات، وقد نجح محمد عبد المنعم بصورة كبيرة فى توظيف شكل الحرف والكلمات فى مواقعها بالمسطح لتخدم توازن البناء البصرى للعمل، ورغم تلك البعثرة فى طريقة تصوير الكلمات وليس (كتابتها)، إلا أن المتلقى يجد تلك السهولة فى تفسير معناها والوقوف على حروفها، وإستيلاء النص على كامل المسطح أشعرنى بتلك الحالة النفسية والروحية للمتصوف والتى تغلب عليه صفة الإخلاص فى القول على وظيفة الموسيقى فى الحرف والكلمات، أما على الجانب الأخر من تلك التجربة المرتكزة على النص المكتوب، فقد صاغ محمد عبد المنعم عملاً أجد فيه الأهمية من حيث القيم الجمالية للنص فى المسطح التصويرى، وهو العمل المعنون تحت إسم (نواج - سند بسط - سنجها - كفر الحما)، وهو العمل الذى إستشعرت معه مدى تأثر محمد عبد المنعم بالمدرسة المصرية القديمة فى الفنون بصورة أكثر من غيره، رغم بساطة عناصره إلا أن دلالته البصرية قد حملت ذلك الغموض وتلك الموسيقى الصادرة من ألة منفردة (إيقاعية كانت أو وترية) تقع كخلفية موسيقية لمشهد توثيقى، وجميع تلك الكلمات فى العمل والتى حملت وقع? يوازى تلك الموسيقى الصوتية لحروف اللغة المصرية القديمة هى أسماء لقرى مصرية من أعمال الدلتا فى شمال مصر، واللوحة رغم جماليات توظيف النص فى أركانها إلا أنها تشع بروح مصر التى تفلت من إيدينا ببطئ وغفلة منا، فالعمل أجد فيه من المعانى والدلالات ما يحتاج إلى نص منفرد، وسنعود لتلك المحطة مرة أخرى فى حديثنا عن الأسلوب والمعالجة التشكيلية لعناصر الصورة لدى محمد عبد المنعم.
- ونذهب إلى موضوعاته التى أتت كخلفيات لأعمال مثل ( اللعبة) و(الإنطلاق البطيئ من صمت البدن) و(فى الطريق إلى البرزخ) و(الشوق والحواجز) وجميعها أعمال تناولت سيناريوهات متخيلة عن مفاهيم مجتمعية، وحالات إنسانية وشعورية مترتبة على واقع محيط يعج بالأحداث ومشبع بالموارئيات، وهو أيضاً مستمد من التراث والموروث الذى تذخر به عوالم الشرق الأدنى القديم كحيز جغرافى يحوى بنى البشر فى فصول التاريخ الأولى ، ولا سيما مصر التى كانت بمثابة المركز والعاصمة للعالم القديم حتى قرون ليست بالبعيدة، وتبقى فى موضوعات أعمال محمد عبد المنعم فى تلك الفترة مجموعته الهامة والثرية والرخيمة، والتى أصفها بإرتياح بكونها (إلياذة محمد عبد المنعم) وهى تلك الموضوعات التى طرحها فى أعمال (الضوء المحيط) و (ديناميكية الأمانى) و(عرائس السرير النحاسى) و(جدران وليل) و(الحب المخيف) و (ملك وملكة فى زمن قديم) و(الطيور) و(حضن السماء) و(إفريقيا الجميلة) ... وغيرها.
- وتبقى من وجهة نظرى أيقونة تلك المجموعة وهى ذلك العمل الجامع بين الملحمة والدراما وسوريالية التكوين وأسطورية الوقع على المتلقى والمعنون تحت مسمى (هواجس الليل والمقابر) وهو من الأعمال التى تستحق ان تكون ضمن أعمال الصف الأول للتشكيل المصرى الحديث والمعاصر، ذلك العمل الذى يحدث هذه الدهشة، ويدفع فضول المتلقى فى محاولات سبر أغوار المشهد، وهو من الأعمال التى تجبر المتلقى على الإنصات للخلفية الصوتية الموازية لأصوات الدفوف الناجمة عن هذا الزخم للعناصر والشخوص فى المشهد، ونشعر معها بالهرم البنائى لمفهوم (الملحمة) وقوة حضور الماورئيات فى جو العمل والذى لا يقل عن كاريزما الشخوص فى المشهد، والعمل فى مجمله نموذج للتنسيب فى اللوحة التعبيرية الزاخرة بالتفاصيل والحاملة لسياق متين للمشهد.
- ونذهب إلى الجانب التقنى فى تلك المرحلة والذى تنوع بصورة حملت ثراءاً كبيراً، وتنوعت فى إستخدام الوسائط (خطية كانت أو لونية / زيتية كانت او مائية) والسطوح على إختلافها وتنوعها من (قماش الرسم والخشب والورق، والكولاج فيما ندر من أعمال تلك الفترة)، فمحمد عبد المنعم مصور فى الأساس، يرتكز على مهارته فى إحداث الشكل من خلال رسمه ، وإن كان لا يمانع فى حالات من توظيف وتجربة تقنية مثل الكولاج إذا ما كانت خادمة لمنهجه فى الطرح، كما أتى فى لوحته الشهيرة (حاسب على نفسك / عن فكرة مائدة القرابين) والتى نستشعر منها مدى وعيه بتطبيق التجريب من خلال وسائط خادمة ومعبرة عن مفهومه تجاه إشكاليات طرحه، وبشكل عام فقط عكست تقنيات محمد عبد المنعم فى تلك المرحلة عن مدى المساحة التى يفردها محمد عبد المنعم للتجريب من زاوية الخامات والوسائط، والتى لا تقل عن شغفه بالتجريب من زاوية الموضوع كما سبق ونوهنا فى الفقرات السابقة، وقد لعب اللون أيضاً دوراً بالغ الأهمية فى أعمال تلك الفترة، فقد وظفه بصورة عبرت فيه عن جغرافيا المكان من خلاله ميله إلى الدرجات الترابية فى بعض الأعمال الدرامية والتى مثلت أجوائنا المشبعة غالباً بالشوائب الجوية والأتربة فى بعض الأحيان، فى حين أتت ايضا معبرة عن زمنية المشهد من ليل او نهار من خلال تلك الدرجات الزرقاء بتفاوتها والتى أتت فى أعلى بعض اللوحات فى مساحات ضيقة أحياناً، وكذلك أتت درجات الأصفر الساخنة لتعبر عن مناخ المشهد وأجوائه الحارة كما فى لوحات (صيف قائظ)، وأراد عبد المنعم أيضاً أن يثبت أنه ملون قدير ومتمكن من خلال تلك الأعمال المهمة للزهور والطبيعة الصامتة وبعض أعمال البورتريه.
- ونأتى لمحور فى غاية الأهمية فى أعمال تلك الفترة وهو ذلك الجانب الخاص بحلول المساحات فى أعماله، والتى أجدها أصبحت أكثر نضجاً وتمكن، ورغم نزعته الواضحة فى التمرد على قيود المشهد وتفاعله الواضح من أسلوب التنفيذ والذى يعكس إنفعاله بمثيراته على إختلافها، إلا أنه لم يتهاون فى الحفاظ على نسب العمل وما نستطيع أنه نطلق عليه (التراص الخاص بالعناصر) وكذلك بنائية العمل من زاوية التصميم، والذى أصبح أقرب فى أداءه من المصطلح الموسيقى (العربة `بضم العين` واللزمات والفروق الفردية الخاصة بالعزف والغناء) والتى عكست مدى تشبعه بالتكوين فى المشهد المصرى القديم، الذى برع فى إتخام المشهد بالعناصر دون الإخلال بإنسيابية وتوازن (السياق البصرى)، تلك الجزئية التى خدمت السياق الدرامى للمشهد لدي محمد عبد المنعم بصورة كبيرة وأكسبته خصوصية كوده الخاص به، ورقمه البصرى الخاص.
- كما أتى وضوح أسلوبه فى إستعمال الرسم السالب (السيلويت الأبيض) والذى أشعرنا بكونه طبقة تعلو او تأتى فى خلفية رسمه الموجب، وقد بدا ذلك جلياً فى اللوحات الخاصة بالنصوص الأدبية و(الحروفية) إن جاز التصنيف وكذلك فى لوحات مثل (اللعبة) و(حدوتة) و(جارة الوادى) و(ليالى العطر والصيف والقمر) وغيرها من الأعمال المهمة فى تلك الفترة، وإن كان ظهور (الرسم السالب) لم يكن جديدا فى تجربة الفنان / محمد عبد المنعم،فقد سبق وجودها فى مرحلة أعماله فترة الخدمة العسكرية وبعض (كروكيات) مرحلة الدراسة الجامعية، وأعتبرها من الحلول التى أكسبت مشهد / محمد عبد المنعم دسامة وثراء وحملت ظاهره بنوع من الفلاتر الخادمة التى تارة ما يجدها المتلقى فى الخلفية الخاصة بالمشهد، وتارة كطبقة تعلو المشهد وتمعن فى شروحاته الفسلفية والمفاهيمية من خلال تجسيد بصرى، وهو ما سيتطور مع بعض أعمال الرسم والكروكيات لاحقا فى فترة الدراسة الأوربية، وقد أسهم أيضاً هذا الأسلوب فى دعم خصوصية العمل لديه سواء فى التصوير أو فى الرسم.
- ولا يمكن أن نغفل تلك المجموعات التى أنتجها فى الرسم السريع من خلال إستخدام الأصباغ والتى أدرجها تحت مسميات (فلاش باك فى حضور آية) تلك المجموعات التى تناول من خلالها معالجات دسمة لأوضاع التشخيص بصورة موسعة، عكست تأثره الشديد بالتراص فى المشهد المصرى القديم، وكذلك إنكبابه الدائم على ممارسة تناول وضعيات الجسد البشرى فى كافة وضعياته، تلك الممارسة التى إنعكست بشكل كبير وأثرت فى تفوقه فى فصل الدراسة الخاص بالرسوم السريعة فى جامعة (مدريد) والتى أنتج فى فترتها مجموعته الرائعة الخاصة بالرسوم السريعة والتى سنأتى عليها بالتفصيل فى الحلقة القادمة.
- يبقى أن نشير إلى جانب هام فى تلك المرحلة وهو الخاص بالمعالجات الخاصة بالسطوح والشخوص من زاوية الأداء اللونى، والذى حافظ وحرص محمد عبد المنعم على الإتيان به من زاويا غير مباشرة، وقد بدا هذا واضحاً فى معالجة ملابس الفتيات فى لوحات مثل (الغواية / وفتاة وتمثال على قاعدة) وغيرهما من الأعمال، تلك المعالجات التى إستطاع من خلالها إحداث الأبعاد فى كتلة الشخوص وتفاصيلهم التشريحية، وكذلك إحداث الشفافيات فى الملابس، ودعم إيحاءات الملامس أيضاً فيها، والأهم من ذلك جميعا أن المعالجات فى مجملها لونية كانت أو تقنية أو الخاصة ببنائية العمل، وكذلك الخاصة بالحلول المحققة للمفاهيم والأفكار والإشكاليات، قد أحدثها محمد عبد المنعم من أقصر الطرق وتركها لنا بتلك الدسامة وهذا الثراء كمقابل بصري لمأثورة لوصف (السهل الممتنع)..... يتبع
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة 22-2-2025
محمد عبد المنعم (النزال بين المفهوم الراسخ والأسلوب الجامح)
- الحلقة (4)
- تدخل تجربة محمد عبد المنعم الألفية الجديدة بعد مغادرتها حقبة التسعينات المثمرة والتي أثمرت منجزاً تعبيرياً حمل معه هذا الثراء المشبع بتحرر واضح في الأسلوب الذى صاحب مرحلة الدراسة الجامعية، وأراه تحرراً ذو مسحة حذرة، لم يتخل فيه محمد عبد المنعم عن سياقه التعبيري الذى يغلب على كامل تجربته مع إختلاف معالجاتها، وحصد من نزعة التجريب النسبية في ذلك المنجز حصاداً وفيراً لا بأس به، ولكنه لم يكن كافياً ليتناسب مع ما بداخله من شغف يطمح إلى الوصول بالمشهد وموضوعه وتقنيته وأسلوبه إلى أفاق أبعد من تلك المحدودة في محيطه الثقافي، ذلك المحيط التشكيلي الذى كان يشهد طفرة التسعينات المنفتحة على الجملة العالمية للتشكيل، والتي كانت تقفز بسرعة شديدة بين المفاهيم والوسائط والمعالجات وآفاق التجريب التي تتسع كل لحظة من لحظات التسعينيات، تلك الجملة التي كانت تتمرد على النمطية وترتكز على مفاهيم الصدمة البصرية، وتتبارى في تنوع وتعدد الوسيط، وعلى الرغم من ظهور أراء أصولية حاولت لعب دور حائط الصد لتفشى وإتساع هذا التيار وتسرب تلك المعالجات الغير نمطية في مجتمع ثقافي يميل إلى المحافظة، إلا أن حقبة التسعينيات وجيلها نجحوا إلى حد بعيد في تسلق ذلك الحائط المحافظ، تارة بتكوين تكتلات شبابية جديدة تنادى بالإنفتاح في مطلقه وإن إفتقد للوعى والمعيار والملائمة للهوية، وتارة بتجارب إستطاعت إيجاد وسيط مزج يلعب فيه الوعى دوراً محورياً في قبول هذا الإنفتاح بما يلائم إشكالية الهوية، ومن هذه التجارب كانت تجربة الفنان/ محمد عبد المنعم التي أتى إنفتاحها على ثقافة الآخر إنفتاحاً لم يفقدها مذاقها ومسحة الحميمية بينها وبين المتلقي، والتي نتجت عن تناولاته الإنسانية في عمومها، شخصية كانت أو عامة.
- وقد أتت مرحلة إنتقال محمد عبد المنعم إلى أوروبا فرصة جيدة لينتقل ببصره وشغفه وبصيرته إلى واقع تشكيلي وثقافي له من الثقل والدسامة والرموز والمنجز والإنفتاح ما نحدث عنه ولا حرج، وتقصر تلك القراءة عن سرد مختصره ومختزله، وأتت سنوات بعثته الدراسية في العاصمة الإسبانية مدريد وكليتها للفنون الجميلة بجامعة (كومبليوتنسى) كمحطة جديدة ومنعطف هام في تجربته وبعداً أكاديمياً يحمل قيمة كبيرة لأى دارس حقيقي للفنون، تلك الكلية التي حظى بالدراسة فيها بمسماها القديم (أكاديمية - سان فرناندو) عدد من فناني جيل الستينات المهمين في الحركة التشكيلية المصرية، والذين قدموا منجزاً محترماً ورخيما للفن المصري الحديث، وإنعكس تحصيلهم التقني والفني على موهبتهم ومنجزهم بإيجابية واضحة.
- وكان لزاماً على محمد عبد المنعم أن يقوم بدراسة مادتين في كلية الفنون الجميلة بجامعة (كومبليوتنسى) وإجتياز إختباراتهم ليتم قبوله في تلك الكلية كطالب بها، وكان منطقياً أن يختار مادة (التصوير) تخصصه الذى تمكن من خلاله من إحداث التحقق كفنان والذى يطمح إلى تطوير أسلوبه ومعالجاته فيه عبر منهجية للتجريب، وأختار معها دراسة مادة (الحفر الحمضي)، هذا التخصص المتخم بالتقنية والتجريب اللذان لهما التأثير الإيجابي على المشهد إذا ما تم توظيفهم بالصورة المناسبة والخادمة لتطور المشهد، وبعد فترة من حضور فصول مادة التصوير، أدرك محمد عبد المنعم بأن الإستمرار في ذلك الفصل الدراسي لن يمنحه ما يصبو إليه من تطوير للأداء، ففضل إستبداله بذلك الفصل الخاص بالرسم والذى ظهر تأثيره على منجزه بصورة لافتة للنظر كما سيأتي ذكر ذلك في الحديث عن تطور أسلوبه في (الكروكيات / الرسم السريع `سكتش`، أما دراسة مادة (الحفر) فقد حظى فيها بفصل دراسي مميز ومدرس حفر كبير وهو (خيراردو أباريسيو)، وقد أتى خوض هذا الفصل الدراسي الخاص ب (الحفر) بإنعكاسات جيدة على مشهده في التصوير من زاوية الإمعان في التجريب من خلال الوسائط، وقد مكنته دراسة الحفر من خوض تجربة ممارسة الحفر الحمضي والذى أنجز فيه بعض من أعماله في الرسم والتي أتت بمذاق جديد.
- وقد إستطاع محمد عبد المنعم في تلك الفترة المزامنة بين دراسته في (كومبيليوتنسى)، ومزاولة منجزه فى التصوير بجانب ما أنجزه على خلفية دراسته لفن (الحفر) وتجارب (الرسم السريع/ سكتش) على خلفية دراسته لفنون الرسم، تلك المحاور الثلاثة التى جسدت منجزه فى تلك الفترة، وأتى محور (التصوير) والذى ذهب فيه إلى مساحات أرحب في التحرر من القيد الأكاديمى الجانح إلى المباشرة، وبدأت اللوحة التصويرية لديه تنتقل من التعبيرية الواقعية إلى التعبيرية التجريدية، وبدا أثر ممارسة التجريب في المشهد لديه فى الظهور من خلال أسلوبية التعبير في ضربات الفرشاة لديه، والتي أصبحت أكثر تحرراً وأكثر بروزاً للملامس، بل وذهبت في بعض الأعمال إلى الجموح، إلا أنه حافظ على موضوعاته الإنسانية ولم يتخل عن مثيراته في تلك الفترة، كما تميزت تلك الأعمال بمجموعتها اللونية المميزة والتي إستمرت معه إلى ما بعد البعثة فى مجموعات مثل (طير أبابيل / سباحة مع بقايا من زمن آت)، وهى اللون الأسود واللون البنى بتدرجاته واللون الأزرق السماوي، وبعض الدرجات اللونية التي أتى دخولها للعمل لضرورة ووظيفة، ورغم هذا الإقتصاد اللوني في تلك المرحلة إلا أنه إستطاع إيجاد أجواء لونية موازية لتلك المشاعر والأحاسيس والإنفعالات التي صاحبت أسلوبية الأداء في تلك الفترة، مما يمنحنا عمل تلك المقارنة في تطور الأسلوب لديه في التصوير عما كان عليه في حقبة التسعينيات، والذى نستطيع أن نطلق عليه بإرتياح ممارسة حقيقية لمفهوم (Action Painting)، فباتت مساحة الإنفعال في تأدية فعل التصوير أكثر وضوحاً عن ذي قبل، وباتت مناسبة لنقلته في تجريد العناصر في عمله التصويري، سواء كانت تشخيصية تلعب دور البطولة، أو مكملة تؤدى دوراً في سينوغرافيا العناصر المكملة للعمل، فبات العمل التصويري لديه مختزلاً للتفاصيل بصورة أكثر وضوحاً، ولكنه في نفس الوقت يصدر هذا الكم من الإنفعال ويصدر بعداً بصرياً ذو علاقة بثقافة محيطه الأوربى الأكثر تفهماً وتقديراً لجملة الإنفعال التى تفتقد معيارها فى ثقافة مجتمعه المصرى والشرقى الذى يميل أكثر إلى العمل القابل للقراءة المباشرة، والتى تجنح إلى قابلية التفسير وسهولة القراءة البصرية.
- ولا يمكن أن نغفل هذا الإنعطاف الواضح فى العمل التصويري لدى محمد عبد المنعم من جهة بنائية الموضوع داخل المسطح، والذى برز من خلال وجود الخط الهندسي والذى تارة ما أتى حاوياً للشخوص أو العناصر دون ظهور مباشر، وتارة أتى في صورة طبقة (Layer) إعتلت السطح أو تداخلت جزئياً مع عناصر العمل، هذا الظهور الذى أوجد شكلاً جديداً في المعالجة لمفهوم محمد عبد المنعم في أعمال تلك الفترة، وأجده من وجهة نظري قد وفر له تحقيق ما نستطيع أن نطلق عليه مصطلحات (المقارنة / المناظرة / المزامنة / الصراع) بين مفهومين أو ضدين في عمله التصويري، كما لعب دوراً وظيفياً من خلال توظيفه كبديل للإسقاط لبعض المفاهيم من عصور سابقة على الواقع المعاصر، وبلا شك أن دخول الشكل الهندسي إلى أعمال محمد عبد المنعم لم تأتى لمجرد صبغ العمل التصويري بصبغة مفرنجة، ولمجرد إحداث الفارق الساذج بين أعماله السابقة وحلول المعالجات البنائية في المسطح، ولكنى أجدها ممارسة تجريبية لتوظيف العلاقات الهندسية والإستفادة منها في إسقاط المفهوم الفكري لدية على المسطح، فأتت بصورة ما يمكن ان نطلق عليه (المظهر/ بضم الميم) لسرية ولوغارتمية أفكاره، كما لعبت دور المختزل لشروحات ما يطرحه من إشكاليات، وأعتقد أنه في فترة الدراسة بالبعثة لو توفرت له مساحة مكانية أكبر ك(استوديو) لحصلنا من منجزه على أعمال تستفيض في بنائها وتتشعب في عناصرها الشارحة لأطروحاته، ولكنها إنعكست بالإيجاب والتطبيق فيما بعد على جملة البناء في أعماله التصويرية في المراحل اللاحقة وحتى الآن، ولا يمكن أن أنكر ما لهذه الفترة من مردودات إيجابية في غاية الأهمية على العمل التصويري لديه، فقد أكسبت المشهد لديه هذا الكم من الثراء على كثير من الأصعدة، وربما توجت وأكدت مشاركته في مسابقة متنزه (الريتيرو الجميل) في العاصمة الإسبانية (مدريد) في دورته ال(??) وفوزه بجائزة (الإختيار) من ضمن (??) فناناً من جملة المشاركين والتي وصلت في تلك الدورة (??) إلى (????) مشارك، أكدت تلك المشاركة مدى تقييم هذا الواقع التشكيلي والثقافي لأداءه التصويرى الذى نجح في المواكبة والتميز ولفت الأنظار إلى جملته فى عالم التصوير، ويبقى في منجز التصوير فى فترة البعثة حالة مميزة لعمل أجد فيه إجترار محمد عبد المنعم وإستحضاره لروحه الشرقية والمصرية في توثيق وتسجيل العمارة، وهذا العمل التصويرى الذى أداه الفنان/ محمد عبد المنعم بتقنية ألوان الأكريلك على التوال والذى سجل فيه توثيقه وإنطباعه عن عمارة أحد الكنائس وهى (كتدرائية آبيلا)، هذا البناء المعماري المميز والمثير والتي تعرضت في السابق إلى الحريق ولكنها جددت ورممت، وقد إستثارت محمد عبد المنعم ليختار أحد الجوانب الخارجية لفراغ الكاتدرائية والبرج الحاوى لأجراسها من منظور جانبي، ويؤدى هذا الأداء التصويري الراقي والجامع بين إنفعاله بالبناء كمثير إبداعى وبين أداء فرشاته المتمكنة والمجسدة لهذا الإنفعال، وقد أتت اللوحة بنفس الدرجات البنية بتبايناتها ودرجات الأزرق السماوى.
- ونأتي إلى تجربته في (الحفر الحمضي) في فترة البعثة والتى نتجت عن إنتظامه فى فصلها الدراسى والذى حظى فيه بأحد الأساتذة الكبار والمخضرمين لهذا الفن وهو الأستاذ (خيراردو اباريسيو)، تلك التجربة التي خاضها محمد عبد المنعم بغرضية محددة ولهدف واضح ذو علاقة بتنمية مهاراته التقنية من خلال ما يذخر به عالم (الحفر) من تقنيات وأساليب ومعالجات للسطوح، من خلال وسيط القالب الطباعى على إختلاف مادته وما يمنحه لـ (الفنان الممارس/ الحفار) من نتائج مبهرة وشيقة ومغايرة فى نفس الوقت لما توقعه لوحة التصوير في عين المتلقى، فعالم الحفر وفنانيه الحقيقيين هم مجربون مدفوعون بشغف إيجاد التأثيرات الساحرة عبر نزالهم مع تجهيزات القوالب الطباعية، تارة عبر أدوات الحفر المباشرة، وتارة عبر الوسائط الكيميائية المختلفة التى تمنحهم تلك الملامس والأجواء المميزة للسطوح، وقد أتاح ذلك الفصل الدراسي (للحفر) محمد عبد المنعم تلك الفرصة لإكتساب نوع جديد من الخبرات التقنية والتي إنعكست بشكل إيجابي وملموس فى عمله التصويري، وتعد تقنية نقل الصورة والعنصر من خلال القالب الطباعي إلى سطح القماش فى لوحة التصوير، وذلك من خلال تقنية (Image Transfer) عبر القالب الطباعى المعدني (نحاس أو زنك)، تلك التقنية التى نجح فى توظيفها بشكل (إستيعاضى) في أعمال أعمال(الكولاج)، لتغادر لوحته تقنية (الكولاج) النمطية والمرتكزة على لصق الشكل المطبوع على المسطح التصويري حسب رؤية المصور، وأجدها من الأمور التقنية التي طورت شكل السطح لديه في لوحة (تطلعات قديمة)، عن شكل السطح لديه في لوحة (حاسب على نفسك / عن فكرة مائدة القرابين)، وبالتأكيد أتت دراسته في الفصل الدراسي الخاص بمادة (الحفر) بثمار يانعة، وبتجارب قابلة للتطبيق والتطوير على مسطحه التصويري وميزت صياغته في تقنية (الكولاج المنقول عبر القالب الطباعي) عن الصياغة النمطية للكولاج التصويرى المتعارف عليه.
- نأتى إلى محور (الرسم) والذى أرى من وجهة نظرى أن محمد عبد المنعم قد ذهب فيه إلى آفاق بعيدة ومراحل أثرت منجزه فى الرسم بشكل عام، وخاصة على صعيدين فى غاية الأهمية، وهما صعيد الرسوم السريعة (الكروكيات/سكتش)، وصعيد للوحة (الرسم) ذات الموضوع، وكلاهما قد تطور بصورة كبيرة في رسوم محمد عبد المنعم، رغم ما كانت عليه أعمال (الرسم والكروكيات في مرحلة ما قبل البعثة) من قيمة ودسامة وثراء، فلوحة الرسم لديه في حقبة التسعينيات كانت أقرب إلى الرسم التحضيري للوحة التصوير، رغم ما بها من تكامل ودخول موظف لألوان الصبغات والمائيات، إلا أنها كانت تصدر لنا دائما الإحساس بروح العمل التصويري وأداءه، في غالبية أعمال الرسم لديه، بينما تميزت لوحة الرسم في مرحلة البعثة بحضور قوى للخط وتأثرت أيضاً بفصله الدراسي للحفر من تنويع لإتجاهات الخط لإبراز العلاقات وملامح التشريح والتنسيب وغيرها من مهارت الرسم التي إستخدمها بقوة، وحافظ أيضاً على (الصبغة اللونية الموحدة) في أرضية العمل ليوجد من خلالها الجو العام للعمل، وقد صاغ من خلالها مشاهده ذات الحضور الدرامي الطازج.
- ويبقى هذا الشق الهام في الرسم والذى أجده أحد أهم المكاسب في بعثته الدراسية بمدريد، وهو هذا الفصل الدراسي الخاص بالرسوم السريعة (سكتش)، وذلك من خلال ما عكسه بعض من منجزه الذى طالعته ووقعت عيني عليه، وأستمتعت بذلك الأداء الرشيق للرسم السريع، وقد دعمت محاولاته السابقة في مرحلة الدراسة الجامعية وما بعدها حتى نهاية التسعينيات دراسته في هذا الفصل الدراسي من حيث مروره على تلك الأوضاع التشريحية المختلفة للجسد البشرى، وكذلك تلك التوثيقات السريعة لفنون المشهد المفتوح ومشاهد العمارة، إلا ان هذا الفصل الدراسي قد أوقفه على عتبات إحتراف الأداء من خلال أقل الخطوط، فنلاحظ أن زخم الخطوط في كروكياته السريعة قبل البعثة، قد إختفى وتلاشى وتقلص في خطوط بسيطة تقتنص الوضع التشريحي أو الحركي ل(الموديل) بغاية الدقة والحرفية، بل وتخطى الرسم السريع (سكتش) عند محمد عبد المنعم تلك الحدود الممثلة والمقتنصة للوضع التشريحي وذهبت إلى تصدير البعد النفسي والحالة المزاجية في بعض الكروكيات من عبوس وتطلع وإنتظار ولهفة ويأس .....إلخ من تعبيرات إنسانية، كما تطور تعامله مع المساحة البيضاء لورقة الرسم من خلال إيقاع مساحة الرسم في بقعة سحرية منها، فصنع تلك العلاقة بين المساحة المشغولة بالموديل وكامل فراغ ورق الرسم، وفى علاقة أشبه ما تكون بتلك العلاقة النموذجية الحاصلة بين كتلة المنحوتة والفراغ المحيط بها لدى النحاتين، وكما لعبت الأصباغ دوراً هاماً في إظهار كتلة الموديل، فقد لعب الخط دور أداة النحت للموديل، فأتت رسومه السريعة وكروكياته في تلك المرحلة كمنجز متفرد في تجربته وحصيلة إبداعية في غاية القيمة، ونموذج لإنجاز ال (سكتش) يجب التوقف عنده ودراسته..... يتبع
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة 27-2-2025
محمد عبد المنعم (اللوحة بين رصد الواقع وإستشراف القادم)
- الحلقة (5)
- إنقضت سنوات البعثة الثلاث في (إسبانيا)، والتي بالتأكيد أثرت تجربة محمد عبد المنعم الباحث والمُجرب، قبل إثرائها لمُنجزه كفنان ومُصور تَحْمل تجربته تلك الجينات النقية ومُنجزه هذا التَميز وتلك الجِدية، وقد أتى مُنجزه البصري في سنوات البعثة مُتسماً بما يوازي التحرر من كثير من القيود، وكذلك تنوعه الناتج عن ممارسته (التجريب) على خلفية التطبيق لبعض التقنيات المُكتسبة من فصوله الدراسية في الرسم والحفر، وقد عكس هذا الفصل الدراسي في (الرسم) في كلية الفنون الجميلة بجامعة (كومبيلوتنسى) تطوراً كبيراً في (الكروكيات) والرسوم السريعة في تجربته بصورة واضحة، إتسمت بتحقيق الموضوع مَحل المُثير عًبْر أبسط الخطوط السلسة والناضحة بعمق التعبير، وأتى الفصل الدراسي الخاص ب (الحفر)، ليمنحه براحاً أكبر في التعامل مع الوسائط المَبنية على التقنيات النوعية (الحفر الحمضي)، والتي ستأتي في بعض أعماله اللاحقة، والتي إستطاع من خلالها إيجاد بديل للكولاج النمطي، وتطعيم المُسطح التصويري لديه بالصورة المنقولة عَبْرَ تقنية (transfer) المستخدمة في النقل الطباعي بتأثيرات أكثر إنسجاماً وملائمة لأسلوبه التعبيري المُميز، كما لا نستطيع أن نغفل مدى إتساع رقعة الحرية في ممارسة ما نستطيع أن نُطلق عليه (Action painting) التي إتسمت بها أعماله التصويرية في مجموعات مثل (طير أبابيل, سباحة مع بقايا من زمن أت، وتماثيل على قواعد، وخلف النافذة، وأعمال منحة مراسم الأقصر، ومشاركته في (سمبوزيوم الأقصر الدولي للتصوير `2013`) ... وغيرها من الأعمال التي تلت سنوات البعثة)، والتى سنتوقف عند محطات بعضها في هذا الجزء من الدراسة.
- وقد أتى العام 2003 والمواكب لفترة حرب العراق الثانية كنموذج ممثل لمثير إبداعي تأثر به محمد عبد المنعم الإنسان والمواطن المصري والعربي، ليهدى محمد عبد المنعم الفنان مثيراً إبداعياً شديد التحفيز لصياغة جملته التصويرية التى عنونها ب(طير أبابيل) والتى أتت على خلفية العدوان الأمريكي وقصفه الجوي للأراضي العراقية بذرائع واهية، إستكمالاً لسلب العراق ما تبقى من قوة، والإسهام بفاعلية في سقوط نظامها السياسي في تلك الفترة، وبعيداً عن الإسهاب في الشق السياسي والعسكري في توصيف المًشهد كمفهوم ومُثير إبداعي أفرز أعمال محمد عبد المنعم المتأثرة بذلك الحدث في تلك الفترة، نذهب مباشرة إلى مُنجزه البصري على تلك الخلفية، والذى أتى كنموذج تطبيقي أبرز تأثير ما آل إليه أسلوب محمد عبد المنعم فى معالجة المَشهد البصري لمفردة بعينها وهي (القصف الجوى)، والذى تناوله عبد المنعم بذلك الإنفعال المُتجسد في ضربات فرشاته التي بدت مُحملة بما يوازي ذلك الصخب الناتج عن أزيز الطائرات ودوي الإنفجارات وإحداثها للدمار في النفوس قبل الأجساد والأمكنة، وكذلك سخونة المجموعة اللونية التي صاغ من خلالها رمزياته المُعبرة عن تلك المَشاهد والتي إستدعت من ذاكرة ثقافته حادثة دحر جيش (أبرهه) الملك اليمني الشهير في محاولته لهدم (الكعبة) وما أحدثته حجارة (سجيل) المُلقاة من (الطير الأبابيل)، فى مشهد يعد ك(أول غارة جوية فى تاريخ البشرية) على حد تعبير وتوصيف /محمد عبد المنعم، على كامل قوام هذا الجيش الذي صار كالعصف المأكول، وقد وثق عبد المنعم إنفعاله وتأثره بهذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق من خلال أكثر من خمسة عشر عملاً تصويرياً، عشرة منهم تحت مسمى (طير أبابيل)، وألحقهم بتوثيق بعض المَشاهد لما آل إليه الحال والأوضاع على أرض الواقع، فمنهم ما وازى مفهوم الوقوف على الأطلال كلوحة (شاهد إثبات / وخراب مدينة / وتشويش داخلى 1، و2) وختم تلك المجموعة بذلك العمل الهام والذى أجد أنه وظفه كنهاية مفتوحة لذلك الحدث، وهو لوحة (خريطة الجسد الجديد) والتى أكدت شخصيته القديمة المُتعاملة مع تجربته التصويرية من تلك الزاوية (الدرامية) ذات البُعد السينمائي الذي يَسكن أسلوبه التشكيلي.
- وبالعودة إلى المُعالجة التقنية في تجربة (طير أبابيل) والتي تستحق التوقف عندها لما بها من جديد في مذاقات أعمال محمد عبد المنعم، سواء من زاوية (رمزية التعبير) والتي أراها إتسمت بجملة مرنة تَصلح لمُعالجة مفهوم (الإعتراض على واقع يصعب تغيره)، كما أنها أتت بمذاق وحشي (الإنطباع) يعكس تلك الضراوة والشراسة الغير مُبررة والمُشكلة لمفردات المُثير الإبداعي والسيناريو الخاص به، أو سواء من زاوية المجموعة اللونية الساخنة والعاكسة لتلك الزخات الناتجة عن هطول القنابل، والمُحدثة في دمارها ما أحدثته (حجارة سجيل في الحادثة التاريخية القديمة)، وأخيراً من زاوية المزيج الناتج للجملة الحركية ليد محمد عبد المنعم، والتي أجدها كاسرة لنمطيات فرشاته في الأعمال السابقة لتلك المرحلة، من غلظة خطوط الفرشاة وتداخلات اللون في الخطوط، والتي أجدها عَبرت عن ما يوازي الفوضى والإرتباك ووقع هول فعل (القصف الجوى) على الشخوص والأماكن، وقد مثلت درجات (الأحمر) في تلك المجموعة حجم الدماء المُسالة والمُهدرة، وأتت درجات (البُنيات والأسود) مُمثلة لتلك الدرجات الناتجة عن الإحتراق كلياً كان أو جزئياً، وما أحدثه في مظاهر السطوح للجمادات والبنايات وكافة المشكلات (السينوغرافية) للمكان، ورمزيتها في الشخوص سواء في مادية أجسادهم أو في معنوية نفوسهم، والبناء البصرى في الأعمال بشكل عام يعكس ويُصدر الشعور بالصوت والحركة.
- وقد ألحق محمد عبد المنعم عشرية (طير أبابيل) بعدد من الأعمال الهامة التى سجلت نتائج ما بعد الحدث، وأجدها في غاية الأهمية لكونها تعكس شمولية الوعي في تناول الحدث، وتمثلت في عدد من اللوحات التى وثقت ما بعد الحدث مثل أعمال (خراب مدينة / الجريح / خريطة الجسد الجديد)، تلك الأعمال التى عكست ثلاث حالات من مكونات نتائج تلك الحرب الغاشمة وذلك العدوان الجائر، فأتت لوحة (خراب مدينة) بتعبيريتها ودرامية أدائها، وإنفعال فعل الرسم في تنفيذها في غاية التوفيق، والتى تصور وجها لشخص تحمل تعابير وجهه مفردات الفجيعة، ويعكس زجاج نظارته ما يوازي مَشاهد الخراب، وفوضى ما بعد القصف وما أحدثه من دمار، وعكست مجموعتها اللونية أيضاً طبيعة الموضوع وتوصيفه، أما لوحة (الجريح) فقد أنابت في نموذجها عن ما خلفته هذه الحرب من جراح وإصابات نالت الكثيرين من أبناء المُدن العراقية التي تعرضت للقصف، وقد أتى مشهدها مُعبراً عن شخص يعلو وجهه ضمادات الجروح والإصابات بشكلها النموذجى الواصف لجرحى الحرب بعد مداواتهم وتجبير كسورهم، وأتت بتعابير الإنكسار للروح والجسد معاً في شخص الجريح، وعَبرت بقوة عن مفهوم الجرحى وما تخلفه الحروب من أثر في البشر.. أما العمل الثالث والمُعنون بُمسمى (خريطة الجسد الجديد) والذي عَبْرَ فيه بغاية القوة عن تحقيق الهدف من تلك الحرب، وهو الإضعاف والتفتيت وإعادة تَشكيل خريطة الوطن العربي، وتفريغ ما يحويه جسده من مواطن قوة ومقاومة، وإستبدال مُكون القوة بما يوازي الخواء، وإحلال الضبابية مَحل الوضوح، وفي جملة تلك التجربة البصرية (طير أبابيل) نستطيع أن نلمح مُنعطفا في طريقة مُعالجة المَشهد في تجربة محمد عبد المنعم، ونلحظ بوضوح إختزال المفردات، والجموح مع شمولية التعبير، وحضور اللون بقوة وبمزيج يجمع بين خشونة التداخل وسلاسة التعبير، وأضحت لوحته تتسم بغلبة التجريد المُشبع بالتعبير، والمتجاهل للتفاصيل لكونها صارت غير ذات ضرورة إذا ما قورنت بحجم الفجيعة.
- ويأتي العام (2005) بمفهوم جديد في تجربة محمد عبد المنعم البصرية من حيث (المضمون والموضوع) أو بالأحرى من حيث المفهوم والغرض، فتجربة (طير أبابيل) في 2003 كان مضمون العمل في لوحاتها ذو إرتباط وثيق بالمثير الإبداعي الواضح والمتبلور في أحداث (حرب العراق) وما صاحبها من تفاصيل لتتابع أحداثها، بل وما خلفته من أثار مباشرة، وما سيترتب على أثارها على المدى الأبعد ...إلخ، ولكن الأعمال التى أعقبتها وأنجزت خلال عامى ( 2006/2005) تأثر مضمونها بمثير إبداعي أخر داخلي ومستمد من فكر وإستنباط محمد عبد المنعم على نحو يوازي (الخيفة / الحَذر) من القادم، رغم عدم الوقوف على ماهيته وتفاصيله، فكان بمثابة عدم الأرتياح لأحداث الغد نتيجة معطيات الحاضر، والمتسمة بتسارع الأحداث في المتغير الإقليمي والذى إنعكس بالتأكيد على النمط السياسي/ الإقتصادي/ الإجتماعى/ والسلوكي، وأبرز نماذج وانماط جديدة وغير معهودة صدرت له تلك المُوجة من القلق.. وأحداث واقعه المُحيط الذى بات أكثر تسارعاً وإزدحاماً وتخبطاً وإرتباكاً وتصديراً للقلق العام والخوف من القادم المُبهم.
- فعلى تلك الخلفية ذات العلاقة بإستشراف محمد عبد المنعم أتت تلك المجموعة من الأعمال والتى عنونها ب(الخوف من القادم)، والتي لم تختلف في معالجاتها التقنية واللونية كثيراً عن أعمال (طير أبابيل) والتى كانت اولى تطبيقات أسلوب وفكر ما بعد البعثة في إسبانيا، وإن كان أسلوبه ما قبل البعثة قد تطلع إلى تلك الأداءات في تناوله لأعمال الطبيعة الصامتة ومعالجات لوحات الزهور، والذى إتسمت فيه اللوحة بتلك الأداءات المشبعة بالإنفعال والتحرر، وبات العمل التصويرى لديه ينزع إلى الرمزية المُشفرة أحياناً والمُبهمة أحياناً أخرى، وغلبت على لوحاته مُسميات (الخوف من القادم), و(تماثيل على قواعد) وأختتم تلك المرحلة ومجموعتها بتلك اللوحة المعنونة ب(حلم الصعود إلى الهاوية).
- ونلحظ فى أعماله الحاملة لمُسمى (الخوف من القادم) ذلك الأداء الإنفعالى الصارخ والمُحذر والمُستقرء فى كثير من الأحيان لما هو قادم من أحداث، كما نلحظ ذلك الإزدحام في اللوحات ونرى إزدحام المُسطح وإشغال السواد الأعظم من رقعته، والذى قد يكون مُعبراً عن التشاؤم وعدم وجود مساحة فارغة ترمز إلى (الأمل) والتفاؤل وإدراك الإصلاح، وغلبت على تلك الأعمال سخونة المجموعة اللونية والتي عكست سخونة الأحداث السياسية والإجتماعية والإقتصادية في تلك الفترة، ولا نغفل أيضاً تلك العشوائية في تعبيرية الخطوط وضربات الفرشاة وغلظتها، أما تلك المجموعة من الأعمال التى أدرجها تحت مسمى (تماثيل على قواعد) والتي أتت رمزيتها مُستمدة من الفكر المصري القديم في رمزية (القاعدة) والتي ترمز إلى (الأرض/ الوطن / الكيان)، وأتت التماثيل لتمثل رمزية (السلطة بما يُمثلها من حُكام وحكومات وشخوص وولاة الأمور وشخصيات تُمثل المرحلة)، وقد إنتهج فى صياغتها نفس الأسلوب المُسيطر على أدائه فى أعمال (طير أبابيل / الخوف من القادم)، وقد أضاف إلى بعض الأعمال مُعالجات لخلفياتها مستخدماً طين الأرض المُتشقق والذي أضفي الكثير من الرمزيات على مفهوم تلك الأعمال وأبرز تعطش واقعه المُحيط وشخوصه إلى مفهوم الأرتواء، وكناية عن إقتراب الأمور والأحداث من الوصول إلى حافة الإنهيار ومرحليات الذروة، وقد إختتم هذه المجموعة بواحد من الأعمال الهامة والذي أسماه (حلم الصعود إلى الهاوية) والذى أتت مصادفات المستقبل في مصر بحدوث ما في العمل من توقع وإستقراء بسقوط النظام السياسي نتيجة سوء تقدير الموقف.
- وفى المُجمل أجد أعمال محمد عبد المنعم فى تلك المرحلة قد أحدثت ذلك الإشتباك الواضح مع مُحيط وواقع أكثر إتساعاً، فإن كانت أعماله فى السابق قد تناولت حالاته الذاتية بإقليميتها المَحدودة نسبياً وذات الصلة بشخصه، فقد أضحت الأن تتناول واقعه المُعاصر وتقوم برصده وتتطرق إلى التنظير على مجرياته بل وتستقرئ مستقبله من واقع حاضره، وتشتبك معه إشتباكاً واضحاً من غير مُواربة، وما يُشكل هذا الحاضر من أحداث ومُعطيات ومُلابسات تفرز مزيجها، وتُمثل مُعادلات خلطها تلك النتائج التي آلت إليها الأحداث السياسية والإجتماعية في المستقبل القريب.
- ويستكمل محمد عبد المنعم في عام (2006)، إسترساله في جملته البصرية بما يوازى حالات (العصف الذهنى) والذى صاغه من خلال وسيطه البصرى المرسوم والمُصور، ليُقدم في نفس السنة ذلك المشروع البصرى المُميز والذي أدرجه تحت مُسمى (خلف النافذة `عن فكرة إنتظار الفجر الجديد `)، تلك المَحطة التي شهدت إنكبابه على مفهوم (الإنفراج) بمعناه العام والمرن، والمُتسع لإحتضان كافة المُنتظرين لطلوع الفجر، وقدوم النهار الجديد بما قد يحمله من أمال وإنفراجات ودعم وإنقشاع ضباب وإنجلاء هموم ...إلخ من مُسميات تُمثل مفهوم (الكَرب)، وقد عكست تلك التجربة إنشغال محمد عبد المنعم بتلك الظاهرة الإجتماعية التى طغت على السواد الأعظم من فئات المجتمع، وإن إختلف وتفاوت حجم الهموم وأسبابها والمُسببات التي تفرز تلك الأسباب، ما بين شخصى وعام, إلا أن إنتشارها أوجد سمة مُجتمعية تصلح لوصف أحوال الشخوص على إختلاف نوعية مشكلاتهم، وأتى مُنجزه البصرى على خلفية تلك الحالة السلبية الطاغية مُرتكزاً على رمزيتين أساسيتين وهما (الفتاة أو المرأة, والنافذة)، وأتت مُعالجاته التعبيرية فى رسم تلك المجموعة متشبعة ومتأثرة بأسلوبه القوي والمُعبر والمُميز في الكروكيات السريعة، والتي تلعب دوراً كبيراً في تجربته منذ بدايتها في منتصف حقبة الثمانينيات، والتي تطورت بصورة كبيرة ومميزة أثناء وبعد التحاقه بالفصل الدراسي الخاص بالرسم في جامعة (مدريد)، وأتت المُعالجة اللونية ومجموعتها في سياق موازي للحالة المفاهيمية للمُثير وهو العنصر الإنساني، بل وأرى من وجهة نظري أنه مارس من خلال درجات الأزرق الفاتحة والباهتة أحياناً نوعاً من الزهد الخاص بشخصه، وشعرت معه بجانب تطبيقى لبعض خواطره عندما وصف أهمية اللون الأزرق فى أعماله، وقام بطرح نظرته الفلسفية عن هذا اللون وأهميته كمعادلة وجودية، ذات أهمية بالغة من وجهة نظره، فقال فى وصفه: (اللون الأزرق فى فن التصوير .. هو مُعادلة وجودية .. كالأنهار العذبة التي تُلطف المُحيطات والبحار المَالحة حين تَصُب فيها فتتزن بها الحياة ولا تفسد.)، كما أجد من وجهة نظري أنه أحسن إختيار اللون من زاوية تناغمه مع لون السماء أثناء إختراق ضوء اليوم الجديد في أعقاب إنقشاع ظلمة الليل.
- وقد أتى أسلوبه التقنى فى تنفيذ تلك المجموعة مُصدراً تلك السلاسة في رصد التعبيرات الخاصة بالفتاة أو المرأة أبطال الأعمال، وإن كنت أرى أن رمزية الفتاة أو المرأة فى الأعمال ليست بالضرورة تقصد حالات خاصة بالفتاة أو المرأة بشكل عام، بل أجدها ترمز إلى الحالة الإنسانية والإجتماعية لواقع أناب فيه المرأة للتعبير عن حاله، ونجد تعابير الوجوه في تلك المجموعة قد إستهلكت كافة الحالات الطامحة والمتعطشة والمنتظرة للأمل القادم مع ميلاد الفجر الجديد، وأتت رمزية (المصباح الكهربائي) ليُدلل على زمنية الوقفة للفتاة أو المرأة خلف النافذة، كما وجدت تجرد الأجساد من الملابس ينم عن مفهوم الحقيقة العارية، المتجردة من أي مَظهر للتصنع والإدعاء، ولعب رمزية نصف (الشيش) دوراً ليس في تصدير مسحة الحذر بل بإنكسار حاجز الخوف في الزمان والمكان بين هذه الأجساد العارية وما قد يواجها خارج النافذة فهي لم تعد هنا شكلاً من أشكال السواتر التي تستتر خلفه الشخوص ممن قد يكون كاشف لها.
- وقد شملت تلك المجموعة مُعالجات مختلفة للون على نفس المفهوم، غلب فيها اللون الأحمر على جو العمل، كما ضمت تناولات للبورتريه على خلفيات مزخرفة وكذلك مُعالجات للرسم بالفحم لعَدد من الوجوه بتعابير مُختلفة في نفس السياق السابق، وكذلك مُعالجات للجسد البشري من خلال الصبغات (المونوكروم) على خلفيات الأكريلك الأحمر، وأتى اللون الأخضر التُرابي بدرجاته الفاتحة والداكنة في خلفيات بعض الأعمال المتناولة للجسد البشري والتى وصفها محمد عبد المنعم في مُسمى إحداها (الطلاءات المُتساقطة) والتى قد ترمز إلى وجوب التغيير والتجديد لإهتراء القديم وفقدان رونقه وتشقق سطحه الذي أدى إلى تساقط طلاءه.
- ولا زلنا في العام (2006) الثرى والقيم فى مُنجز محمد عبد المنعم، ولا يُمكن أن نُغادر مُنجز هذا العام المُميز قبل العُروج على إثنين من أعماله الهامة وهما (وقت القيلولة في مدينة ساحلية قديمة)، و(حلم الصعود فوق السحاب) واللذان حملا بناءاً قوياً للجملة البصرية وحضوراً قوياً لرمزية المفهوم وتعبيريته في كل عمل منهما، وكذلك التناغم الخاص بالجملة اللونية في كلا العملين، والذى أتى ليُعزز المفهوم ويثبت زمنية المَشهد وجغرافيته، بل وحرارة أجواء المَشهد في العمل الأول، وخيالية التصور ورمزية وسيلة الصعود فى العمل الثاني والمَدعُوم بِمسحة تجريدية عززت فكرة التمني المتخطية قوانين الفيزياء والطبيعة، وإن كان كلا العملين أجدهما من نماذج التعبيرية التى تُميز تجربة محمد عبد المنعم في عمومها، إلا أن العمل المُسمى (حلم الصعود فوق السحاب) أجده ذو نزعة تَميل إلى الحداثة في الشكل والمُعالجة اللونية التي تلعب دوراً بطولياً في اللوحة بفضل الحضور الطاغي لألوانها الساخنة والتي تجذب إنتباه المُتلقي بشدة، ولكني أجد الدراما في عمل (وقت القيلولة في مدينة ساحلية قديمة) هو من نفس أجواء الدراما التى ظهرت قبل عِقد من الزمان في أعمال (هواجس الليل والمقابر)، و(اللعبة) وغيرها من أعمال محمد عبد المنعم على مَر تجربته والتي تلعب الدراما فيها دور البطولة.
- وتُعد الجملة البصرية في مُنجز محمد عبد المنعم لتلك الفترة (2006/2005 )في عمومها جملة مفتوحة النهاية، أو بالأحرى مُؤجلة النهاية، فهى تُصْدر للمُتابع الجيد لها إستقراء وتُوقع محمد عبد المنعم لحدوث نتائج مُستقبلية لتلك الحالات التي قَدْمَها سواء تحت مفهوم (الخوف من القادم) أو تلك التي طرحها تحت مُسمى مجموعة (خلف النافذة/ عن فكرة إنتظار الفجر الجديد) وكأنه قد إستشف من مُعطيات تلك المَشاهد ما سيقع في التالي من السنوات، كما أجد أن تلك الأعمال المُنجزة في تلك الفترة هي من مكنونات الزُهد الوثير في مُنجز محمد عبد المنعم والتي تَوقفتُ عندها طويلاً للتَفكُر وإجترار الموازيات لمفهومه من واقعي ومن واقع من عَرفْتَهُم في رحلة الحياة، وهي درس? مُهما في أن المُمارس الحَاذق لفن التصوير يستطيع أن يُحول زُهد مُنجزه البصري إلى ذلك النص الفكري الغارق في البلاغة، ويُحدث من خلاله توثيق? لواقع وأحداث يُعبران عن لحظات فارقة ومِفصلية في تاريخ المُجتمع.
يتبع
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة 20-4-2025
محمد عبد المنعم (التجربة بين مَنهجية البحث وآلية التحليل)
- الحلقة (6)
- ونصل في تجربة الفنان/ محمد عبد المنعم إلى واحدة من المَحطات الهامة في تلك التجربة الدسمة والرصينة، وهي تلك المُحاولات والمُعالجات البصرية التي كانت نواة لواحد من المشروعات التشكيلية التي كُنت أتوقع لها ثراء المُنجز البصري الناتج عن مفهوم الفنان/ محمد عبد المنعم عن الموضوع مَحل المشروع، وهو مشروع (القرين) الذي واكب الشروع في تناوله من خلال أعماله التصويرية أثناء تواجده في منحة مراسم الأقصر في عام (2007)، فالتواجد في حيز (الأقصر) بثراء تاريخها وأثارها وموروثها الإجتماعىي والشعبي، ومجتمعها المُنحدر من عراقة يندر تكرار مثيلها، لهو بالأمر الإستثنائي لأي مُبدع، وما ينتج عن هذا الوجود في تلك الأجواء من شعور بالعراقة والعَبق والأصالة التي ينضح بها المكان، وما يواكب ذلك من ثراء في المًثيرات الإبداعية على إختلاف وتنوع وجودها، ملموسة كانت في شواهد وأثار، أو محسوسة كانت في ثقافة وعادات وتقاليد ومفاهيم وسلوك ومورثات تراثية وإجتماعية، وقد إستثار مفهوم (القَرين) فضول محمد عبد المنعم الباحث والمُثقف قبل الفنان والمُصور، لخوض غمار تلك التجربة المُستظلة بتلك المظلة الغيبية، فمُسمى (القرين) وتعريفه يقوم على الغيبيات في مطلق بحثه، وقد تناولته الثقافات المُختلفة بتعريفات متفاوتة الأهمية، إلا أن الثقافة المصرية بشكل عام القديمة منها والحديثة، وكذلك الثقافة الإسلامية قد أتت بتعريفات لها من الأهمية والتأثير أكثر من غيرهما وخاصة في مجتمعنا المصري، وإن كانت الثقافة المصرية القديمة والثقافة الإسلامية قد إتفقتا على تأكيد وجود (القرين) ككيان تابع بل ومُلاصق للإنسان ولكنه محجوب الشكل المادي وله من التأثير الكثير على الإنسان، ولكنهما إختلفتا في تعريف الوظيفة والعلاقة بين الإنسان وقرينه، فالثقافة المصرية ترى أن (القرين) هو كيان أقرب إلى صفة (الملاك) يرافق الإنسان ويلازمه مُنذ ولادته وطوال حياته ولا يموت ويفنى بموته، بل يرافقه في مرحلة ما بعد الموت في العالم الآخر ويلعب دوراً هاماً في إرشاده ويكون بمثابة دليله في العالم الآخر، بينما تؤكد الثقافة الإسلامية على تعريفها من واقع النص السماوي والمقال الإلهي في تعريف (القرين) بكونه شيطاناً من الجن يُولد ويُخلق بتزامن مع الإنسان، ولا يَموت إلا بموته، وهو المُحرض للإنسان على فعل الشرور، والمْصدر الرئيسي للإيحاء والوسوسة والإغواء على فعل السوء.
- وقد أتى تناول محمد عبد المنعم لهذا المفهوم (القرين) من زاوية عامة غير مُنحازة إلى كلا المفهومين، فقد إتفق مع كلاهما بالإقرار بوجود هذا الكيان المُلاصق والمُلازم للإنسان، والذي تمتد علاقته به إلى مماثلة أفعاله وترديد تصرفاته، ورغم كونه مختلف في ماهيته وكيانه وتكوينه، ورغم كونه محجوب وغير منظور للعين، إلا أنه يُماثله في الشكل والهيئة ويحاكيه في الملبس ....إلخ، بل ذهب فكر وتصور محمد عبد المنعم في أن هذا الكيان (القرين) غير مقتصر على الإنسان، فهو يذهب إلى ما عداه من مخلوقات كالقطط والهوام وكل ما هو مخلوق حي، والمشروع من وجهة نظر محمد عبد المنعم إنكب على فكرة حقيقة الوجود للقرين بشكل عام، ولم يتطرق إلى فلسفات ومرجعيات التأصيل لهذا الكيان وطبيعته، ملائكية كانت أو شيطانية.
- وقد أنجز محمد عبد المنعم عدد من الأعمال القليلة التي كانت بمثابة ردة فعله الإبداعية المُبكرة تجاه هذا المشروع (القرين)، والذي أرى أنه كان سيتطور مع تَعمق مُعالجاته التشكيلية تجاه هذا المفهوم، وخاصة في تلك الجُزئية التي يشتبك فيها هذا المُثير الإبداعي مع (الميثولوجيا الشعبية) عن هذا المفهوم، وما تذخر به من حكايات ورؤى وعقائد ومفاهيم متوارثة عَبْرَ الأجيال، وما تذخر به هذه المَفاهيم من ثراء الحكاية الشعبية عن (القرين) وخليطها الناتج عن إندماج الحقيقة بالأسطورة الشعبية وخيالها الجامح الذي يكسبها تلك الحالة من التشويق والفضول.
- ويبدو من تجارب هذا المشروع أن محمد عبد المنعم كان ينوي التركيز على المُعالجة للموضوع من زاويتين رئيسيتين، الأولى: هى تلك الزاوية ذات العلاقة بمفهوم وجود القرين سواء ذلك الملازم للإنسان، أو الذي يتبع أيضاً الحيوان، كما أتى لدى محمد عبد المنعم في عمل (القط)، أما الزاوية الثانية فهى زاوية الجانب التقني والذي أتى مرتكزاً على أسلوب الوسائط المُتعددة المدعومة بما إكتسبه من ممارسة لهذا الأسلوب سواء في بعض أعماله قبل البعثة مثل عمل (حاسب على نفسك `عن فكرة مائدة القرابين`) والتي أنتجها عام ( 1999) أو في تطبيقه لتقنية الطباعة من خلال أسلوب (الحفر الحمضى) والذى أتقن إستخدامه بغرض التوظيف له لخدمة مُعالجاته التصويرية من خلال الوسائط المتعددة، وقد أنجز عدد قليل من الأعمال لتجسيد الفكرة على مُسطحه التصويري، وقد أتت المُحاولات بدرجة كبيرة في التحرر من قولبة الأسلوب وأكسب المشهد لديه بُعداً فلسفياً في إطلالته، هذا البُعد الذي يدفع المُتلقى إلى الفضول والتساؤل من خلال التكرارات الحاصلة لأبطال الأعمال.
- ونترك العام (2007)، ونذهب إلى العام (2013) واللذان يتخللهما فترة من التوقف الناتج عن إنتقال الفنان والأستاذ/ محمد عبد المنعم للتدريس في كلية الفنون والعمارة بجامعة عمر المختار(درنة) بالجماهيرية الليبية، ثم تلك الإصابة التي لحقت بعينه والعودة بعد ثلاث سنوات إلى القاهرة التي كانت تشهد تغيراً سياسياً وإجتماعياً مفصلياً نتيجة لأحداث (يناير 2011) والتي عكست جانباً كبيراً من توقعات وإستقراء / محمد عبد المنعم في أعماله التي كانت ضمن مشاريع (الخوف من القادم)، و(خلف النافذة)، و(تماثيل على قاعدة) وما كانت تحمله تلك المشروعات من وجهات نظر ناتجة عن إنفعاله بتلك الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية في مصر خلال الحُقبة التي سبقت (يناير 2011)، والتي أتت بصدق حدثه في طرحه الفكري والبصرى خاصة في النصف الثاني من تلك الحُقبة (ما بعد 2005).
- ويأتى الظهور المتألق لمحمد عبد المنعم من جديد مع مشاركته المُميزة في (سمبوزيوم الأقصر الدولي لفن التصوير) في دورته (السادسة) لعام (2013)، والتي كانت واحدة من المَحطات المُهمة في طرح الفنان والباحث/ محمد عبد المنعم، كما أنني أجدها من وجهة نظري من المُشاركات القليلة التي حققت نجاحاً حقيقياً لأهداف (سمبوزيوم الأقصر الدولي للتصوير) على مَر دوراته الطويلة، والتي شهدت مُشاركات باهتة وتجمعات للتعارف بين الفنانين وقضاء إجازة في رحاب سيدة المدن (طيبة) والتي تعامل معها البعض في إطار( رحلة إلى القناطر الخيرية، وليس كفرصة فريدة لطرح وجهة النظر الفكرية والبصرية عن تلك المُعايشة الفنية المُهمة في رحاب التاريخ والجغرافيا والشواهد والمَعالم التي تختزل قصتهما.
- وقد خاض الفنان الكبير/ محمد عبد المنعم تلك المُشاركة من وجهة نظر مزدوجة، تضافر طرفيها في تتويج تلك المُشاركة بالنجاح والفعالية من خلال منجزيين، أحدهما (بصري) يتمثل في ثلاثة أعمال تصويرية هى ( رحلة عبر الزمن القديم / ذاكرة الزمن / ملك الشمس والقمر)، والأخر بحثي يتمثل في دراسة بحثية مُرتبطة بالنص البصري عنونها تحت مُسمى (ذاكرة المكان البصرية وأثرها في اللوحة بسمبوزيوم الأقصر الدولي السادس للتصوير)، هذا البحث الهام والذي يتميز لقابليته للتطبيق على تاريخ الأماكن وما تحويه من ذكريات وذاكرة, ومعالم وسمات، وقد حوت ورقته البحثية تطبيقاً على أعماله التصويرية الثلاثة المُنجزة خلال مشاركته الفنية بالملتقى، وقد عكس لنا محمد عبد المنعم من خلال تلك الأعمال مُعالجته المُعاصرة لموضوع كل عمل من الثلاثة من خلال أسلوبه المُتسم بالتفاعل والإنفعال مع المُثير، وليس من خلال المُحاكاة أو الإستلهام الساذج كما يفعل بعض المُشاركين، ولكن من خلال وجهة نظره عَبْر أسلوبه المُحمل بالعناصر الدالة والإختزالات المُوحية، وقد ذهب عبد المنعم إلى طرح (إشكالية) هامة ذات تأثير بالغ في إنجاز العمل الإبداعي بصفة عامة، وهى تأثير المكان على المُنجز الإبداعي، وأفتتح ورقته البحثية بتلك السطور المُختزلة لوجهة نظره ويقول فيها: `ألحت مَسألة (المَكان) في الفن على مجموعة من القضايا الجمالية، ولقد إتخذت الفنون من (المَكان) عنصراً أساسياً في بنائها، فقد ظهر في الرواية والقصة والقصيدة والمسرح والأوبريت والسينما والتليفزيون والفن التشكيلي، فالفن عندما يفقد (المَكان) فهو يفتقد خصوصيته، وبالتالي أصالته`، ثم شرع في تفصيل مفهومه عن المكان، وذهب إلى تعريفات (المكان) وفلسفات ووجهة نظر الأعلام في ثقافات مُختلفة، من مفكرين وعلماء ومبدعين قدماء كانوا أو معاصرين، وأفتتح تلك التعريفات ووجهات النظر بمقولة الفيلسوف الفرنسى الشهير (جاستون باشلار Gaston Bachelard) في مؤلفه (جماليات المكان) `إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يُمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تَحْيُز، إننا ننجذب نحوه لأنه يُكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية... فالخيال يُتخيل ويُغني نفسه دون توقف بالصور الجديدة، وما أود إستكشافه هو ثروة الوجود المٌتخيل`.
- وأردفه بمقولة الفيلسوف الفارسى (إبن سينا) عندما قال: `نحن نسمى ما يَحويه الجسم مكاناً` وأختتم بما قاله عالم اللغة (عبد القاهر الجرجاني) والذى جاء فيه: ` إن المكان فراغ مُتوهم يَشغله الجِسم أو ينفذ فيه أبعاده`.
- ثم تطرق في بحثه إلى الرابط بين المَكان والزمان وطبيعة العلاقة الرابطة بينهما، وتطرق إلى ما آلت أليه تعريفات (أنشتين - Albert Einstein (عن المَكان والزمان وطبيعة كل منهما وماهيته في نظريته الخاصة بالنسبية، ثم ألقى الضوء على تناول الفيلسوف الألماني) إيمانويل كانط - kant) لحقيقة المكان والزمان وطرحه لوجهة نظره عنهما` (المكان) إطار لحيز الأشياء، و(الزمان) إطار مُشابه لحركتها` وأشار إلى ما إستخلصه (كانط) من تعريف لهما `المكان هو الصورة الأولية للإدراك الحسي الخارجي، والزمان هو الصورة الأولية للإدراك الحسي الباطني، وهما صورتا الحساسية المسؤولتان عن إدراك كافة الصفات الرئيسية للظواهر والأشياء النفسية`، وأختتم إستشهاده بما أورده الكاتب والفيلسوف العربي (جميل صليبا) في مؤلفه (المُعجم الفلسفي) عن تلك القضية عندما قال: ` إن الزمان والمكان فكرتان متعانقتان أبداً، ويُعبر عن عنصر التفاعل ما بينهما `بالحدث` وإذا جمع بينهما في تصور واحد تَوَلدَ مِنهما مفهوم جديد يُطلق عليه إسم `الزمان_المكان`.
- ثم إنتقل في بحثه لدور المكان في إيجاد / إحداث `الفنون` والتي بدورها أسهمت في تطور البشرية وخاصة في العالم القديم، وكيف أنها ساعدت في تطور معرفته وتأطير علومها عن تلك المعارف، كما تناول الحديث عن الأبعاد الثلاثة للأشياء، ودور البُعد الرابع (الزمان) وتأثيره في الأبعاد الثلاثة من خلال الإستدلال على الحوادث والحركات بواسطته.
- ثم تذهب الورقة البحثية لمحمد عبد المنعم إلى مكانية الأقصر بإعتبارها المُثير الإبداعي المُحرك للنص البصري من جهة، وللورقة البحثية من جهة أخرى والتي يقوم من خلالها بتحليل للأعمال الثلاثة وتوصيف وشرح لمكوناتها من العناصر المُستمدة من مكانية الأقصر، وأجواءها والروحانيات الناتجة عنها في نفوس زائريها، وتاريخها المُفعم بالأحداث والشخصيات والأثار، وتوالي العصور عليها من القديم إلى الحديث، والذي أفرز له ولغيره من مبدعين تلك المُثيرات الإبداعية، وما يُميزها من مُعالجات للمعايير والضوابط، وما خلفته من تأسيس للهندسيات المعمارية، والأصول العقائدية، والتوثيقات التاريخية ....إلخ، وقد أتت صياغة الأعمال الثلاثة من خلال أسلوبه المُركب والجامع بين إنفعالية الأداء، ورمزيات الموضوع، وأعتمد الأصباغ والأكاسيد كعناصر رئيسية في خاماته المختلفة التي نفذ بها الأعمال الثلاثة كنوع من التأكيد على السير على نهج من أبدعوا جدران الأقصر من فنانين قدماء، سواء في عمارتها الدينية أو الجنائزية، وقد دعم البحث بتلك التحليلات الخاصة به لكل عمل لإستيفاء هذا الجانب التشريحي للعمل التصويري، من توزيع للعناصر ومساحات الفراغ والمجموعات اللونية... وغيرها وكذلك بتلك الصور الضوئية المُعززة لوجهة نظره البحثية، ولم تكن تلك التحليلات المُلحقة بالورقة البحثية (ذاكرة المكان البصرية وأثرها على اللوحة) هى وليدة هذا البحث الهام، فكنت قد توقفت كثيراً طوال إستعراضي وقراءتي لتجربة الفنان والمبدع / محمد عبد المنعم تلك التحليلات الخاصة بأعماله، والتي كان يحرص على القيام بها منذ سنوات الدراسة الأكاديمية الأولى، والتي كان يعود أدائها من خلال رسوم توضيحية مُلحقة بملاحظات وشروحات تُعبر عن وجهة نظره في تحليل ما قام بإنجازه من تكوينات أو خطوط أو حلول مساحات، أو تلميح إلى مضمون.. إلخ.
- وربما أتت البداية من منطلق المتطلبات البحثية النظرية المُكلف بها في مراحل الدراسة، والتي أجبرته على العودة لنماذج من مُنجزه الإبداعي للإستعانة بها كنماذج للبرهنة على فرضياته وأداءه البصري في أبحاثه المُقدمة للحصول إلى إجازات علمية أو ترقيات وما إلى ذلك من متطلبات ذات علاقة بطبيعة عمله كباحث ومدرس للفنون، ثم أصبحت في بعض الحالات المُميزة والمُصاحبة لأعمال بعينها مَثلت أيقونات في تجربته، فصارت كَمُلحق يلي إنقضاء العملية الإبداعية، وقد ترددت كثيراً في تناول تلك السمة في السلوك الإبداعي للفنان/ محمد عبد المنعم، فهو لا يردف تلك التحليلات عقب كل عمل، ولا يستنبط منها حلولاً ونتائج يُعيد إستخدامها في لوحات جديدة، ولا تؤثر في كل الأحوال على قراره الفني تجاه العمل، كما أنها من وجهة النظر العامة تُعد تقيماً ذاتياً أحادي النظرة ومنكب على تقيم الذات، ولكن بمطالعتي لها وإمعاني في دراسة محتواها، وجدت فيها درجة كبيرة من الأهمية في كونها مُدخلاً لطريقة التفكير والتناول لدى محمد عبد المنعم، فالعمل الإبداعي لديه لا تَحكُمه المنهجيات سابقة التجهيز، ولحظة لقاءه مع المُسطح الأبيض للعمل تكون بمثابة نزال في حلقة مًغلقة تحكمه قوانين الإنفعال من فعل ورد فعل، ويستمد ذلك الإنفعال من هيمنة المًثير الإبداعي وما يتعلق به من شكل وكم وكيف وتفاصيل محيطة وظروف مؤثرة، وتلك العملية التحليلية التي يقوم بها، ما هى إلا نوعا من (الهندسة العكسية للتفكير) إن جاز التعبير، رغم إفتقادها للغرضية الخاصة بالهندسية العكسية والتي توظف عادة لإدراك البناء النوعي بغرض نسخ (الفكرة) أو الإرتكاز على مفهوم بنائها لإعادة إنتاج مَثيل لها، أو بالأصح نوعاً من التحليل العكسى بغرض التشريح والتفكيك للمُركبات البصرية التي تكونت من جراء ما يُمكن أن نَطلق عليه (الأدائية) التى أنتجت هذا التكوين.
- واستخلصت من تلك التحليلات أهمية مفهوم البحث وممارسته لدى شخصية محمد عبد المنعم، ليس كونه مدرساً لفن التصوير، بل كونه مبدعاً منكباً على فعله وأداءه، ولا تنقطع صلته بالمُثير بمجرد إكتساب شحنة إنفعاله به، بل تمتد لما بعد تفريغ تلك الشُحنة وتمريرها إلى مُسطحه متشربة ومتشبعة بأداءه المُحدث للنص البصري بمحتواه الكمي والكيفي.
يُتبع
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة 5-5-2025
محمد عبد المنعم (العودة إلى الدراما عبر سيناريوهات الغد)
- الحلقة (7)
- إستعرضنا في الحلقة الماضية ذلك الجانب البحثي في تجربة / محمد عبد المنعم الفنان والباحث والقارئ والمثقف وصاحب الفلسفة ووجهة النظر، والتي بالتأكيد لها من الإيجابية والتأثير في مُنجزه التشكيلي بشكل عام والتصويري بشكل خاص. كما إستعرضنا ذلك الشِق التحليلي للعمل التصويري في أبحاثه والذي ينتهج فيه أسلوب التفكيك العكسي للمَشهد، والذي مكننا من الإقتراب من أسلوب تفكيره في مُعالجة المُسطح الأبيض وتسكين مَشهده داخل إطاره الحاوي، وتعرفنا على أهمية إنفعالية الأداء لديه في مرحلة البعثة وما بعدها، ومدى تأثيرها على أسلوب الرسم لديه والذي كان يسبب لي شخصياً نوعاً من التوتر الموازي أثناء مُطالعة العمل (اللوحة) ومحاولة قراءته، وكنت أشعر بأنني شاهداً لتنفيذه للعمل، ومتخيلاً لأدائه الحركي أثناء صياغته له، كما تيقنا من مدى تأثير نزعته التجريبية في إثراء اللوحة لديه، ومنحها تلك الدسامة والحضور، وجعلها قابلة ومُرحبة بتقنيات الخامات المُختلفة، وفصلها عن عالم الرتابة والتكرارية رغم سيطرة المجموعة اللونية على الغالب من لوحاته. ورغم ميلي الشديد إلى أعماله ذات الصياغات الواقعية وكذلك التعبيرية المقروءة نسبيا، إلا أنني تعاطفت بشكل كبير مع تلك الحالة الإنفعالية في بعض المجموعات، حيث أجده قد نجح إلى حد كبير في إيجاد التناغم بين إنفعالات أداءه وبين موضوعات الطرح والتناول، ومفهوم تلك الموضوعات التي يتناسب مع أسلوبية التنفيذ، ويُعبر كذلك عن مدى إنفعاله وتأثره بالمُثير الإبداعي في كل عمل دون إفتعال.
- ويأتي العام (2013) ليستأنف/ محمد عبد المنعم من جديد تجربته الإبداعية عقب مشاركته في (سمبوزيوم الأقصر الدولي السادس للتصوير) والذي إختتمه بورقته البحثية الهامة (ذاكرة المكان البصرية وأثرها في اللوحة)، ولكن يأتي هذا الإستئناف مُحملاً بالجديد كعادته سواء على مستوى الطرح الفلسفي والمفاهيمي، أو سواء على مستوى النقلة البصرية (والتي سيطرت فيها الدراما على مفاصل العمل التصويري لديه) في الأسلوب والمُعالجة التقنية سواء للوسيط اللوني أو للموضوع وتفاصيله ومكوناته وعناصره وسينوغرافيته (scenography) في عُمومِها، وأتى ذلك الإستئناف حاملاً معه هذا التألق المعهود في عموم تجربته، إلا أنه زاد عليه هذا الحُضور المُلفت لإطلالة كل عمل على حده من مجموعته الجديدة، والتي بات كل عمل فيها له حُضوراً موازيا لحضور (الأفيش) السينمائي، بما يَحمله من تشويق وجذب وإبراز (للبطولة)، سواء كانت للمفهوم والموضوع، أو للأسلوب والأداء التصويري الجَامع بين الرشاقة والبلاغة، والأهم من ذلك كله هو عودته لممارسة ذلك الإستقراء المُتمثل في محأولات (قراءة القادم من خلال مُعطيات الحاضر)، هذا الإستقراء الذي يَطغى على جُملة مُنجزه ويُميزه ويتفرد به، وذلك من خلال إعمال بديهية منطق (البدايات والنهايات)، ولا يُمكن أن نغفل تلك النزعة (الدراما التعبيرية) الواصفة لحال العناصر في مَشاهد هذه المَرحلة، وما نَالَ غالبية العناصر من تحليلات تميزت بقوة التعبير وبساطة المُحأولات الناتجة عن تراكمية الخبرة وهضم المُكتسب منها، والتي عكست في قوة دور ووظيفة كل عنصر في المَشهد، وأهميته في إثراء البُعد الدرامي الذي وصل في بعض الأعمال إلى ذروة المأساة (التراجيديا tragedy) التي ينجح في إستخراجها من خياله المُستقرء للمَشهد، وفي البعض الأخر إلى غاية (الميلودراما melodrama) التي قد يفرضها هو نفسه على المَشهد.
- وقد منحه مفهوم اللوحات وفلسفته في طرحها تلك المساحة الرحبة في تلك المُعالجات، لكون المفهوم والفلسفة الخاصة به ذات بُعد جمعي، يَقبل قوالب ذات شَبه بالحوادث والأحداث المَلحمية، وقد أتت جُملته البصرية في تلك العودة في غاية التراكبية والتعقيد دون المَساس بالإستساغة في عين المتلقي، ليوجد لنا في تلك المجموعة المُميزة والتي أدرجها تحت مُسميات (لا يوجد إتصال / مَشاهد على خلفية التُراث / سباحة مع بقايا من زمن آت)، تلك العنونات المُعقدة والمُركبة فكرياً ومفاهيمياً، والتي سنأتي على تناولها بصورة أكثر إستفاضة وتوضيح، وما أضافته لتجربته من بُعد في غاية التميز والتفرد من الزاوية الخاصة بالمفهوم، كما أتى الأسلوب الفني في المُعالجة للموضوعات في غاية التناغم مع البُعد المفاهيمي، وأتت المُعالجات الفنية (النوعية) للتفاصيل والعناصر لتمنح اللوحة لديه ما يوازي (تلك الرتوش) الخاصة المُحملة بجيناته الإبداعية. ورغم قوة المُعالجة للتفاصيل في تلك المجموعة والتي أتت لتُمثل مَحأور رئيسية في المَشهد، وتْحمل مقومات وسِمات أدوار البطولة، إلا أنها تضافرت معا (سينوغرافيا Scenography) لتَمنح البطولة إلى المَشهد في مُجمله ليُجسد الموضوع ويُحدث إسقاطاته على مفهوم النص البصري.
- وننتقل إلى فلسفة تلك المجموعات المُميزة والذي أتت على خلفية نزعة محمد عبد المنعم (الإستقرائية) في غالبية لوحاتها، والتي مارسها سلفاً في مطلع الألفية الثالثة، من خلال مجموعات مثل (خلف النافذة)، و(الخوف من القادم)، وكلاهما كان يُصَدْر هماً مستقبلياً ذو مَحدودية إقليمية، بينما أتت المجموعة الجديدة ذات بعد إنساني يَحمل شمولية عالمية، ونتوقف هنا قليلا عند مفهوم (الإستقراء) كمُثير لدى محمد عبد المنعم، فغالبية المُبدعين يُمارسون ردة الفعل تجاه المُثير على خلفيتين لا ثالث لهما، الأولى وهى خلفية `الماضي` بمكونه سواء كان الشخصي أو العام، وبما يشملانه من أبعاد تاريخية وحضارية، وما يَعْجان به من تفاصيل وفرعيات، وكذلك ما يميزهما من أصالة وعَبق ومرجعية وتأصيل، أما الثانية فهى خلفية `الحاضر` وما يُمثله من مُعاصرة وتفاعل ومُشاهدة، وما يذخر به من حداثة وتطور وُمعايشة ومُمارسة، وما بين كِلا الخلفيتين من نِزالات ومقارنات وتنظير ونقد تأتي التنأولات والمُعالجات الإبداعية بشكل عام، أما في حالة / محمد عبد المنعم ومن هم على نهجه من قلة تَحمل أفكارهم هذا التمرُد على نَمطية التناول، وتنزع حلولهم الفكرية إلى الجمُوح خارج مِضمار المنطقيات النَمَطية، فهم يُمارسون رصْد المُستقبل وتحليل مُعطيات الحاضر لإيجاد مُثيرات إبداعية مُستنتجة ناجمة عن الفرضيات المُستبعدة، والوقوف على إشكاليات يتوقعون طفوها على السطح في المستقبل على إختلاف صفته، قريب كان أو متوسط أو بعيد، وتلك الخلفية الإستقرائية تَمنح هؤلاء المُبدعين حُرية مُطلقة في مُعالجة العناصر والتفاصيل بما يجدون مناسبته للمَشهد، تلك الدرجة من الحرية التي يَحظى بها (السورياليين) في معالجاتهم التي تنطلي على مُبالغات مُطلقة كاسرة للأطر والمَحدوديات.
- وقد حملت تلك المجموعة الجديدة والتي عنونها تحت مُسميات مِثل (لا يوجد إتصال / سباحة مع بقايا من زمن آت / وغيرها من أعمال مُمثلة لنبوءات التراث في وصف أحوال إنهيار الحضارات) نقلة ملموسة ذات وضوح من حيث الصياغة التعبيرية ذات المَسحْات السوريالية، وكذلك تلك الأجواء الدرامية ذات الصخب البصري رغم رمزية المَشهد، وقد إستعرض من خلالها الفنان/ محمد عبد المنعم مهارته في التعبيرية عَبْرَ بساطة الحُلول من خلال مهارة إستخدام تقنيات ك (المونوكروم monochrome) والتي لعبت دوراً في غاية الأهمية في الدراما الخاصة بالجو العام للأعمال وأبرزت بطولة الكثير من العناصر، والذي أتى مندمجاً بسلاسة مع تلك المرونة في الخطوط والتي تحررت من حدة الإنفعالية السابقة في مجموعات (طير ابابيل / تماثيل على قواعد) والتي أدت دوراً خدم تلك الحالة الدرامية، وما بها من تلك الصِبغة التراجيدية التي أحاطت باللوحة وخدمت الموضوع وما يَرمُز إليه من مفاهيم للصدمة والفجيعة والذهول ...إلخ ، وقد إستدعى عبد المنعم من التراث ما خَدم طرحه من خلال نماذج لوحات مثل ( الشاخصة ابصارهم / الخاوية على عُروشِها / يوم فار التنور... وغيرها)، والتي تتنبأ وتُنذر بالمَصير الناتج عن الحِياد عن الفطرة، وتٌقر السُنة الكونية في صعود وهبوط وإنهيار المجتمعات والحضارات، ولكنه إفتتح تلك المجموعة بأعمال ثلاثة هامة وهى (لا يوجد إتصال / SOS لا تعمل / خارج الزمن الأرضي) تلك الأعمال الثلاثة والتي لا شك أننا تعرضنا جميعا لطرحها بشكل جزئي وفردي، وما لمسناه من نتيجة وحالة لخوضنا تلك التجارب، وما أحدثته في خط سير حياتنا من جمود وإرتباك متفاوت، وما نستطيع أن نطلق عليه فقدان الإتزان الحياتي، ولكن محمد عبد المنعم يُصَدْر لنا فرضية النَكبة الجماعية وما سيترتب عليها من نتائج ستتصف بغالبية الأوصاف التي قد تَندرج تحت مُسمى (الكارثية)، وقد إختتم تلك التجربة بمُعالجة قوية لإحدى عشر مَشهد يُمثلون نتائج إنهيار الشكل الحضاري المُعاصر، والنَسْق العالمي والإنسانى نتيجة مُسببات مختلفة، من حروب عالمية تَخرج عن السيطرة والإحتواء، أو إنفلات للمُحدِثات التقنية من مفاعلات أو حروب بيولوجية، أو غضبات وثورات للطبيعة يَعجز الإنسان عن مُجاراة نتائجها، أو التعامل مع قوتها الغاشمة والمُبيدة، ولا يتبقى من الشكل الحياتي والدنيوي والكوني سوى تلك البقايا ومُخلفات الهَباء المنثور، وما يوازي ما تقذفه الأمواج من طرح البحار من أخشاب لعمارات (سُفن) سحقتها العواصف والأعاصير، ورغم ما يَحْملُه طرح / محمد عبد المنعم من مَشاهد صادمة ومقبضة وروايات درامية سوداء، أتت على السواء المُعالجات الفنية الخاصة بالرسم في غاية الجمال من الناحية التشكيلية، وأتت المُعالجات اللونية طازجة وتعكس تَمْكُن محمد عبد المنعم من مهارات التلوين، وطغت النزعة السينمائية على كافة المَشاهد من خلال ما صدره لنا من أجواء وإضاءات خدمت المفهوم وما عَبَرَ عنه من موضوعات.
- ونقترب أكثر من أعمال تلك المرحلة والتي انجزها في السنوات (2013 /2014 /2015)، والتي أجدها على مراحل ثلاث، سنُلقي الضوء على النماذج الرئيسية في كل مرحلة وسنتناول بالقراءة النصوص البصرية لموضوعاتها، والمُعالجات التشكيلية والتقنية التي صاغ من خلالها عبد المنعم هذا المُنجز المُختلف والمُميز والمُتفرد والحامل لخصوصية فكره وموهبته، ونستهل تلك المراحل بتلك الأعمال التي طرح من خلالها ما أستطيع ان أطلق عليه (إنهيار وسائل الإتصال) إن جاز التعبير في وصف تلك اللوحات، والتي أتت لتضع توقع لإنقطاع وسائل الإتصال والتواصل الرابطة بين البشر على هذه الأرض، والتي أصبحت عَصب رئيس من أعصاب الحياة المُعاصرة، والتي تجعل من العَالم الفَسيح بقاراته ومحيطاته وبِحاره وفضاءه المُتْسع قرية صغيرة، وأتى تصوره لهذا التوقع من خلال صياغه تجنح إلى التناول والمُعالجة المُعاصرة للمُسطح، ولعبت الرمزية والنص المَكتُوب في صراحة ووضوح لبعض الإختصارات التي ما أن تقع العين عليها، فنجدها تُجْبِر العقل على إجترار شروح وتفاسير ودلالات تلك الإختصارات، وأتت الشخوص في تلك الأعمال حَبِيسة ومُكبلة ومُقيدة لا تملك الحِيلة في إيجاد المَخْرَج ووسيلة وسبيل النجاة، وقد وقع إختياري على عمل (لا يوجد إتصال) أحد النماذج المُمثلة لتلك المجموعة الهامة، هذا العمل الذي يأتي في قياس مُستعرض بمساحة (110×75,5سم) وبتقنية الخامات المُختلفة على التوال وأنجزه في عام (2013)، وأتت مُعالجته لوضعية الشخصية الإنسانية والتي ربما تُمثل الحضارة البشرية المُعاصرة قابعة خلف سياج أحمر ويضغط على جانبي رأسها ما يُشبه صخرتين، ويَحْد اللوحة من الجانبين ما يوازي جدارين رماديين من الإسمنت تَرصع كل منهما بنصوص باللون الأحمر الاكسيد لمجموعة من الإختصارات الشهيرة، وأسماء لمواقع تواصل إجماعي ذات إنتشار وشعبية، وقد ضمت النصوص على الجدارين عددا من أهم الإختصارات والتي تُمثل ضرورات في واقعنا المُعاصر مثل (SOS ) والتي تُعد الرمز الأشهر لنداءات الإستغاثة العالمية وتعني (أنقذوا أرواحنا / أغيثونا)، والتي تُعد إشارة إجرائية وإحدى العلامات الأشهر في عالم (مُورس Morse) الإشاري، ويأتي إستخدامها كعلامة مُنبهة في بداية الرسائل التي يَطْلِب نصها الإستغاثة، وتَطْلُب المُساعدة لإقتراب فقدان النفوس والأرواح، أو قبيل الخسارات الكارثية، وكذلك رمزية (@itu. Int)، والتي ترمز إلى (الإتحاد الدولي للإتصالات) والذي تأسس في سنة (1865) ويقع مَقْرُه في (جينيف بسويسرا), وكان يَهدف في نشأته إلى تأسيس شَبكِة ربط بين شَبكات (التليغراف) في البلدان المُختلفة، ثم أصبح تابعاً للأمم المُتحدة عام (1947)، وتطورت أهدافه مع تطور التقنيات الخاصة بالإتصال وهو من المؤسسات المُشجعة على الإستخدام الدولي المُشترك ل (الطيف الراديوي)، ويساعد في تطوير وتنسيق المعايير التقنية العالمية للإتصالات... وغيرها من الأمور الفنية لعالم الإتصال، وكذلك رمز (DSC) والذي يأتي رمزاً مُعاراً للفكرة التي يطرحها الفنان / محمد عبد المنعم(Digital Security Controls) وهي شركة رائدة عالمياً في مجال الأمن الإلكتروني, منذ تأسيسها كان خبراءها رائدين في هذا المَجال وكانت مهامها تشمل ضوابط الأمن الرقمي وأسماء المستخدمين وكلمات المرور، وبرامج مكافحة الفيروسات، وجدران الحماية, وتشمل أيضاً ضوابط الأمن السيبراني.. ويأتي هذا الرمز وإسقاطه على الموضوع كنوع من الحلول من وجهة نظر / محمد عبد المنعم في ضرورة إيجاد بديل تلقائي للتواصل في حالة ما حدثت كارثة سببت إنقطاع الإتصالات، كما أتت أسماء لمواقع التواصل الاجتماعي والتي تُعد إحدى وسائل الإتصال الأسرع في عصرنا الحالي وما لها من تأثير ومُتابعة وتفاعل على مدار الساعة.
- لقد قام محمد عبد المنعم في هذا العمل بتحميل المُسطح بالعديد من الرسائل والجُمل المفاهيمية عَبْرَ أسهل الوسائل وأبسطها وبصورة تعكس هضمه للفرضية ووعيه بكارثية الأوضاع إذا ما وقعت، ووضع الشخصية المُمثلة للبشرية في تلك الجُملة البصرية في مُعضلة موازية للسجن، وما يَفعله بالمَسْجون من تكبيل للحُرية ومحدودية للحَركة وسلب لإمكانية التصرف، فبات مُستكيناً ومُستسلماً وقاصر الحِيلة. وبالإلتفات إلى عمل آخر هام من تلك المجموعة وهى اللوحة المُسماة ( (SOSلا تعمل، والتي أتت في نفس القياس (110×75,5سم)، ولكن في إستطالة وتُمثل سيدة جالسة في إلتفاته، ربما يَقصد بها الحضارة، وهي مُحاطة بمربع فارغ أو داخله ويكاد يكون كقالب حاوي لجسدها لا يُمْكِنها من الحَركة ولكن يسمح لها فقط بتلك الإلتفاته، وخلفها جدار على شكل مربع فاقد لأحد أضلاعه، وفي عُمق الخلفية نجد ما يُعبر عن سماء مفتوحة تتخللها أشكال غير واضحة تصدر نوعاً من التفتت والإنكسار والتشرذم للعناصر، وشكلاً يُحيط برأسها يُشبه العَنكبوت الضخم، وأتت الجدران في جوانب اللوحة تَحمل خدوش ورسوم لما يُشبه الأسماك والعيون المُحدقة، وأتت نصوص الإختصارات وأسماء المواقع على الخلفية لتأكيد المفهوم الخاص بالموضوع كما في عمل (لا يوجد إتصال)، وقد أتت المجموعة اللونية في هذه المجموعة على نفس وتيرة المجموعة اللونية التي تميزت بها أعمال / محمد عبد المنعم، فأتى العُمق المُمثل للخلفية المُعبرة عن السماء بدرجات اللون الأزرق البحري (ultramarine) الحاضر بقوة في أعمال عبد المنعم، وأتت رسوم الشخوص بتدرجات اللون الأصفر (الأوكر Ochre) وبأسلوب المونوكروم (أحادي اللون) والذي تلعب المُذيبات دورها في مَنْحه التفاصيل والأبعاد، ذلك الأسلوب الذي يُبرز مَهارة الرسم في تلك المَرحلة ويَخْدم الحالة الدرامية التي مَيزت تلك الأعمال بصورة واضحة.
- وننتقل إلى العام (2014) والذي تتطور فيه تلك التجربة وتتزايد فيه الدفقة الإنفعالية لتناول المفهوم، وذلك الإسهاب من محمد عبد المنعم تجاه المُثير، وذلك من خلال إجترار عبارات مأثورة سواء من النصوص السماوية أو من المأثورات التي أتفق عليها الوعي الجمعي البشري على مَرْ العُصور، وذلك عَبْر ما تصوره عقله وخياله من مَشاهد وحالات من التُراث قابلة للتناغم مع كافة العُصور ومُختلف الأزمان، كونها ردات فعل بشرية ونتائج حَتمية لتصادم الأضداد، كمفهوم البدايات والنهايات، وكذلك مَنطق الحياة والموت، وموقف الحركة والسكُون ....إلخ من المفاهيم ثنائية القُطب، وما لكل هذه الأضداد من صدامات وصراعات تؤدي في النهاية إلى نفس النتيجة مع إختلاف السينوغرافيا Scenography)) المُشكلة لكُل منها، كُل حسب زمنه وظرفياته وتفاصيل عصره وسمات وقته، وقد أنجز على خلفية ذلك المفهوم عدداَ من الأعمال المُميزة والتي إتسمت بتلك التراكبية وهذا التعقيد الذي طال التفاصيل والأبعاد، ونجح إلى حد بعيد في تنظيم تلك الحالات من البعثرة الواضحة للعناصر المُوظفة في كل مَشهد، بما يخدم التصور العاكس للمُسمى الخاص بالمفهوم الذي إستثاره، وقد أنجز على تلك الخلفية عدداً من اللوحات مثل ( الشاخصة أبصارهم / ويوم فار التَنور / الخاوية على عُروشها / لا مَحيص / السكُون والحَركة / نظرة مُتجمدة خلف قناع واق / ذوبان الوجه الكبير)... وغيرها من الأعمال التي تفرعت فلسفتها من ذلك المفهوم، ويبدو أن عبد المنعم لم يكتفي في تلك التجربة بما ذكرته النصوص والمأثورات في ثقافته المصرية والعربية من تناول للمفهوم، بل ذهب في بحثه الفكري عن وجهة النظر البشرية لمفاهيم قريبة الشبه في ثقافات مُختلفة، فيذكر محمد عبد المنعم في تحليله لعمله (الشاخصة أبصارهم)، مقولة عَالِم النفس السويسري (كارل جوستاف يونج / Carl Jung)
- `إن الفنان يَميل إلى الفن بفطرته التي تتوافق مع إيقاعات سلوكه وتكوينه الفسيولوجي نتيجة حسه المُرهف تجاه الأشياء من حوله، فإنه أقدر على تَلمُس مادة اللاشعور الجمعي، ثم التعامل معها بهيئة رموز يُشهرها في نتاجه الفني، إذ أن هذه الرموز والمَفاهيم تبَقى لقرون عديدة موضع تَغْير وتطور شديد الحرص وبوعى تام`.
- وقد أكد عبد المنعم في إستشهاده بتلك المَقُولة على ما ذكرناه سابقاَ من كُون الإشكالية الخاصة بالصراع البشري والإنساني مع الحضارة والتطور وما يُمثلهما من أحداث وعناصر ورموز مُتشابهة في مضمونها وإن إختلفت أشكالها وتنوعت وتفاوتت رموزها حسب عصرها وزمانها، فقانون النهايات واحد ولكن تختلف أسبابه ومُسبباته وأشكاله ورموزه، ولكن تبقى ردات الفعل البشري من صدمات مُلجمة تبث ذلك الجمود والتَصْلُب للعقل والفكر الإنساني الذي تَعود على أن يُلهيه الأمل في التَعَلُق بأطواق النجاة، ولكن هذا النوع من الصدمات يجعله جامد العقل مَسلوب الفكر والإرادة.
- وقد تميزت تلك المَجموعة بطُغيان تعبيرات الصَدمة على وجوه شخوصها، ورغم ما تحمله الأعمال من بُعد درامي إلا أنها تُبْرز أيضاً ذلك الجُمود وتلك الصَدمة ونشعر معها بثبات المَشهد وكأنه لن ينتقل إلى مَشهد تال، فالحدث أكبر من أن يُبقى على شخوص ستعيش مَشاهد تالية، ونَشعر مع كافة المَشاهد في تلك الأعمال بذلك التَخبُط وهذا الإرتباك وتلك الفوضى وذاك التناثر للمُكون الحياتي من إنسان وجماد وطائر وحيوان... وأبرزت كافة الأعمال بأنه لا وجود ليابسة، فقط مياه تظلها سماء وكأننا في تراجيديا موازية لطوفان (نوح عليه السلام) في أول الزمان، وقد نجح عبد المنعم لدرجة كبيرة في إبراز ذلك الشعور لدى المُطالع لتلك الأعمال، هذا الإحساس الذي سيتأكد مع مجموعة (سباحة مع بقايا من زمن آت)، وانقسمت درجات اللون الأزرق في تلك المجموعة ما بين درجات زرقاء في أسفل اللوحات، يتداخل فيها مسحات الأخضر والأصفر والأحمر والأسود، فأتت مُعبرة عن كونها مياه غامرة لمظاهر حياة تقبع تحتها نتيجة فيضان أو ما شابه، ودرجات أزرق في الخلفيات وأعلى اللوحات وأتت مُشتقة من الأزرق البحري والتي صَدرت لنا تعبيرها عن السماء والفضاء الذي يَعلو الأرض بشكل عام، وبينهما أتت الوجوه والشخوص النصفية وكأن الأمر قد تَم والكارثة قد حَلت والجميع عَالق مَشدوه من هَول الحَدث على إختلافه في كل مَشهد، ونلحظ في تلك المجموعة تصاعد المُعالجات الخاصة بالشخوص والوجوه والعناصر والمُفردات والتي صارت أكثر ميلاَ إلى التعبيرية المقروءة والمُصدرة للحال ومأساوية الأحداث، وتأتى لوحات مِثْل (الشاخصة أبصارهم / ولا مَحيص) كنموذج عام قابل للتطبيق على كافة الموضوعات الخاصة بمفهوم الصدمة على مر العصور، بينما تأتى لوحة (نظرة متجمدة خلف قناع واقي) لتتناسب أكثر مع فرضية الكارثة المُعاصرة أو المستقراءة في موضوعات طرح محمد عبد المنعم، ولا نستطيع أن نُغفل دور العناصر المُكملة للمَشهد والتي لعبت فيها (السمكة / الثعبان) دوراً أكبر من غيرهما ولغرضية ستتضح مع تناولنا لمجموعة (سباحة مع بقايا من زمن آت).
- نصل إلى المجموعة الأخيرة في تلك التجربة المُهمة للفنان / محمد عبد المنعم والتي أتت على خلفية نزعته الشديدة في إستقراء المُستقبل من خلال مُعطيات الواقع وأحداثه وملابساتها، والتي أثبت الوقت بعد مرور عشر سنوات على إنجاز تلك المجموعة بأن إستقراء مفهومها قد أتى من خلال حساب منطقي لمُعطيات الواقع، ولم يأتى من خلال مجرد نظرة تشاؤمية صدرها محمد عبد المنعم ومن هم على وتيرة تفكيره من مُبدعين، وهى مجموعة (سباحة مع بقايا من زمن آت) والتي عنون بها معرضاَ شخصياً له في قاعة (مشربية) للفن المعاصر بالقاهرة في عام 2015، تلك المجموعة التي وَجْدتُ فيها بعداً أدبياً في تناول قصة مُتخيلة أو مُتوقعة، فقد أتى تناوله كفنان تشكيلي في درجة من الشَبه من تناول الكاتب الأديب، والذي يَطرح نصه المَكتُوب على خلفية مَعايير البناء الدرامي، من فرضية (مقدمة)، ثم أحداث تتفاوت صعوداً وهبوطاً، ثم تَحْدُث المُعضلة (العُقدة)، ويليها الحَل الذي يَحْمِل في طياته النهاية سعيدة كانت أو غير ذلك، فنجد عبد المنعم قد بنى المُقدمة فيما يُشبه مُعطيات الواقع وأحداثه وقام بإغفاله بصرياً في الأعمال وكأنه قد بناه للمجهول كالقاعدة النحوية، وبالتأكيد هو يُنْسبه كناية للبشر كصانعي المُعطيات، وكذلك فعل مع العُقدة (الكارثة)، وباشر السرد البصري من نُقطة (العُقدة)، وهو المَشهد الواضح التفاصيل في اللوحات، وعند وصوله لبنائية (الحَل) نجده يطرح طرحاً في غاية الأهمية، ويبرز تقيماً للعقل والغريزة وأيهما سينتصر في لحظة الغفلة والصدمة، فنجد الإنسان (العقل) المُتمثل في الشخوص والوجوه قد ألجمته الكارثة وعطلت عقله الصدمة، بينما السمكة والثعبان كتفاصيل في المَشهد وكلاهما يُمثلان الغريزة قد إتبعا ما يُحركهما للفرار والهروب والنجاة.
- وقد أتت تلك المجموعة في إحدى عشر مشهداً متفاوت الدرامية، وتحركت فيه المجموعة اللونية في حدود أكثر إتساعاً ولو بصورة بسيطة، فنجد الأسود قد حَلَ ليُمثل ما يُوازي الدُخان الكثيف في المَشهد الأول، وانعكست تلك الدرجات على سطح مساحة الأزرق في أسفل اللوحة وغمرته لتُعَبْر عن مدي كثافته في الأفق، وأتى الأصفر والأحمر المَائل للبُنى مُعبراً عن ما يُشبه الإحتراق، وكذلك بعض اللمسات لبقع اللون الناري، وظهر التناثر العَشوائي للحُطام الذي لا يُمكن تَمْييز ماهية ما كان عليه وما لذلك من دلالة تعكس حجم مسببات الدمار، فتحولت الأشياء في تناثرها في المَشهد لما يُعبر عنه المُسمى في العنونة مجرد (بقايا)، لا يدرك المُشاهد طبيعتها ولا ماهية مادتها أو وظيفة كيانها قبل وقوع الكارثة. لقد نجح محمد عبد المنعم في تلك المجموعة المأساوية في تَحْميل النص البصري من خلال أسلوبه ومُعالجاته الفنية والتشكيلية والتقنية واللونية، بتلك الجملة الخاصة بمفهومه وفكره تجاه هذا المُثير الإبداعي الذي تجسد أمام مخيلته نتيجة مُجريات الواقع وجموح التطور ولوثة التقنية وتسارع الصعود التكنولوجي، وكل تلك المُسميات ومُجسماتها التي لم تنجح في إيجاد حلول النجاة للبشر. بل ويسخر من عَجز تطور عقولهم وتقنياتهم المُواكبة لنزعة تطورهم وشراهتها عن الإتيان بما أتت به الغريزة من حلول لكائنات مثل السمكة والثعبان.
يتبع.
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة 22-5-2025
محمد عبد المنعم(إعادة المُعالجة للمُثير الإبداعي في زمن مختلف وبوسيط مغاير وأثرها على المنجز الإبداعي)
محمد عبد المنعم(إعادة المُعالجة للمُثير الإبداعي في زمن مختلف وبوسيط مغاير وأثرها على المنجز الإبداعي)
- الحلقة (8)
- غموض الحلم والصورة
-` هل تتقبل العين والذاكرة ما تبوح به الصورة من أسرار وغموض وطلاسم ورموز مما تم تفسيره قديماً أو لم يزل؟
- هل لا بد أن تبوح الصورة بكل ما فيها وينتهى أمرها بمُحصلة المُدرك الشعوري والبصري، أم يترك الفنان ببنيتها بعض الغموض يمنحها حياة مستدامة؟
-لا يزال العقل يَعجز عن تفسير الكثير.
-محمد عبد المنعم
17/10/2021
بكلا السؤالين اللذين طرحهما الفنان/ محمد عبد المنعم في نهاية العام 2021 في إحدى خواطره التي توازت مع تجربته والتي تعكس الشق الفكري والمفاهيمي لديه على طول إمتداد مشواره التشكيلي منذ منتصف الثمانينيات وصولاً لوقتنا الحالي، نستهل تلك المَحطة والمرحلة الهامة في تلك القراءة، والتي نسلط فيها الضوء على تجربته الطويلة ذات العقود الأربعة، والتي إكتظت بمنجز ينضح بفقه تجربته ومذهبه الفكري شديد الخصوصية، والتي ترتكز في عمومها على الفلسفات الإنسانية والنقاشات مع الذات من وجهة نظره ورؤيته لها في بساطة وإنفتاح، وذلك من زاوية إشتباكه مع واقعه المُحيط وما يتسم به من سِمات وأَعراف وتقاليد ومظاهر ملموسة، ومكتسبات فكرية وفلسفية متراكمة ومستمدة من أبعاد تاريخية وأيدولوجية وإجتماعية، وقد أتى منجز تلك المَحطة/ المرحلة (2021) طارحاً من خلاله واحدة من القضايا النوعية التي لا تخلو منها التجربة التشكيلية الحقيقية، وهى إعادة القراءة للمُثير الإبداعي في زمن مختلف وفكر تعرض لمتغير متراكم من الثقافة والخبرة والتعلم والتطور المهاري والصقل للأدوات الإبداعية في التقنية لدى المُبدع، وذلك من خلال ما نستطيع أن نُطلق عليه `وقفته` لإستعراض وفحص وإعادة قراءة لتفاصيل وصياغات المَشهد لديه من خلال مغامرة (معالجة) جديدة، مستهدفاً من خلالها سبر أغوار مثيراته الإبداعية التي قد أفرزت منجزه، وربما إسهاباً في تناول سؤاله الأول: `هل تتقبل العين والذاكرة ما تبوح به الصورة من أسرار وغموض وطلاسم ورموز مما تم تفسيره قديماً أو لم يزل؟`. هذا السؤال الذى يأخذنا إلى إشكالية ( قضية المُثير الإبداعي وتفاوت المعالجة واختلافها لدى نفس الفنان من زمن لأخر)، ويُعد العام (2021) هو العام الذي يمنح تجربة محمد عبد المنعم عامها السادس والثلاثون (36)، ويتوج عقدها الرابع بمنجز ينضح بالكثير من القيمة على أكثر من مستوى، وارتأيت أن أختتم بهما قراءتي لتجربته كنوع من أنواع النهايات المفتوحة لتلك القراءة، والتي تنتظر الوصول مع متابعة منجزه إلى محطة قادمة والإلتحاق بمغامرة جديدة تضيف المزيد إلى رقعة تلك التجربة الخصبة، والتي إتسمت بالتدرج في صعودها وتطور حالتها طوال طريقها، وإنعكس ذلك في منجزها وتفاصيل محتواها، سواء على المستوى الفني والتقني من جانب، أو على المستوى الفكري والفلسفي وما يحويانه من مفاهيم وأطروحات من جانب آخر، أو على المستوى البحثي في جانب ثالث، تلك التجربة التي أجد فيها التميز والمغايرة من زوايا عديدة، والتي أسهم تنوع الكيف في منجزها، وتعدد الكَم في معالجاتها في وقوفنا أمام هذه الخصوصية لمذاقها، ناهينا عن ذلك التميز في سمات المظهر فيها وكذلك المحتوى الذى صاغه كفنان ومجرب وباحث مثقف.
- وقبل الدخول إلى منجز تلك المرحلة ما بعد (2021) في تجربة الفنان الكبير/ محمد عبد المنعم والتي أتى منجزها في صياغات تعبيرية مقروءة تجمع بين إعادة الإندماج مع الفكرة والنعومة في الصياغة، وإن إختلف تصنيفها النوعي المتفرع من تلك الصياغة التعبيرية، وكما أتت بمباشرة واضحة الدلالة للموضوع، إلا أنها تارة صدرت مسحة سوريالية عاكسة للخيال وخصوصية النظرة، وتارة أبرزت الرمزية المشوقة المختزلة لتفاصيل الفكرة، وتارة أخرى حملت في طياتها هذا الغموض الساحر المانح للمتلقي الإشتباك الفكري مع الموضوع، ويبقى الأهم من وجهة نظري ورؤيتي لتلك المرحلة هو ما أشرنا إليه سابقاً بخصوص إشكالية (المُثير الإبداعي) ونظرة المُبدع له من وقت لأخر، ويدفعنا / محمد عبد المنعم إلى صياغة سؤال هام من خلال منجزه في العام 2021، وهو (هل تختلف وتتباين وتتغير مُعالجة الفنان لنفس المُثير الإبداعي من زمن لأخر؟...).
- هذا السؤال الذى قد يبدو بسيطاً ومباشراً في ظاهره، ولكن محاولة الإجابة عليه بشكل عام قد تأخذنا لمتواليات من الأسئلة عن المتغير والثابت وفلسفات تناولهما العريضة، ولكن في قراءتنا هذه نطرحه من زاوية مباشرة وبسيطة، فرضتها نظرة / محمد عبد المنعم على مرحلة سابقة من منجزه في التسعينيات، ذلك المنجز الغزير في الرسم تحديداً، والذى يجسد شغفه بتوثيق المَشهد والفكرة والمفهوم على السواء، وذلك من خلال رسومه التعبيرية الرائعة والتي لعبت فيها الخطوط وبقعة اللون دوراً رئيسياً في الصياغة السريعة للقبض على هذا السيل من الإنفعالات الخاصة بالأفكار والمفاهيم ودراميات الواقع وإنطباعات الأماكن وغيرها من مثيرات جاذبة للفنان، وقد قبض من خلالها على وثائقه البصرية التي كانت تذخر بالرمزيات تارة، وبالمعالجات التعبيرية للأفكار والتصورات للشخوص والحركة والأبنية تارة أخرى، وقد أنجز من خلالها أفكاراً أولية شديدة الوضوح والدلالة، وربما لم يمتلك حينها رفاهية الوقت لإخراج تلك الوثيقة البصرية بتلك المذاقات التصويرية بمسحاتها السينمائية والمسرحية التي كانت عليها أعماله في فترة الدراسة الأكاديمية، والتي كان فيها دارساً متفرغاً يمتلك تلك الرفاهية النسبية للوقت، كما أن تلك المُثيرات الإبداعية التي أفرز إنفعاله برسمها في التسعينيات لم تكن مجرد سرديات بصرية تحت مظلة إستمرارية الممارسة للحفاظ على اللياقة الفنية بالنسبة ل / محمد عبد المنعم، بل جميعها مثلت له هماً داخلياً له، وكانت أقرب إلى ما يوازي وصف السكن والمكان والمكانة والمحطة الحياتية، قبل أن تكون محطة تشكيلية لا تتجاوز رقعة مسطح الرسم.
- وقد إستدعى محمد عبد المنعم في تلك التجربة هذه الوثائق المرسومة والموثقة على عجل خضع حينها لصدق إنفعاله بالمثير الإبداعي، والمحكومة بأسلوبية الكروكيات والرسوم السريعة لديه، وما تتسم به من تعبيرية إتصفت بها رسومه وتحليلاته ورموزه والمحكومة أيضاً بنسبية محلية وإقليمية أفكاره الشخصية وثقافته وحصيلتهما في حقبة التسعينيات، والتي أجد غالبيتها منجزاً للرسم قائماً بذاته كما ذكرت سابقاً له مذاقه من جماليات التكوين وحضوره التعبيري الطاغي، وتألقه وطزاجة مظهره وصدقه، ولكن هنا نجد أن/ محمد عبد المنعم قد إستدعى تلك الرسوم وكروكيات رسمه السريع لتلك المشاريع الإبداعية، ليغرس من جديد بذور تلك المثيرات في بيئته الفكرية والتقنية والثقافية الحالية، بعد أن خاضت أطوار من النمو والتطور والدراسة والصقل والتهذيب وتراكمية الخبرات، وكذلك ما أضافته مردودات التجريب الذى حافظ على إنتهاجه وأثرت نتائجه العديد من مرحليات منجزه ما بين فترة التسعينيات وحتى الربع الأول من الألفية الجديدة، وقد أردف / محمد عبد المنعم تلك التجربة ومشروعها بذلك الشق البحثي الذي عنونه ب (رؤية تحليلية لمفهوم `العُري` في أعمال محمد عبد المنعم)، والذي قام من خلاله بإيضاح القصدية من تلك المُعالجات الخاصة بالجسد العاري ودورها الوظيفي في المنظر مستشهداً بنماذج من تلك الأعمال، والذي أراه بعيداً كل البُعد في أعمال/ محمد عبد المنعم عن ذلك الإسقاط الجنسي الساذج الذي يقع في نفوس البعض، وإن كنت شخصياً لا أفضل تلك المُعالجات وأرفضها إذا ما افتقدت للوظيفة والغرض والكناية الدالة على ما وراء الإتيان بها في العمل الإبداعي على إختلاف نوعه أدبياً كان أو بصرياً، فهذا الإسقاط في عمومه والذي طالما وضع مجرد الإقتراب في مجتمعنا الشرقي من تلك المعالجة الفنية البحتة هو هرطقة وإجتراء ونشاز ودعوة للفجور، وهو يرفض أيضاً إتاحة الفرصة لإستيعاب المُبرر.
- فإشكالية (العُري) واحدة من الإشكاليات المحورية في الواقع المجتمعي المصري والشرقي، وهى إشكالية نابعة من ثقافة تعامل المُتلقي مع المَشهد التشخيصي الخاص ب(العُري)، ونظرة الواقع المجتمعي السطحي لدلالتها وخاصة في مجتمعاتنا الشرقية التي تُحدث الإسقاط وتنزله بتلك القضية بشكل يوازي ردة الفعل اللاإرادية، والتي تحصرها في الإطار الجنسي البحت، والتي تتلخص في اعتبارها إسفافاً وتجاوزاً وفجوراً، دون الإمعان في ما وراء المَشهد من قضايا إنسانية متفاوتة الدلالات تَعُج بها مجتمعاتنا، بل نجد أن كثيراً من هواة ومقتنى الفن قد يتيمون عشقاً بالمَشهد ولا يجرؤن على إقتنائه خشية ردة فعل مجتمعهم المُحيط، ولم تقتصر الإشكالية من وجهة نظري على العوام من أفراد المجتمع بل أجدها تمتد حتى بين شرائح الفنانين والمثقفين أنفسهم، والتي لم تفلح ثقافتهم في بلورة سياق المُبرر المفاهيمي للمعالجات الفنية للجسد العاري، وتجمدت عقولهم عند حدود الشكل والذى أجده قد نجح في أداء الوظيفة الإيضاحية للفكرة، كما لم يفلح الكثيرون من ممارسي الإبداع في المعالجات التشخيصية للجسد العاري في إحداث أساليب وحلول شكلية توجد التوازن بين حرية إبداعهم وتبرير إحداثهم لتلك المعالجات وهذا التناول الفني البحت وبين مظهرية مفاهيم المجتمع التي تستمد مرجعيتها من البعد الديني والعقائدي، ونجد أنفسنا في جدلية عبثية لا تؤدى بنا لنتيجة تشفي الغلة، أو تصل بنا إلى حدود من التفاهم الذى يقر للأصولية معاييرها الأخلاقية الهادفة لتحصين المجتمع من الإنخراط في التسيب والإنفلات بإسم الحرية، ويمنح الحداثة الأذونات في تطوير المعالجة الإبداعية المتوافقة مع التقاليد والأعراف والعادات والهادفة في نهاية الأمر إلى تطور ثقافة المجتمع الإنساني.
- نعود من جديد إلى العام (2021) وتلك المرحلة الرائعة للفنان / محمد عبد المنعم والتي أدخلنا إليها من ذلك المدخل الدرامي المبهر التفاصيل، والمؤسس على تلك العودة للنظر ثانية على تلك الوثائق والرسوم التي أنتجها في تسعينيات القرن الماضي وإستحضار مثيراتها الإبداعية ومحفزاتها من أفكار ومفاهيم ومَشاهد، ولكن من خلال نظرة فحص وتمعن وإعادة تفاعل مع المثير الإبداعي المحرك لأدائه، ووسيط تقني يجنح جنوحاً كاملاً إلى كلاسيكية الأداء في التصوير وهو الألوان الزيتية، والتي أضفت على المَشاهد مذاقات جديدة حملت وضوح الشق التعبيري في المَشهد، وحملت أيضاً فض الإلتباس في دلالة التفاصيل التي أضفت على العمل ذلك الوضوح والجلاء في تلقى الفكرة التي صاغها في سرعة وإنفعالية في التسعينيات، تلك الفترة التي تَعج بالضغوط والقلق والتوتر الذى يحتضن ويلف كل فنان ومبدع في مستهل الطريق وبدايات التجربة.
- وقد عكست خاطرته عن تلك الفترة في منتصف التسعينيات والتي قال فيها على حد كلماته وتعبيراته عنها إذ قال:` على الرغم من أنه مَنَ علىَ بهذه المنزلة ... إلا أنني غير قادر على تحقيق ذاتي في صورتها الكاملة.. وهذا ناتج لمجموع الظروف القهرية التي تحيط بي فتنهش بكل قوتها في (صوفية الذات) المتطلعة إلى أرقى وأسمى مستويات الفضيلة.. وجوانب إنهزامية الذات عندي مردها مجموع الفروض الجبرية التي تسعى لتحقيق هذا النوع من التوازن القانوني والذى يتسبب في كل حالاته التفسيرية من جانب العقل إلى وضع أولى بدايات القهر الإنهزامي للذات`.
- وما بين خاطرته السابقة في منتصف التسعينيات وتساؤلاته في مطلع (2021) والتي إستهللنا بها تلك القراءة لهذه المرحلة من تجربته، نستطيع أن نستجلي دوافعه لإعادة النظر في معالجاته البصرية لنفس المثير الإبداعي، والتي لا أجد أنها إختلفت في المفهوم والفكرة وغالبية البناء الدرامي للمَشهد من تفاصيل ومكملات رمزية، ولكنها إختلفت في مدى الإهتمام في توكيد وإبراز كل ما سبق من خلال وسيط تقنى يخدم المَشهد ويليق بقيمة الحلول الخطية التي أوردها في رسوم التسعينيات والتي أجدها في غاية القيمة والقوة، كما يمكن أن نلخص تلك المراجعة في أن تطور أدوات ومقومات التجربة الإبداعية لدى الفنان مع تقدمه في مشواره الفني / تجربته الإبداعية وإكتسابه لتراكميات ثقافية وخبرات تقنية ومغامرات تجريبية، تنعكس على نظرته وتفاعله ومعالجاته الفنية تجاه نفس المثير الإبداعي الذى قد يكون تفاعل معه في وقت سابق من خلال وسيط معين أو أسلوب مغاير، وقد أتى الوسيط الزيتي في تلك المعالجة لرسوم التسعينيات ليمنح مشاهدها العديد من الإضافات التي صنعت نوعاً من الجلاء للمَشاهد الناتجة عن المُثيرات على إختلاف موضوعاتها، فنجد البُعد اللوني وما تحمله تبايناته من دلالات ودرجات لونية بعينها ترمز تارة إلى حالات تعبيرية للشخوص, وتارة إلى ماهية العناصر, وثالثة إلى زمنية المَشهد, ورابعة إلى أجواء المَشهد من شجن وغبطة وألم وخوف وطمأنينة...إلخ
- لقد منح الوسيط الزيتي في تلك المجموعة محمد عبد المنعم تلك الأجواء السينمائية التي يجنح شغفه للوجود بداخلها، فعقله وإنفعاله بالمُثير يقومان بأرشفة المثيرات لديه بصورة تحمل حركة المَشهد وليس ثباته من خلال الصورة الثابتة أو المَشهد الجامد، تماماً كالفرق بين الفيلم المُتحرك والصورة الضوئية الثابتة وما بينهما من فروق شاسعة تصنع الفارق في تعامله هو شخصياً مع المَشهد وكذلك تعامل عين المتلقي له، ولا يمكن أن نغفل تلك الطزاجة التي يبثها الوسيط الزيتي في جنبات العمل التصويري فيمنحنا هذا الحس بالمنظر والأجواء ورائحة المكان وعلاقات العناصر التي تبدو أكثر ألفة وتناغم وإنصهار مع بعضها البعض، ولم أجد من وجهة نظري عنصرا غائباً في تلك المُعالجة سوى البعد السمعي / الصوتي، حتى ذلك الذى يُمثل سكون الليل في المَشهد المفتوح، أو صمت الأزقة والحارات في ذلك الليل والذى لا يقطعه سوى تلك المؤثرات الصوتية لحفيف الرياح أو صفير حشرة أو نباح كلب أو مواء قط، ترشح جميعها من مسافات متفاوتة القرب والإبتعاد، وكذلك تلك المؤثرات الحركية لطيور الليل التي تأتى في حالة شبحية كبوم الليل وخفافيش الظلام صياح الديكة وانزعاج بعض الطيور، كما لا يمكننا أن نغفل تأثير الوسيط الزيتي في عنصر الإضاءة، والتي مَنحت كل مَشهد أبعاده الخاصة وأسبلت عليه تلك الأجواء المناسبة لسوريالية الموضوع، فالمُثير الإبداعي في تلك المجموعة رغم كونه ينتمي للواقع سواء من الناحية الحسية أو المادية، إلا أن الصياغة التي إعتمدها / محمد عبد المنعم أتت في سياق (سوريالى) خالص مَنح المَشهد والمنظر ذلك الغموض المشوق. وبلا شك ولا ريبة أسهمت تلك المُعالجة الجديدة في مَنح المَشهد التصويري لدى/ محمد عبد المنعم هويته المصرية وما تحويه من مزيج بين الواقع والأسطورة، والحقيقة والخيال، وظاهر السلوك وباطنه لدى الإنسان المصري على إختلاف طبيعته وثقافته ومرجعيته.
- ونذهب إلى إستعراض ثلاث من النماذج التي تُعبر عن تلك المُعالجة والتي أجد فيها نموذجاً معبراً عن ذلك الطرح وما صدرته لنا من فروق المُعالجة التي عكست مدى الإختلاف الذي بدا على المَشهد من جراء الفارق سواء في البعد الزمني بين المعالجتين أو من جراء إختلاف الوسيط في تعامل كلاهما مع نفس المثير الإبداعي، وهى الاعمال المعنونة تحت مسميات (مقام الشيخ أبو شجرة / رائحة الزمان / قمر مُنير) وثلاثتهم رغم كونهم نموذج عاكس للإشكالية، إلا أن ثلاثتهم حالة إنسانية يتشارك فيها الجميع مع فارق التفاصيل وإختلاف المكانية وسينوغرافيتها، وكذلك إختلاف العصر والزمن والثقافة التي تلعب دوراً محورياً في أبعاد السيناريو لتلك الحالات.
- مقام الشيخ أبو شجرة
- أتت مُعالجة هذا المُثير الإبداعي الرخيم والذي يعج بسيل من الأحاسيس المترقبة ووابل من التوترات وفيض من الخيالات التي صاحبت نشأة وطفولة / محمد عبد المنعم، وفتح بوابات مخيلته عن عالم الماورائيات الخفي في (ميثولوجيا) مجتمع الصعيد المصري بشكل خاص والمجتمع المصري والشرقي بشكل عام، أتت المُعالجة من جراء الأثر والمساحة التي قبعت في الذاكرة من الطفولة لهذا المفهوم، ومقام الشيخ (أبو شجرة) يقع في قلب (سوهاج) في المنطقة المحيطة بمحطة القطار ووسط المدينة وهى منطقة مولد محمد عبد المنعم ونشأته في الطفولة، وأتى إجترار ذلك المَشهد القابع في ذاكرة عبد المنعم من جراء ما يتعلق بذلك المكان من تحذيرات من الكبار للصغار بعدم التجول فيه ليلاً، لما أحاط به من حكايات وما كان يُسرد عن أزقة هذا المكان ليلاً من حكايات (الجنيات) وتجولهم في تلك الأزقة والطرقات منفردين إذا ما خفت حركة الناس مع دخول الليل، وربما كان ذلك كله من باب الردع للصغار من الشطط وقت اللعب وخاصة في الليل، وبالرغم من أن المُعالجة الحديثة لهذا المُثير الإبداعي غير بعيدة عن المُعالجة الأولى والتي أتت في العام 2018، إلا أن المُطالع لكلا المعالجتين يشعر بذلك الفارق بين المَشهدين، فمساحة المُعالجة الأولى التي أتت في قياس `49×33 سم` وبتقنية الأصباغ والأكريلك على الورق، أما المُعالجة الثانية فقد أتت في قياس يوازي `144×86 سم` وبتقنية الألوان الزيتية على التوال، هذا القياس الذي نشعر معه بأنه يمنح المتلقي تلك الراحة في الغوص فيما وراء المَشهد لما داخل بوابة الضريح الخاص بالشيخ (أبو شجرة) أو ما يحويه المنزل المُجاور وما يؤدي إليه الزقاق الملاصق للضريح، وذلك القط على حافة الشرفة الذي يتابع الجنية الضخمة التي تسير خلف الطفل المجرد الملابس وكأنه يسير بشكل غريزي وراء فضوله واتى عُريه كناية عن تجرده من حرص الكبار وتخوفاتهم، أما الجنية فأتى موضعها رغم ضخامته مستوراً عن الطفل كناية عن كونها ليست بشريرة وحريصة على أن يتموضع سيرها بما لا يجعلها في حيز الرؤية للطفل الذي لا يشعر بوجودها، ورغم إقراري بقوة المُعالجة الأولى للمَشهد وقوتها فنياً ومذاقها المُميز من جراء إنفاعلية الأداء بالمُثير، إلا أن المُعالجة الزيتية لها من الجماليات الفنية ما يجعلنا نتوقف لديها لنشتم عَبق الزمن في الجدران ورقة المُعالجة في رداء الجنية الناري الشفاف وحناياه على جسدها من جراء الحركة خلف الطفل وإضاءة القمر المتموضع في بحر السماء الداكن الزرقة... إلى غير ذلك من تفاصيل أضفت على المُعالجة بعداً درامياً يمتلئ بالحيوية، وأتى أداء عبد المنعم التعبيري في غاية الرشاقة والتمكن الخادمين للمَشهد، وكذلك في نضج واضح لإثراء السطح وذلك من خلال رقة الأداء لهذا المَشهد الخشن البيئة، والمَشهد في تلك المُعالجة بات وثيقة بصرية في سينما / عبد المنعم الموثقة لثقافة إجتماعية مُعبرة عن بيئة نوعية في مرحلة من الزمن.
- رائحة الزمان
- هذا العمل الإستثنائي لعبد المنعم والذى يحمل تعقيداً بصرياً وتشابكاً بين العناصر الحية التي مثلت في حد ذاتها سينوغرافيا منفصلة عن تلك السينوغرافيا العامة للعمل والتي تضم العنصر المعماري الحاوي للنص البصري الرئيسي، والذي يذكرني في هيكله بتلك البنائيات المعمارية لدى/ `كمال الدين بهزاد` في تراكبيتها مع فارق الدلالة والأسلوب والمغزى والمفهوم ولكنها تشتبك معها في فكرة الطبقات البنائية لتوظيف العمارة في العمل التصويري بشكل يخدم تشخيصية المَشهد ودراميته لا شكل العمارة وسماتها وماهية طرازها، كما أن المَشهد في ذلك العمل أتى مزدوجاً يُظهر التداخل بين العالم المادي المرئي والعالم الغيبي المستور، وأتت العناصر على كثرتها في حالة إصطفاف نوعى وتجمع تحكمه أحجام الأدوار في دراما هذا المَشهد شديد التعقيد، والذى نجح / عبد المنعم في تسكين أفراده في مساحات العمل بصورة تصنع زحاماً منظماً منزوع الفوضى، فكل عنصر بات يحتل مكانه في ارتياحيه نشعر معها بدوره الخادم لشغل المساحة وليس إشغالها، وهو من الأعمال التي أعتبرها نموذجاً أمثل لما سلف من طرح حول إشكالية المعالجة الثانية للمُثير الإبداعي وكذلك لإشكالية العُرى التي أتت هنا موظفة لخدمة النص البصري وليس لإستعراض فكرة الجسد العاري، فوجودها رغم جماليات الحلول في تشريحه التعبيري للجسد، إلا أنه لا يلعب دوراً من زاوية الإثارة الجنسية، بل ونجدنا نتناسى تلك الإشكالية للجسد العاري في تلك البنائية التشخيصة لهذا العمل، ولا يشد انتباهنا سوى الدور الدرامي لهذا التعري لبعض الأجساد، ونجح عبد المنعم في هذا العمل في نزع كافة صور النشوة أو الغريزة المُسفة أو الإبتزال في مُعالجة هذا التعري للأجساد.
- وبالعودة إلى المعالجة الأولى لهذا العمل والتي أنجزها / محمد عبد المنعم في العام (1995) وكانت بقياس `33×24سم` وبتقنية الصبغة وقلم الحبر الأحمر، وهى من أعمال الرسم التي عكست تمكن /عبد المنعم من التعبير عن الموضوعات الفلسفية الذاتية من خلال معالجة تمتزج فيها البساطة بالعمق، وبصورة سلسة وهو من الأعمال التي يتركز التعقيد في شرحها وليس في مظهرها رغم تراكبيته، وضرورة تتبع العين لعناصره للوصول إلى فهم مغزاه المعقد نوعاً ما للبعض، وقد أتى الحبر الأحمر في هذا الرسم في غاية التوفيق، وقد أشعرني بتلك القوة للإنفعال في معالجة هذا المثير الفكري، وربما اراه دلالة على إستمرارية التمتع ببعض ذكريات الحياة بالحياة في داخلنا ونبضها من جراء سريان الدماء في اطرافها، أما المعالجة الجديدة فكانت بمثابة حالة مسرحية تم إعدادها لتناسب هذا التراكب من العلاقات التي تارة اتت منفصلة تُعبر عن تفاصيل لرمزيات مؤثرة في حياة هذا الجسد، وتارة أتت متصلة لتُعبر عن دراما الجسد وذاكرته وتعامله مع مؤثراته.
- وقد أنجز/ محمد عبد المنعم هذه المعالجة الجديدة في العام (2021) في قياس يوازي `200×170سم` وبتقنية الألوان الزيتية على التوال، وقد أتاح هذا القياس الكبير لعبد المنعم تقديم هذا العرض الدرامي لتلك المعالجة في إرتياحية أكبر، ظهر من خلالها واحداً من الحلول المُربكة نوعاً ما بالنسبة لي شخصياً، وهو تلك الازدواجية في إيجاد مسقطين (أُفقي / رأسي) في نفس البناء العام للعمل الثنائي البُعد، فلو لاحظنا النصف الأسفل من البناء والذي يأتي من منظور `أفقي` يبدأ من اليمين بمنظر ل (حمام بلدي)، تليه جدران تضم امرأة واقفة وامامها طفلة بضفيرة، تليها جدران تحتوى رجل جالس يحتضن طفلة، ثم جداران ضيقين يحويان تمساح رأسه لأعلى وخارج البناء تقف فتاة تعلوها أخرى فيما يُشبه الشُرفة، أما النصف العلوى من البناء فقد صاغه / محمد عبد المنعم ببراعة تتوافق مع الصياغة السوريالية للموضوع في منظور رأسي لغرفة بها سرير يعلوه رجل وإمرأة في حالة عُري وإسترخاء ما بعد علاقة، ولكن رغم إختلاف المنظور في رؤية نفس البناء إلا أنه قد زاد من جماليات الحلول في توزيع شخوص المَشهد، وأخرج العين من حيز متابعة منطقية المَشهد إلى رحابة حرية التعامل مع المفهوم المعقد والمركب، وهى من الحلول التي قد لا نصادفها كثيراً في مناظر التصوير بشكل عام، وقد إستطاع محمد عبد المنعم أن يُغرق المَشهد بالعناصر الحية، `مادية` كانت كالشخوص والطيور والحيوانات وحتى الزواحف ممثلة في ذلك التمساح أسفل يسار العمل، أو `روحية` كأشكال (الجان) في أعلى يمين اللوحة خارج وداخل الغرفة العليا أو في حدود اللوحة العليا من ناحية اليسار فيما يُشبه الأطياف، وقد أتخمت اللوحة بالتفصيليات المشوقة والحلول التشريحية للعناصر بشرية كانت أو جنية، أو حيوانية أو طيور....إلخ.. ونشعر مع ذلك المجموع من العناصر ومعالجتها في ذلك العمل بأننا أمام مَشهد من فيلم ضخم الإنتاج، قد لا يتناسب مع الواقع ولكنه بالتأكيد طبيعياً إذا ما نسبناه لخيال الحالمين والمبدعين حيث لا حدود لميزانيات الخيال البشرى وأفاق مخيلته.
- ونستطيع أن نلخص تلك المعالجة المعنونة تحت مسمى `رائحة الزمان` بأنها ليست مجرد عمل يتناول معالجات للجسد، بل هو نوع من تسليط الضوء على الذاكرة الجسدية للإنسان، حيث تتراكم سفراته عَبْرَ الأزمنة القديمة في لحظة راهنة يستطيع إستدعائها، فيكتشف أن هذا الجسد حاملاً لكل ما مضى من إنتصار وإنكسار وبهجة وحزن وشهوة وكتمان، ووحدة ورغبة في الخلاص.... إن هذا العمل (رائحة الزمان) هو من صنف الأعمال التي تحمل مزجاً بين الأحلام والإعترافات، بين الظاهر والمكبوت، وهو يدفعنا إلى مواجهة الذات عبر مرايا إسمها `الوقت / الزمن` يجدها البعض منا صافية والبعض الثاني مشروخة والبعض الثالث يجد فيها هذا العكر المشوش للذكرى.
- قمر منير
- أتت المعالجة الأولى لذلك العمل أقرب إلى الكروكيات السريعة أكثر منها إلى حالات الرسم لدى / محمد عبد المنعم والتي تتميز بالتأكيدات الخطية بصورة أكبر، ولكن أتت المعالجة في هذا العمل ذو البعد الطارح لإشكاليات المرأة في الواقع المعاصر وما تواجهه من صعاب وتقيم مجتمع يحمل تلك التباينات من القسوة، وقد أتى الحل التقني لتفاعل عبد المنعم مع ذلك الطرح الفكري والمفاهيمي من صنف تلك الحلول التي أنجز من خلالها مجموعة الرسوم السريعة التي أنجزها على خلفية الفصل الدراسي للرسم في كلية الفنون الجميلة بجامعة (كومبيلوتنسى) بمدريد، ولكن بزيادة بسيطة في تلك الصبغة الزرقاء التي أتت لون سماء العمل، وقد أنجز عبد المنعم هذه المعالجة في العام (2017) وبقياس `22,5×15,5 سم` وبتقنية الأصباغ وأقلام الحبر، والمَشهد يحمل مرونة التفسير والقصدية، ولا أستطيع أن أجزم بما يصدره / محمد عبد المنعم من مفهوم عن قصديته، فهو بالتأكيد أفضل من يُميط اللثام عن حقيقته، وربما تركز تلك القراءة على البعد التشكيلي فهو حجر الزاوية في تلك القراءة، ولكن يستهويني في كلا المعالجتين ما وقع في فهمي من إبراز لعناصر محددة يقع بينها هذا الحوار الصامت، ويظهر القمر في أعلى النص البصري في المعالجة متخطياً السحب الواقعة بين كامل المَشهد وبينه في نوع من أنواع كسر المنطقية، ربما ليطلع على ذلك الحوار وموقف المرأة المستسلمة والمرهقة التي تلتفت بنظرها في رقدتها نحو ذلك البناء الجامع لدور العبادة التي تُمثل الدين أو المعتقد، ويأتي خلو المَشهد من شخوص ليدلل على حالة السكون التي يتسم بها الليل الذى يحتضن سكون المجتمع وراحته من خلال نوم الغالبية ورقدتهم ملتمسين السكينة والراحة، ولكن من هم على شاكلة تلك المرأة من أصحاب الهموم وأهل الشكوى فأجدها تنظر في يأس إلى ذلك البناء الحاوي للمسجد والكنيسة واللذان يلعبان دور الجسر الفاصل بين أهل الشكوى والإنكسار وبين المعبود الخالق المخلص القاضي الحكم، فقد وقع في فهمي هذا المفهوم عن المَشهد كونه كناية عن مشهد قضاء أكثر منه مشهد محاكمة نمطية بها محقوق / ضحية / شاكي تمثلهم (المرأة) وشهود يُمثلهم (القمر) وقاعة محاكمة تتجسد في (دور العبادة) وقاضي لا تدركه الأبصار ولكن يقر (بوجوده) الجميع ولهذا كان إجتماعهم في ذلك السكون والصمت، وأتت المُعالجة الجديدة لهذا المَشهد في العام (2020) وفي قياس يوازى `150×102سم` وبتقنية الألوان الزيتية على التوال، والتي أضفت على المَشهد رغم بساطة عناصره تلك الهيبة والمهابة، وأحدثت لدى بعض التغيرات الحسية في مطالعته، فالوضوح الذي أجلى إلتباسات المطالعة والمشاهدة في الكروكي السريع، وإبراز دور المُراقبة التي يمارسها عنصر (القمر) في العمل، وبدى العنصر الذي يُمثل البطولة في العمل وهى المرأة في موضع المشكو في حقها / المتهمة، وبات البناء الحاوي لدور العبادة أكثر تصديراً للضوء ومشعاً له، ولعبت مساحة الزرقة في السماء دوراً محورياً في السيطرة على كامل المَشهد أسفلها وضبط توازنه واحتواءه بدرجة مطلقة في السيطرة عليه من خلال استظلاله، ورغم ما بتلك المعالجة من غموض في قصديتها المباشرة والتي تقع لدى محمد عبد المنعم نفسه، إلا أن تلك المعالجة المتأنية أضفت تلك الهالة السحرية على اللوحة لدى محمد عبد المنعم وأكسبت منجزه فيها ذلك الثقل وتلك الرخامة، وأبرزت وعيه بمجموعته اللونية وتمكنه من توظيفها وزرع مواضع الإضاءة في جنبات المسطح التصويري ليمنح عين المتلقي تلك السياحة الممتعة في جنبات المَشهد، كما أبرزت تلك المعالجة تفوقه في توظيف عناصر محدودة لتصنع دراما صاخبة وسط هذا الصمت وذلك السكون.
بقلم : ياسر جاد
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) القاهرة 24-7-2025
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث