الفنان على حبيش فى درامية ساخنة حول الإنسان والآلة .. والحضور الرومانسى لأعماله
يتصارع الفنان النحات على حبيش مع كتله الصماء فى عراك أبدى حول مفهوم ومنطلقات الفن الذى يعيش وسط الجماهير .. مناديا عليها فى الخروج من بوتقة الألم إلى (( الحرية )) التى يسعى إليها الفنان من خلال محاولاته السابقة ــ التى كانت تعلو تعبيراتها فوق تعبير الواقع ــ الذى شغل الإنسان وأرهقه فى العصر الحديث .
فتارة نرى الفنان تنصب أعماله حول الطبيعة برومانسيتها ــ بالرغم من عويل الألم فيها فهى تناديك للالتحام بك أينما ذهبت هذه الأشكال بقوة تعبيراتها .. سواء صنعها من الحجر أو الخشب أو النحاس فهو سريع النداء للإنسان الذى يقدسه ويعبر عنه فى ملحمة الإنسان والآلة الحديثة ، وفى هذا العمل الذى يقوم بعرضه الفنان يوضح لنا أن الإنسان سوف ينتصر أخيرا على الآلة لأنه هو صانعها وهو قائدها ــ وإذا فقد الإنسان قيادة هذه الآلة فهى سوف تقضى عليه .حيث إن هذه الآلة من خلال رغبة الفنان ــ فإن أراد أن يحولها أو يغيرها فهو قادر على هذا والتماسك بين صراع الآلة والانسان .. يظهر لنا الفنان هذا الاندماج الكلى فى تشكيله الفنى فى هذا العمل الفنى المعروض ، فى معرضه (الالة والانسان) نرى التكامل من حيث تكتيل الجسم البشرى مع الكتلة النحتية للآلة الصماء فهى غير قادرة على التحرك ضد رغبة الإنسان ومتطلباته العصرية ، ويظهر هذا لنا الفنان على حبيش على أن رأس الإنسان هى (الماكينة) فى حد ذاتها ــ وهى الآلة العصرية التى تغطى حياتنا فى المنتجات النافعة ، ولكن تخوف الفنان هنا هو أن يكون (العقل) هو الآلة فيفقد الإنسان رومانسيته وعاطفته التى منحها الله له .. فالعقل أولا الآلة ثانيا .
فالفنان يضع المحاذير والتخوف من سيطرة الآلة على حياتنا بحيث نصبح آليين مثل الآلة ، وهذا أمر مرفوض تماما من تجسيم وتعبيرات الفنان صاحب الحس العالى وصاحب الرومانسية الحديدية التى تتصارع من اجل بقاء عقل الإنسان ــ وألا ينحرف خارج طبيعته المليئة بالانسانية وحبه للحياة ــ والتمثال فى حده هو إنسان جالس على الأرض الصلبة التى يملكها ويعيش عليها ــ فى انه قادر على أن يصعد ويتحرك خلال عقله الذى هو فى حقيقة الأمر ــ هو المحرك الحقيقى للبشرية ــ فعلا خوف من هذه الآلة الإنسانية الجديدة التى تصنع للبشر وسائل حياتهم .
فالفنان على حبيش يرتفع بقدرة الإنسان ولا يقلل منها على أنها هى الحقيقة الفاصلة فى حياة البشر منذ بدء التاريخ إلى يومنا هذا
إذن ما هو مفهوم هذه الكتل (النحتية) التى يصنعها الفنان ونثار نحن من خلال تركيباتها ــ لقد أدرك الفنان أنه لا يمكنه أن يجرد الإنسان ويحوله إلى كتل صماء لا حياة فيها تحت إطار مفهوم النحت الجديد بالمجردات .
فالنظرة لدى الفنان هى إيجاد معادل صعب لكى يتم المزج بين الآلة ورغبات الإنسان ــ وأن (التقنية) الفنية هى مجرد عامل مساعد لإظهار هذا التلاقى فى الحميم بينه وبين الحس البشرى العالى وإيجاد (حميمية) حقيقية بينه وبين هذه الآلة التى يمكنها أن تتمرض على الإنسان سانعها وكل هذه التعبيرات واضحة كل الموضوح فى هذا العمل (الآلة والإنسان) حتى فى عرضه هذا فالمضمون صادر من خلال دلالة (مضمونية) عالية الحس والتعبير التى تظهر بشكل عام فى معرضه هذا وهى إحدى المحاولات للمزج بين متطلبات الشكل والمضومن كما فعل النحات المصرى القديم فى معجزاته النحتية والتى على هداها نحن نسير .
صالح رضا
القاهرة : 9-8-2005
`عاشق النحت` المصري علي حبيش يعالج أمراض الشجر بالفن في معرض يضم 63 عملاً ضخماً
`عاشق النحت` المصري علي حبيش يعالج أمراض الشجر بالفن في معرض يضم 63 عملاً ضخماً
- تمثال طفل الانتفاضة المنحوت من الخشب.
- لجأ النحات المصري علي حبيش إلى وسيلة لمعالجة أمراض الشجر بالفن من خلال منحوتاته الخشبية التي قدمها في معرض استيعادي بجاليري `ضي` في القاهرة، عامداً إلى استخدام الألوان وتقنيات نحتية مبتكرة في تحقيق هذا الهدف، والخروج بأعمال تعبر عن مسيرته الفنية الممتدة عبر عقود.
- وفي المعرض الذي يستمر حتى 7 أكتوبر (تشرين الأول) ويضم نحو 63 عملاً نحتياً ضخماً، معظمها من الخشب، فضلاً عن خامات أخرى مختلفة منها البرونز، والطرق على المعادن، والبوليستر، والحجر، اهتم الفنان المصري بشكل خاص بالنحت على الخشب مجسداً جماليات الخامة، متلاعباً بالأشكال والأبعاد؛ بهدف تحقيق تأثيرات متنوعة تضفي الحيوية والعمق على العمل الفني.
- ويُعِد الدكتور علي حبيش أستاذ النحت الميداني في كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان نفسه `من الفنانين القلائل في الحركة التشكيلية الذين يحتفون بالنحت على الخشب`، لأنه على حد تعبيره `خامة صعبة للغاية`، ويقول لـ`الشرق الأوسط`: `عندما أعمل عليه أشعر بأنني أعيد إحياء روح الشجرة؛ فالشجرة حتى بعد قطعها لا تموت`.
- ويتابع `أثناء العمل أشعر بـ(القيمة الشجرية)؛ أحسها تتحرك وترقص من السعادة؛ لأنني لا أقهر الخامة، ولا أتعامل معها وكأنها طين صلصال، أمنحها مكانتها كسائر الفنانين الأفارقة الذين يقدمون إبداعات فنية من الخشب`.
- هذا الانحياز الظاهر من جانب حبيش تجاه الخشب يترسخ عند تأمل الأعمال الخشبية في معرض `عاشق النحت`، حيث يبدو واضحاً أنه يحفز خياله، ويترك له مجالاً رحباً للتعبير الإبداعي؛ التي يقول عنها الفنان `إنها من الخامات التي أفضل استخدامها؛ لقدرتها على التشكل والتغير وتجسيد رؤيتي الفنية`.
- ويضيف `عندما أعمل أنظر إلى الفراغات، فأجدها وكأن الشمس تطلع من بين أوراق الشجر، لكن هذا لا ينفي أنها الخامة الأكثر صعوبة في النحت`. وأردف `قد تقابل النحات مشكلات عديدة غير متوقعة، ومنها أمراض الشجر، وفي هذه الحالة ينبغي للفنان أن يعالجها بطلاءات وزيوت معينة، ثم يعمل على إعادة صياغة التمثال من جديد، أو أن يوظفها كجزء من الفراغ أو التكوين`.
- ويمضى إلى القول `كما أن الخشب يتطلب بشكل عام معالجة خاصة قبل بدء التعامل معه، حيث أحضر الخشب الخام، وأعالج باطنه أولاً، ثم أغمره في الماء، وأجففه، وأضع تحته الملح؛ لكي يتماسك ولا يتعرض للتلف، وذلك هو السر في أن منحوتاتي الخشبية الضخمة لا تتعرض للتشقق`.
- وتسري الحيوية في الكتل الخشبية، والعاطفة المنبثقة منها تنتقل إلى روح من يشاهدها، تفاصيل الوجوه تسرد قصصاً وحكايات للتماثيل، وكأنها بشر من لحم ودم، وهو برغم التقنية الحديثة التي يستخدمها غير متأثر بالفن الغربي؛ ولهذا السبب فإن بعض ملامح الوجوه وتكوينات التماثيل التي نحتها تذكرنا بالأقنعة الأفريقية، كما أن بعض التجاويف والتفاصيل المرتفعة والمنخفضة تأخذ المتفرج إلى قلب الغابة، الأعجب من ذلك هو شغف حبيش بالبدائية، التي تظهر أحياناً في أعماله الفنية الخشبية عبر دمج الخطوط المستقيمة والمنحنية في منحوتاته.
- ومن اللافت أن بعض أعمال المعرض تحمل تصاميم منحنية أنيقة وسلسة، والشكل العام لها يشبه المادة العضوية في الطبيعة، كما لو أنه قام بتلميع الخشب الداكن بعناية؛ ليكشف عن سطح أملس وبريق دافئ، وتتميز الأعمال بروح الأصالة والتحيز للتيمات البشرية والإنسانية عبر مظاهر وإشارات عدة.
- يشير حبيش بإصبعه إلى تمثال طفل الانتفاضة في المعرض قائلاً `هذا التمثال عبارة عن طفل يحمل الحجارة، شاهده الزعيم ياسر عرفات، وقال لي: يوماً ما سنضع هذا التمثال في فلسطين بعد تحريرها، وما زال داخلي الأمل، وسأبقى أنتظر هذا اليوم ما حييت`.
- تجدر الإشارة إلى أن الفنان حبيش أقام العديد من المعارض الشخصية، كما شارك في المئات من المعارض المحلية والدولية داخل مصر وخارجها، وله عدد من المجسمات المنصوبة في ميادين مصر، وتمثال ميداني في دار الأوبرا المصرية، ومكتبة الإسكندرية، وحصل على العديد من الجوائز منها جائزة صالون الإسكندرية الأول وجائزة يوم الأرض، وله مقتنيات في متحفي الفن الحديث، وأحمد شوقي بالقاهرة، فضلاً عن متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية (شمال مصر)، ومقتنيات في مؤسسات دولية في بلدان مختلفة.
بقلم : نادية عبد الحليم
جريدة :(الشرق الأوسط)- سبتمبر 2024