`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
أحمد محمود مرسى
أحمد مرسى فنان طهرانى
- وأعنى بهذا أن له أسلوباً نقياً ، خالصاً من شوائب كثيرة قد نجد عكارتها اليوم فى كثير من الأعمال .
- وهذا أسلوب نحن اليوم أحوج ما نكون إليه ، حتى نمضى على الطريق فى إنجازات المدرسة الفنية التى يسعنا أن نسميها ( المدرسة المصرية ) بمختلف تياراتها ومذاهبها.
- لست أريد هنا أن أثير قضايا ، هى فى الغالب قضايا لفظية ، عن الفروق بين الأسلوب والمضمون ، فأنما ذاك فى الفن ، عندى مزاج دقيق وثيق الوحدة لا انفصام بين عناصره ، وهو بديهى الآن من فرط تداوله ، ولكنه مع ذلك بحاجة دائماً إلى إعادة توكيده .
- ومنذ بداياته المبكرة فى مطالع الخمسينيات كانت حدود فن أحمد مرسى، فى نهاية التحليل ، هى اللون والمساحة : الحدود المثلى للفنان الذى أداته الفرشاة واللوحة، مهما قيل عن ` الرمزيه` عنده وأنه لا ينفى عن فنه `الشاعرية ` ولكنه ينفى عنه بقدر ما يسعه : صيغ الفنون الأخرى فلن تجد عنده التجسيم الذى هو من خصائص النحت ، ولن تجد التصورات العقلية ولا قضايا الأدب والخطابة ، كما عساك تجدها فى `صور ` كثيرة ولن تجد تلك العناية المكينة بالنقل الخارجى الدقيق للأشكال والأحجام ولن تجد الانصياع الخاضع لقواعد `المنظور ` ، وإنما هو كما قلت لون ومساحة أصفى عناصر التصوير .
- ذلك يفسر ما فى أغلب أعماله من إهمال للإيحاء بالعمق المكانى ، عن طريق الحيل التشكيلية المألوفة من كتبير وتصغير أو تظليل وتنوير وتركيز مثلا. إنه يومئ إلى عمق مكانى ، مجرد إيماء ولكنه مع ذلك يوحى بعمق للرؤية ، الفنان هنا يسير غوراً فى` الصورة الداخلية لا فى المشهد الخارجى` ومن ثم فإن أبعاد صوره هى، حرفياً، أبعاد الصورة :طول وعرض فى هذين البعدين وفى الحدود التشكيلية فقط ، يستطيع هذا الفنان أن يذهب بنا إلى أبعاد مضاعفة ، إلى أغوار فى النفس غائرة ، ومشاهد من الحب والتراحم بين الناس بعضهم وبعض ، وبينهم وبين الأشياء الحية والجامدة وإلى آفاق من الجمال التشكيلى البحت لا يأتى `البعد الثالث` عنده من مجرد حرفية فى التصوير، بل من توزيع اللون ، وتنويعه ومساحاته ، حتى فى الضوء إنه مقل جداً فى استغلال خدع الإنارة وإلقاء الضوء ، وأنت غالباً تجد عنده ضوءاً متسقاً ذا درجة واحدة ، شائعاً فى الصورة ، لا يقتحم حدى اللون والمساحة ، ولا يغيم عليهما ، بل يفسح لهما كل الأفق .
- وهو أفق فسيح براح ، فى سعة إمكانات للإدراك توشك ألا تكون لها حدود ، فى تجارب جسور تبلغ شأوا من الجمال ، جمال اللون الشخصى النابع من معاناه ، وحساسية ، وذوق ، وجمال مساحات فيها تناغم خفى وانسجامات تكاد تلوح عفوية لا تعسف فيها ولا بحث ، لكنك بعد تأمل يسير تقع على دراسة واعية صاحية لتشكيل الخطوط وتكوين المساحات.
- هناك شئ لا أضجر من ترديده : إن خصائص المزاج المصرى فى الفن التشكيلى ينبغى البحث عنها فى عناصر الفن التشكيلى نفسه ، وهى ليست قطعاً قضايا عقلية ، أو أدبية ، أو دعائية . وألوان أحمد مرسى هى بحث جاد ، وباهر ، فى التعبير عن الروح المصرية . وألوانه فيها خضرة زهرية أبلغ من خضرة غيطاننا ، وزرقة اسكندرانية أصفى من بحرنا ، وهذه الحمرة الطوبية العميقة هى شمس الصعيد نفسها ، مصفاة ، فيها كل احتراق أرواحنا ، نحن لاغيرنا ، تحت شمسنا . هذه الألوان هى بعض رسالة الروح المصرية التى يوسعها أن تبلغ الإنسان فى كل مكان .
- ظاهرة أخرى لم تعد اليوم بحاجة للتأكيد : هى قلة احتفال الفنان الحديث بالتزام حدود الأشكال والمقاييس الخارجية الواقعية ، اليومية المظهر ، لموضوعاته . وفى العالم الذى نراه هنا تقوم مسوخ قميئة شوهاء ، وإنما هو ينقل لنا وعى الفنان بالشىء الجوهرى خلف الظواهر ويلهمنا بجمال غريب فى هذه المسوخ هو جمال تشكيلى صرف ، أساساً لكنه - لذلك - يبتعث عندنا المحبة القائمة بين الناس ، فى دخيلتهم جميعاً فتتحنن قلوبنا أمام هذه القامات الصامتة والساكنة التى تنوء بها مأساة ما ، لكنها راسخة مكينة تواجه المأساة ، وقد غرزت أقدامها فى الأرض . فنتماسك نحن أيضاً ، خفية أمام هذه الشخوص المتماسكة التى تحرص على الحياة بعناد ، أمام هذه الوجوه الصلدة الصخرية التى تنهل منها العاطفة مع ذلك ، وقد بترت بترأ عن جسومها ، أو قطعت عنها شرائح اللحم وتراكيب العظام ، أمام هذه الظهور المنصوبة ، والأجسام القوية التى اجتثت عنها رؤوسها وهى مع ذلك تختزن ثمرات الحب والحياة فى قرارتها ، كأنها تختزن بذوراً صلبة مليئة بالعزم . والرغبة فى التحرر والانطلاق ، وصدورنا تنبض أمام هذه العيون الواسعة المصرية التى تفيض بالفاجعة ، وبالعمق ، وبالرقة أيضاً .
- ليس فنه إذن مجرد بحث عن الأسلوب ، ذلك شىء عقيم ، إنه أيضاً شاعرية ورحمة تنتقل إلينا أساساً من خلال الألوان والمساحات . أنه أحياناً يحب أن يسمى مذهبه ( الواقعية الشعرية ) ، لكنه الآن يحب أن ينسب نفسه إلى ( التعبيرية الجديدة ) التى تكتسح الساحة الفنية فى الحقبة الأخيرة . وهو محق فى كلتا النسبتين ، ومازالت التصنيفات غير قادرة على الوفاء بأمانة بما ينقل .
- ولكن ما اهتمامنا بالبطاقات والألفاظ .. ؟ الواقعية إذا شئت ، والتعبيرية بلا شك ، وأصداء ، سيريالية لا تريم ، لكنها كلها تنبع عن حس جمالى مرهف ، وشاعرية فيها غناء أسيان تخامره دائماً نبرة حزينة ، تصل أحياناً إلى ذروة كالذروة التي يبلغ فيها القلب أن يبكى . على أنه دائماً يعنى بأن يضع لك زهرة حمراء ، تفاحة حمراء ، أو حمامة أو سمكة حمراء ، شمساً أو قمراً أو أفقاً وضيئاً ، كأنه يؤكد أن عنده دائماً استبشاراً ، ولكنه استبشار مركب وصعب التكوين ، يضم فى حناياه حساً بالفجيعة ، ذلك كله لا ينتقل إليك إلا عبر الوسائل التشكيلية فحسب : اللون والمساحة والتكوين .
- عن هذه الرحمة ، وعن هذا الإيمان كنا نجد الشخوص الشعبية المصرية ، فى أعماله المبكرة . وقد ظلت هذه الشخوص باقية على نحو ما فى كل لوحاته ، بعد أن ازدادت رهافة وصفاء تشكيلياً خاصاً . كنا نجد عندئذ ، ومازلنا نجد ، تنويعات على الصيادين الاسكندرانيين مع قواربهم وأسماكهم ، كأنهم أخوة الفنان أو ( الأنا الأخرى ) عنده ، هذه القوارب الجانحة ، والمبحرة هى أدواتنا كلنا للخروج إلى الكون العريض، وهذه الأسماك هى عطايا الكون لنا ، وما نستنبطه نحن من الأعماق . أما هذه النسوة وأولادهن ، وثيابهن السابغة ، فلسن مجرد نسوة ، بل أمهاتنا وأخواتنا ونساؤنا ، وأجسادهن المسطحة فيها مع ذلك أنوثة مترعة - كالفاكهة - بعصارة محجوزة . لقد تخلين الآن ، ربما عن المنديل بأوية ، والفستان بسفرة ، ولكنهن مازلين قيمة تشكيلية أساسية فى عمله ومازالت الأنوثة عنده لغزاً وغواية معاً ، ومازالت المرأة - جسدانية وميتافيزيقية معاً - هى ينبوع بهجة منيرة وأحتدام متوهج فى عالم اللوحة الداكن الثقيل .
- أما القطط والعيون والأسماك والطيور والأقزام فهى مصر الفرعونية والقبيطية والعربية معاً ، فى حوارينا وأزقتنا ، وفى ` بياصات ` بحرى والأنفوشى والعطارين ، وأركان الأسكندرية المنزوية ، فى سكك نفوسنا وساحات روح شعبنا ، وهى ليست ` رموزاً ` بل هى شفرات ليست استعارات أو مجازات ` أدبية - قولية ` بل هى ` علامات تشكيلية`، ليست دلالتها أساساً فى مضمونها التراثى أو الفولكورى - لا فرار من هذا التراث مع ذلك - وإنما دلالتها فى الصياغات التشكيلية أولاً وأخيراً ، أى فى مواقعها من مسائل التكوين والتلوين وإيقاع المساحات وتجاوب أشكال : الدائرة والمثلث والعمود الرأسى والخط الأفقى ، هكذا .
- ومن ثم فإن هذه الروح الشعبية لم تأت اعتسافاً ولا عن استهداف سابق مرسوم ، بل يأتى عمق تأثيرها من توفيق الأداة الفنية البحتة فى أداء وظيفتها الجمالية ( هذا هو الجوهر - الأسلوب معاً ، وعن صدق الفنان فى حسه بموضوعاته .
- شئ أخر فى هذه الأعمال ، شئ كأنه أنفاس آتية من عهود عريقة ، بدائية كأنه كتلة صخرية متدحرجة أولية ، توحى بها ألوان كأنها جواهر جافية غليظة خشنة وعناصر داكنة باقية بقاء الجبال نفسها ، وألوان من الخضرة الغربية أو الصفرة أو الأحمرار ، كأنها شفق بدء العالم ، أو غسق نهايته ، هذه أيضاً من سمات القربى الوثيقة بين الفنان ومصادره الشعبية ، وأوشك أن أقول بينه وبين مصادره البدائية .
- فى مرحلة من مراحل مسيرته الفنية واختفت أحلامه الرقيقة الآسية ، وشفافيته وشاعريته النحيلة الصافية المقطرة التى كانت من ماء الحنان والوحشة السائل على اللوحة ، ولكن ألوانه ظل فيها عمق قليل ، وانبساط على مساحات ضحلة وضاعت نهائياً حتى الآن ، تلك الخطوط الواضحة السوداء المحددة التى تذكرنا أحياناً بتفعيلات الشعر وإيقاع الأوزان والموسيقى التشكيلية الجنائزية عند ( رووه ) . لقد خطأ عبر حدود مراهقته الفنية وترك الساحات البراح الخاوية التى تهب فيها الريح ، واقتحم ميداناً فيه زحمة النضج واحتشاد الرؤى القوية .
- لوحاته عندئذ عجينتها كثيفة ، ألوانها متراكبة غنية خصيبة ، كأنها تربة تتفتق فيها الأزهار والنباتات والقمح والأعشاب ، طيبة ورديئة ، على السواء ، من ألف لون وكأنما كان - ولعله فى كثير من لوحاته الأخيرة أيضاً - يتفجر بالمتعة الحسية الخالصة التى تشعرك بامتلاء اللحم بين أصابع يديك ، وقوام الجسد اللحيم الطرى اللين ، وبهاء الألوان الضاحكة أحيانا أو قتامة الألوان المكتومة المقفلة على حياة عنيدة ، غائرة أحياناً أخرى .
- تجاوزت تصميمات اللوحة بساطة وسذاجة الصبا الفنى ، سواء كان رومانتكيا أو سيرياليا ، وأوضحت تصميماته معقدة ، مركبة ، كأنها متاهات التكوينات العضوية الحية ، تحيرك بتشابكها وتطورها وتقلبها على عدة مستويات ، لكن النظام الأساسى هناك ، فى مجموعها ، يلهمك بالأعجاب والعجب ، ويمكن دائما - مع تعقده - اختزاله إلى هياكله الداخلية البسيطة . ومع ذلك فإن الخصائص الجوهرية فى فنه ستظل باقية - أنى لها أن تزول ؟ - إن الشاعرية هناك ولكنها غنية كثيفة العجين ، والآسى الموحش الذى اتسمت به أعماله الأولى قد أصبح حزناً فيه اقبال على تجربة الحياة ومعاناتها ، والشغف بتلوين المساحات الكبيرة ألواناً هادئة فسيحة أصبح تغلغلاً يجمع بين ألوان تضعها فرشاة قد ثملت بخمر الأضواء والظلال ، تغوص فى أغوار التجارب الجمالية وتكوم ملء اليدين من بهجة التلوين، بهجة خالصة قوية فيها السكر النابع من الأحساس بالقوة والتمكن .
- اتسعت رؤيا هذا الفنان فأصحبت شاسعة ، كأن قامته قد طالت، وغارت رؤياه فى الوقت نفسه إلى موالج دفينة فهى متغلغلة راسخة القدمين، وتعقدت كما تتعقد الحياة الأولية فتصبح كياناً عضوياً متراكب المستويات يلم أسره نظام وطيد متعدد البؤر والأطراف.
- ويسعنا أن نقول إن خصائص فنه عندئذ - ومازلت إلى حد كبير - هى :
- أولاً : المتعة الحسية العنيفة التى يجدها فى اللون .
- ثانياً : النضج فى التشكيل والاحساس معاً ، إذ يجمع بين عدة مستويات فى تنظيم شتى المساحات والتكوينات ، وفى الإيحاء بشتى المشاعر والمزاجات .
- ثالثاً : الشاعرية التى تجاوزت البساطة الرقيقة إلى الكثافة الخصيبة .
- رابعاً : النبرات القوية المليئة فى تناول الموضوعات بجسارة واقبال ورسوخ .
- من أهم القضايا التى تثيرها ، دائماً أعمال أحمد مرسى ، مرة أخرى ، قضية العلاقة بين التكوين التشكيلى ، بقيمه المختلفة من حيث المساحة واللون والخط والروابط الشكلية ، وبين المضمون الذى يكمن وراء الصياغة التشكيلية . وأنما تعرض لنا هذه القضية فى لوحاته الأخيرة التى نجد فيها هذه العلاقة الحميمة بين ما نصطلح على تسميته بالشكل ، وما نحاول أن تستكنهه باعتباره المضمون . هذه دائماً من الأسئلة التى ما تفتأ تثور من جديد ، مهما قيل فيها ، ومهما تكررت الإجابات عنها بصياغات مختلفة ، ولا فاصل يمكن أن يكون بين هذين العنصرين ، حقيقة ولكننا بهذه التقسيمات والتجريدات ، نحاول أن ندرج إلى خفاء العمل الفنى .
- ذلك أن العمل الفنى عند أحمد مرسى يكتنفه خفاء ملحوظ ، لا ينال منه ، لأنه عنصر آسر من عناصر التواصل بين الفنان والمتلقى لفنه . وقد يبدو من الغريب أن يكون الخفاء ، والغموض ، والأستعصاء على الفهم العقلى القريب المباشر ، عنصراً من عناصر التواصل ، ولكننا نعرف أن ذلك من كشوف السيريالية ، والرمزية والتكعيبية والتجريدية وغيرها من مذاهب الفن الحديث ، وأن الأنجازات الفنية فى هذا السبيل تتجاوز الجسور القديمة المعبدة المطروقة ، وتلقى بجسور جديدة ، فيها جسارة وجرأة ، بين وعى الفنان ووعى المتلقى لفنه ، عبر المهاوى والأخاديد والفواصل التى تقوم ، بالضرورة بين كل وعى وآخر .
- والمهم فى ذلك أن هذا الخفاء نفسه عامل من عوامل الجاذبية ، ونداء ، ودعوة إلى التلاقى ، بما فيه من تحد ، واستفزاز يتطلب الأستجابة .
- أن الرمز عند هذا الفنان ليس قيمة شعرية فقط ، وليس قيمة فكرية فقط ، إن الرمز هنا ، والمضمون الدرامى المكتوم الخفى ، إنما يندرج فى تلاصق عضوى بالقيم التشكيلية التى تكون اللوحة .
- ويمكن أن نستخلص بعض هذه القيم التشكيلية من اهتمام الفنان بالتشكيلات الدائرية والمثلثة أساساً ، ومحاولته الدائبة فى إقامة تكوينات غضة و أصيلة من العلاقات المتبادلة بين الدائرة الكاملة والناقصة والمقطوعة والمضمرة ، وبين المثلث فى مختلف تركيباته ، وبين الخط الأفقى الممدود ، والتعامدات الرأسية .
- ومن القيم التشكيلية الأخرى العلاج اللونى الذى يختطه الفنان ، متوخياً فيه أن يثير عندنا الصدمة اللونية الحسية ، فيثير بذلك نفسه يقظة للوعى ، وتوفراً للأحساس ، فهو يستخدم الأزرق والأخضر فى علاقات خاصة . وهو يضع الأحمر فى مواقع مفاجئة ، وهو يندرج بالبنفسجى الداكن والأزرق بمختلف ظلاله ، فى علاقات تجريبية يوفق فيها ، فى لوحات مرموقة عديدة وعتيدة توفيقاً كبيراً .
- من هذه العلاقات التشكيلية نفسها وليس من إضافات أو اقتحامات خارجية عنها تتقطر لنا إيماءات الرمز، والدراما الكامنة وراء اللوحة ، وهذا بالضبط ما أعنيه عندما أقول إن الرمز عند هذا الفنان قيمة تشكيلية أساساً.
- فهو لا يفرض علينا تصوراً فكرياً ، بل هو يتيح لنا التأثر التشكيلى ، بما تحمل أعماله من علاقات تشكيلية : الدائرة الناعمة من ناحية والمثلث الجاف الحاد من ناحية أخرى ، التدرجات اللينة فى اللون ، ثم المساحات المفاجئة ، الحمراء أو البيضاء الناصعة ، بما تحمل من صراع آنى كامن وقطرى - هذا التناقض التشكيلى نفسه هو الذى يحمل المضمون الدرامى ، وليس العكس أن صح ، مرة أخرى أن هناك إمكان للتقسيم بين القيمتين التشكيلية والدرامية ، وفى ظننا أنه ليس هناك تناغم وتوازن وتجاوب بين القيمتين .
- ومن هنا تأتى القضية الثانية إذ نصاحب تطور صنعة هذا الفنان من اللوحات الصغيرة الكثيفة العجائن المزدحمة بالتشكيلات الصعبة ، إلى أسلوبه الحالى ، وهو أقرب إلى الجداريات الفسيحة ، كأنما يعوضنا عن بهرة الأنفاس وازدحام الصدر فى الدراما الشعرية التى تكمن وراء رؤياه ، بانفساح الأفق التشكيلى، واتساع مساحة الدراما التشكيلية ، سعياً وراء هذا التوازن ، وإقامة لعلاقة الفعل ورد الفعل فى التكوين النهائى .
- أن الصفاء التشكيلى الذى يعود مرة أخرى إلى أعماله بعد أن كان قد استهل به هذه الأعمال - على نحو فيه كثير من البساطة التى تشارف على البراءة - هذا النقاء الناضج ، أذن ، فى أعمال أحمد مرسى ، وهذه التكوينات الجريئة المقطرة ، وهذه الألوان التى تتسع فى مساحات عريضة تكاد تكون من نغمة واحدة ، وأن كانت فيها التدرجات التى تكاد تكون عفوية ، هذه كلها تقرب صنعته الفنية شيئاً ما من التكتيك التجريدى ، وتكسبه ثراء جديداً .
- وفى ظنى أنه يتجه إلى التخلص من تعقيدات التأثيرات السريالية المركبة .
- إن له الآن رؤيا تشكيلية خاصة به أصيلة ، تجمع بين العناصر التجريدية والرمزية معاً ، كما تجمع بين الشاعرية والتعبيرية معاً ، دون أن تكون هذه المصطلحات جميعاً وافية ولا كافية .
- ولكنه ، فى ظنى ، لم يخلص تماماً من تراثه السيريالى - الشخصى والعام - سواء كان ذلك التراث شعرياً أو تشكيلياً ، فمازالت الرؤى ذات الجنوح السيريالى تراوده ويعالجها ، كأنما هو الحنين إلى حب قديم .
- وفى ظنى أيضاً أن المساحات الواسعة ، أو ` الجداريات المصورة ` كما أسميها ، هى الأداة التى تتفتح فيها موهبته الشاعرية - التشكيلية على أكمل وجه .
- أحمد مرسى ، فى يقينى شاعر تشكيلى هذا صحيح ، ولكنه تشكيلى بالدرجة الأولى ، وفى إهاب الباحث التشكيلى يكمن الشاعر الذى يبحث عن أسرار الروح .
- فى عام 1969 ، منذ عشرين عاماً بالتمام ، كتب الناقد اليونانى - المصرى ديمترى دياكوميديس : ` إن مناخاً غريباً ينتمى إلى الحكايات الفانتازية ، إلى الأدب السادى القبرى المقبض، على السواء ويتصل بالتعبير عن شحنة الليبيدو الغريزية ، وعن الذهنية الحادة المرهفة ، معاً، يخلص إلينا من هذه اللوحات الكبيرة التى يعرضها أحمد مرسى .
-`ولا شك أن فى عمل هذا المصور رغبة واضحة فى الإيحاء الشعرى ، وفى تجسيد الأحلام ، وهناك فيه ذكريات ملموسة من السيريالية ، وتأثيرات من شاجال وبيكاسو ولكن ذلك كله قد استوعبه الفنان وتمثله تمثلاً تاماً ، مما يتأتى عنه تصوير شائق جداً ، جذاب جداً ، جاء عن فكر واعى وعن جسارة وعناد . أى أنه بعبارة موجزة ، عمل لا يشابه أعمال الآخرين` .
- ( البروجرية الفرنسية ، القاهرة 29 مايو 1969 ) .
- وبعد ذلك بنحو خمسة عشر عاماً يأتى الروائى والناقد والكاتب المعروف المقيم فى لندن شفيق مقار ، ليقول : `لا يسمى أحمد مرسى لوحاته ، فلا يحدد لها هوية منطوقة بالكلمات أو الأرقام أو حتى أبيات الشعر، باعتبار أن اللوحة قادرة على أن تفصح لك بنفسها عن هويتها الحقيقة متى تواصلت معها وتركتها تستدرجك وتغويك فتفتح لك منفذاً إلى العالم الذى جاءت منه فانبثقت فى وعى الفنان . ومرسى على حق فى تعففه عن تسمية لوحاته. فهى لا تحكى حكاية ولا تدعى موقفاً فلسفياً . ولا تجتهد فى تقديم أيه عروض تسجيلية أو تقارير مصورة عن الطبيعة ومن فيها . ولا تتغنى بشئ . ومع كل ذلك ، تظل لوحات فصيحة للغاية - متى أصغيت وتركتها توسوس فى سمعك ونظرت بعينين مفتوحتين فتركت ألوانها وخطوطها تتسرب إلى ما تحت عتبة الوعى .
- فاللوحة عند مرسى عملية إعادة تركيب للواقع بعد تفكيك أوصاله ، وإعطائه ألواناً جديدة تكشف النقاب عما يخفى ذلك الواقع وراءه ، لتظهره على حقيقته كما تتراءى لمخيلة الفنان .
- وحقيقته فاجعة . لذلك يظل اللون الأزرق - لون الحزن عن المصريين - بكل تدرجاته ، والبنفسجى ، والرمادى ، واللون الأسود ، مفترشاً معظم مساحة اللوحة من ألوان أحمد مرسى الأثيرة ، إلا حيثما تعلق الأمر بالمرأة .
- فالمرأة فى لوحات مرسى تتوهج ، وهى - بشكل ما - نبع اشتعال داخلى ما يفتح الطريق أمام ألوان كالبرتقالى والأحمر لتفترش عالم اللوحة بما أسماه مرسى فى مرثيته لبراك ، بريق اللون ، وإن كانت ألوان مرسى الزرقاء والرمادية والبنفسجية والسوداء تظل تلغو بعذاب مندهش لعذاب ناقم ومغتاظ أو قاعد مسلم أمره لربه ، فإن انبثاقات اللون الحادة التى تحدثها المرأة بحضورها فى لوحاته ، أشبه بانبثاقات الموسيقى سبيليوس ، لا تكف عن القول : آه . هذا عالم فظيع ، لكن فيه المرأة ، فهى تحاجى الحزن وتدحضه - إلى حين . ريثما ينبثق عذاب رمادى أو أزرق أوبنفسجى جديد .
- وأن كانت المرأة عزاء ، وملاذا فى خضم برودة الحزن المثلوجة التى ينضح بها جسد العالم فى لوحات هذا الفنان . فإن الحيوانات - والجياد - بشكل خاص التى تسرق من ذلك العالم الوحشى بعضاً من سكينة أشبه بالسلام الذى يعقب الصلاة . وقد يكون ذلك السبب فى أن أحمد مرسى الذى لا يكف عن إعادة ترتيب ملامح الوجه البشرى وإعادة ابتكار الأشكال للكثير من أعضائه ، يستسلم وديعاً طيباً لما تغويه جياده به من جمال. ( الدستور ، لندن 18 فبراير 1985 ) .
- فى التقديم الذى صدر به الفنان معرضه الأخير فى نيويورك ما يشير إلى معان قد نتفق مع صاحب التقديم فيها أو نختلف :
- ما يومئ إلى العشاق الماثلين ، برضى فى السكينة والثبات ، تغمرهم المساحات العريضة المسطحة ، كأنما قوة العاطفة تكاد تشل البهجة ،وكأنما حس التحرر يغلفه الصمت .
- أو ما يومئ إلى أن الفنان يصور الطائر - رمزاً للحرية، والحصان- رمزاً للخصب - مرة بعد مرة ، باعتبارها أجزاء لا تنفصل عن المشهد السيكلوجى الداخلى . فلا نرى الطائر أبداً يشق الفضاء ولا نرى الحصان أبدا يعدو فى مناكب الأرض .
- أو ما يومئ إلى أن عمل الفنان وأن كان رمزياً فى مضمونه، إلا أنه عمل تصويرى وبصرى.
- أو ما يومئ إلى أن اللوحات مقسمة إلى نغميات مرهفة التدرج ، منخفضة النبرة رصينة وقاتمة فى معظمها ، وتسهم أصداء هذه النغميات فى تكوين الأحساس الشامل بالعمق الذى يتحقق حينا عن طريق تصوير الأجواء الخارجية وحينا عن طريق أبعاد المنظور المحسوبة . ونجد أن الظلال تزيد من هذا الحس بالعمق كما أنها تشارك فى سرية الصورة النهائية - وهى صورة مبنية على الجماليات التكعيبية التى تكتسى بنبرات تعبيرية عالية لا تردد أصداء صرخة `مونش ` بل تذكر بما نجده عند ` بيكون ` من` العاطفة - فى - السكون` .
- أوما يومئ إلى أن شخوص الفنان مائلة فى السكون دائماً ، والتفاعل بينهم ليس جسدياً بل هوتفاعل ينتمى إلى العاطفة .إنهم يجسدون تناقض الموت فى الحياة ، بل الحياة فى الموت إن رعب الفراغ عند أحمد مرسى يبلغ من طغيانه أننا نرى عازفاً موسيقياً مستوحداً ، ساكناً وقد شاهت ومسحت أداته الموسيقية . والشئ الوحيد الذى يخفف من هذا الرعب هو - أحياناً - مساحة حمراء تضيف دفئاً وأملاً إلى بيئة قاتمة وحزينة ، ينتظر فيها الإنسان والطبيعة ، كلا على حدة مجئ الخلاص النهائى : انتصار الخصب على العجز والعقم .
- سوف أخلص إلى بعض القيم التشكيلية فى مجمل عمل هذا الفنان وخاصة فى لوحاته الأخيرة.
- فمن حيث التكوين : تتسم تكوينات أحمد مرسى بالسعة والأنفساح العريض وبقسمة صرحية أو معمارية واضحة - فى الفترة الأخيرة على الأخص ، وأن كانت تلك القسمة كامنة بالقوة فى أعماله الأولى - مهما كان من مساحة هذه الأعمال .
- ومازالت الوحدات البنائية فى عمله - على اتساعها - هى:
- أولاً : وأساساً الدائرة بأشكالها ودرجات أكتمالها أو نقصانها ، وظهورها أو تخفيها ، واستوائها أو انبعاجها، والدائرة مع ذلك عنده دائماً توحى بقدر من النعومة والأنسياب ، وتوحى ، من ثم ، بقدر من التصالح مع العالم . والتوافق معه ، بدرجات مختلفة ، والأتساق فى داخل قانونه الأساسى ، قانون الدوران والصيرورة المستمرة .
- المثلث وتنويعاته هو الوحدة التالية فى الأهمية ، سواء كان مبتوراً أوصحيحاً ، سواء كان متطاولاً مسحوباً أو مضغوطاً مسطحاً ، سواء كان جلياً أو مضمراً ، وأخيراً سواء كانت خطوطه حادة قاطعة أم مغلفة بقدر من الليونة - ولا أقول التهدل - والرخاوة .
- أما اعتماد الخط الأفقى والخط الرأسى فهو اعتماد أساسى فى تكوينات أعمال الفنان . بل يكاد يبلغ درجة من الاقتحام والسفور وفرض الذات تدفعك أحياناً للانتباه إلى أن ثم ضرورة حتمية ، فى رؤية الفنان ، لهذه التقسيمات الصريحة القوية ، وكأنما يقول لك ، دون أن يقول شيئاً بطبيعة الحال - أن العالم عنده ليس انسجاماً تاماً وأن التجزؤ والأنقسام فيه هو أيضاً قانون لا مفر منه .
- ومن نافلة القول أن هذا النوع من التقسيم بسيط ولا سفسطة فنية فيه ، ولكنه يسهم إسهاماً حقيقاً فى إقامة الصيغة الصرحية أو المعمارية فى اللوحة ، ويرسخ بنيتها الداخلية ، ويصنع - بذلك - هيكلاً رأسياً لا تتعرض فيه اللوحة للزعزعة التى تتأتى كثيراً عن اتساع مساحاتها ، أى أنه ينأى بالتكوين عن خطر الأندياح والتميع الكامن في انثيال التكوين الفسيح وفى فرشته المنبسطة ، ويسهم فى التكوين ، بشكل أساسى ومتكرر ، قيام الشخوص العمودية ، كأنها تماثيل حية ، أو كأنها قامات تبدو دائماً شاهقة وراسخة ورأسية الأركان وهى مع ذلك مشدودة متوترة ساكنة وماثلة وعلى وشك انفجار مكتوم لا يحدث أبداً ، وكثيراً ما تأتى فى وحدات ثنائية أساسية من رجل وإمرأة ، أو حصان أو حضور غير مشخص مع أداة موسيقية ، وهكذا ، وتساندها وحدات ثانوية تأتى غالباً ثلاثية ، وصغيرة ، أو بعيدة ويكتمل التكشيل بوجود وحدة الطير أو السمكة أو الحيوان الذى يتخذ سمة أسطورية أو ميثولوجية ، فانتازية على كل الأحوال ، وعلى الرغم من التشويه واختلال المقاييس المألوفة الذى يلحق - عن عمد - بهذه الكائنات الصرحية أو المعمارية الشامخة ، فإن فيها مع ذلك قدراً من الجلال يفرض وجودها علينا فرضاً .
- والحصان - كما لا يمكن أن يغيب عن الملاحظة - هو الحضور القوى فى كثير من التكوينات ، بكتلته الجسمية أحياناً ووجوده الرحيم خبئ المعنى فى معظم الأحيان ، ووجهه الذى يتصل بملامح إنسانية غير منتصلة ، وكأنه فى أحيان كثيرة حصن حصين ( وليس مجرد حصان ) أى كأنه ملاذ وسور ومأوى ونجده ، أكثر بكثير من معنى وجود المرأة التى تبدو دائماً مدعاة للقلق كما أنها ينبوع للبهجة .
- فلا شك أن لوجود الحصان معنى رمزياً وأكاد أقول معنى ميتافيزيقيا ، يتأتى عن هذه القيم التشكيلية : الجسامة والرسوخ ورصانة الألوان وتعبيريتها ، وصياغة الملامح الإنسانية وما وراء الإنسانية معاً .
- والصقر الفخور - هل هو حوريس العريق ؟ - يمت بصلة وثيقة إلى هذا التصور، وذلك التصوير ، بل هو يأتى أحياناً كأنه كيان شامل يظل الكون ويهيمن عليه ، كأنه رخ آلهى، ويأتى فى معظم الأحيان إما على شكل وحدة مثلثة ، مركبة المثلثات ، أو فى تكوين أفقى مسيطر .
- يقوم البحر الساجى العريض الداكن الزرقة،عادة بدور أساسى فى تكوين اللوحة ، بأفقيته الفسيحة المترامية، تقسم اللوحة أحياناً وتلائم بين مقوماتها أحياناً أخرى، تقطعها قطعاً أو تدور فى داخل بنيتها بدائرية ناقصة ومتعرجة أحياناً أخرى، أن حرية هذا الفنان فى تكوين لوحاته` الجدارية` تقترن فيها البساطة والتركيب، ولا تقف عند حدود الروتين الذى يركن إليه غيره عادة عندما يواتيه النجاح .
- يعدل الفنان إذن من أفقية البحر بأن يجعله دائرياً أو مثلثاً - خليج أو بوغاز - مرة ، وبأن يجعل العلاقة بينه وبين الوحدات الأخرى علاقة حرية وتنوع ، فالشخوص أو الحيوانات أو الطيور أو الأسماك كلها ترتبط بالبحر بعلاقات تشكيلية متنوعة ، فلا حرج عند الفنان من أن تسير القامات البشرية ، أو تطير على مياه البحر وأن تخوض القامات الحيوانية فى غمراته ، بل قد يكون ذلك ضرورة فنية ، كأن البحر عنصر جوهرى من عناصر الوجود بالنسبة للوحة وبالنسبة للرؤية الشاملة من وراء اللوحة .
- أما من حيث التلوين : فأن الخصيصة الأولى فى أعمال هذا الفنان هى قتامة أو دكنة الألوان ، من ناحية ، وقيمة الصدمة فيها ، من ناحية أخرى .
- فهذه ألوان الحلم الليلى العميق أو ألوان الكابوس المطهرة المصفاة ، أو ألوان هواجس النفس الخفية : الأزرق بكل تدرجاته ، والرمادى ، والأسود ، أما الصدمة فتأتى إذ تجد الأحمر القانى مثلاً ، فى قلب الأخضر الخام ، على خلفية من البنفسجى القاتم أو ذلك الضرب من الأزرق الداكن أو العتمة المزرقة الكامدة وهكذا.
- أن زرقات ورماديات هذا الفنان جديرة وحدها بدراسة تفصيلية ، فهى فى تراوحاتها وتبايناتها وتآلف نغمياتها تدعوك للتأمل الطويل ، وكأنما هى أصداء مفصحة وشجية عن أنواع من الشجن متآخية أو متنافرة ، تنبثق فى قلبها بهجات غير متوقعة .
- والتدرج اللونى، أو` الموسيقى - التشكيلى` ، من الأزرق إلى الرمادى الفاتح أو الداكن أصبح الآن من الملامح الثابتة - المتغيرة باستمرار - فى عمل هذا الفنان .
- انظر مثلا ورديات - أو حمرات - اللحم الأنثوى وما يجرى مجراه من علامات الأنوثة فى العالم - السمكة على سبيل المثال - وقارن ذلك بدكنات أو قتامات أو غبرات الأجسام الذكورية - رجالاً أو جياداً .
- وعلى طول هذه السلالم اللونية بمختلف تنغيماتها لن تجد ` حلاوة ` أو عذوبة سكرية ما ، فلن تجد ، بالتالى تهافتاً انفعالياً قط .
- وفيما يتعلق بالعلامات أو الشفرات الأثيرة عند هذا الفنان أو إذا شئت ، لك أن تسميها مفردات لغته التشكيلية ، فسوف أشير بسرعة أولاً إلى وجوه شخوصه ، إذ هى أقرب إلى الأقنعة المبتورة الفاغرة عيونها مع ذلك عن حياة عميقة تفيض مأساوية على نحو ما ، وهى على الأغلب مثلته حتى لتكاد تكون نمطية فى هندسيتها ، ولكنها عارمة الحيوية فى داخل هذه القالبية ، إذ تثقبها تلك العيون الشاسعة الفسيحة .
- فهذه إذن قيمة التشوية الجمالية .
- تأخذ من الأساليب التعبيرية وفيها مع ذلك شبهة تجريدية ، لعل ذلك يعزى إلى الفتنة التى يمارسها المسرح على هذا الفنان الذى زاول عمل الديكور المسرحى منذ عقدين من الزمان .
- وفى هذا السياق المسرحى سوف تجد أن العباءة ، أو الوشاح ، تقوم بدور خاص فى لغته التشكيلية ، فهى تتيح له منطقة كاملة من المقدرة على الصياغة والتعبير والتصرف فى التشكيل ، وهى فى الوقت نفسه تحمل إيحاء خاصاً يمت بصلة إلى الصوفية ، أو الروحانية وهى أيضاً قيمة درامية فى توزيع نغم التكوين الموسيقى ، وفى حرية هذا التوزيع . على أن الوشاح ، والعباءة علامة أى شفرة على جدلية الخفاء والتجلى، على ثنائية التغطية والتعرية ، وفى داخل عالم أحمد مرسى سوف نكتشف باستمرار هذا التفاعل ، وذلك الحوار بين الغامض الملتبس الذى يتوارى خلف السر المكنون وبين المكشوف العارى الذى يشارف على الفضيحة .
- ومن مفرداته الأخرى التي كان يؤثر استخدامها ذلك التاج القديم الذى يكلل به رأس الشاعر أو الموسيقى،` الأنا الأخرى`، الذات المسقطة على اللوحة ، فكأنه تاج الشوك أو عطية الذهب الأسطورية الممنوحة للذات التى تتصدى للغداء وللتضحية بالذات .
- وهناك عنده أيضاً مفردة القيثارة العود ، أداة الموسيقى والشعر، صامتة خرساء مرة ، أو صداحة بالغناء ، مرات كثيرة : هذه غواية الشعر القديمة التى أزعم أنها لم تبارح دخيلة هذا الفنان فى أى وقت من الأوقات .
- أما العجلة الدائرة الكبيرة ، ملقاة على الأرض عرجاء مهملة أو دوارة منطلقة مرة أخرى ، فهى من علاماته الأثيرة أيضاً ، على تجليها الواضح أو خفائها فى داخل بنية التشكيل ، سواء .
- وهناك كما نعرض علامات الثعبان أو القط ، أو السيف الفولكورى الذى يرفع سيفه وكأنما هى تحية للفنان الراحل العظيم عبد الهادى الجزار ، صديق الفنان وصفيه القديم الفقيد .
- لست أتفق مع قضية أن طائر هذا الفنان ساكن باستمرار ، بما يحمل ذلك من دلالة على نوع من الأستسلام لليأس . ذلك أننا نرى كيف يحلق هذا الطائر ويدوم ويسف ويسمو فى العنان ، وكيف يتخذ أحياناً ألوان البهجة والاحتدام .
- هذا الفنان الذى تربى فى بحرى والقبارى ومحرم بك فى اسكندرية ، وعاش وأحب وتزوج فى القاهرة ، ويخوض الآن غمار الغربة فى نيويورك ، عرف الموانئ وأن لم يعرف المرافئ بعد . جاب الأحياء البلدية العريقة الحافلة باللون والأنفعال ، واشتغل وشقى فى شوارع العاقولية وبغداد فى العراق ، استلهم تراث الفراعنة والقبط والعرب ، واستبصر الفن الحديث ، فنان جاد ، لأنه على وجه الدقة لا تفتنه عن نفسه الشعارات المغوية ، بل يغوص وراء قيم فنه الصعبة . نهض بعمل شاق ، وشق طريقاً طويلاً فى الفن والنقد والشعر ، وقع على لقى باهره بعد البحث المخلص لقى الجمال العميق الذى بمقدوره ، وهو فقط بمقدوره ، أن يرهف حساسيتنا أمام آفاق الأشياء ، وأبعاد النفس ، وصلات القربى والرحم بعضنا ببعض ، وأن يجلو بصرنا وبصيرتنا ، وأن يزداد به واقعنا وأحلامنا غنى وخصوبة .
بقلم : إدوار الخراط
مجلة : إبداع ( العدد 7 ) يوليو 1989
أحمد مرسى .. من بحر الإسكندرية.. إلى شاطىء الزمن
- ولد الفنان الشاعر أحمد مرسى العام 1930 فى قلب الإسكندرية مدينة النور والأمل الممدود والممزوج بمياه المتوسط .. والضوء الساطع المتلألىء على أطراف موجات متتالية ومتتابعة تجاه الشاطىء الآخر فى حالة من المد والجزر الفكرى.. حصل الفنان على ليسانس كلية الآداب فى اللغة الإنجليزية العام 1954، إنتقل إلى نيويورك ليقيم فيها منذ العام 1974، ولم تتبدد فيه قوميته ولا أرض النور التى نبت فيها.. فهو دائم الحضور سنوياً وبدون إنقطاع.. وهذا الفعل إنما يدل على أن روحه وعقله متعلقان بأرض الوطن، وهذا ما يميزه عن غيره من المهاجرين الذين تعالت قاماتهم كذباً وتهاوت هويتهم وذابت روحهم فى الشاطىء الآخر ولا يتذكرون أرض الوطن إلاّ عندما تغيب عنهم أشعة الضوء ويأتى عليهم الليل الدامس الطويل ويشعرون بالوحدة بعد زمن طويل أخذ ما أخذ من العمر .. وفى النهاية لم يجدوا سوى حضن الوطن الدافىء حتى ولو فى أيام النهاية !! وهذا هو قدر الوطن الأصيل، أقام الفنان العديد من المعارض الخاصة بمصر ولندن وكولومبيا ونيويورك وواشنطن منذ العام 1958، والآن أقامت له وزارة الثقافة معرضاً كبيراً وهاماً بمجمع الفنون بالزمالك التابع لقطاع الفنون التشكيلية، ومن مؤلفاته الهامة تلك التى كلف بها من قبل دار النشر الفرنسية ( لاروس Larousse ) لإعداد دراستين تاريخيتين عن الفن التشكيلى فى مصر والعراق وتم نشرهما فى مجلة ( الفا Alfa ) التابعة لدائرة المعارض لاروس طبعة العام 1975 بباريس، شارك فى إصدار مجلة الطليعة العام 1968 التى لعبت دوراً هاماً فى تطوير حركة الحداثة المصرية والعربية، كما صدر له ديوان ` أغانى المحاريب قصائد أولى بالإسكندرية العام 1949، إيلوار وأرجون مع الشاعر عبدالوهاب البياتى القاهرة العام 1959، تتصدر كبرى أعماله متحف الفن المصرى الحديث ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ودار الأوبرا المصرية والبنك الصناعى بالكويت.. كما صمم خمسة رموز لمحافظات بمصر، ومقتنيات كثيرة لدى الأفراد بمصر والعالم العربى وأوروبا وأمريكا. وإمتدت إبداعاته إلى خشبة المسرح المصرى وصمم الديكور المسرحى وملابس مسرحيات ( سقوط فرعون - أول أعمال الكاتب المتميز ألفريد فرج، مأساة جميلة - أولى مسرحيات عبدالرحمن الشرقاوى الشعرية ) كما ترجم شعر قسطنطين كفافيس العام 1970 ( ثورة الموتى) ، والشعر الأمريكى الزنجى بالإنجليزية بنيويورك العام 1981 .
- الفنان أحمد مرسى حالة متفردة ونادرة لكونه متعدد المواهب فهو رسامُُ وملونُُ وشاعرُُ وكاتبُُ ومصممُُ لديكور وأزياء المسرح وجرافيكىُُ.. وتنساب جميعها ثراءً فى نهره وتذوب فى بعضها البعض بفعل تفكيره العميق فى الفن وبفعل تلاطم أمواج أحاسيسه ومشاعره.. لتستقر على شاطىء الذاكرة كبصمة بصرية دامغة.. حية مع حركة الزمن التى لا تتوقف، والمتأمل فى شخصية الفنان الكبير أحمد مرسى يكتشف الهدوء، الصوت النابع من العمق، المشاعر والعاطفه المتأججة والنابعة من القلب.. نظراته عميقة .. متقطع النبرات الدالة على الصدق والأمان الإنسانى الداخلى - بسيط فى حياته متواضع لأبعد الحدود، عندما أتفحص ملامحه وأتعمق فى جوهره الإنسانى أرى شخوص لوحاته فيه..والعيون الواسعة الصاعدة لقمة الرأس أجدها خلف نظارته وأجده يتحول إلى ما يشبه ألوانه الدافئة فى جلده وتنساب الزرقة إلى ملبسه ويحدها الأسود وتغمره سلاسل الأمواج الحنونة لترتفع به إلى سماء منسوجة بالزرقة والرمادية البترولية السوداء يرفعها طائر الخلاص، وتبقى العيون فى البحار محلقةً محدقةً باحثة عن المجهول.. أو باحثة عن الشهيد.. أو الروح ويحيط بشخوصه موجات هادئة أطرافها عاكسة حمراء كشهب إستقرت فيها، وصدى صرخة تملأ الكون للإنقاذ .
والرمزية فى أعمال الفنان أحمد مرسى تتجلى فى أعماله كركيزة أساسية تُبنى عليها أفكاره ودلالاته الإنسانية والمتشبعة بروح أشعاره والمستمدة أيضاً من رمزية الفن المصرى القديم التى اعتمدت على الإشارة الدالة على الفكرة والعقيدة فى نفس الوقت.. مع الفارق الزمنى والتاريخى ومع إختلاف حالة الطقس الإجتماعى.. ومؤثرات الزمان والمكان على الإبداع الفنى، فالفنان يتحرك إلى الداخل لا يكتفى بالمشهد الخارجى فيذهب بنا إلى أبعاد سحيقة فى أغوار النفس العميقة كاشفاً عن جماليات الروح ومشاهد الإرادة والعزة والعزيمة وتتجلى هذه المعانى فى إشارات ليست خاطفة ولكن متواصلة من العيون البراقة الواسعة التى تتوجه بنظراتها إلى اللامرئى.. إلى الهرم أو إلى المستقبل أو إلى المجهول .. أو إلى خارج اللوحة أو إلى أحمد مرسى نفسه فنظراته لا تتوقف .. فيضاً من الإنسانية والعاطفة الممتدة إلى القلب وبدون توقف .
- يقول الناقد الأسبانى ` ألفونسو أرمادا Alfonso Armada ` مراسل صحيفة (ABC ) الإسبانية فى نيويورك` لم نقضِ سوى أربع سنوات جالسين وجهاً لوجه، يفصل بيننا مكتبان معدنيان ملتصقان بحكم وزنهما، هما طاولتان مدرسيتان صلبتان من الخمسينيات، تعودان إلى الوقت الذى تأسست فيه الأمم المتحدة . وهناك الطقس اليومى.. التحيات التى نتبادلها وكأننا محاسبان فى شركة ملاحة شحنتها غامضة. لقد ولدنا نحن الإثنين على ضفاف البحر : هو فى الإسكندرية، وأنا فى فيجو. ومن إسكندرية طفولته ومراهقته، المتسربلة بثوب أسطورى فى رباعية لورانس داريل التى التهمتها فى سنوات تكوينى، لم يتخلف أى أثر . - ولكن عندما يزرع شوارع مانهاتن القديمة، وبخاصة منطقة الباورى ( Bawery ) مخلّقاً قصائده ذهنياً أو راسماً فى شواطىء ذهنه القديم إسكتشات تغدو بعد ذلك لوحة، يقول إنه يشعر وكأنه يطوف عبر شوارع إسكندريته التى ولد فيها . نحن نتشارك نفس المكان ، وبعض العواطف الجياشة الحميمة ) شدنى هذا المعنى الذى يؤكد على أن روح الفنان فى موطنه وأن الإسكندرية فى كيانه ودامغة فى ذاكرته.. ويذكرنى تعبير جميل دال على بصمة الذاكرة من الفنان فاروق حسنى خلال حديث معه الأسبوع قبل الماضى عن الفن `يشرح لى لوحة من مقتنياته الخاصة للفنان ` أنجرزIngers 1780 -1867` ويستطرد أنه عندما يتأمل اللوحة يتخيلها للفنان الفرنسى دافيد David 1748-1825` وهذا دال على بصمة الثقافة المرئية للفنان التى يغلب عليها ما هو قابع وراسخ ومدموغ بها ومدى درجات التشابه فى رسم الجسد بالرغم من نعومة وإمتلاء أجسام أنجرز وصلابة وقوة ورشاقة أجسام دافيد، فعندما يكمن الوطن والأرض فى داخل الفنان تظل ذاكرة حيَّة تطفو مهما تغير المكان وتبدَّل الزمان، ودالة على أصالة الفنان وإنتمائه لوطنه. ويقول ألفونسو مرة أخرى ( المذاهب هى الإبر الموجودة فى كلاَّبات الفراشات، فهى لا تؤكد سوى أنها كفت عن رفرفة أجنحتها، ونحن نستخدم المذاهب كبطاقات للخروج من هنا ، لا لنجوس فى تلافيف حياة وتلافيف ذاكرة السوريالية، الرمزية، التعبيرية، لوكانت الروح المصرية موجودة، فمن الممكن قراءتها فى لوحات أحمد مرسى...) .
- وعندما أتامل لوحات أحمد مرسى أشعر بطوفان ثقافته ومخزونه الثقافى المتوسطى كأن شخوصه العارية أو النصف عارية أو الرؤوس المبتورة والعيون النقية التى تملأ الفراغ اللانهائى ليس بداخل اللوحة فقط بل وخارجها تبدو فى حالة تحوُّلِّ ديناميكى جمالىِّ البناء وعميق التعبير .. وناطق بحالة الزمان، أما زوايا بناء الرأس الحادة فى تقابل نهاية الأنف بأفقية الرأس المبتورة.. وظهور العيون فى تماس مع الرأس .. وإمتداد الأنوف جعل العقل الحكمة الدالة على معانى إنبثاق العين من قمة الرأس وإسقاط المعنى المرئى والغامض فى نفس الوقت وكأنه يشير إلى القلب دون علامات مباشرة مرئية ولكن فى السياق التعبيرى لحال الأشخاص التى تبدو صامته وثابته البناء والحركة .. وهذا التحليل يسوقنا إلى أهمية خيال المتلقى الذى يشعر بأن أشكال وشخوص أحمد مرسى آتية إليه من الداخل وكأنها حالة إستدعاء لمكنونات داخلية.. والجسد فى أعماق أحمد مرسى ما هو إلاَّ كيان مملوء بالشاعرية.. وفيضان المشاعر .. كما هو مملوء بالمكنونات المتراكمة عبر الزمن البعيد.. أجساد تبدو للوهلة الأولى صامته ولكنها تتدفق حركة وحيوية ونورانية روحية من أعماق العيون الواسعة التى تملؤها حدقات متيقظة يقظة الفارس .. وكما تبدو الأفواه مغلقة.. قابضة الشفاه فى تحدٍ مع الزمن الذى لا يتوقف فكل شىء صامت ورصين وثابت ومستقر ما عدا اللون الحر الداكن الذى يغلب عليه الزرقة والسواد والضوء المشع.. والأنامل الدقيقة التى تذوب وتتلاشى فى الجسد.. ولكون العين هى محور ومركز الحركة والباعثة بالروح والحيوية.. والآتية للإستحواز على المتلقى وإحتوائه داخل اللوحة ولا يستطيع الفرار فهى نظرات تفوق نظرات `الجوكانده لدافينشى` فى سحرها وسرَّها وعمقها وتداعياتها.. لما لها من غموض يكمن بداخله الماضى.. وشهادة كاشفة عن واقع الإنسان .. وحلم بدون حدود .
أ.د / أحمد نوار
مجلة المصور - فبراير 2003
فى لوحاته .. القبض على الزمن فى عيون كائنات لوحات أحمد مرسى
- معرض كبير القيمة والتنوع فى مراحلة الزمنية من اعمال تصوير فنان مصر الكبير أحمد مرسى بعنوان `ميتافيزيقا ` افتتح فى قاعة `مصر` بالزمالك ويستمر شهراً يعرض حوالى ثلاثين لوحة اقدمها لوحتين بورترية من الخمسينات للفنان المثال آدم حنين والناقد إيميه ازار وأحدثها لوحات رسمها عام 2012 قبل شهور قليلة من يناير الحالى .
عيون تجمدت فى حدقاتها
- كلما رايت أعمال الفنان المصرى الكبير المهاجر الى أمريكا منذ ما يقرب من الأربعين عاماً أجد هناك دائماً زاوية لم أرها قبلاً رغم وجودها وأدرك مفاهيم جديدة فى حالة توالد ذاتى داخل لوحاته للمحات من عوالم الدهشة مثلما هناك حدقات عيون تجمدت فتحاتها لعدة سنين.. هذة الحدقات فرضت نفسها على مشاهدتى لأعمال المعرض وبقوة أكثر من أى رؤية قبلا وكأن تجمد حدقاتها داخل محاجرها هو المظهر الخارجى لتجمد الزمن وعلاماته الخارجية .. تماما مثلما تتكون أشكال من الكثبان الرملية الصحراوية علامة على مرور الرياح وكذلك التشكيل الأنسيابى الناعم لرمال الشطان علامة على انسحاب الموج فوق الشاطىء .
- لذلك.. الوقوف أمام لوحات الفنان الكبير فى معرضة الحالى تدعو لتأمل علاقة نظرات عيون كائناته على اختلافهم بإدراكهم لمفهوم الزمن.. خاصة ونحن كائنات داخل الزمن اى اننا كائنات زمنية مؤقتة.. والزمن نفسة شىء ذاتى محض حتى أنه مسجل داخلنا بطريقة لا نعلمها فاذا دقت ساعتنا البيولوجية قمنا وتحركنا على ايقاع قرقعات عقربا الساعة بصورة متواصلة ملحة ..
- هذا الزمن.. الى اى مدى استطاع الفنان احمد مرسى ان يقمع فى لوحاته ذلك الذى فصله عن ارضة لعشرات السنين.. قد ندرك فى لوحاته قدرته على قمع الزمن ببعد فلسفى عبر شخوص متجهة بعيونها الى الداخل .. أى نحو الماضى لزمن غير ممتد فى اللوحات.. أم هو باحث عن امن مفقود ؟ وهل ماندركه من شخوصه وقد تجمدت فى الزمن يرجع لإحاطتها بما هدد وجودها اللحظى ؟ رغم اننا لا نستطيع ان نعيش بلا زمن كشخوص الفنان الكبير إلا أن بعضا من يتشابه وشخوصة بأن يعيش مختبئاً فى اللحظة الآنية :
- كما تبدو شخوص احمد مرسى وكائناته شديدة التوجس من المتطلع اليها لذا هى تنظر اليك دون أى تطرف لها عين ترقب دون مشاعر الا التوجس أو احساس بالاغتراب أو المعاناة المحيطة بها.. دون تفرقة بين عين الانسان والحيوان والطائر والأسماك التى جمعتهم سمات واحدة لكائنات قوية البنيان ذوات نظرات عيون لا مهتزة من كائن لآخر ومن مشهد لاخر حتى أنها تبدو كعيون السمك بلا تعبير الا تعبير عدم الوجود الحى مفتوحة مثل حفرة لانهائية مظلمة .. كما ان لعيون شخوص اللوحات ما يوحى بأن مظهر الرؤية كأنة جاء نتيجة لشكل من اشكال الاستدلالات اللاواعية فهل شخوصة ايا كانت وضعيتهم اللحظية فى حالة من العزف على التشيللو او الكمان او صائدى السمك أو المترقبين على البعد .. هل هم عالقون كعيونهم بين الزمن والابدية وهل شخوصة على بينة من وضعهم الوجودى الواضح ان نظرات عيون كائناته وشخوصة ليست رد فعل عنيف نتيجة تجربة مؤلمة فى استدلالاتها وانما هى ربما رد فعل لحماية النفس او فقدانها..
مفهوم `العين الثالثة `
- وتثير تلك العيون المحدقة المتسعة فكرة ان كانت تبصر حقا ؟ بمعنى الادراك البصرى اى القدرة على تفسير البيئة المحيطة.. وهل يرسمهم الفنان على اعتبار انهم مبصرون اى لهم دور ابصارى تفاعلى فى العمل الفنى ؟
- إلا أنة فى لوحة بوستر المعرض `امرأة بعيون أربع ` وهذا عنوانها أجدها تعمل عكس عيون كائنات احمد مرسى فهذه العيون الاربع تحيرنى فى مفهومها الرمزى ارتباطا بالمفهوم السائد فى لوحات مرسى بما تستدع لدى هذه اللوحة بهذا المنطق المفاهيمى الخاص بها فكرة `العين الثالثة ` رمزياً .. المعروفة ايضا باسم العين الداخلية الباطنية والتى تعود لمفهوم يشير الى العين غير المرئية التى تنص على التصور لابعد من العادى .. والعين الثالثة تشير الى مد البصر أكثر عن الادراك العادى.. وأيضاً العين الثالثة تشير الى البوابة التى تؤدى الى العوالم الداخلية وفضاءات الوعى العالى ويقال انها وراء العينين والجبين ويقال انها الغدة الصنبوبرية ..وأيضاً لوحة ذات العيون الأربع مع قدرة الرؤية المضاعفة كما تقدم نفسها يثير لدى تساؤل ان كانت هى فى ذهن الفنان عيون شخص ما عالق بين البصر والبصيرة ؟..
- من جانب آخر يبدو كأن هناك فى لوحات الفنان الكبير عقل خفى يحكم عناصر الطبيعة والكائنات وشخوص اللوحة معاً وكأن هناك علاقة غامضة بين الوعى وطبيعة المكان والتركيبة العضوية النفسية لشخوصها.. أو كأن هناك شيئاً ينتشر فى الفراغ وانه لا وجود لشىء يتكرر بنفس الطريقة لنفس الكائن..فالفنان لم يترك الحبل على الغارب لمجال الذاتية المعلقة فى لوحاته.. هذه العلاقة الغامضة تحدث ما يشبه تكامل لحياة خاصة فريدة بين العقل وحالة المشهد او اللحظة للشكل الجسدى الفيزيائى .
أنطولوجيا الجسد اللاإرادى
- مع أن ذلك الجسد هو لغة بذاته من شأنها ان تتحرر وهو قادر على تشكيل العالم كما هو عالم احمد مرسى وبقدر الهيئة الجسدية القوية البنيان الصامدة فى حضورها بلا ملل فى لوحات الفنان الكبير نجدها تجبرنا على الاعتراف بوجود رغبة لدى المشاهد لاكتشاف الشعور الذى لم يتشكل فى بعضة كاملا فهذة الاجساد القوية المتحقق وجودها يوجد داخلها ما يوحى بأن شيئاً ما قد سلب منها لكى يتسم موقفها الخارجى من الوجود بالانتظار والترقب لموقف او معنى كلى أو لا معنى لها على الاطلاق لانطولوجيا الجسد `انطولوجيا من اللحم`.. هذا اللحم اللاادارى المنتظر قد يروع خبرتنا فى ملازمة العالم.. رغم ان هناك معانى يمكن ان تستخرج من الجسد وتغيره الواقعى والتخيلى كوسيط لغة..
- إن فكرة الزمن التى قبض علية احمد مرسى بقوة فى لوحاته والذى يسكن فى اعماق عقولنا حين نشاهد لوحاته ويتشابك والواقعى والميتافيزيقى معا على نفس السطح لم تحقق فى لوحاته سوى الصمت المطبق لشخوص تواجه الزمن دون معين من الفنان الذى القاها تواجه مصير وجودى بمفردها بما لديها من وعى فطرى للخلود..فهل تترقبة ام تتحسر على جنة مفقودة قبل ان تنضم الى قافلة لوحات احمد مرسى التائهة عبر مدارات الزمن لينتهى بهم الأمر عالقين كعيونهم بين الزمن والابدية ؟
بقلم : فاطمة على
القاهرة 29/ 1/ 2013- باب ألوان وظلال
فى لوحة أحمد مرسى .. هل يمكن إيقاف الزمن أو قهره وإسقاطه ؟
- نحن كائنات داخل الزمن وعلينا ألا ننسى هذا.. وبما أننا نعرف أنفسنا أيضا بأننا كائنات زمنية مؤقتة لذا ندرك بأن لنا حدا.. وهذا ما ينذر اننا به عقربا الساعة بصورة متواصلة ملحة ..مع هذا فالزمن شئ ذاتى محض حتى انه مسجل بداخلنا بطريقة لا نعلمها فاذا دقت ساعته البيولوجية قمنا وتحركنا.. وهذا الغامض الساحر أطاحت به الرواية الحديثة كوسيط تموج بداخله كل الأحداث .. فكانت لأغلب كتاب رواية تيار الوعى وأهمهم الفرنسى مارسيل بروست والأيرلندى جيمس جويس والأنجليزية فرجينيا وولف والأمريكى ويليام فوكنر تجربتهم فى تحطيم الزمن .. فبعضهم سلخة من ماضية وبعضهم سلخة حتى من حاضره ..بينما أطاح بروست وفوكنر برقبته.
- والفنان التشكيلى كانت له مع الزمن علاقات أكثرها فلسفية أو رمزية ولم يحطمه الا السيرياليون.فقدم الفنان بالدونج جرين هانز لوحته الشهيرة `الأعمار الثلاثة للإنسان مع الموت `ورسم بيتر بروجل `فصول السنة `.. ورسم شهوره جان بول ليمبورج .. ورسم فيكتور فازاريللى لوحة تبين انحناء الزمان - المكان اهداء لأينشتين .. ورسم ميكانزم الساعة القاتل الفنان جيرالد مورفى .
وأقدم هنا عملا مهما للفنان الكبير أحمد مرسى فيه قدم علاقة رمزية مع الزمن من خلال رسمه لساعة جدار ووجه لامرأة مشروخين ربما ليدلل بهما الفنان على زمن تجربة إنسانية زائف..
- فنراه وقد رسم امرأة تكشف عن نفس منقسمة خارجياً بقطع طولى فى وجهها فى تماس بدرجة كبيرة والرؤية الميتافيزيقية ليكشف عن نفس داخلية منقسمة على ذاتها..ونراها ترقبنا بعين واحدة وقد خلعت عن نفسها عينها الأخرى ورفعتها إلى مستوى ساعة ضخمة أعلى رأسها نراها منقسمة أيضا فى محاولة من المرأة لانتزاع الزمن بل وإسقاطه وربما هى عين يائسة ترقب الزمن.. وقد نجح الفنان فى رمزية للإشارة لانتزاع علامات تشير إلى الزمن لنراها تتساقط إلى يسار المرأة علامات الأرقام العاشرة.. الثانية عشرة.. الواحدة..الثانية.. مما أحدث ما يشبه حالة خلخلة فى فضاء اللوحة إلى اليمين بينما يشير عقربى الساعة إلى السابعة والنصف وحدث إفراغ لجانب من آلة احصاء الزمن إلى اليسار داخل الساعة التى انتزع منها علامات الإشارة للزمن الذى لن يأتى بعد السابعة والنصف.. هنا صادرت المرأة على اشارات المستقبل وتركتها تتساقط جاعلة عينها المنتزعة عند عقربى الساعة .. فكانت هذه العين رمزا لرصد الحاضر أو تجميد اللحظة .
- وهذا الايقاف من المرأة للزمن ضمنا هو إيقاف لها هى نفسها ففى انعدام الزمن المسقبلى لا حركة ولا وجود..فقامت المرأة بعمل هو الفعل والنتيجة معا وربما هذا الأنقسام فى الوجه هو ناتج زلزال لحظة ايقاف الزمن.. كما يبدو هذا الانقسام يتحرك فى تداخل كظلال تبدأ وتنتهى فى ذات اللحظة .. وندرك كأنه لم يبق من هذا الكيان المنشق إلا نظرة العين المتبقية فى الوجه فاقدة التعبير والاتجاه كأنها تدخل بصاحبتها نطاقا بين الفراغ والموت ذلك الفراغ الذى يأتة بانعدام الزمن أو الزمن الذى لا يأتى فى الفراغ .
- هذه اللوحة الرائعة للفنان أحمد مرسى تكشف عن لا جدوى التواجد وحصره داخل دائرة عمل الآلة الرتيبة التى تحصى الزمن فى استفزاز.. فهل قصدت المرأة ايقاف الزمن ام قمعة وإسقاطه؟
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة - 3 /4 /2012
صراع الزمن المجرد والزمن الطبيعى
- العين المخلوعة من مقلتها ترفعها يد محتجة على رمز الزمن المجرد وحربه على الايقاع الطبيعى للإنسان ، تلك الحرب التى تذكرنا باليد الجريحة المتوسلة فى ` جرنيكا ` بيكاسو لسحنه الثور المخرب اللامبالية بكل تلك التوسلات وكأنها بورتريه للنظام العلوى القبيح غير الآبه بكل النداءات الموجهة إليه من شعوب العالم ليكف عن اغتيال شعبنا العربى الجريح فى سوريا.
- الوجوم المخيم على الوجه المنقسم على ذاته خير معبر عن تلك المأساة التى يعانى منها المواطن الأمريكى خاصة فى زمن العنف الذى يصدره للعالم بأشكال مختلفة تبدأ بالابتزاز الدولارى ، كعملة للعملات ، وتنتهى بالتخلص من أسلحة الدمار التى يتفنن فى صنعها ليلقيها فوق رؤوس سواه من الشعوب بحجة ` محاربة الإرهاب ` : الإرهاب الذى يصنعه ويصدره للخارج تعظيما لأرباح نذر جد قليل من الشعب ذاته .أما إرهاب الداخل فى أمريكا فيعبر عنه الفنان أحمد مرسى هنا، من خلال عرضه البصرى للفصام الحياتى الذى يعانيه المواطن الأمريكى لا سيما فى نيويورك : مقر ومقام `الشيخة ` وول ستريت ` حيث يستحوذ الواحد بالمائة على مقدرات التسعة والتسعين بالمائة على مقدرات التسعة والتسعين بالمائة من الأمريكيين أنفسهم والتى من أجلها خرج الشعب فى 47 ولاية أمريكية يعبر عن احتجاجه على سياسة الإفقار المتنامية التى يعانى منها لحساب قلة مطلقة منه تقامر به فى البورصة وليت الأمر يقتصر على ذلك الإفقار المادى ، إنما يتعداه لما يعبر عنه الفنان هنا بصريا بالفصام الذى يعانى منه عامة الناس هناك فى ظل نمط إنتاجى يقوم على كبت وتهميش الإحساس الطبيعى بالحياة لحساب تعميم موقف اصطناعى يقوم على الزمن المجرد فى مقابل الزمن الطبيعى .الأول متمثل فى النصف الأيمن من الوجه مزاحا عن نصفه الثانى المحتج على ما يعانيه من فصام رافعا عينه المنتزعة من مقلة نصفه الأول عاليا محتجا على رمز الزمن المجرد المصطنع والمهلك لحميمية الإحساس بالحياة .
- ذلك الوجه شديد القسوة والغلاظة الذى يعبر عن هيمنة أرباح الشركات العابرة للقارات والتى تغتال بلا تردد أحلام الشعوب فى السلم والاستمتاع بحياة طبيعية بعيدة عن الحروب الدائرة ضدها اقتصاديا وسياسيا ونفسيا، بما فى ذلك أحلام الشعب الأمريكى نفسه الذى يساء استخدامه فى تحقيق الأرباح الطفيلية التى تفتات على دماء الشعوب قاطبة.ومن خلال احتجاج الشعب الأمريكى الذى يعيش بين جنباته فناننا المصرى المهاجر أحمد مرسى نرى بوادر انهيار الوقت المجرد، رمز ذلك النمط الإنتاجى المغير على إحساس الإنسان الطبيعى بالحياة، فى صورة تصدع إطار الساعة وتساقط أرقامها تحت وطأة الاحتجاج الشعبى..
بقلم : مجدى يوسف
جريدة القاهرة - 3 /4 /2012
أحمد مرسى: الكلمات والرسم..شعرا
- تأجحت مواهب الفنان أحمد مرسى ( 65سنة) فى أواخر الأربعينيات عندما نشر كتابه الشعرى ( أغانى المحاريب) ولم يبلغ بعد العشرين من عمره، وأثناء دراسته فى كلية آداب إسكندرية تعلم الرسم والتصوير فى محترف ` سيلفيو بيتش` وهو نفس الاستوديو الذى تعلم فيه الإخوان أدهم وسيف وانلى .
- وقد تملك منه شيطان الفن فى أجمل سنى عمره، فأخذ يمارس الشعر والرسم والكتابة .. حتى صارت حرفة الفن - بكل أشكاله- ملاذه الوحيد فى مشواره الطويل، راغبا أن يحتفل العالم كله، فى الإنصات إلى أشعاره( التى صاغها بالعربية والإنجليزية والفرنسية ) ورؤية لوحاتة التى يود أن ينقلها بهذا التعبير والتأثير إلى جماهير الكون ، لإستثارة أفكارهم وايقاظ حواسهم .. وتحريك وجدانهم.
- وقد أختار أحمد مرسى الألوان الداكنة أول الأمر فى لوحاته الزيتية.. المغلفة بالغموض والأحلام وما فوق الواقع ، مثلما كان يتخير الكلمات والمفردات والمعانى. وإذا قارنا بين كلماته وألوانه وأشكاله الفنية نجد أنها ليست بالرموز الرياضية، ولكنها مثيرات عاطفية، لإنه لا يكتفى بالتحدث عن الأشياء المحيطة بالبيئة، إنما تحدث إلى روح الجماهير فى أى مكان.
- وفى السبعينيات عندما انتقل للعمل بوكالة أنباء الشرق الأوسط بالأمم المتحدة فى نيويورك ، أهتم بشكل خاص بفن الجرافيك، الذى اكتشف ولعه به ، منذ أن كان يرتاد مكتبات الإسكندرية ، وهو شاب يافع ، يشاهد فيها المعارض الفنية للفنانين المصريين والأجانب .. ويطلع على الكتب الفنية باهظة القيمة .. وقع نظرة على الكتب الفنية المحدودة العدد المسماة ` كتب الفن` التى تصدر فى طبعات فاخرة، وغالباً ما كنت تتألف من نص أدبى. ومحفورات جرافيكية أصلية مرقمة حسب حجم الطبعة وممهورة بتوقيع الفنان أو الكاتب أو الشاعر، إذا كانت عملا مشتركا، حيث أهداه صديقه ` أوسكار ` صاحب إحدى المكتبات القديمة ثلاثة محفورات أصلية للفنان العالمى بيكاسو من كتاب ` تحولات أوفيد ` تلك الذكريات ، ظلت مختزنة فى عقله .. إلى أن تعلم هذا الفن بمعهد ` ليجو` فى نيويورك ثم حصولة على ألة طباعة فنية فى مرسمه هنا ، وصياغة تلك الذكريات فى مقدمة كتالوج معرضه الأخير بالقاهرة.
- فى هذا المعرض أحتفل الفنان برسومه الجرافيكية المطبوعة ويكتب الفن التى ألفها مثل ` كتب الفن ` القديمة ، مهمتها بشكل خاص ` بالخط ` فيه وحده استطاع التعبير عن حجم الكائن البشرى وأشيائه الرمزية التى تعتمل داخل إدراكه الواعى والباطن . ويستمر هذا ` الخط` عنده ناعما رقيقاً شاعريا مناسباً ، مؤكداً حساسية الفنان وتمكنه التقنى والفنى إلى أبعد الحدود . فعن طريق خطوطه ورسوماته نستطيع أن ننعم بتلك الألحان النابعة من داخلها والتى تشكل أجساد الإنسان العارى .. وتلك الخطوط التى تنساب بطواعية.. خادشة سطح المعدن الصلب .. أو الخشب .. أو` اللونليوم ` والتى نشعر بعمق تأثيرها داخل قوالبه.. أثناء إمساكه بالإبرة الحادة أو المقطع الصلب ليمثل الخط المفرد ، كل ما يصبو له من وسيلة توصيل جيدة للمشاهد.
بقلم : محمد حمزة
الأهالى 1-3-1995
أحمد مرسى : انفعال مكتوم عبر قيم تشكيلية بحتة
- ما هو تطور أحمد مرسى من معرضه المشترك الاول الذى اقيم فى جمعية ` الآليانس` الفرنسية عام 1954، ومعرضه الفردى الاول الذى اقيم فى اتيليه القاهرة فى 1958. حتى الآن ؟.
- هناك عند هذا الفنان ، بالفعل، ملامح او خصائص ثابتة مستمرة من ناحية، وتطور، سواء فى الرؤية الفنية نفسها او فى التكنيك، من ناحية اخرى. فمن الملامح الثابتة، منذ البداية، انه لم يهتم ابدا بالقواعد الاكاديمية فى الفن، لم يعن بتقليد الطبيعة او ان يعطينا `ما يشبه الطبيعة`. وبالتالى كان منذ البداية يهمل قواعد المنظور مثلا ، ولا يلجأ الى خدع الاثارة، واعطاء العمق الثالث ، والتجسيم، والظلال، انه يحدد مساحات عمله بمساحات الصورة باستمرار:الطول والعرض، فقط فى داخل هذه المساحة، وبالاعتماد على اللون ، والتكوين فقط يعطينا ما يريد أن ` يقول `، اذن فهو يومئ الى العمق الثالث بمجرد توزيع اللون، ومساحاته، والتجاوب او المقابلات بين الالوان، ومن تركيبات التكوين نفسة .
- من الخصائص او الملامح الثابتة ايضا استخدام رموز ادبية او شاعرية، والعمل على ادماج هذه الرموز باللغة التشكيلية البحتة التى هى بالتحديد الالوان والمساحات والتكوين والايقاع... هذه فيما اعتقد هى المشكلة الرئيسية فى عمل احمد مرسى. وهى مشكلة صعبة. ذلك ان المرحلة التى قطعها فى حلها مرحلة طويلة.
- اما الميزة الثالثة التى يتميز بها عمله، اساساً، فهى مشكلة البحث عن الالوان الاصيلة، التى يسهم فيها مساهمة خاصة منه، اعنى ابتداع الوان، او الوصول الى الوان معبرة عنه، تلتصق بة هو، التصاقا حميما، وتعطى رؤياه الخاصه، وهنا، اساسا، اعتقد ان هناك تطورا ملموسا يسير جنبا الى جنب مع تطور فى التكوين او فى تصميم اللوحة.
-فى الاول كانت الالوان عنده مسطحة من نغمة واحدة تقريبا، فيها شئ من السطوع والصفاء- والصفاء يمكن ان يكون خداعا لانه بالضبط فيه بساطة، او حتى سذاجة اذا شئت- لقد كانت فيها تجربة، وبحث، الاخضر مزدهر جدا، الازرق عميق جدا، زجاجى، مثل الكريستال المطفأ- اذا امكن ان نصفه بهذا -، والطوبى الاحمر المحروق، غامق صحيح ، لكن، متوهج اكثر من اللزوم احيانا. الآن الفنان قطع مرحلة او مراحل، بعد ذلك، فالشاعرية الرقيقة الساذجة اعنى فى التلوين او فى قوام اللون المصفى، اختفت نهائياً. نجد الآن كثافة فى التلوين. مازال هناك البحث عن الالوان الخاصة الاصيلة المعبرة عن رؤية خاصة اصيلة، لكن فيها ` هارمونية ` الآن جديدة متعددة الاصوات بدلا من ` الميلودى` الغنائى الاحادى القديم - يعنى فيها تراكب ،عجينتها اثقل، فيها خصوبة، وفيها طبقات عديدة مختلفة، كل طبقة او جزء من طبقة ينعكس على الطبقة التى تحته، ويعطيه_ ويكتسب منه_ تاثرا او ` معنى ` اعمق. نلاحظ نفس التطور فى التصميم، او تكوين اللوحة: كان فى الاول فيه بساطة- احيانا بساطة مسرفة فى التصميم: دوائر او اقواس، او مثلثات متجاوبة تجاوبا واضحا جدا وقريبا جدا. والآن اصبح التصميم اشد تعقيدا، بل هو احيانا معقد اكثر مما ينبغى فيما اتصور ( إن صح ان هناك فى الفن ما ينبغىوما لا ينبغى ).
- عمل احمد مرسى بخامات متعددة. عنده رسوم اسكتشات بالخط، ابيض واسود، وبالجواش، والحبر الشينى وهو يمت بصلة الى ما عاد اليه اخيرا فى` الليتوجراف` او الحفر، نماذجه القديمة بالابيض والاسود فيها كل خصائصه فى الرسم draughtmanship نعومة الخط ، مع ثقة، ايحاء بالحركة والحيوية، وفيها سعى ايضا للرمز فيها- مثلآ- عارية ، قاعدة على فرش، وجهها مقنع بقناع اسود ممتزج بشعرها، توحى الينا باكثر من وجودها الجسمانى .
من اعماله ايضا رسوم او اسكتشات لمجموعات او اجزاء من الجسم، فيها بالفعل شئ من التلقائية، والطراوة، الطراوة الناضرة الطازجة، نجد فيها ان الحدود متسايلة غير قاطعة وفيها تجارب لونية شائقة.
اذكر من اعماله الاولى مجموعتين رأيتهما فى معرضه السابع، فى اتيليية القاهرة، فى أيار ( مايو ) 1966. المجموعة الاولى ثلاث لوحات: الشعر والموت ، زفة الشاعر، مرثية الى عبد الهادى الجزار، والمجموعة الثانية يصح ان نعتبرها اضافة جديدة جاءت فى شغل احمد مرسى: فهناك لوحة باسم انسان هذا العصر، هى تكملة وتطوير فى الوقت نفسه للوحات التى عرضها من قبل، اما باعتبارها ` صوراً ذاتية` او باعتبارها ` صوراً للمسيح ` - ولا شك ان هناك ترابطا - ما زال قائماً حتى اعماله الاخيرة، بشكل مضمر بين الافكار او الاتجاهات الثلاثة عند احمد مرسى: البورترية الشخصى، لنفسه، والمسيح- او ما يقوم مقامه فى الدلالة - والانسان بصفة عامة.
- ولناخذ مثلا لوحة بعنوان ` الثور ` من تلك الفترة ، ففيها اهم خصائص او معالم فن احمد مرسى عندئذ- او ربما حتى الآن. ليس هناك اى تقيد بالمنظور ، ولا اى محاولة للتجسيم، بل العكس تلاحظ على الفور ان اللوحة مكتظة، مزدحمة بمساحة لونية متفجرة، احمر غامق، مع تنويعات دقيقة جدا وكثيرة جدا على الأحمر، ان اكتظاظ اللوحة بالمساحة دون ان يعطى الفنان فراغا كبيراً ، او ملحوظاً حولها يؤدى الى ايحاء قوى بشحنة ضخمة، ليست انفعالية فقط بل هى شحنة تشكيلية ناجحة وموفقة، ثم ان تصميم اللوحة، أو تكوينها يبدو، لاول وهلة، تكوينا بسيطاً يعتمد على الاقواس الدائرية، بتشكيلات مختلفة، فى ظهر الثور وبطنه، وذيله، وارجله، اى ان هنا تنويعات على جزء من الدائرة، وقد ظل احمد مرسى على طول عملة، مهتما جدا بالدائرة، واجزائها، وتشكيلاتها، وبالخطوط الطولية النازلة العمودية تقريبا. وفى وقت من الاوقات كان من اهم تجاريه تنويعات المثلث، وقد ظل مهتما بها حتى الان.
- لكنه منذ تلك اللوحة التى اتكلم عنها- وحتى الآن - اصبح يجرب ادخال عنصر غريب- بل ربما معاد على الدائرة او اجزاء الدائرة، فى هذا العنصر- تشكيلة او تركيبة مربعة غامقة داخلة فجاة من يمين اللوحة، تكسر السمترية الساذجة او التى كان يمكن ان تكون ساذجة فى اللوحة، وتدخل نوعا من التوازن غير المتوقع سواء من حيث التصميم او من حيث اللون.
- ان اهم ما طرأ على عمل الفنان هنا كما ظهر يوضح فى هذه اللوحة الفارقة فى تاريخ تطوره، وفى معظم او كل اللوحات بعد ذلك هو علاج عجينة اللون، او ما يسمى `شغل الفراشات` brush work، ليس هنا تسطيح فى اللون، او وضع لون جنب لون فى علاقة جوار بسيطة، بل على العكس هنا كثافة، وعمق تشكيلى بحت، وتراكب متدرج من طبقات وتنويعات على اللون، الاحمر المتوهج الغامق فى نفس الوقت مثلا، وهو يأتى من علاج صبور ومثابر، لكنه، فى رأيى، علاج ملهم، لا يوحى اطلاقا بالصنعة الكبيرة التى تقع وراءه ، ولا بالجهد الكبير المبذول فيه، لدرجة ان هناك شيئا ماكرا، فى هذه اللوحات : هو ان الفنان ترك خيطا صغيرا من عجينة اللون تسقط على اللوحة بشكل تلقائى كما تنزل من الانبوبة مباشرة، تركها تجف، كما هى. -ان ذلك اعطانا - على الفور- احساسا بالتلقائية وايحاء قويا ان هناك حيوية نابعة من موضوع الصورة نفسة، كما لو ان الثور - فى تلك اللوحة التى اشرت اليها- يتصبب عرقا، وكان العرق ينزل منه فى اللوحة من فرط امتلائة بالقوة المحبوسة.
- أحب ان افرد بالحديث لوحة من اخص اعمال احمد مرسى لعلها ايضا من اقرب اللوحات الى نفسه على المستوى الشخصى والانفعالى، ولذلك، بالضرورة، اثره على المستوى الفنى ، هى لوحة مرثية لعبد الهادى الجزار.
-هذه اللوحة على خلاف كثير من لوحاته الاخيرة، تمتاز بنوع من الرقة فى اللون، بمعنى التحول لا الهزال، مما يوحى بمعنى الرثاء مترجما عنه بقيمة تشكيلية بحتة، قيمة اللون وحده اللون هنا ليست فيه عجينة الحياة الكثيفة، بل ان خطوطه `واسعة` قليلا، ونسيجه غير محكوم، غير وثير، وهى اقرب الى` لوحة حائطية` وتصميمها وتخطيطها اقرب الى النحت او الحفر.
- من الممكن ان القيم التشكيلية تؤدى بالفنان الى التجريد، لكن احمد مرسى لا يصل الى التجريد ابدا، على الرغم من انه يقترب منه اقترابا كبيرا واذن فهو يريد ان ينقل الينا، عبر القيم التشكيلية، معنى، وتوفيقه، او عدم توفيقه يتأتى بالضبط من مدى نجاحه فى ادماج القيم التشكيلية، `بالمعنى` الذى يريد ان ينقلة، اندماجا تاما، عضويا وفى نطاق الحدود التشكيلية، على اعتبار ان الايحاء الادبى هو مجرد واحد من عناصر العمل التشكيلى : يستخدمه الفنان كما يستخدم اى عنصر اخر، ان الايحاء المعروف المترسب فى وجدان الناس، عن الثور، وقوته، وفحولتة، مثلا، يتحول هنا الى مجرد عنصر يستفيد منه الفنان ليعمق القيمة التشكيلية لعمله، هنا، فى هذه اللوحة بالذات، نجح الفنان، فيما اعتقد، نجاحا كبيرا، بل نجاحا كاملا، فى عملية الاندماج بين العناصر التشكيلية، واسلوب العلاج التشكيلى ، وبين المضمون او الرمز الغامض، العام، الموحى الية بشكل وجدانى وتلقائى. اى بين العناصر التشكيلية وبين العناصر التى نسميها عادة عناصر ادبية.
- النجاح نفسه تحقق فى لوحة بعنوان ` الفرس والحصان`- ولكن هذه اللوحة تعمقا اكبر فى استخدام عناصر لونية مختلفة، وليس فقط تنويعات على لون واحد تقريبا، واستخدام مقومات شكلية اكثر- هندسية تقريبا ولكن متكاملة بنجاح، هى عناصر: الدائرة او اجزاء منها وعناصر المخروط المستدق- مثل مخروط الضوء، ولكن فيها نفاذا، واندفاعا مدببا، مثل الرمح، وفيها النجاح نفسه فى التوافق بين العناصر الشكلية والمضمون، مع جرأة اكبر فى البحث عن التنغيمات اللونية غيرالمألوفة، او على الاصح الخاصة، الصادرة عن رؤية جديدة .
- أعتقد، من تتبعى أعمال احمد مرسى ، خلال السنوات الاولى والاخيرة معا انه- قطعاً- متأثر بالسوريالية، وهو ما يمكن ان نجدة فى اشعاره- فأحمد مرسى شاعر كبير وإن كان قد توقف عن الشعر منذ اواخر الستينيات .
- المهم ان هذا التأثر يتخذ فى تصورى شكلين، شكلاً مباشراً وشكلاً غير مباشر. اولاً عند احمد مرسى، بالتأكيد، مجموعة من الرموز، والاساطير، ميثولوجية خاصة به، تدور حول الموت، والشعر، رموز من الجسد العارى، النحيل، المتطاول، والتاج - هو احيانا احمر واحيانا تاج من الشوك، وهكذا، ثم هناك الفرس او القطة، او القوقعة،او الغصون العارية المدببة من أشجارغريبة، والجمجمة، والهيكل العظمى ، وشباك الصيد، والوشاح الاحمر او الاخضر.. وهكذا، هى ميثولوجيا كاملة من الرموز، تخلق عالما خاصا متفردا له لغته الخاصة، وطبعا من العبث محاولة ترجمة ` ميثولوجيا تشكيلية` الى معان ادبية واضحة. المهم هنا هو كما اكرر دائما هو انصهار هذه الرموز كلها فى نطاق العالم التشكيلى نفسة، والتعبير عنها بلغة القيم التشكيلية وحدها.
- هذه، فيما اعتقد، أهم مشكلة يعالجها احمد مرسى طول الوقت.
- وحتى فى خارج نطاق تاثره المباشر بالسوريالية، فى اللوحات التى نجد فيها موضوعات تشكيلية بحتة، إن صح القول، نجد اهتماما كبيرا باختيار رمز او مضمون، يتجاوز العلاقات بين العناصر التشكيلية.
- لكن السؤال هو: هل نجح احمد مرسى، فى كل الاحوال، فى تحقيق هذا النجاح فى مجموعة ` لوحات الشعر`. اذا صح ان نسميها بهذا الاسم أى فى اللوحات التى فيها انصباب مباشر على مشكلة الرموز السوريالية؟ يخيل الى انه فى بعض هذه اللوحات وفى البداية على الاقل، فأن اللغة التشكيلية لم تستطيع ان تنهض بعبء الرموز السيريالية، او اذا امكن القول، الميثولوجيا الخاصة بأحمد مرسى، جنحت الى الشعر، والادب، اكثر من التصوير والقيم التشكيلية. اى ان تلك اللوحات -فى البداية- كان فيها شئ من القلق فى التصميم، فيها عناصر اضافية، اكثر مما تتطلبه العلاقات التشكيلية البحتة، احيانا فيها انفصام بين العنصرين، هذا على الرغم من النجاح الكبير جدا فى تفاصيل معينة من نفس هذه اللوحات، وعلى الرغم من نتائج مهمة جداً فى البحث التشكيلى من ناحية اللون، والتكوين، والمساحات.
لكن احمد مرسى- بعد مرحلة البحث الاولى - استطاع كما قلت ان يوحد بين هذين السلمين من القيم: القيم الرمزية السوريالية من ناحية، والقيم التشكيلية البحتة من ناحية اخرى. فلم تعد هذه المسألة كلها قابلة للمناقشة إلا فى نطاق تاريخ تطور عمل الفنان.
- ومن ثم فقد تم للفنان احمد مرسى ان يحل هذه المشكلة حلا صحيحا وموفقا.
- وتبقى مسألة ` تأثرة ` المفترض بالسوريالية وغيرها من اتجاهات التصوير الحديث. ان قضية ` التأثر` هذه- فى يقينى- قضية مغلوطة من الاساس، ذلك ان كل فن اصيل هو فى الآن ذاته غير نابع من فراغ مطلق، ولا متولد من رأس ` زيوس` مدججا بالسلاح كما ولدت منه ` اثينا ` فى الاسطورة، لكنه ايضا ما دام فنا حقيقا يظل متفردا وخاصا وغير مستنسخ او ` مشوب `.
- لا شك ان احمد مرسى قد تمثل السوريالية، وجنح الى التعبيرية، ونزع الى عناصر تجريدية. هذا كله صحيح، وفى فنه ما يومىء، الى استيعابه للفن القبطى وخاصة فى لوحات الفيوم، والى معرفته بفن شاغال وبراك ورووه وموديليانى وصراعه معهم وخروجه من مجالدتهم الى صياغات هى له وحده، لكن ذلك كله يدخل فى تكوين كل فنان، كما تدخل ` تأثيرات` الحياة.
- المهم فى ذلك ان هذا الفنان لديه بالفعل رؤية وتقنية كلتاهما خاصة به وغنية، كلتاهما تستقطب تاثرات الفن والحياة، ويتكون منها قوام جديد وحار وحى بالتاكيد فيه رسوخ واضافة واصالة.
- فى السنوات الاخيرة يتفجر ابداع احمد مرسى فى لوحات جدارية شاهقة قد تبلغ ارتفاعاتها فى بعض الاحيان نحو ثلاثة امتار وعرضها نحو اربعة امتار، وقد تزيد على ذلك فى احيان اخرى وهى تذكرنى احيانا بسيمفونيات سيبيليوس العاصفة المحتشدة ترتفع فيها قامات صرحية قد اخذت مداها حتى النهاية- ليس ثم من نهاية-فى اوضاع نحتية ساكنة وليست استاتيكية اذ تدور بينها بعضها بعضا، وبينها وبيننا حوارات لعلها تقع فى مستويات السر .
- هذه القامات ذكورية وانوثية على السواء عارية وطهرانية فى الوقت نفسه، سامقة المقاييس تطفو او ترسو فى نوع من السكينة الصافية.
- متناقضة وكونترابنطية مع خلفيات مدروسة قد تكون سماء رمادية ملبدة بالسحاب المتلاطم، او قد تكون امواجا ضاربة الى زرقة خضراء مرتطمة خلف جدار اشهب وقد تكون خلفية مضطرمة بلهب مكتوم الاحتدام، محمر وبرتقالى وغائم، وتدخل فى هذا الحوار المتعدد الالوان المتعدد النغمات كائنات احمد مرسى الاثيرة: رأس الحصان المائل بحيوانية عالية الحضور او ذلك الصقر حورس الالهى المعاصر الهائل الحجم او كأس تطاول السماء شموخا او هرم كأنه شراع مركب خرافية الحجم، او على العكس شراع مركب هرمى يتحد لجج الغمر، او اخيرا السمكة- الحوت ذات العين النجلاء الضخمة المستديرة التى لا تغمض ابدا. هنا ايضا مازلنا نشهد التعويذة الشعبية المأثورة فى اليد المبسوطة الاصابع التى تتوسطها عين مفتوحة ، او الساعة الجدارية القائمة ذات البندول الطويل فى صندوقها المستطيل، التى لا توحى بقياس الوقت بل بالعكس تماما تشير الى انتقاء الزمن.
- فما من شك ان شخوص وقامات ورموز احمد مرسى تقوم كلها فى `اللآزمن ` لايمكن ان ننسبها الى حقبة معينة فى التاريخ، ولكن الاهم من انعدام النسبية التاريخية انها تقع فيما يوشك ان يكون خارج الزمن نفسه.
- لقد تخلت القيم التشكيلية فى التكوين هنا عن هندسيتها الصارمة ` تقريبا ` التى كنا نعهدها من قبل، ما زالت الدائرة او المثلث او الخط المستقيم مائلة وموظفة لكنها لم تعد سافرة الوجود، تجريدية تقريباً كما كانت فى بعض مراحلة السابقة، بل اصبحت مضمرة ومطورة بل منسية احيانا.
- وهو ما يصدق كذلك على القيم اللونية التى تخلت تماما عن صفاء تجريدى تقريبا، لم تعد الزرقة نقية تماما النقاء- كما كان يحدث فى الماضى ولا الخضرة يانعة بل اصبح التدرج والتداخل والتموج الداخلى فى اللون هو القانون السائد فى حرية موسيقية إن صحت العبارة.
- من امثلة هذه الموسيقية ما يتبدى، على سبيل المثال بوضوح باهر فى لوحة ضخمة ليس فيها الا وجهان: وجه ` انثوى ؟` ابيض أشهب مزرق جانبى ` بروفيل ` ووجه ` ذكورى؟` اصهب فيه تموجات شاحبة او داكنة مأخوذ مواجهة، إن هذا التفارق التناسق اللونى والتكوينى على خلفية من الدهمة الداكنة الزرقة حتى درجات السواد المتدرجة القتامة، لا تقطعها إلا يد مبتورة ولكنها متلاحقة بوجود خلفى محجوب عنا فى غمار طيات الارضية القائمة المستورة عنا بالسر، ليل لا ينجلى، وإن كانت هذه اليد الشهباء البيضاء تقريبا توحى بأن فى الليل العميق إصباحاً كامنا.
- فى هذه اللوحات الضخمة اتساق فى التكوين يؤكد ضخامتها ويلغيها فى الوقت نفسه، لانه محكوم ومسيطر علية، فليست الضخامة هنا مما يفلت من انضباط العمل، ومن ثم فإنها مع وجودها تكاد تنسى ولا يعود هناك عند الملتقى حس بالتشتت مع ان شساعة اللوحة واتساع عالمها، وانفساح افقها وهى من المقومات الرئيسية فى العمل، يمكن ان تشتت وعى الملتقى لكن العكس تماما هو ما يحدث، اى ان ذلك كله يقضى الى نوع من التركيز والتقطير، بل التكثيف. هنا ايضا ` انشودة للكثافة`.
بقلم : ادوار الخراط
الحياة 21-6-1995
جماليات العبقرى أحمد مرسى
- لو أنى المسئول عن أخبار التليفزيون ، لا خترت كل يوم خبرا فنيا عن معرض من معارض الفن التشكيلى ، لا لشئ إلا لأن المناخ الفنى فى مصر لا يتمتع فقط بالجذور العميقة والمعاصرة ، ولكن لأن قاعات العرض لهذه الفنون صارت تزداد تألقا وعددا ، وقد زادت قاعات الفن التشكيلى عددا ، وصارت ايضا تختزل مدة اى معرض الى النصف عن السنوات السابقة ، وهذا يعنى ان السوق يتحرك ، ويتألق، وعن نفسى اتعجب حين اسمع عن ركود السوق، لان زيادة عدد قاعات الفن التشكيلى يعنى زيادة القدرة الشرائية.
- ولو انى مسئول باخبار الاذاعة والتليفزيون، لأذعت اكثر من مرة فى اليوم الواحد ان هناك معرضا لعبقرى مصرى موهوب بلا حدود هو احمد مرسى هذا الذى سكنته قوة الشعر، وقام بتحويلها الى الوان ولوحات..
- ولو اننى من المسئولين عن برامج التليفزيون لقمت بتصوير كل لوحة من لوحات الكبار فى هذا المجال الحيوى، الفن التشكيلى، خصوصا ان القاهرة تملك من رصيد المبدعين ما يمكن ان يضئ العالم فى عصر تشكو فيه الفنون على مستوى الكون من جفاف شديد.
- كنت اتجول هذا الاسبوع فى معرض احمد مرسى المقام فى مجمع الفنون بالزمالك، وفن هذا العبقرى لايمكن ان نحاصره فى كلمات، اللهم الا ان كانت الكلمات شعرا، والكتيب الذى طبعه قطاع الفنون التشكيلية عن احمد مرسى يحمل قصيدة من ادونيس عن هذا الرسام العبقرى، يقول أدونيس رسوم توشوشنا: ` أكيد اننا نجئ من سلالة الضوء، أن آباء الريح هم الذين يقودون غيومنا، هكذا ننحدر من جبل المرارات، ولكن فى موكب من نخيل الرغبة `.
- ولا احد يمكن ان يوجز شعر ادونيس ولا قدرتة على الرحيل فى دنيا الوان احمد مرسى، هذا الذى امتلك تمرده واحتفظ بطاقة من الرصانة تميز لوحاته، حتى صارت لوحاته عطرا يمكن ان يجعلك فى حالة تأمل لفساد الكون، ويمكنك ايضا ان تلمس الكثير من جماليات الحياة.
- تجولت فى معرض احمد مرسى، وكدت اصرخ فى البشر بعد ساعتين من التواجد فى مجمع الفنون الجميلة بالزمالك: هنا من يغسل ضميركم، ويمكنكم ان تغسلوا اعماقكم من الاحزان، ويستطيع الواحد منكم حين يجرب الصداقة مع اللوحات ان يقوى بصيرته بقدرة غير عادية على رؤية عمق الحياة وحيويتها..
- ولانى لست مسئولا عن أى نشرة أخبار، ولكنى مجرد كاتب على باب الله لذلك أوجه لكم الدعوة لرؤية لوحات احمد مرسى، هذا العبقرى الذى هاجر مبكرا الى الولايات المتحدة، ولكن لوحاته تضئ الآن فى القاهرة.
-وبطبيعة الحال لا يمكن ان أنسى عميق الامتنان الذى فى قلبى للمبدع أحمد فؤاد سليم المشرف على مجمع الفنون، وأحد السادة الكبار فى رؤية هذا الفن الرائع، فن الرؤية سواء أكانت تشكيلا أو مسرحا أو سينما، فضلا عن قدرته غير العادية على تنسيق أى معرض، بحيث تقود اللوحة الى اخرى.
- وها أنا أردد مع أدونيس: رسوم تقرأ عبث العالم.. فيما تتموج كأنها بحيرات من الورد مزمار فى فم الضوء لوحة، خطوط تشعر ألوان تفكر وها هو جسد الافق يهبط من مغادرة اللون ليتحاور مع روح الخط؟ نعم رسوم احمد مرسى هى تجسيد للافق وهو يولد من بين الالوان ليتحاور مع روح كل لمسة فرشاة على سطح اللوحة.
بقلم : منير عامر
العالم العربى 2-4-2005
الرسام المصرى أحمد مرسى فى معرضه الاستعادى بصريات شعرية وطفل يرسم ما يعرفه لا ما يراه
- يقيم الفنان التشكيلى احمد مرسى الذى ولد فى الاسكندرية عام 1930، فى ما نهاثن بنيويورك، منذ عام 1974، ويتردد على القاهرة والاسكندرية كل عام من دون انقطاع. ومرسى من الفنانين الذين نجحوا فى تثبيت بصماتهم على نتاجاتهم الفنية عبر المعارض الكثيرة ، أكثر من عشرين معرضاً فردياً فى أميركا والقاهرة ولندن والاسكندرية ، كما له دواوين ضمت مختارات من أعماله الزيتية والاكريليك على القماش والتخطيطات الطباعية ، والحفر على الزنك. وينتمى اسلوب الفنان مرسى إلى المدرسه التعبيرية ، الرمزية المشحونة بجو فانتازيا تؤطر أعماله التشخيصية ، وتعتمد تبسيط الشكل مع التركيز على إيحاءات وعناصر فى حالات تعبيرية قوية فهو يسعى لإثبات وجوده ضمن فسحة غير محددة ، فى حالة محاولة اقتراب قدر المستطاع من حالة حلم مرتجاة . ففى لوحة بدون اسم ، 1986 ، اكريليك على القماش ، نجد الطيور فى تشكيلاتة الطاغية الثنائيات تشير الى حالة حب ربما ام انعدام التواصل : طير غير محدد يحط على افق لونه ازرق مصفر وخلقيته تتسم باللون الأزرق الغامق كأنه يوحى بالغروب. وفى مقدمة اللوحة نلاحظ شخصا يتأمل، تظهر ملامحه الساكنة وبقربه حمامة ذات لون أسود ، وهو سيد الألوان ، بأقدامها الآدمية، وخلفهم اللون الأصفر المائل الى البرتفالى كأنه ساحل البحر وزرقة مياهه.
- وفى لوحة أخرى بدون أسم أيضا ،2005، إكريليك على القماش، إمراة تغنى ، ونلاحظ الرأس شبه مشطور الى قسمين بشكل مبالغ فيه كأنه لا يفرق بين الخيال والواقع ، فهو ينظر لشخوصه نظرة شبه مبهمة، كأنه لم يكتشف منطقها الواقعى ، وهناك نوع من الخيال ولو بشكل فطرى ، كما يلجأ الفنان إلى أسلوب الحذف والاختزال ليؤكد هذا المعنى ، فاليد اليسرى تمسك الميكروفون ، بينما أهمل تفاصيل اليد الأخرى وأعطاها لونا ازرق باهت وكذلك شعرها. وفى لوحة ثالثة، بدون اسم ، 2005، تظهر امرأة وهى تعزف الجلو. ونتابع اهمال التفاصيل الآلة الموسيقية من اسفل اللوحة بواسطة خطوط غليظة تفقد تدريجياً العلاقة العارضة بينها وبين هيكل آلة الجلو ، مما يدل على بحث الفنان مرسى عن مدركات فكرية جديدة لخلق الوعى بالشكل.
- يثير الفنان مرسى فى ذهن المتلقى حافزا للتأمل والبحث ، من خلال أعمال ذات احجام تتراوح بين 3و5أمتارً. ونلاحظ فى اللوحة (بورتربه فنان) تطور أسلوبه الفنى ، ونلمس إلفته للتكوين المتين مع نمو إتجاهه نحو الديناميكية فى التشكيل ، لإطلاق مخلوقاته التى تسبح فى لجة من الأجواء السوريالية المتشابكة والمتداخلة مع بعضها فى علاقة متأججة وحميمية . ويطل علينا وجه مرسى من خلل جناح لونه أسود يشبه عباءة امرأة تملك وجهاً يشبه رأس الطير. اما جسدها فيحلق فى فضاء عبر زورق النجاة الذى يرسم على شاطئ الأمان بعيدا عن المدينة التى تغرق .
- أما من ناحية التخطيطات بالأبيض والأسود فهى تمتاز بقوة التعبير وذات ايقاعات انسيابية، فنلاحظ التسطيح فى تخطيط كبير الحجم بالفحم عن `رجل يركب الحصان `. إن عدم التقيد بالنسب بين العناصر المختلفة ، يأتى كمحاولة من الفنان لأن يلاشى المنظور فى فراغ الصور -
- فلكى يرسم حصاناً، تجده يوضح الرأس والأرجل فى نفس الوقت ، مع اظهار الشخص بوضع مثالى يجمع بين الحركة الديناميكية ورؤيته للأشياء من زاوية معينة ، وكأنه طفل يرسم ما يعرفه لا ما يراه.
بقلم : أسامة ختلان
الشرق الأوسط 17-4-2005
صدمة العزف على آلة وترية بلا أوتار
- هذه اللوحة الرائعة للفنان الكبير أحمد مرسى بعنوان `عازفة التشيللو` رسمها عام 2007 وهى ككثير من لوحاتة تثير لدى أكثر من رؤية .. أحياناً رؤية بصرية مباشرة وكثيراً ما تكون رؤية تدفع للتأمل الفلسفى لمقصد الفنان .. وفى الحالين تترك لوحاته فى نفوسنا شيئاً من وجع أو متعة الفن .. وهذه العازفة أجد لها صدى كبيرا فى نفسى وأراها معقدة ويديعة فى تماسها والروح .
- سأصف اللوحة وصفا بصرياً ثم نرى ما تتركه لدى كل منا أثر .. نلاحظ أهم ما فى اللوحة أن العازفة تعزف على آلة وترية حمراء بلا أوتار مغموسة فى بحر أزرق بلا أمواج .
- وقد أصاب وجه المرأة شرخ مكتمل حول محيط الرأس.. الآلة البلا أوتار والبحر بلا أفق ولا شطآن وفوق رأس العازفة يحلق طائران لتدفعنا للبحث فيما وراء المشهد تبعاً لذكرياتنا النفسية الخاصة . إذن ماذا يختبئ وراء دلالة وجود آلة وترية بلا أوتار ؟.. ودلالة وضع عزف العازفة وحركة أصابعها متقوسة كأن هناك أوتارا ؟ هذه الجزئية توحى بأن هذا المكان لا تُسمع فيه أصوات تماماً مثل الفراغ فى المحيط الجوى ، حيث ينعدم الصوت فى الفراغ .. ومن جانب آخر ربما يوحى هذا إلى درجة ما لا نقطاع الأوتار أنه ليس هناك من يسمعها أو أنها قائمة فى الفراغ ..أما ذلك الإنشقاق فى وجه المرأة وهو الأكثر وجعاً للقلب لما يوحيه مما تعانيه من الثنائية والتى أراها فى العمل الفنى تعنى الإنشقاق الذاتى على النفس أكثر من دلالته الذهنية فى مفهوم التقابل بين الضدين مثل الخير والشر أو النور والظلام أو الروح والمادة .. فجوهر الثنائية هذا مختلف فبدون الثنائية لن تكون هناك علاقة بين الأشياء ولن توجد وحدة .. كما قد يرمز إليها فى اللوحة أمامنا للطائرين خاصة فأحدهما ماداً جناحيه لأعلى والآخر لأسفل فى سمة ثنائية تكاملية ربما فى محاولة رمزية تعكس ضوء الإدراك للظواهر الحسية المتقابلة وربما يرمز الطائران إلى جسدنا أو للروح والجسد فى إبحارهما الحر فوق السطح الحسى وربما هما مدخل للتوغل فى بحر الإدراك لمسافات بعيدة بلا شواطئ أو حدود من التخيل التفسيرى لما نراه .. أرى عازفة أحمد مرسى هى فى علاقة جدلية معقدة وممتدة بين النفس الداخلية والعالم الخارجى فى ميتافيزيقية يعشق الفنان دوما خوضها زماناً ومكاناً داخل أطر لوحاته..
بقلم : فاطمة على
جريدة الأخبار 1-6-2015
أحمد مرسى يطل من شباك غربته: علاقتى بالقصيدة تنتهى بمجرد كتابتها
- يعيش الفنان احمد مرسى منذ السبعينات فى نيويورك، تعرفت عليه نصا قبل أن أتعرف عليه إنسانا جميلا ، رقيقا، وعذبا ، يسكنه الوطن ، ويعيش فيه عبر اغترابه ، قرأته شاعرا رائدا لم ينصفه التاريخ الأدبى بعد ، واعجبت به فنانا تشكيليا له فرادة وخصوصية ، ألوانه ، مخلوقاته التى تتوزع بين عالم الإنسان والحيوان ، فى العام الماضى أقمت فى نيويورك أياما خلال زيارتين . واصبح احمد مرسى طقسا يوميا بالنسبة لى ، ابدأ وانتهى به ، قبل أن اخطو الى أى جهة اتصل لأطلعه على مسارى، او أعبر الطريق الثانى الى الشارع الذى يقيم فيه لأمكث بصحبته وقتا .
- نتحدث عن أحوال الثقافة ، ونستمع الى الموسيقى الكلاسيكية التى يمضى معظم وقته بصحبتها، متأملا الحديقة الجميلة الممتدة امام الطابق الأول حيث يقيم ، اطلعه الى برنامجى اليومى ، وأصغى إلى نصائحه المتعلقة بالمدينة عامة والمتاحف والأعمال الفنية خاصة . ثم اغادر منفردا او بصحبته اذا سمح وقته وعمله بالأمم المتحدة. خلال هذه الصحبة اليومية اتيح لى أن اقرأ نصوصا من أشعاره المبكرة ، كتبها فى الأربعينات ولم ينشرها - راجع الصفحة الأولى من ساحة الابداع - الحق اننى ذهلت من مضمونها وشكلها ، قصائد متقدمة ، متفردة ، لماذا لم تنشر ، ماذا كان يمكن ان يحدث لو نشرت ؟ هذا مدخلى الى الحوار الذى طال ليشمل قضايا اخرى عديدة.
- حينما يمتلك مبدع كل هذه الكنوز الشعرية ثم يحجبها عن الناس فتلك حالة غريبة لم أقبلها قبل ذلك، ترى ما تفسيرك لهذا ؟
- فى الحقيقة لم أفكر فى السبب الذى جعلنى أحجم عن نشر شعرى، كما أن الناس ينتقدوننى لأننى لا أوقع لوحاتى ، بل لا أسميها فى الغالب ، ولا أوقع إلا مضطرا فى حالة بيع لوحة . وبالنسبة للفن ، أعتقد أنى أستطيع تفسير عدم التوقيع بقولى إننى لا أشعر أبدا أن العمل الذى انتهيت منه قد أكتمل، ولهذا أتردد فى التوقيع علية ، أوحتى تسجيل التاريخ الذى تركت فيه العمل فى اللوحة ، الأمر الذى خلق لى بعد سنوات مشكلة حقيقية / خاصة بعد ضعف الذاكرة التى لم تكن قوية فى يوم من الأيام .
- أما بالنسبة للشعر بالذات ، فلا أستطيع تبرير انعدام الرغبة الطبيعية فى النشر ، ربما كنت أشعر أن مجرد كتابة قصيدة كانت مغامرة تشبع رغبتى فى كشف مناطق الظلمة فى أحجبة الذات والوجود ، ولذلك كنت أكتفى باعداد نسخ محدودة . مطبوعة على الآلة الكاتبة ، لأوزعها على أصدقاء معدودين . ولكنى كنت ومازلت أحجم عن قراءة شعرى فى ندوات عامة ، وقد تدهش حينما أقول لك إننى لا أحفظ بيتا من الشعر الذى أكتبه.
- هل تحفظ أشعارا للآخرين ؟
- فى أيام الدراسة كانت لدى قدرة أو قل ملكة على أن أحفظ أية قصيدة بمجرد قراءتها . وقد مكنتنى هذه الملكة من اجتياز امتحانات المحفوظات فى المدرسة الثانوية بقراءة أية قصيدة مقررة فى طريقى إلى المدرسة ، والذى كنت أقطعه مشيا على الأقدام يوميا ، من محرم بك إلى الشاطبى ، حيث كانت ` مدرسة العروة الوثقى ` وفى الجامعة ، كان يكفينى أن أعيد قراءة فصل من احدى مسرحيات شكسبير المقررة قبل الامتحان بيوم واحد لأحفظه والاستشهاد بحوارات كاملة منه لمجرد التأثير على الممتحن . وما أن أغادر مقر الامتحان ، يتبدد كل ما حفظته غير مأسوف عليه.
- أعرف ان هذه الظاهرة يعتبرها البعض نقطة ضعف خاصة بالنسبة لشاعر عربى ، لكننى لا أراها كذلك ، بل إننى اعتبرها ميزة ، أقصد تفريغ الذاكرة والعودة إلى نقطة الصفر كنقطة بديل جديدة على طريق لم تطأه قدم ، فيما اعتقد . لكنى أتمتع ، مع ذلك ، بذاكرة بصرية حادة ، تجمع بين مفردات العالمين المرئى واللامرئى ، بين الحقيقى والمتخيل أو حتى الإفتراضى ، وهى ، فيما أعتقد أيضا ، تتمتع بقابلية التحول من مجرد صور لامحسوسة إلى تجليات شعرية.
- نعم ، كنت بعيدا كل البعد عما يجرى فى عالم السياسة ، وأستطيع أن أقول أنى كنت لا أعبأ بما كان يجرى على المسرح السياسى فى ذلك الوقت . فقد كانت مشاعرى، ولا تزال سالبة تجاه السلطة- الأبوية أيا كانت تجلياتها على مختلف المستويات الفيزيقية والروحية ، وبالضرورة السياسية ، وما زالت أنفر من أى تسلط ، حتى لو كان مجرد فكرة . وهذا يفسر نفورى فى سن مبكرة من الأنضمام إلى أية جوقة سياسية ، أيا كان برنامجها الفعلى أو النظرى ، وربما كان شاغلى الوجودى منذ بدأت كتابة الشعر فى سن الخامسة عشرة عاما حتى اليوم هو قضية الشعر نفسه ، كمرأة تعكس ما لا يراه غيرى.
- كانت هناك حالة تولد من حولك بعد عام 52 00 كنت مقطوع الصلة بأية حركة أدبية خارج اسكندرية . .لماذا؟
- لا أعرف. لكن بعد أحداث 54 ، لا أدرى ما الذى دفعنى للنظر على الأقل تجاه المحيط الاجتماعى. وقد تمخض هذا الوعى الجديد بانقشاع وهم ما، عن مجموعة من القصائد- الواقعية- أسميتها، قصائد 54، لا أشيد فيها بوضع سياسى ولا أؤله أحدا ولكن أعبر عن خيبة أمل واستياء غير مباشر لضرب حركة دينية - سياسية حتى لو كانت فاشية لا تعاطفا مع ما تمثلة، ولكن غضبا أو حتى خوفا من بوادر حملة قمع تطال الحرية بمعناها المادى والميتافيزيقى ، حرية خصوصية الفرد جسدا وروحا .
- (حريتى أنا ذا أنادى /هل مازلت حرا؟ ،/ أفما يزال بقبضتى يطوى الزمن /دهرا فدهرا؟ / أفما يزل لى اختيار عقائدى مهما تدجت؟ /أأعيش حرا فى غدى/ إن قبله يومى تفتت؟! حريتى / أتركت لى خبزى ودينى حين يفلت؟ أأرد أمى دخنة/ أبقبضتى أكفان أمسى ؟ ألى ارتياد البرج فى شظف الحياة وجدب نفسى/ حريتى/ أنا ذا أنادى ، هل أنا مازالت حرا؟)- مقطع Vlll من قصيدة `ماتت تحت ضوء القمر ` يوليو 1949 .
- وفى حقبة 54 الواقعية أرسلت قصيدة عن الحرب العالمية الثانية ، وبالأحرى عن انعكاس آثار الحرب العالمية الثانية على الاسكندرية ، أرسلتها كبالونة اختبار إلى مجلة الرسالة الجديدة التى كان يرأس تحريرها يوسف السباعى ، وفوجئت بنشرها على الفور على صفحة كاملة مزينة برسم جميل ، واكتفيت بهذه التجربة التى لم أكررها إلى أن قررت الاقامة فى القاهرة بعد أن أسند لى المسرح القومى مهمة تصميم ديكورات وملابس باكورة الصديق الحميم ألفريد فرج ، مسرحية ` سقوط فرعون ` التى عاصرت مراحل كتابتها فى الاسكندرية عندما كان الفرد لا يزال طالبا بآداب الاسكندرية . وقد جمعت هذه التجربة بين وبين حمدى غيث ، مخرج المسرحية ، والشاعر والكاتب المسرحى والروائى عبد الرحمن الشرقاوى والممثل المسرحى والاذاعى ذى الصوت المتميز محمد الطوخى إلى جانب ألفريد وإدوار الخراط . وتوطدت عروة صداقتنا حتى فرقتنا الغربة والموت ، ذكرت هذه المحطة الهامة فى حياتى لأنى تذكرت فى سياق المرات المعدودة التى نشرت فيها شعرى أن عبد الرحمن الشرقاوى طلب منى أن أعطيه قصيدة لينشرها فى صحيفة ` الشعب ` التى كان أحد كتابها ، وكانت الفصيدة الثانية ، أو فى الحقيقة الثالثة ، لأن أول قصيدة تنشر لى، نشرت باللغة اليونانية فى صحيفة كانت تصدر فى الاسكندرية ، وللأسف لا أذكر الآن ظروف نشرها .
- وفى القاهرة ، التى ألقيت فيها عصا الترحال بعد قضاء عامين فى بغداد التى تعرفت فيها على أصدقاء العمر الثلاثة أرداش، فنان تشكيلى تراجيدى مبدع ، والشاعر عبد الوهاب البياتى والروائى فؤاد التكرلى وكلاهما كان رائدا فى مجاله سواء على مستوى العراق أو العالم العربى . وفى القاهرة تعرفت أيضا فى 1957 على الشاعرين أحمد عبد المعطى حجازى وصلاح عبد الصبور ، وأعتقد أنهما غنيان عن التعريف، ولكن علاقتى بالشعراء الثلاثة كانت ، فى نظرى على الأقل، ليس لها صلة بالشعر ، وربما كان حجازى الصديق الوحيد بينهم الذى عرفنى كشاعر قبل أن يعرفنى كصديق ، فقد أوقعت الصدفة فى يده نسخة من مجموعتى الأولى (أغانى المحاريب ) التى صدرت فى يناير 1949 فى الاسكندرية أثناء إقامته فى كفر الشيخ .
- وفى الحقيقة ، برغم الصداقة والود المتبادلين ، ورغم تقديرى لتجارب ثلاثتهم الشعرية الرائدة ، كنت أشعر رغم تميز أصواتهم أيضا أنهم فى النهاية ينتمون إلى مدرسة شعرية، سمها ما تشاء ، لا أنتمى إليها قطعا. وقد عمق هذا الاحساس شعورى بالغربة والذى أخذ يستفحل مع الوقت حتى جاء عام 68 كانت مرارة الهزيمة لا تزال فى الحلق ، وتقلصت المجموعة التى كنت أطلعها على قصائدى ، فقررت هجر الشعر ، ولم أفكر فى طبع قصائدى التى كتبت منذ 1949 إلى 1968 .
- وفى عام 1995 ، نشرت .. ` أنثولوجيا قطوف من أزهار حقول الأسبرين` .. بعد إلحاح من صديق العمر إدوار الخراط . وبعد حوالى 29 سنة من الصمت ، ولا أقول العقم ، استعدت صوتى بدون قرار مسبق على نحو لا إرادى ، وكان إدوار الخراط أيضا حافزا غير مباشر على فتح خزانة ذكريات سنوات اسكندرية لألتقط منها مجرد صورة له وهو يترجم قصيدة للشاعر الفرنسى لافورج فى مقهى بطل على الميناء الشرقية ، وكان قد أبلغنى قبل ذلك أنه سجل أسمى للاشتراك فى احتفالية نظمها المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة بلوغه سن السبعين فيما أعتقد . وقبل حلول اليوم الذى كانت ستقرأ فية كلمتى بيوم واحد كتبت بدون قصد قصيدة (تفصيل من جدارية إلى إدوار الخراط ) وكأنى فتحت فى تلك الليلة بوابة سد سرى فتدفقت مخزونات تجارب تلك السنوات ، منذ وصولى إلى نيويورك فى 1974، فى قصائد مجموعة ما أسميه بعثى الأول ( صور من ألبوم نيويورك).
- كان البحارة يرتشفون زجاجات ستيللا/ واحدة بعد الأخرى كتماثيل خرساء/ والكورنيش يغص بباعة فاكهة البحر الأبيض / والأسماك السوداء / تتسكع فى الطرقات بأقدام واهمية/أنهكها التجوال على الأسفلت /هل كان الوقت مساء؟ أذكر أن سماء الميناء الشرقية/كانت مرآة صماء / تتساقط منها أجساد الموتى /هل كانت أجساد الأحياء؟ وطيور الشعر تحوم فى صمت ودهاء / تنقر نافذة المقهى من ينهش من؟،هل كانت تدرك؟ أنك كنت تترجم لحظتها ،لا فورج ؟)- الهيئة العامة لقصور الثقافة 1998- يبدو أن طيور الشعر التى كانت تنقر زجاج مقهى الاسكندرية هى نفس الطيور التى كانت تناوشنى ذات يوم فىCafe Reggio فى الوست - فيلدج وأنا جالس قبالة الشاعر الروسى الأصل برودسكى .
- (لا أذكر هل كان الوقت صباحا / أم كان مساء / لكنى أتذكر أنك كنت تخطط رسما/ أو تكتب شعرا/ أو كنت تخط خطابا للأسرة فى موسكو/ كنت تحاذى الشباك تدخن فى شره/ ( شركات التبغ فقط/ كانت تدرى/ أنك كنت تحيك بلا قصد كفنك)/المقهى خال/ إلا من شاذين عشيقين انشغلا عما يجرى/ وأنا وحدى منفيا/ فى مستعمرة الشعراء الملعونين/ أحاول قتل طيور الشعر). صور من ألبوم نيويورك.
- ما لفت نظرى فيما قرأته بـ ` المختارات ` ومخطوطاتك الشعرية أن هذا الشكل من الشعر الذى تكتبه لم يكن موجودا فى ذلك الوقت فى الشعر المتداول. وهو أيضا لا يشبه ما أعتبره النقاد شعرا جديدا مثل أشعار نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب فيما بعد، هذا شعر فيه حساسية متفردة، لا يوجد لها مثيل حتى الآن .كيف كان التكوين .. من أين جاءت هذه الحساسية ؟ لمن قرأت ؟ بمن أعجبت ؟ كيف عبرت عن هذا بتلك الصور الغريبة؟
- مثل أى شاعر عربى بدأت بقراءة الكلاسيكيات معتمدا على مكتبة البلدية، ومكتبة صديق صبا كان شقيقه الأكبر به شغف ترقى إلى الهوس يجمع الكتب التراثية والمؤلفات المعاصرة ، ولست فى حاجة إلى القول أن حالة الأسرة المادية ساعدته على تحقيق ذلك .
- لا أتذكر كيف بدأت كتابة الشعر، ولكنى أتذكر جيدا أن محاولاتى بدأت فى سن مبكرة لا تزيد عن 15 سنه ، وذلك عندما نسخت داخل المكتبة كتابا قديما عن علم العروض . وتدرجت فى قراءة شعراء أبوللو والمهجر ، وبطبيعة الحال شغفت فى منتصف الأربعينات بالهمشرى من جماعة أبوللو ، ثم محمود حسن اسماعيل وأبوشبكة بصفة خاصة وانتهت هذه الحقبة فى سن 18 سنة تقريبا على أثر وقوعى على مفتاح عالم جديد لا أول ولا آخر له ، عالم ثرى فية ما لايراه أحد آخر .. فهو يبدأ بالنظر إلى العالم الخارجى بعدسة تتجاوز المرئى لتنفذ إلى اللامرئى ، وكان هذا المفتاح هو بداية تعرض على فنانين سورياليين وميتافيزيقيين مثل دى كيريكو ودالى وماكس إرنست ، وبصفة خاصة أعمال بابلو بيكاسو فى ثلاثينات القرن العشرين والتى غيرت نظرتى إلى العالم ، أو بالأحرى رؤيتى للعالم ولنفسى قبل أى شئ أخر كما شجعتنى على التعبير عن رؤيتين ، بقدر ما أستطيع ، عالمى البديل الذى عشت وما أزال أعيش فية حياتى الحقيقية التى لا يعرفها أحد غيرى .
- وإلى جانب معارضى الجاليريهات الباريسية التى كانت تقام بصورة منتظمة فى جاليريهات اسكندرية الهامة ، ومن بينها ليهمان ، والتى مكنتنى من أن أرى الأعمال الأصلية لماتيس وموديليانى وبيكاسو وبراك وأوتريللو والفنان الاسكندرى الأصل كارزو ، كان ` أوسكار ` صديقى صاحب مكتبة وجاليرى هاشيت يساعدنى على شراء مجلدات ` سكيرا ` عن فنانى مدرسة باريس بالتقسيط .
- وبرغم أنى قمت خلال تلك السنوات بقراءة الشعراء الذين لعبوا دورا فى الحركات الفنية والشعرية فى بداية ومنتصف القرن العشرين بالفرنسية التى كانت معرفتى بها تمكننى من القراءة بها مع بذل شئ غير كبير من الجهد. ومع المثابرة والرغبة فى الكشف ، والإنغماس فى ترجمة قصائد لفاليرى وأبو للينير وإيلوار وجاك بريفية وأراجون الخ.. بدون توافر نية فى النشر بل مجرد الغوص فى مكنونات اللغة الشعرية ، أستطعت أن أكتب شعرا بالفرنسية، وللأسف ، وربما لحسن الخط ، لم أحتفظ بشئ من هذه القصائد والتى كتبت أيضا ، مثل الترجمة ، كتدريب فى صنعة وفهم كتابة الشعر .
- فى الأربعينيات هل كان التواصل مع منابع الثقافة العالمية متاحا أكثر مما هو عليه الآن ؟
- طبعا ، أذكر أنه كان ثمة عدد كبير من المكتبات الانجليزية والفرنسية فى الاسكندرية ، تقدم أعمالا مهمة . وعلى سبيل المثال ، كان أوسكار - مكتبة هاشيت - الملاصقة لسينما ريو بشارع ` فؤاد ` ، يستورد من ناشرين فرنسيين نسخا مما يسمى اليوم بكتاب الفنان ، وهى الكتب التى كان فنانون ، مثل بيكاسو وماتيس وغيرهما ، يشاركون شعراء فى اعداد عمل مشترك يجمع بين العمل الجرافيكى الأصيل (الحفر الغائر على النحاس أو الحفر على الخشب أو المشمع الخ ) ويصدر وفى طبعة محدودة النسخ (من 10 نسخ إلى 50 على سبيل المثال ) مرقمة وممهورة بتوقيعى الفنان والشاعر ، الآن تباع أى نسخة من هذه الكتب بمئات آلاف الدولارات ، وكانت تباع فى ذلك الوقت بما لا يزيد عن 150أو 200جنيها، بينما كانت لوحات فنان مثل الجزار أو سيف وانلى تباع بحوالى ثلاثين أو أربعين جنيها.
- كان أوسكار يعطينى عينات أصيلة من هذه الكتب ، وكنت فى ذلك الوقت أعمل مترجما فى مكتب براءات الاختراع، إلى جانب الطبعات الأولى لدواوين الشعر ومن بينهما ` عيون إلزا ` لأراجون و` السرير- المائدة ` لايلوار التى لازلت أحتفظ بها.
- إننى مدين حقيقة لهذا الرجل اليهودى ، أوسكار الذى أطلعنى على العالم.
- الشئ الآخر الذى لعب أيضا دورا هاما فى تكوينى كشاعر وكفنان أنا والصديق الراحل الجميل الفريد فرج كان مسرح محمد على الذى يسمى حاليا ` أوبرا اسكندرية ` الذى كانت تزوره سنويا فرق أوبرا إيطالية وفرق باليه ومسرح فرنسية وغيرهما من الفرق الأجنبية الأخرى، وربما كانت هذه التجربة هى التى شجعتنى على أن أقدم على تصميم مشاهد وملابس ` سقوط فرعون ` بدون أن تكون لى خبرة سابقة فى هذا المجال . وذلك ، بطبيعة الحال ، إلى جانب تشجيع وثقة الفريد نفسه فى قدراتى المتواضعة، نعم إننى أسمع الأوبرا منذ كنت فى سن 18 سنة ، ولا أخفى عليك أن والد الفريد ، الذى كان موظفا كبيرا فى البلدية، كان يحجز لنا مكانين مميزين بالمجانى.
- ويضاف إلى المسرح السينما الإيطالية والفرنسية التى خرجت من تحت انقاض الحرب العالمية الثانية كالعنقاء، وكانت سينما ستراند، فى محطة الرمل ، متخصصة فى عرض أفلام الواقعية الجديدة الايطالية ، بينما انفردت سينما فؤاد بعرض الأفلام الفرنسية ` الشعرية ` ولا أبالغ اذا قلت أن اسكندرية ما قبل الحرب وما بعدها مباشرة كانت سوقا هاما للفن الفرنسى بالذات .
- لماذا؟
- لأنه بعد الحرب العالمية ، كانت هناك أزمة اقتصادية فى فرنسا وفى أوربا بشكل عام ، وكان يعيش فى الاسكندرية فى هذه الحقبة أمراء مصريون وأوربيون وأثرياء أجانب من المقيمين فى مصر يقبلون على اقتناء الأعمال الفنية والتى للأسف غادرت البلد ولا شك أن هذا المناخ الثقافى العام قد ترك أثرا عميقا تكويتى كشاعر وفنان.
- وما علاقتك بإدوار الخراط؟
- إدوار صديق عمر حميم ورفيق رحلة طويلة متشعبة ومعقدة وموحشة إلى عالم مجهول وموعود برغم أن كلا منا شق لنفسه طريقه الخاص والذى قاده إلى منفاه الانفرادى، أيا كانت ثمار أشجار أو أدغال هذا المنفى.
- لقد عرفنى به صديق مشترك وزميل عمل فى مكتب مجرى أو فرند لبراءات الاختراع . كان نصر شيوعياً ، وعلى علاقة مع كثيرين من الشيوعيين ومن بينهم إدوار، الذى كان فى ذلك الوقت فى معتقل طره فيما أعتقد. لقد حدثنى نصر عنه كثيرا، وحينما أفرج عنه لم يجد عملا فى الحال . وكنت أستأجر استوديو بمقر الأتيليه القديم فى شارع فؤاد. كنت أعمل صباحا ، وكان إدوار يقضى ساعات النهار فى الاستوديو حيث كتب مجموعته القصصية الأولى (حيطان عالية)، وكان الفريد وقتها طالبا بكلية الآداب ، وقد فرغ من كتابة ` سقوط فرعون` وهو طالب ، أما نصر القفاش، فقد كان مترجما لايشق له غبار فى ترجمة النصوص العلمية المتخصصة التى تتناول مختلف مجالات العلوم. وكان قارئا نهما، ويملك مكتبة تحوى أمهات الكتب فى جميع المجالات .
- هل هو قريب منتصر القفاش ؟
- لست متأكدا من ذلك ، بل أذكر أنه كان له ابن ترك دراسة الطلب ودرس السينما ولا أعرف أين هو وماذا يفعل الآن .
- وأنت هنا فى نيويورك وبعد كل هذه التجربة كيف ترى الحركة الشعرية فى مصر الآن ؟
- بصراحة بعد انقطاعى عن كتابة الشعر انصرفت أيضا عن متابعة الحركة الشعرية فى مصر وفى العالم العربى بشكل عام. ومع ذلك ، فقد حرص الصديق ادوار على أن يرسل لى على فترات نتاج بعض الشعراء الذين كان يهتم بكتابتهم ، من بينهم من كانوا يسمون بشعراء السبعينيات أو الأربعائيين فى الاسكندرية ، لكن رغم هذا، كان حماسى لقراءة الموجات الجيلية من الشعر ، وخاصة ما يسمى بقصائد النثر، فاترا ، فى الوقت الذى كنت ولازلت أتابع فيه الشعر الأمريكى المعاصر . ولا أستطيع حتى الآن تفسير هذا الموقف. فهل كان بمثابة درع احتميت به حتى لا أجر إلى الوقوع فى أحبولة الشعر من جديد ، خاصة أننى فعلت ما فعلت بمحض إرادتى ؟ أم أن ما كنت أقرؤه من شعر عمق إحساسى فى ذلك الوقت بالإنسلاخ الروحى على الأقل، لأننى لم أنسلخ عن جوهر الشعر نفسه .هذا برغم أننى فرحت وتحمست جدا لظهور جماعة ` الأربعائيين ` الذين تعرفت عليهم فى احدى زياراتى للاسكندرية والتقيتهم فى مسكن الشاعر الراحل الهام عبد العظيم ناجى مساء 3 ديسمبر 1992 ، ولازلت أشعر بالأسف لوأد تجربتهم قبل أن تنضج واندثار اسم ناجى من الخريطة الشعرية .
- ومع ذلك ، لا يسعنى إلا أن أتساءل بدورى عن ظاهرة ابتلى بها العالم العربى وبصفة خاصة مصر، وهى ما أسميه بالتقليد الأعمى . ولا أستطيع بطبيعة الحال أن أحصر تجليات هذا التقليد المتفشية فى المجتمع المصرى على جميع المستويات الاجتماعية والتجارية والفنية والثقافية بشكل عام ، ويكفى فقط أن أشير إلى أسماء المحلات التجارية وحتى الدكاكين المتواضعة التى تكتب باللغة الانجليزية والخاطئة فى معظم الأحيان ، لقد كنا من قبل ننتقد مذيعى ومذيعات التليفزيون المصرى الحكومى بالجهامة وافتعال الجدية وهم يقرأون النشرة الأخبارية التى تبدأ وتنتهى برصد حركات وأقوال المسئولين ، واليوم انفرط عقد التجهم وأصبحنا نرى مذيعين ومذيعات يقرأون نفس الأخبار أيضا ولكن فى ثياب النوادى أو المقاهى وأقصد الجينز وملحقاته بقصد التأمرك ، ولكن للأسف مازال المذيعون والمذيعات الأمريكيون سواء كانوا يقرأون الأخبار أو فى شتى برامج الحوارات الأخرى يلبسون زى رجال ونساء الأعمال.
- وبالمثل أستطيع أن أقول إن ظاهرة تفشى قصيدة النثر سواء فى العالم العربى أو فى مصر، على أساس اعتبارها آخر صرعه حداثية ، أو أنها التطور الطبيعى للشعر، لا مثيل لها فى العالم الغربى وخاصة أمريكا التى شهدت أيضا مولد أول ` قصيدة نثر ` عرفها العالم. وأقصد كتاب Eureka ( وجدتها - قصيدة نثر ) الذى صدر فى 1848 ، أى منذ 160 سنة ، للشاعر إدجار ألان يو.
- يقول بو فى مقدمة متواضعة لآخر عمل نشره فى حياته ` إلى الحفنة القليلة من الناس الذين يحبوننى وأحبهم - إلى أولئك الذين يفضلون أن يشعروا على أن يفكروا - إلى الحالمين وأولئك الذين يؤمنون بالأحلام إيمانهم بالحقائق فقط - أقدم كتاب الحقائق هذا ، ليس فى طابعه كسارد - حقيقة ، لكن من أجل الجمال الذى يغرز فى حقائقه ، مشكلا حقيقته . إلى هؤلاء أقدم المؤلف كمنتج -فنى فقط - لنقل كرومانسى ، أو ، إذا كنت لا أطمح فى ادعاء رفيع كقصيدة .
- إن ما أقدمه هنا هو حقيقى - من ثم لا يمكن أن يموت - أو اذا ديس عليه الآن بأية وسيلة كانت لكى يموت ، ` سوف يبعث من جديد إل الحياة إلى الأبد ` .
- على أية حال أتمنى أن يحكم على هذا العمل بعد موتى كقصيدة فقط ` .
- بهذه السطور القليلة المتواضعة قدم بو أول قصيدة نثر وكان أيضا أول من سبك هذه التسمية أو المصطلح الذى يحسبه البعض أنه اسم لأحدث الثورات الشعرية .
بقلم : جمال الغيطانى
أخبار الأدب 4-5-2008
أحمد مرسى شاعر التصوير ومصور الشعر
- ألتقيت بسيده ترتدى رواءً أسود ، تتكئ ، باسترخاء على مقعدها البسيط ، يحيط بعنقها شريط أسود ربط بأناقة ، لا يظهر من بين ثنايا روائها المنقوش سوى كفيها وأناملها الرقيقة حدثتنى عيناها الكبيرتان عن رغبتها فى التحرر إلى عوالم بعيدة لم تفصح عنها . تلك السيدة الغماضة هى أيقونة الفنان المصرى أحمد مرسى التى احتلت واجهة معرضه الاستعادى الضخم بمتحف الشارقة للفنون ، حيث جمع ولأول مرة نتاج أعماله على مدى أكثر من سنة عقود تنتقل خلالهما بين مختلف اشكال التعبير الإبداعى .
قبلت دعوة السيدة ذات الرداء الأسود لاكتشاف عالم أحمد مرسى الحالم المتمرد ، فصحبتنى بين أعمال أنتجها خلال رحلته الطويلة التى بدأت منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين وحتى اليوم ، رسومات ولوحات سريالية ، نماذج من تجاريه مع الطباعة ، تصاميم مسرحية وكتب للفنون ، ومساهمات فى الشعر والنقد الفنى . عطاء وزخم ضخم لفنان متعدد المواهب لم يطق حدود الواقعية قط ، وإن لم ينفصل عن الواقع أبداً .
شكل مرسى لغته السريالية من مفردات غلب عليها الرمز والتجريد والتجريب ، ففى لوحاته يطفو جسدان رشيقان لرجل وامرأة بانطلاق متباعد حيناً واشتباك فى عناق ينطبق بالحنو والشغف أحيانا أخرى ، العيون دائماً كبيرة بارزة ، وملامح الإسكندرية حاضرة دائماً فى أسماك وبحر وطيور وسحب ، وهناك ظهور متكرر للقطط ولفرس جميل يطل برأسه فى دلال .. تلك المفردات لم يتحدد وجودها بشكلٍ مرحلى فى أعمال مرسى بل كان ظهورها متواصلاً خلال رحلته الطويلة ، فحتى وإن اختفت أحياناً كان لا ينفك يعود إليها بصياغة وسياق جديد خطه لنفسه . فالملاحظ أن تنوع إنتاجه فى الأسلوب والمحتوى لم يمنع وجود خيط ناظم ورابط بينها ، لذلك تصعب القراءة الأحادية لأعماله وهو ماينطبق أيضاً على مجالات إبداعه الأخرى كالشعر والأدب ، حيث تتغلغل الروح السريالية فى نتاجه الإبداعى بمختلف وسائطه ، ومن تلك الحقيقة برزت فكرة المعرض ` خيالات حوارية ` حيث تلتقى منصاته المختلفة للتعبير فى حوار متصل ، فلا يمكن فصل أحمد مرسى الفنان عن مرسى الشاعر أو الناقد الفنى .
احتل معرض أحمد مرسى مساحة الطابق الأول بمتحف الشارقة للفنون كاملاً ، وهو المكون من قاعتين كبيرتين شرقية وغربية ، يتوسط كلا منها ممر رئيسى واسع وعلى جانبية مايشبه غرفاً مفتوحة متتالبية ومتقابلة ، فقام قيم المعرض البرفيسور صلاح حسن أستاذ تاريخ الفنون والثقافة البصرية بجامعة كورنيل الأمريكية بتطويع ذلك التصميم ليخدم إيجاباً سياق وتنسيق العرض ، خاصة مع انخفاض السقف نسبياً ووجود عدد كبير من الأعمال ذات أحجام كبيرة ويوضح ` لابد من وجود مساحة من الهدوء البصرى حول كل عمل ، وقد راعيت الربط بين اللوحات التى تحوى مفردات مشتركة بحيث تتجاور أو تتقابل فى أماكن العرض ، حتى يتمكن المشاهد من تأمل السياق الكلى للمعرض وفق نسق خطى زمنى وموضوعى يبرز ثراء تجربة الفنان ` وعلى الرغم من أن بين أعمال أحمد موسى الكثير من اللوحات البارزة إلا أن اختيار لوحتى البداية والختام ` السيدة ذات الرداء الأسود ` و ` التفاحة السوداء ` كان له وقع كبير ، حيث تظل ملاحمهما حاضرة فى ذاكرة الزائر وهو ماتعمده القيم بكل تأكيد .
معرض أحمد مرسى الاستعدادى لا يعرض أعماله ولوحاته فقط ، بل يروى قصته الحية كأحد رواد الفن السريالى الذين آمنو بالبيان ` يحيا الفن المنحط ` الذى أعلنته فى الثلاتينات جماعة الفن والحرية احتجاجاً على حظر هتلر للفن التشكيلى آنذاك ، وهو مايوضحه القيم صلاح حسن قائلاً ` فى البدء كانت الإسكندرية ، فلا غنى لمن أراد تذوق أعمال أحمد مرسى عن العودة إلى بداياته الأولى بها ` فقد ولد عام 1930 وفى التاسعة عشرة من العمر برزت موهبته الشعرية واهتمامه بالرسم وإن لم يدرس بأى من أكاديميات الفنون ، فتخرج فى كلية الآداب عام 1954 ليتواصل مع أهم الأدباء والشعراء والفنانين الذين شكلوا ماعرف بعد ذلك ` بمدرسة الإسكندرية ` مثل سيف وانلى . الذى عرفه على النحات السكندرى محمود موسى ، حين كان يتولى عمادة أتيليه الإسكندرية ، فأتاح له ارتياده على الرغم من كونه وقتها حكراً على كبار الفنانين التشكيلين . كما التقى مرسى بعبد الهادى الجزار . وحامد ندا ، وفؤاد كامل ، وإبراهيم مسعودة ، وحسن التلمسانى ، وغيرهم من رواد حركة الحداثة المصرية ، وأقاموا مجموعة من المعارض الجماعية الهامة . إلا أن صداقته الوطيدة منذ الطفولة بالكاتب السريالى إدوار الخراط كانت الأهم تأثراً على حياته وأفكاره ومجمل أعماله ، ويروى أحمد مرسى بنفسه تفاصيل تلك الفترة فى فيديو تم تسجيله بمنزله بمانهاتن أعده صلاح حسن ليختتم به المعرض ، حيث أراد الاقتراب من عدسة الفنان وعرض نظرته النقدية للحركة الفنية المصرية توق أحمد مرسى للانطلاق وخوض آفاق جديدة دفعة خارج الإسكندرية إلى بغداد التى كانت تشهد نهضة فنية كبيرة مابين عامى 1955 -1957 وهناك ارتبط بصداقة وطيدة بالشاعر والناقد عبد الوهاب البياتى ، والرسامين فؤاد التكريتى وأرداش كاكفيان وغيرهم . حيث عمل على ترجمة رائدة لقصائد بول إيلوار ، ولويس أراغون رائدى الحركة السريالية الفرنسية ، وهو ماعمق شغفه بالأفكار السريالية . ثم عاد الى القاهرة ليجرب مجال تصميم الديكور المسرحى إلى جانب ممارساته الإبداعية العديدة الأخرى ، ومنها الى نيويورك عام 1974ثم استقر وعائلته بمانهاتن ولايزال . وقد جمع المعرض لأول مرة أعمال أحمد مرسى التى أنتجها خلال رحلته بين القارات الثلاث .
` مرسى فنان متعدد المواهب ، فقد برع كرسام وشاعر وناقد ومترجم وأديب ومفكر.. ` يقول البروفسور صلاح حسن ، إلا أن الشعر كان له أهمية أساسية فى مسيرته ، فقد صدر أول دواوينه ` أغانى المحاريب ` عام 1949 ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة من العمر ! ولم يتوقف عن الكتابة الا مع صدمة نكسة 1967 ، حتى عاد للشعر عام 2001 بدعوة من الخراط . ومن أبرز أعمالة ` مراثى البحر الأبيض ` ، ` قطوف من زهور حدائق الإسبرين ` وقد سلط المعرض الضوء على تجربته الشعرية بعرض بعض من دواوينه ومخطوطاتها الأصلية.
ويقول صلاح حسن عن قراءته لأعمال أحمد مرسى ` تقوم بنية رسومات مرسى على مساحات رحبة مفتوحة تتخللها دوائر ومثلثات ، ومقسمة بخطوط أفقية ورأسية . فمشروعه اللونى يطغى عليه مزيج من ألوان خافته تعلوها ظلال من الأزرق والأخضر والرمادى تتخللها ضربات مفاجئة بألوان فاتحة مثل الأحمر والأصفر . ويلاحظ أن تباين اللون فى تمثيل أشكال النساء يكون باستخدام ألوان أفتح بالمقارنة مع الأشكال الذكورية كالرجال والخيول والتى تطغى عليها ألوان داكنة تميل للخفوت ، فلغته البصرية تحمل طابعاً مسرحياً عند تشكيل الإنسان والحيوان . وفى استخدام وجوه كالأقنعة ، وبمرور السنوات تطور أسلوب الرسم عند مرسى إلى أسلوب أبرز سماته كبر حجم اللوحات ، واتجاهه لتمثيل أشكال بشرية وحيوانية معلقة بين مشاهد مسطحة ، وقد كان لتأثر مرسى بالاحداث السياسية والاجتماعية التى عاشها بكل جوارحه ظهوراً على أعماله التشكيلية ، بحيث أصبحت لوحاته أكثر سريالية فى استخدام الألوان واتجه لاتساع الحيز والتعبير بمفردات تجريدية أبرزت عمق أسلوبه السريالى الفريد .
سمير غريب
البيت : 1-4-2017
الحداثة المصرية في أمريكا
الإنسان تاريخ والأصالة في إحدى زواياها أن يحمل الإنسان تاريخه معه أينما ذهب، هذا ما فعله الرسام الملون: أحمد مرسي، حين رحل إلى الولايات المتحدة سنة 1974. كان أول معارضه الفردية في الإسكندرية مسقط رأسه سنة 1958 ثم بدأ عروضه الجديدة المتوالية في مدن أمريكا يحضر إلينا في كل صيف ليقيم عرضاً استعادياً في إحدى الجاليرهات القاهرية.
عاش سنوات في اغترابه في قلب الحداثة والبدع الأمريكية في نيويورك، التي أصبحت مركز جذب ثقافي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945. خطفت الأضواء من باريس التي كانت المنارة الفنية طوال النصف الأول من القرن، ولقرون سابقة. لم يذهب إليها مبعوثاً يدرس الفن. بل فناناً في قمة نضجه فلم ينل منه الاغتراب ما ناله من الآخرين. لم يطفئ في صدره شعلة الانتماء والهوية المأساوية، التي تتخلل نسيج حياتنا، بل ازدادت ثراء في أحد بلاد الثقافات الأولى بعيداً عن الانبهار السوقي الذي يفت في عضد الشباب القليل الخبرة والثقافة لوحاته تتسم بالشاعرية لأنه يقرض الشعر منذ يافعته وعملاقة صرحية كالخلفيات المسرحية، لأنه مصمم مناظر أقام العديد من ديكورات المسرحيات المصرية مثل `جميلة بو حريد` للشرقاوي روائي في تصويره - أي يقيم علاقة بين العناصر التشخيصية - لأنه رسام إيضاحي وضع كثيراً من الرسوم لدواوين ومؤلفات كبار الشعراء والروائيين. إذا كنا نلمس في موضوعاته ومضامينه قدراً رفيعاً من الثقافة والفكر الثاقب، فلأنه باحث وناقد على دراية بشتى المعارف والدراسات الضرورية لتلك البحوث كعلم الجمال وتاريخ الفن والتاريخ العام والأنثروبولوجيا.. إلخ. نستطيع في هذا الضوء أن نتأمل لوحات أحمد مرسي ونتذوقها لأنه يوجه إلينا من خلالها رسائل أحضرها معه من الولايات المتحدة أو استخرجها من أغوار نفسه في الماضي البعيد صور بعضها هناك على مساحات صرحية تغطي كل منها جداراً بأكمله، تطل منها وجوه ضخمة لا ندري إن كانت لرجال أو لنساء ذات عيون واسعة تحملق في الزائرين دون أن يرمش لها جفن. كأنها عيون كائنات اصطادها من أحراش خياله وحبسها في براويز لوحاته، تبدو طيبة أنيسة لكنها توحي بالحذر من الاقتراب وخشية قوية غريبة انتزعها من كوابيسه وأحلام اليقظة، تحمل لوحاته الصغيرة نفس الكائنات حفر صورها على الألواح الزنك أو النحاس في تكوينات رمزية مبتورة تزحف في وضوح نحو التعبيرات المجردة بلون أو أكثر.
لا يهم القارئ غير المتخصص إلى أي أسلوب أو فلسفة تنتمي أعمال أحمد مرسي. لكن ربما يعينه أنها تنتمي إلى اتجاهات مصرية أصيلة، ظهرت في الثلاثينيات باسم `الفن والحرية` بقيادة نخبة من الفنانين المثقفين هم: جورج حنين وكامل التلمساني ورمسيس يونان. كما تمد جذورها إلى حركة `الفن المعاصرة` التي أعقبت الفن والحرية في منتصف الأربعينيات وقادها الفنان الفيلسوف حسين يوسف أمين (1904 - 1984) كان في طليعتها عبد الهادي الجزار (1925 - 1966) وإبراهيم مسعودة وسمير رافع وحامد ندا، وهي تطوير واستكمال لحركة الفن والحرية. اتسمت كلتاهما بمصرية الموضوعات والمضامين والعناصر مع رمزية الألوان والمبالغة في النسب وابتكار كائنات جديدة والتنظيم غير المنطقي للتكوينات وطرح معايير فنية غير مسبوقة، وتوظيف المهارة في استخدام الخامات وصياغة الأسلوب لخدمة المضمون الفلسفي، والخروج به عن النطاق المحلي إلى الآفاق الإنسانية العالمية. مازلنا نلمس هذه الأبعاد في لوحات أحمد مرسي الحديثة، ونستطيع أن نقتفي أثرها في لوحاته القديمة التي تحمل تواريخ 1956 و57 و58 لو أننا رجعنا إلى أبعد من ذلك، لوجدناه في عام 1954 بمجرد تخرجه في قسم اللغة الإنجليزية بآداب الإسكندرية يشترك في معرض جماعي مع عصبة من الطليعة المثقفة، التي قادت حركات التحديث في عنفوانها وهم: عبد الهادي الجزار وإبراهيم مسعودة وحسن التلمساني والمثال محمود موسى وحامد ندا وقد أشرنا إلى بعضهم منذ قليل كمؤسسين للحداثة المصرية.
إذا كان أحمد مرسي لا يضع أسماء لمعظم لوحاته، فلأنها `تقول` و`توحي` وتثير خيال المتلقي. فالعناصر واضحة، والعلاقات بينها تؤلف عبارات مقروءة وتعكس مدركات فلسفية، والفن كما يقول رواد `الكونسبتوال آرت` وهو واحد من أحدث الاتجاهات الفنية الأمريكية مجموعة مدركات ينبغي أن يوضحها الفنان للمتلقي بشتى الطرق، حتى لو استخدم الخرائط والرسوم البيانية والمقالات والخطب الإيضاحية لم يلجأ مرسي إلى هذه الأساليب التي فاجأته عند وصوله إلى نيويورك مندوباً لوكالة الشرق الأوسط سنة 1974 لم يلجأ إلى `المنيمال آرت` الذي كان شائعاً أيضاً، مع أنه ظهر في الخمسينيات كرد فعل للفن الحركي. لم يترك فطرته الإبداعية التي رحل بها من مصر، ومضى في طريقه حتى أصبحت لوحاته ذات شخصية مستقلة، يمكن تمييزها بين آلاف الأعمال التصويرية في معارض الولايات المتحدة، كنموذج حقيقي للفن الحديث ذي الهوية المصرية إلا أنه يضع أسماء للوحاته أحياناً يستوحيها من أحداث معينة مثل لوحة `الروح والرأس` التي استلهمها من قصيدة وضعها منذ عدة سنوات، أو `مرثية الجزار` التي صورها عقب رحيل الفنان الكبير صديق عمره أودعها كثيراً من العناصر والرموز التي تشير إلى أسلوب الرائد الراحل قد يمنح لوحاته أسماء وصفية مثل `طبيعة صامتة` والحصان الأحمر `وشاطئ البحر` وهو في هذه الأحوال يسعى إلى إخفاء المضمون والرموز ويترك للمتلقي التأويل والتفسير. ولوحاته الصرحية على الخشب أو القماش بألوان الزيت أو الأكريليك، تتميز بعفوية الأداء والإسقاط الفوري للخواطر التصويرية والتعبيرات الانفعالية، والجرأة في ضربات الفرشاة أو السكين ووضع الملامس، وسيطرة التكوين على حواس المتلقي وخياله واستنهاض مشاعر الرهبة والجلال في نفسه. أما مطبوعاته بالحفر على الزنك ذات المساحات الصغيرة فتتميز بإحكام التصميم وبلاغة الصياغة والغموض الهادئ عوامل ترجع إلى طبيعة أسلوب الحفر الذي درسه في أمريكا، في فترة الكمون التي قضاها لبضعة عشر شهراً عقب وصوله، قبل أن يستوعب الحياة الجديدة، وينطلق في إبداعه بألوان الزيت على الأكريليك إلا أننا نجد نفس الكائنات الغريبة والوجوه المحملقة والأجساد المعذبة في لوحاته الصغيرة، التي تبدو كالمنمنمات. بأنه شيء مختلف عن حداثتهم التي تلبي احتياجات ثقافتهم، وطريقة حياتهم ونوعية حضارتهم.
الإلمام ببعض جوانب حياة الفنان يلقي ضوءً على أعماله ويساعد على تفسيرها بل لقد كان النقد قديماً أيام الإغريق مقصوراً على سرد تاريخ حياة الفنان. واستعاد رواد عصر النهضة الأوربية هذا التقليد ضمن عملية الأحياء، ووضع `فازاري` كتابه الشهير عن حياة الفنانين المعاصرين له، فعرفنا منه ميكلانجلو ودافنشي وغيرهما ثم ظهر أسلوب يصف الأعمال الفنية ويحولها من هيئتها التشكيلية إلى لغة الكتابة والكلام علق الرسام الفرنسي دولاكروا على هذا الطراز بقوله: إنه شعر جميل لكنه ليس نقداً. تطور الأمر في العصر الحديث ليجمع بين الاتجاهين ويضيف إليهما `الأحكام` وهي صلب العملية النقدية، إلا أنها لا تتأتى إلا بتوافر البعدين الآخرين: التاريخي والوصفي لذلك نحرص على الإشارة إلى جوانب معينة من حياة الفنان الذي نعالج إبداعه بالتفسير والتحليل والتقييم ليتمكن المتلقي من التأمل الإيجابي للعمل الفني وتذوقه والاستجابة لأثارته وإشاراته ورموزه - كما هي الحال مع فنون الشعر والأدب والموسيقى والرقص والتمثيل والسينما.
بهذا المفهوم تجدر الإشارة إلى أن أحمد مرسي ولد في الإسكندرية سنة 1930 ونشأ وشب في أحياء بحري والقباري - أكثر أحيائها أصالة واحتفالاً بالتقاليد. عرك حياة المواني وحركة النقل البحري منذ طفولته بحكم تخصص الأسرة في مقاولات الشحن والتفريغ. كانت الإسكندرية أثناء يفاعته في الأربعينيات، مركزاً منفتحاً على العالم ومن المعروف أن لها ماضياً تنويرياً عريقاً يمتد منذ أقامها الإسكندر الأكبر سنة 332 قبل الميلاد، وإنشاء مكتبتها على يد بطليموس، وحتى الفتح الإسلامي سنة 641. كانت حتى ذلك الحين منارة الحضارة في حوض البحر المتوسط بالرغم من عوادي الزمن وصروفه، مازالت الإسكندرية على حظها من الانفتاح الثقافي.
شاهد أحمد مرسي في شبابه الباكر، معارض اللوحات الأصلية لرسامين وملونين عالميين مثل `بيكاسو ومودلياني وفان جوخ` واستعراضات مثيرة لكبريات فرق الباليه الوافد على الثغر من الشاطئ الآخر للمتوسط. من فرنسا وإيطاليا وغيرهما، أما رفاق ناصية أدوات الإبداع سواء كانت قيماً فنية أو معالجات تكنيكية فالحيوية الدافقة التي تشع من لوحاته، سرعان ما تنقل إلى المتلقي ما أراد أن يقول نلاحظ كيف استخدم ألوانه في إطار تعبيري ورمزي واستمد مفرداته من اللغة الفنية للراحل الكبير تحية لذكراه. ما نراه من رسوخ وتكامل في لوحاته ذات المشاهد البحرية، أو التكوينات المسرحية الملحمية، نلمسه في أعماله ذات التكوين البسيط مثل `عازفة العود` التي صورها قبيل حضوره إلينا حين هزه الحنين إلى أرض الوطن وتقمصه روح الشرق. تعيد إلى ذاكرتنا زخارف الصحون الخزفية الإسلامية، بالرغم من مساحتها التي تصل إلى 200×175سم زيت على قماش. كذلك `وجه سيدة` في دائرة قطرها 125سم أكريليك على خشب وضع في خلفيته بعض الأسماك رمزاً للرزق والخصوبة كما أنه ككل السرياليين الذين يتميزون بسعة الاطلاع، الاهتمام بنظريات فرويد في التحليل النفسي وآراء داروين في التطور. يستخدم أبجديات خاصة يصوغ بها إبداعه الذي يبدو كالأشعار المرئية نلتقي بين هذه الأبجديات برموز تتخذ صورة الأسد الذي يشهر سيفاً ثم يبتكر كائنات جديدة يستكمل بها التعبير حتى يصل بتكويناته إلى حد لا يفرق فيه المتلقي بين الحقيقة والخيال، ويكاد يصدق أن ما يشاهده من حلم لابد أن يكون واقعاً عاشه في عالم بعيد.
بقلم مختار العطار
من كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر والعالم العربى
حول لوحة الزمن للفنان أحمد مرسي
- توقف زمن `ما بعد السابعة والنصف`..
- نحن كائنات زمنية لنا حدود ينذرانا بها عقربى الساعة إلحاحاً وبتواصل..
- وإمرأة هذه اللوحة للفنان المصرى المهاجر أحمد مرسى بعنوان `الزمن`2003 تمردت على إرتباطها والزمن الخارجى وتناست أن ما إن دقت ساعتها البيولوجية إلا قفزت وتحركت..وهى ليست المرة الأولى للتمردعلى الزمن..فكاتبوا رواية تيار الوعى`بروست` و`جويس` و`فرجيبيا وولف` و`فوكنر`سبقوها..فبعضهم حطمه وبعضهم سلخه من ماضيه وآنيته بينما أطاح بروست وفوكنر برقبته..
- أما المرأة أمامنا فهى فى الحقيقة لم تتمرد على الزمن بل على آلة عده وإحصاءه `الساعة`..
- نرى المرأة إنشق وجهها طولياً ربما يكشف عن صراع داخلى بين زمنيين ونراها ترقبنا بعين واحدة وقد خلعت عن نفسها الأخرى ورفعتها بإصبعيها الى مستوى ساعة جدار أعلى رأسها لتبدو بين إصبعيها كعين تحدق فينا تراقب ما أحدثته من شرخ نفسى على عتبة زمن إنشقت آلته وتساقطت إلى يسار المرأة بعض أرقامه وقد فقدت دلالتها كعلامات رصد وهى `العاشرة` `الثانية عشر` `الواحدة` `الثانية` ويبدو أن `الحادية عشر` علقت بين زمنين بينما يشير عقربى الساعة والعين `الثالثة` الى السابعة والنصف..
- يبدو أن دوى السقوط خلخل فضاء اللوحة نفسها فإنشقت طولياً..وهذا الإفراغ لآلة احصاء الزمن بإنتزع ثلثى علاماتها أوحت بتوقف `زمن ما بعد السابعة والنصف` بمصادرة المرأة على إشارات المستقبل وعلاماته..وحين نزعت عينها اليسرى تركت وراءها محجرأجوف كمظهر آخر لتجمد الزمن..
- هذا الإيقاف القهرى للزمن ضمناً هو إيقاف للمرأة نفسها..فعملها أصبح هو فعل ونتيجة معا..مثلما فى إنشقاق الوجه والساعة معاً فى ذات لحظة دوى إيقاف الزمن..
- ولم يبق من هذا الكيان المنشق إلا العين اليمنى المتبقية فى الوجه فاقدة التعبير والإتجاه كأنها تدخل بصاحبتها نطاقا بين الفراغ والموت ..ذلك الفراغ الذى يأتى بإنعدام الزمن ..
- اللوحة أراها تعمل على المادى واللامادى والمرئى واللامرئى كمنطق لعلاقة ميتافيزيقية..حتى انها إستدعت لدى مفهوم `العين الثالثة` بما تعنى كعين العقل أو العين الداخلية كمفهوم باطنى وصوفى للعين غير المرئية التأملية..وأيضاً تشير الى البوابة التى تؤدى الى العوالم الداخلية وفضاءات لوعى أعلى..
- فهل `العين الثالثة` فى الأعلى بعد `توقف الزمن عند السابعة والنصف` هى الحقيقية تمارس إدراكاً متجاوز زمنية الرؤية العادية.. أم هى مجرد نظرة توجس دون اى يطرف لها جفن ترقبنا دون مشاعر كعين عالقة بيننا وبين الزمنية ..؟
وهل تثير العيون المحدقة فى لوحة الفن فكرة ان كانت تبصر حقا..؟ بمعنى الإدراك البصرى.. وهل يرسمها الفنان على اعتبار إنها مبصرة أم أنها مجرد مؤد..؟ .. أم هى عيون عالقة بين البصر والبصيرة ؟..
فاطمة علي
جريدة الأخبار المصرية بتاريخ 17/10/2019
الحداثة والأستمرارية عند احمد مرسى
- الحداثة من حيث هى تلبية احتياجات التكيف مع التغير الثقافى . والأستمرارية بمعنى أمتداد التراث والمزاج العام، الذى تتميز به الأمة عن غيرها من الأمم أما : أحمد مرسى( 63سنة) فهو الشاعر والرسام الملون، صاحب الفكر الفلسفى والمعروفة العريضة .
- قد لا يذكره الجيل الجديد من شباب المثقفين والفنانين والنقاد ، لإغترابه منذ عام 1974 طوال تسعة عشر عاماً فى مدينة نيويورك بالولايات المتحدة . قطعت غربته زيارات خاطفة إلى مصر ، حيث أقام معرضاً فى قاعة أختانون تارة وجاليرى مشربية تارة أخرى ، فأعاد إلى ذاكرتنا أيام الطليعة الفتية المقتحمة ، التى فتحت الطريق للقلة الطموحة من فنانى ومثقفى اليوم .
- كان معرضه فى قاعة أختانون مفاجأة للوسط الفني سنة 1989 ، فى غمار موجات التقليد الأعمى للبدع الأوروبية . كانت لوحاته الزيتية ذات المساحات الصرحية ، تغطى كل منها جداراً بأكمله . تطل منها وجوه ضخمة لا ندرى إن كانت رجالاً أو نساء . عيونها واسعة محملقة فى الزائرين دون أن يرمش لها جفن ، كأنها عيون كائنات اصطادها أحمد مرسى من أحراش خياله وحبسها في براويز لوحته . تبدو طيبة أنيسة لكنها توحى بالحذر من الإقتراب . فهى وحشية قوية غريبة ، إنتزعها الفنان من كوابيسه وأحلام اليقظة . تحمل لوحاته الصغيرة نفس الكائنات . حفر صورها على ألواح الزنك والنحاس في تكوينات رمزية مبتورة ، تزحف فى وضوح نحو التعبيرات المجردة . مطبوعة بلون واحد أو أكثر قليلاً .
- بعد معرض أخناتون بعامين ، انتظمت جدران جاليرى مشربية للفن المعاصر، سلسلة من المستنسخات الصغيرة بالحفر على الزنك واللاينو، فى ثوب خواطر شاعرية مرئية بالأبيض والأسود والخط والملمس، والعنصر البشرى والمعنى المأساوى ، لفتت الأنظار بقوة بالرغم من بساطة العرض وقلة المعروض . إلا أن العبرة ليست بالكم. فإذا كان الشاعر الكبير - وخذ ابن ذريتى مثلاً - تكفيه قصيدة واحدة ليحتجز لنفسه مكاناً فى سفر التاريخ، فكذلك الرسام الملون . فقد وضع فنان أسبانيا البارز: بابلو بيكاسو ( 1881 - 1973 ) اسمه عبقرياً للقرن العشرين ، بلوحته العملاقة ` جيرنيكا` التى أدان بها وحشية النازية سنة 1937 ، والتى أفرد لها متحف البراد وبمدريد جناحا خاصا بعد رحيل الدكتاتور .
- سواء اتسعت لوحات أحمد مرسى الزيتية لتغطى إحداها جداراً بأكمله، أو صغرت مستنسخاته المطبوعة بالأبيض والأسود، فلا يخفى ما تتسم به جميعاً من غزارة الإبداع وتدفق العاطفة وطلاقة التعبير، ولغة خاصة هو صاحبها فى كل من الكلمة أو اللون والملمس. لكننا سرعان ما ندركها ونتذوقها ونستمتع بهال ونتألم ، ونسبح فى عالمه المثير، ونتبين الوشائج التى تصل بين تكويناته الأسطورية الغامضة ذات المضامين العميقة ، وبين ما يكسو جدران المقابر والمعابد المصرية القديمة من قصص وحكايات وكائنات مختلفة لا وجود لها إلا فى الأحلام .
- شب أحمد مرسى كفنان وترعرع ، فى كنف أعظم ثورتين فنيتين مصريتين : الأولى هى الحركة السيريالية المعروفة بأسم ` الفن والحرية`. تفجرت فى الثلاثينيات من القرن ، وأصبحت مصدر إلهام وحيوية للمثقفين فى بلادنا حتى مطلع الخمسينيات . كان فيلسوفها ورائدها الشاعر الرسام : جورج حنين ، بصحبة الفنان المتشعب الأتجاهات : كامل التلمسانى ( 1915 - 1972 )، والرسام الملون والناقد المفكر: رمسيس يونان ( 1913 - 1966 ). كانوا ثلاثتهم رأس الرمح لطليعة المثقفين المصريين فى عالم الفن الجميل . وكان أحمد مرسى فى يفاعته يسعى فى إشعاع تعاليمهم ، الداعية إلى الغوص فى أعماق النفس البشرية وأغوار المجتمع ، والتنقيب عن آلامه الدفينة وعذاباته ، بأسلوب يختلف عن المألوف الذى لم يكن يخرج عن الأكاديمية الباردة والانطباعية السطحية. أسلوب بعيد عن المنطق فى ترتيب العناصر وتصميم التكوين ، ورمزية الألوان والملامس والخطوط . متجهاً إلى توظيف أدوات الإبداع للتعبير عن الرأى وليس التجميل .
- مازلنا نلمس هذه الأبعاد المستحدثة ، بعيوننا وأذهاننا وأرواحنا ، فى لوحات أحمد مرسى مهما دقت مساحتها. بعد أن تخلصت من الفجاجة والقسوة والعنف، الذى اتصفت به سيريالية الثلاثينيات. تحولت هذه السمات فى لوحات أحمد مرسى، إلى أشعار مرئية محكمة الصنعة بارعة الأداء، تمس المضمون مسأ هيناً يحمل فى صياغته خبرة السنين الطوال وثقافة العصر. `سيريالية جديدة ` ذات طابع كلاسيكى جليل مهيب . كأنما يستجيب بها لنداءات نقاد أوروبا وأمريكا فى العالم الماضى ، حين طافوا عواصم العالم بالمعرض الاستعادى الكبير ( ريتروسبكتيف ) للوحات الألمانى : ماكس إرنست ( 1891 - 1976 ) وتراث الشاعر الفرنسى ( اندريه بريتون ) صاحب بيان السيريالية الشهير وواضح فلسفتها .
- أما الثورة الفنية الثانية التى عايشها أحمد مرسى فى فتوته فهى: ( حركة الفن المصرى المعاصر، التى أضرم شعلتها الفنان الفيلسوف: حسين يوسف أمين( 1904 - 1984 ) وكان فى طليعة فرسانها الرسامان الملونان العبقريان : عبد الهادى الجزار ( 1925 - 1966 ) وحامد ندا ( 1926 - 1990 ) . كانت استمراراً وتطويراً وترشيداً للسيريالية . وفى معرضها الأول سنة 1946 تبلورت هويتها على أنها تعميق للسمة المصرية شكلاً وموضوعاً ومضموناً ، واستلهاماً لرموز شعبية محلية تخاطب الإنسانية فى لغة سهلة ، ومعايير جمالية جديدة .
- ما كاد أحمد مرسى يتخرج فى قسم اللغة الإنجليزية بآداب الإسكندرية سنة 1954 ، حتى وقف على مسرح الحركة الفنية الحديثة فى معض جماعى ، كتفا بكتف مع عصبة الحداثيين آنذاك وبينهم:( عبد الهادى الجزار، وحامدا ندا ، وحسن التلمسانى ( شقيق كامل ) والمثال محمود مرسى ، وإبراهيم مسعودة ). وجميعهم من فرسان السيريالية والفن المصرى المعاصر، وعلى درجة عالية من الثقافة والمعرفة ، تتيح لإبداعهم أعماقاً لاتتوفر لأعمال غيرهم من الفنانين . فالموهبة بلا ثقافة كالطير بلا جناح . قصاراه أن يقفز لكنه لا يحلق أبداً .
- هكذا بدأ أحمد مرسى مشواره على طريق الفن متسلحاً بدراسة الأدب الإنجليزى والعربى . كما فتح له إتقان اللغة الإنجليزية نافذة رحبة ، يطل منها بنهم على شتى المعارف الإنسانية . وهكذا ألقى مراسيه فى نيويورك بعد عشرين عاماً من معرضه الجماعى الأول فى الإسكندرية . لم يكن كالقروى الذى ذهب إلى المدينة لأول مرة ، أو خريج الكلية الفنية الذى لا يدرى عن أى لغة أجنبية شيئاً ، ولا يلم بمعارف ثقافية من أى نوع بعيداً عن صنعة الإنتاج الفنى وخاماته . لكنه كان فناناً مثقفاً مكتملاً له إنجازات معروفة . شارك فى إصدار مجلة ` جاليرى 68` التى لعبت دوراً بارزاً فى تطوير الحداثة المصرية والعربية . وله مؤلفات منشورة عن` آيلوار` و` أراجون ` و ` بيكاسو`، بالإضافة إلى ديوان يضم عدداً من القصائد بعنوان ` أغانى المحاريب` . وسجل حافل بالدراسات النقدية فى مصر والعراق . وتصميم ديكورات وأغلفة ورسوم إيضاحية . وسلسة من المعارض الفردية والجماعية ، بينها بينالى الإسكندرية الأول والثانى ومهرجان الواسطى ببغداد .
- لذلك كان تأثير الوسط الثقافى الثرى الذى التقى به فى الولايات المتحدة تأثيراً إيجابياً . لم تهتز له مدركاته التى تبلورت عبر السنين . بل تأكدت مصريته ، وتعددت مهاراته ، واتسعت علاقاته الثقافية . وتجسد أسلوبه المتميز ، وازدادت صياغته إحكاما بدراساته المتخصصة فى فن الأستنساخ ( الجرافيك ) فى نيويورك ، حيث أثبتت لوحاته التى عرضها هناك ، وفى العاصمة واشنطن ، قدرتها على الإدهاش والجاذبية والإثارة فى بلاد البذع والعجائب .
- من المعروف أن رسوم الألوان الزيتية تفسح مجالاً للإرتجال والإسقاط الفورى , والتعبير اللونى عفو الخاطر، أما الحفر على الزنك والنحاس واللاينو فيستلزم التصميم المسبق ثم التنفيذ . وإذا لم تتدخل الألوان ودرجاتها وملامسها ، واقتصر الإبداع على الأبيض والأسود ، كما هو الحال فى معظم محفورات أحمد مرسى ، أصبح الحساب الفنى عسيراً يتطلب مهارات غير عادية، وقدرات خاصة ، ويصبح الفنان كالموسيقار الذى يعزف على آلة واحدة ليخرج عملا متكملا . ولقد وصلت مستنسخات أحمد مرسى المطبوعة بالأبيض والأسود إلى القمة ، من حيث دقة التصميم، وتكامل الخطوط والملامس مع العناصر فى صياغة محكمة ، تجسد خيال الفنان وتحلو المضمون. وتؤثر على روح المتلقى فتستجيب بالاهتزاز والتفتح الذهبى على صور الحياة ماضيها وحاضرها .. فى شوق إلى مستقبل أفضل .
بقلم : مختار العطار
مجلة إبداع العدد (2) فبراير 1993
العابر بين الأزمنة والفضاءات
بين الكلمات والصور، بين الإسكندرية ونيويورك، بين الذاكرة والتحول-يأتي أحمد مرسي كواحد من الأسماء التي لا تلتزم بحدود وسيط واحد، بل تمتد تجربته عبر الشعر، الرسم، النقد، والتصميم المسرحي. وُلد في الإسكندرية عام 1930، وتخرج في جامعتها عام 1954 دارسًا الأدب الإنجليزي، لكنه لم يقف عند اللغة، بل جعلها امتدادًا بصريًا لتجربة تشكيلية تستعصي على التصنيف.
في بغداد والإسكندرية، كان مرسي صوتًا فاعلًا في مشهد الحداثة، مؤسسًا لمجلة Galerie `68، التي لم تكن مجرد مطبوعة، بل منصة لحوار ثقافي مفتوح على التجريب والأسئلة الجديدة. لكنه، كما لو أنه يستجيب لدعوة داخلية نحو المجهول، انتقل عام 1974 إلى مانهاتن، حيث بدأ في تفكيك وإعادة تركيب رموزه البصرية في ضوء تجربة العيش في مدينة لا تهدأ.
في أعماله، تظهر الدمى وكأنها شواهد صامتة، جماجم الخيول كأنها بقايا سفر طويل، والشخصيات الأندروجينية ككيانات تسبح في فضاءات غير محددة. كأن مرسي يعيد رسم المشهد لا كما هو، بل كما يسكن الذاكرة، حيث يتلاشى الزمن، وتظل الإسكندرية ماثلة في الخلفية-البحر عنصر متكرر، لكنه ليس مجرد مشهد، بل حضور ملموس يشهد على التحولات.
تكريمه في المعرض العام هذا العام ليس احتفاءً بفنان فقط، بل برحلة كاملة من البحث عن المعنى داخل الصورة، عن الزمن الذي لا يُمسك، عن المدينة التي تعيش في أعماله مهما ابتعد عنها.

موسوعة السيرة الذاتية للتشكيلين المصريين
المعرض العام للفنون التشكيلية - الدورة الخامسة والأربعون
فى رأس الزمان
- مع أحمد مرسى تتسع دوائر الشغف، فهو مبدع يتجول بين حقول مختلفة: يمد جسورا ما بين الشعر والتشكيل؛ الثقافة والفن، الموقف السياسي والموقف الفني، الكتابة والترجمة، العمل الجماعي مع الأخرين، والتجربة المفردة، الترحال المستمر والهوية المستقرة، الحداثة بعنفوانها وجرأتها والكلاسيكية برسوخها واتزانها المحير.
- العالم الذي يقدمه لنا أحمد مرسى في لوحاته ورسوماته وفى مطبوعاته الفنية أيضا، يبدو في البداية وكأنه مسرح للغرائب، ولكن ذك الحضور الأول سرعان ما يتبدد. فالفنان ليس منشغلا بتشييد معمار يقيني للمكان، يكتفى بالإشارات، وربما يختزل العلامات الدالة عليه، لنصبح في مواجهة سطح اللوحة نفسه.
- وإذا بدت الأماكن أحيانا منطقية، إلا أنها ليست محايدة فلكل مكان بنيته المفردة، وهذ البنية شريك كامل الأهلية فيما يجرى داخلها، بل وتبدو أحيانا كأنها ليست حيزا سرديا، وانما موقع التأمل نفسه. هي مسرح للطبيعة؛ امتداد لا نهائي للسماء والبحر والصحراء، وهي بالمثل طلل وما تبقى من مدن، وغرف مهجورة، واشارة لحضور قديم اندثر. المكان هنا مطلق، بلا حياة يومية. شراك ينصبه الفنان للإمساك بتلك اللحظات المنفلتة، وتلك المشاعر التي طواها الزمن، وكأننا في واحة الغرباء والمستبعدين. رغم أن المكان بتسع أحيانا للامساك بلحظات بهجة عابرة وملونة.
- كائنات أحمد مرسى على اتساعها: البشر والطيور والاسماك والحيوانات، لا تتفاعل فيما بينها، وانما تتجاور وفقا لأقدارها، تتساكن بلا إرادة، وكأنها تخضع لقانون لا نعرفه، وكأننا في لحظة الفعل، ولكن شيئا لم يتحرك بعد. إنها لحظة يختارها الفنان بدقه. لحظة تقع بين ما لن يحدث أبدا. هذا الظهور المكتمل والمتباعد في آن، يبدو وكأنه ما نشتهيه ولا ندركه، او هو هاجس العدم، أو كأنه حلم منفلت في رأس الزمان نفسه.
- لدى توجس خاص تجاه الرموز، وأرتاب دائما في تلك الدلالات المعممة، والمتفق عليها، ولذا لا أنظر الى الثور أو المرأة أو الى البحر والساعة والقارب والطائر في أعمال احمد مرسي، بوصفها رموزا، لآن الرموز لا يملك قيمة في ذاته، ومرسى يدرك ذلك جيدا، ومن هنا يأتي حرصه على أن تكتسب كائناته حياتها الخاصة، لتصبح كيانات خالصة قائمة بذاتها، ولا تخضع لقسوة المعنى والدلالة الواحدة.
- ما يشدني بشكل خاص في أعمال أحمد مرسي، على مستوى الأداء، هو تلك الأعمال التي ، يتخلص فيها من اصداء السرد الأدبي، أو من الشاعرية المسرحية، ليكتشف مناطق تخصه على مستوى التشكيل، وأقصد مستوى صياغة الشكل واللون والضوء والعلاقة بين المفردات. البطولة في أغلب هذه الأعمال التي تشدني، تكون في الأغلب لكائنات مفردة، يقوم الفنان بفصل عناصرها وإعادة بنائها، يشق الشكل كورقة ويعيد لصقها، او يثقب الجسد ليصنع داخله كوة بضع فيها الرأس مجددا بعد تعديله، او يشق الرأس ويفرده على الجانبين. أو يحرك العينين الى أعلى الرأس لتختفي الجبهة تماما، هذه الأجساد تمتلك بلاغة خاصة في عدم تناظرها ووحدتها. فهي بسيطة وحاضرة، شاحبة وحسية معا في آن. كائنات بليغة في نقصها وارتباك بنيتها.
- عندما أنظر الى أعمال مرسى رغم تنوع تجاربه وغزارة إنتاجه، ينتابني دائما نفس الشعور، وكأنني أمام مشاهد من حيوات مؤجلة، عطش لن يرتوى، نزوات لم تقترف، هواجس لا نعرف مصدرها واسرار لن تزاع أبدا. حتى في لحظات إشراق الضوء والبهجة والخفة اللونية، يطل دائما ذلك الحنين وتلك الوحشة للحظات مضت، كطير انفلت ولن نستطيع الأمساك به أبدا. وكأنه يرسم تورطنا في هذه الحياة، ويصر على كشف توهج وحنين أنساني عنيد، لا يتوقف نبضه أبدا، ولا يستسلم للمحو الحتمي الموجع، الذي يفرضه الزمان.
بقلم: عادل السيوى
جريدة: أخبار الأدب (العدد 1664) 15-6- 2025
محاولة جادة للتجاوز
- هل تكون حقاً الرؤية سابقة للكلمات؟ أى أنها رؤية ما يؤسس مكاننا فى العالم المحيط بنا؟، وما العلاقة بين المعنى الذى نصيغه بالكلمات وبين المعنى الذى يفرض ذاته على بصرنا؟ تلك المسألة تدعو إلى التفكر بين ما نرى وبين ما نعرف، حيث لم يحسم أبداً ذلك الجدال بين الوجهتين. وفى الحقيقة، أن تلك المقولة لا تعنى إطلاقاً الفصل بين ما يطرحه الشكل على إبصارنا وبين المعنى الماورائى للموضوع البصري، ذلك لأن هناك فرقاً بين الفكرة الأولى وهي أسبقية الرؤية على حضور اللغة المكتوبة أو المنطوقة، وبين الفصل الذي يتناول المعنى وراء الشكل ولا يعتبر أن المفهوم في ذاته هو المشروع الجمالي للموضوع البصرى.
- وهذا هو محور تناولنا لأعمال الفنان أحمد مرسي، باعتبار أن أعماله في جانبها الأعظم تنحى إلى السرد إلى حد كبير، وقد يكون هنا السرد البصرى هو الموضوع الأثير للفنان، مما يجعلنا نتناول أعماله على محورين أساسيين أولهما: السياق التاريخي الذى أنتجت فيه الأعمال وتأثر الفنان باللحظة الزمنية التي شكلت موضوعه الفني، والمحور الأخر: هو مدى قدرة العمل المنتج من لدن الفنان على البقاء وإنتاج رؤى تتعدى محدودية المعنى الماورائى للعمل، بمعنى أن تكون الحالة الشكلانية للعمل ليست بالضرورة هي المسيطرة والمغلقة على الفكرة والمفهوم الذى يراه الفنان بقدر ما تفتح أفقاً جديدا مغامراً داخل تقنيات التناول للتكوين البصرى بكل عناصره.
- ويمكننا أيضاً أن نذكر الحالة المعرفية التي ينطلق منها هذا التناول الذي نعنيه ونضطلع به هنا وهى وجهة النظر الأركيولوجية في التعرض للموضوع البصري تقنيا وفكرياً وزمنياً، حيث أنها أى الأركيولوجيا غير معنية بتفسير الواقع وإنما هى تقوله، حتى أنها لا تعيد قوله، ولا تعيد إنتاجه طبقاً لرؤية بنيوية، بل تظل أمنية للموضوع المعرفي في حال حضوره وتفاعلاته مع الواقع وحركة الزمن فيه ومعه.
- وقد تطالعنا البنية المؤسسة لرؤية الفنان أحمد مرسي، والتي في حضورها تنطرح في السياق التشكيلى للأعمال، حيث نجد أن الثبات والبناء الصارم هو المؤسس لحركة العناصر على المسطح بالإضافة لطريقة التناول والرؤية في تنوع المساحات وتقسيمها، ما يمكن نعته بالتصميم والتكوين لحركة بناء وتأسيس الرؤية ويتضح جلياً في مجموعة أعماله في الفترة الوسطى من تجربته التشكيلية وهل الأعمال التي أنتجت في فترة السبعينات وحتى بداية التسعينات من القرن الماضي، وهى الفترة التي استقرت فيها وحداته ومفرداته التشكيلية وتحددت فيها معالم أسلوبه وطريقة صياغته للعناصر، وبالرغم من تأثره الملحوظ بأعمال بيكاسو في الفترة ألتي أطلق عليها (المرحلة الزرقاء) ومحاولة صياغته لمنطق خاص به مغاير لمنطق بيكاسو في معالجة الشكل والدفقات اللونية وقد يكون الفنان قد نجح في إرساء حالة خاصة له لا تحيله إلى بيكاسو، إلا أن الفارق بينهما هو أن بيكاسو كان كثيف الشك فيما يفعله، وغير قابل للاستقرار طوال الوقت حتى مرحلة ما سمى بالتكعيبية التي استقرت فيها أشكاله إلى حد ما ولا سيما أنه كان قد وصل إلى مرحلة وطاقة ونجومية في الوسط التشكيلي تجعل من الاحتفاء به يرسخ القيمة والأسلوبية التي استقر فيها أخيراً، إلا أنه كان يخوض في نفس الوقت في تقنيات أخرى مثل النحت والخزف والحفر مما أضاف الكثير من الحيوية لسياق تجربته التشكيلية، بينما في حالة الفنان أحمد مرسى وخاصة في الفترة المذكورة والتي أستمرت حتى وقت متـأخر من حياته الفنية لم تحدث فيها انتقالات كثيرة ومفارقة، فهو مأخوذ بشكل ما بالحس الأدبي لأعماله والتي كانت تواكبها نصوصه الشعرية حيث أصدر عدة مجموعات شعرية ليس لنا أن نناقشها الآن لنكتفي بمناقشة عمله البصرى موضوع مقالتنا.
- نلاحظ أيضا ومن باب آخر الفارق بين مرحله المبكرة `الأعمال التي أنتجها في فترة الخمسينات والستينات من تجربته التشكيلية` والتي كانت إلى حد كبير متأثرة بأعمال جماعة الفن المعاصر وقد احتوت تلك المجموعة أعمالاً توضح حالة البحث لدى الفنان من خلال إيمانه بفكرة بلورة أسلوب خاص به يميزه عن أقرانه، حتى تواصل فيما يبدو مع جماعة الفن والحرية التي جمعت بين الكتابات النقدية والشعر والتمرد على الثوابت وهى الفترة التي لمعت وتبلورت فيها أفكار السوريالية والتي ظلت ملازمة له في أعماله وفى رؤيته التشكيلية ومنطق تناوله للعمل التشكيلي، ومن هنا نستطيع أن نلاحظ بشكل جلى مدى حضور رؤية السورياليىن ومنطقهم الذى ساد في أعمال أحمد مرسى ليكون ذلك المنطق هو الكينونة الفكرية لموضوعه البصرى بشكل أساسي وهو الأفق السوريالى المؤسس لرؤيته والمولع هو به والواضح في الفترة الأطول في مسيرته التشكيلية ونستطيع أن نوضح هنا أننا نتناول الحالة البصرية لأعماله ولا نحيلها إلى قراءة أدبية أو أبعاد تأملية وفكرية تحتويها تلك الأعمال وذلك بسبب أن معظم من تناولوا أعمال الفنان بالكتابة عنها وعن تجربته برمتها قد تناولوا الجانب الفكري أو الأدبي في أعماله مما أتاح حدوث ذلك الشكل من التفسير المتضمن في الأعمال وهى وجهة نظر ننأى عنها في مقالنا هذا، لأنها أولاً تفسر العمل من منطق السرد الأدبى والمصطلح الأدبى للتواصل مع التجربة، مما يعنى تفسير اللغة البصرية بلغة أخرى، الأمر الذى يوقع الجميع في إشكالية الفرز والوعى البصرى الغائب في الحقيقة عن التحقيق في منطق الصياغة التشكيلية لدى الفنان، وعلى سبيل المثال مقالة `إدوار الخراط` ومقالة صديق الفنان `جونثان جودمان` .. وقد بدأ إدوار الخراط مقاله عن الفنان بقوله: `أحمد مرسى فنان طهرانى (وهو المنطلق الأحب لدى إدوار الخراط) أعنى أن له أسلوباً نقياً خالصاً من شوائب كثيرة قد نجد عكارتها اليوم في كثير من الأعمال`، وبالرغم من أن إدوار الخراط قد تعرض للبعد عن حَالة الفصل بين الشكل والمضمون والتي نعتبرها قضية قديمة جداً تم الفصل فيها فلسفياً وفكرياً قبل عشرات من السنين من القرن الماضي إلى ما بعد الحداثة إلا أننا نقرأ بعد ذلك في مقالة الخراط ذلك الاحتفاء الأدبى بأعمال الفنان والتفسير بل والخوض في أبعاد أدبية إسقاطيه على العمل، ويبدو أنه حاول أن يتدارك ذلك الشكل من التناول في آخر مقاله فقام في الجزء الأخير منه بمحاولة وضع مقاربات جمالية وقراءتها بصرياً، وتلك هي اللحظة المفتوحة في مقالته والتي حاول فيها أن يضف تناولاً نقدياً بصرياً لأعمال الفنان ويتضح هذا أيضاً في مقالته صديق الفنان جونثان جودمان والذى لم يدع تعرضه لأى رؤى نقدية للأعمال بل كان بشكل أساسي يتعرض لعلاقته بالفنان وحركة تلك العلاقة في سياق أعمال الفنان مما جعل مقالته بها الكثير من الصدق والوضوح.
- ويبدو أن كلا الكاتبين قد تناول الجانب الذى أطلقا عليه الشاعرية في تجربة الفنان، وقد تلاقت تلك الجوانب مع منطق الفنان وصيغته بالفعل حيث نجد أن الفنان قد تحرك من منطق الإشارات الأدبية التي غلبت على تجربته، فدائماً ما نلاحظ أن هناك حكاية وراء اللوحة الأمر الذى يجعل العمل التشكيلي يرتد إلى مرجعية أدبية الأمر الذى سيطر على معظم تجربة السورياليين وشكل رؤاهم البصرية، حيث أفلت قلة منهم من تلك المحدودية للعمل التشكيلي بأن أصبح العمل مقروءاً في ذاته وغير محال إلى موضوع خارج عنه أو منطق آخر للتناول غير الحضور البصرى للعمل.
- وفى اعتقادي أن ذلك المنطق في التناول لا يساعد كثيراً في التجربة النقدية للعمل البصرى كما سبق وأشرنا، حيث أنه يحتفظ ويغالب المنطق والمصطلح الأدبى لتفسير العمل البصرى، الأمر الذى يؤدى في الأخير إلى غياب التجربة النقدية المتخصصة وأيضاً إلى عدم تطير اللغة النقدية والمصطلحية لصالح الموضوع البصرى، حيث تكون تلك اللغة المعنية بالموضوع البصرى ومصطلحاتها هي التي تساعد وتنجز نوعاً آخر من التفكير يمكنه أن يضاف إلى الثقافة العربية بالتالي ذات الإرث الأدبي.
- وفى سياق قراءة أعمال الفنان أحمد مرسى يجب لنا أن نشير إلى تجربته اللونية والتي استطاع أن يحقق فيها قدراً كبيراً من الكثافة والزخم باستخدام الألوان المبطنة وعادة ما يبطن الوانه المشعة ببطانة داكنة مما يجعل الطاقة اللونية للمساحة تنطق بالغنى والحضور الدرامي بمعنى أنها كانت أكثر الأشياء فاعلية في المكون البصرى لصياغة الإيقاع التشكيلي وتنوعاته لدى الفنان، وفى رأيي أنها أكثر بلاغة من المعنى الذى دائما ما يتوجه إليه الفنان لسرد موضوعه.
- يدعونا ذلك لطرح فكرة بقاء العمل الفني للفنان أحمد مرسى، أو لنقل تعديه للحظته التاريخية حيث يخرج عن سياق أحداث وأفكار وأسلوبية اللحظة المنتج فيها لينتج لحظة أخرى تتعدى ذلك السياق، وأعتقد أن ذلك يتضمن في أي عمل إبداعي حيث تكون المغامرة هي الأفق الذى نمنحه للعملية الإبداعية لتكتسب زمنها الخاص، ومن هنا نرصد ثبات الفكرة والحركة والمكون للموضوع البصرى للفنان، حيث يكون البناء المحكم عائقاً عن المغامرة، لأنه لا يمنح فضاءً كبيراً من الاحتمالات والحرية، وهو من باب آخر يجعل المتلقي يقف في موضع المشاهد وليس المشارك، أي أنه يغلق على الملتقى باب المشاركة والحضور وهو الموقع الذى سعت إليه بشكل أساسي أطروحات ما بعد الحداثة، ليس من قبيل الترف والاختلاف، ولكن من قبيل إنجاز بناء معرفي مواز أو مكمل للعملية الإبداعية التي يكون جزءاً منها منوطاً بمشاركة الملتقى فيها، وبالتالي نجد أن الفنان أحمد مرسى قد أحكم صيغة العمل بمعنى أنه رسخ التكوين التشكيلي في أعماله، وبالتالي أغلق الجملة البصرية على مفهوم الفنان وحده، ولم ينتج قليلاً عن موقعه لصالح شكل ناقص قليلاً أو لنقل فوضوي أو تلقائي إن صح التعبير ليمنح تكويناته احتمالات متعددة ومتفاعلة بحيوية مع الآخر.
- يدفعنا هذا لقراءة عمل الفنان أحمد مرسى من زاوية أخرى غير زاوية الاحتفاء بما سمى شاعرية عمله التصويري الأمر الذي نجده غير منجز في العملية البصرية لأنه يجعلنا نجد أن الفكرة سابقة على الحالة التشكيلية، مما يجعل التطويع دائماً هو هاجس الفنان وليس الرعشة الأبدية للوجود كما عبر عنها هيرمن هيسه، ويعنى بها ذلك الفعل المغامر الذي يمنح الوجود معنى يضاف اليه وجملة أخرى من التفاعل نحو أرض معرفية جديدة وحيوية ليبتعد بها عن النمطية أو التنميط. وهو ما نلاحظه جليا في العمل التصويري لدى الفنان.
- لنا أن نضيف أيضاً أن الفنان قد استفاد من السمات الأساسية لمدرسة الإسكندرية إن جازت التسمية والتي تشكلت ملامحها لدى فنانين مثل سيف وانلى وأيضاً جماعة الفنانين الإيطاليين الأرمن في وقت تكون الفنان لا سيما دراسته في مرسم الفنان الإيطالي (بيكي) وتظهر تلك الاستفادة والإضافة في تجربته اللونية وثرائها وقدرته التقنية على صياغة حلول وطاقات لونية بليغة ومتنوعة، وربما كانت أعماله الأخيرة بها تلك الطاقة التأملية المدمجة في الكثافة اللونية باعتبار أنه قد منح المساحات ربما براحاً أكبر يعكس السعي إلى حالة تعبيرية بليغة.
- (وربما كانت الأعمال الطباعية لدى الفنان والتي اعتمدت في معظمها على التناغمات الخطية تعتبر حلقة مهمة في سياق تجربته التشكيلية بالرغم أننا نلاحظ التماس الواضح بين تلك الأعمال وأعمال بيكاسو الطباعية) وهو موضوع يمكن أن يطرح مستقلاً عن التعرض لأعمال التصوير.
- يعتبر ما طرحناه هنا من رؤى نقدية لأعمال الفنان أحمد مرسى سواء بالاتفاق مع رؤيته أو الاختلاف عنها، لا ينكر جدية تجربته ومحاولته الدائمة للوصول بحثاً عن صيغة خاصة وطاقة تعبيرية تحمل أحلامه وطموحاته وغربته.. وكانت هجرته المبكرة كما نستطلع من أعماله مكاناً للشجن.. أو ربما كانت مكاناً بديلاً للوطن لأننا عادة ما نطلق تلك الصفة على الغربة والحياة الأخرى خارج مكاننا الذي نشأنا فيه طفولة وشباباً.. وقد يكون هذا النص هو رده فعل على تناول هذا الفنان من حيث الأبعاد السردية والأدبية كما قلنا سابقاً.. لذلك حاولت أن أجعل هذا النص هو نص تحليلي للموضوع البصري بشكل صرف وبعيداً عن أي عاطفة يمكنها أن تنتج تصورات خارج الموضوع البصري.. وأعنى هنا المرجعيات التي في الغالب ما تكون أحكاماً للقيمة التعبيرية أكثر من أن تكون أحكاماً متخصصة تستطلع الحالة البصرية التي انطلق منها عالم الفنان وبالتالى تضع تلك الأحكام تجربة الفنان فى سياقها أو في موضعها الزمنى الذي يفسر القيم التشكيلية التي التبست أو تأثرت من الناحية التقنية بثقافة اللحظة وأنتجت ذلك الحراك البصري لدى الفنان.. لا يمكننا أن نقلل من الأبعاد الدرامية (الروابط الشاجية للعمل) التي سعى اليها الفنان بشكل حثيث.. حيث إنها كانت طوال الوقت هاجسه التعبيري.. وبالتالى فقد تماست تجربته من تلك الزاوية مع الحالات التعبيرية التى واكبها الفنان سواء كانت فى تجربة الجماعات الفنية في مصر أو كانت سائدة فى الغرب.. وكما أسبقت يمكننا أن ننتج نصاً آخر يتناول كتابات الفنان وتفسير عالمه وفق الأبعاد الأدبية لعالمه الشعرى.. ويجب علينا أن نتأمل تجربة أحمد مرسى من جوانبها المتعددة حيث إنها تجربة زخمة وبها توجه صادق وجهد حثيث يعكس نقاء الفكرة ونبلها.
بقلم: مهاب عبد الغفار
جريدة: أخبار الأدب عدد (1664) 15-6-2025
ما وراء البحر
- تحمل بعض أعمال الفنان (أى فنان) حضوراً خاصاً ومؤثراً مقارنة بباقى أعماله. هذه اللوحة `شاطئ البحر` للفنان أحمد مرسى نموذج لهذه الحقيقة.
- حول الفنان قماشة اللوحة هنا إلى خشبة مسرح تشتبك فيه الشخوص مع الإكسسوار مع الظلال مع الديكور، فى جو أشبه بالحلم، مثلما تشتبك فيه اتجاهات فنية مختلفة، من سريالية ورمزية فى منطق التناول، إلى غنائية فى التلوين وبنائية فى الحس العام للتصميم.
- تتجلى الروح السريالية في تلك الصحراء الخاصة بهذا الفنان حيث يتحرك ناسه، عرايا، فى أوضاع هى اقتناص للحظاتٍ وجودية تائهة، كما لو كانوا يبحثون عن معنى ما، أو فى انتظار شىء ما أقرب ما يكونون إلى شخوص مسرحية بيكيت` فى انتظار جودو` وفى انتظارهم هذا، يقومون بحركات وأفعال عبثية لتزجية الوقت، الوقت الذى هو وجودهم.
- جرّد الفنانُ المكانَ من هويته الجغرافية والزمانية، فلا هو ينتمى للشرق ولا للغرب، ربما نتج هذا من التجربة الشخصية للفنان، حيث يحمل يحمل جغرافيا بلده مصر، الإسكندرية تحديداً، في مهجره، في نيويورك. مجرد أرض تتحرك فوقها جزر أدمية منفصلة بعضها عن البعض، وعناصر أخرى من صميم الأرض تمثل طبيعة حية أو ميتة، جبل، بحر، سماء، دخان، سمكة، تابوت. كل الوجوه، هنا، مثلما فى معظم لوحاته، هي أقرب لوجه الحصان، العنصر الذي يكاد يكون أساسياً في تجربة هذا الفنان عموماً، وجه مستطيل بأعين كبيرة وبلا رأس تقريباً. هل يشير هذا، رمزياً، إلى الجوهر الحيواني التابع فى عبقنا الإنساني؟ أم هو إعادة تشكيل للإنسان فيما قبل اللغة، فى صمته البدائى، بعيونه المفزوعة، التى ترى ولا تنطق؟
- كذلك السمكة، ذات الدلالات الرمزية المتعددة، حسب السياقات المختلفة، من إيحاء لعالم اللاوعى والخصوبة، إلى كونها، تاريخياً، رمزاً سرياً للإيمان المسيحى المبكر فى عصر الاضطهاد، إلى تمثيلاتها، فى الثقافة الشعبية والأساطير كرمز للرزق والوفرة والطاقة الأنثوية.
- انطلق الفنان من مستطيل مشبع بأزرق الألترامارين وليس من أبيض القماش المخيف من هذه الانطلاقة أخذت اللوحة هويتها البصرية كفضاء ليلكى لرؤيا روحية، تاركة ظلال الأشكال ثقوباً من ذلك الأزرق المشع، المحبب للعين والدال.
- أخذ أزرق الألترا مارين اسمه من حقيقة أنه كان يجلب في العصور الوسطى إلى أوروبا من حجر الازورد من أفغانستان، من `ما وراء البحر`.
- كل تفصيله هنا غير متوقعة ومفاجئة، حد الشعور بأن الفنان بدأ من دون خطة مسبقة. من دون أن يعرف أين ستأخذه العناصر والأشكال، مسلماً بحقيقة أن اللوحة هي من تشق طريقها لاكتمال عالمها. أقول `من` وليس `ما`. فاللوحة مزاجها وعقلها الباطن، وليس على الفنان سوى الأمتثال لما تفرضه وما تهمس به.
- تأخذ الأشكال في حركتها العين بسلاسة في رحلة ناعمة إلى التضاريس الجمالية المتباينة الأحجام والملامس، حيث تتفاعل المفردات والعناصر في حوارية تكاد تسمع فيها صوت الصمت.
- بالإمكان الخروج من تفاصيل هذه اللوحة بأكثر من لوحة قائمة بذاتها: الشخصان في اليسار لوحة. الشخصان حول السمكة والتابوت على اليمين لوحة. البحر والجبل والبوابة المرسوم على سورها السفينة فى أعلى اليمين لوحة...
- ثمة قدمان يبدوان كبقايا تمثال إغريقى، فى منتصف العمل تماماً، يولدان بعد أزمانياً يمزج الحاضر بالماضى
- انظروا إلى بقعة اللون الصفراء، فى جسد المرأة الطائر أفقياً فيما يشبه اللعبة العبثية، على ضآلتها وهشاشتها، تمثل قمة الصعود في اللحن اللوني، فى ذلك المكان الحيوى من اللوحة. هى المقابل المشع لذلك الأزرق المنتشر، وهى السهم الذي يسحب العين نحو شاطئ البحر، خلف البوابة القائمة من زمن بعيد والتى تفصل بين عالمين.
- كثافة الحمولة البصرية والرمزية جعلت من هذه اللوحة أقرب ما تكون إلى التجربة الروحية. ورغم أن العمل فى بساطة أدئه وعفويته لا ترهقه حذلقة فكرية أو فذلكة فلسفية، صار موضوعاً للفكر وواحة للتأمل.
بقلم : يوسف ليمود
جريدة: أخبار الأدب (العدد1664) 15 -6- 2025
فى البدء كان الأزرق
- في واحدة من قصائد ديوانه `جاليري يعرض صورا مسروقة` (1999) يكشف أحمد مرسي في سطور قليلة جانبا هاما من مغامرته الابداعية التي امتدت قرابة الخمسة والسبعين عاما ، جاب فيها آفاقا كثيرة متنقلا بين الإسكندرية ونيويورك مرورا بالقاهرة وبغداد . هذا الجانب هو ما يمكن أن نسميه الرؤية ، رؤية العين ورؤيا القلب ، التي جعلته يري الأشياء كما تظهر لعينة هو ، وليست أي عين أخري . يقول في القصيدة : `لأني أري أشياء / نفس الأشياء / في كل شئ` وكأنه يؤكد بالشعر العلاقة الوطيدة بين أطراف بدت في مسيرته الفنية والحياتية بعيدة منفصلة مغرقة في انعزاليتها .
- يري `الأشياء` لا كما يشتهيها البعض ، ولكن كما تبدو لعينية ، بجمالها وقبحها ، بغرابتها وعاديتها ، بسكونها وحركتها المتواصلة ، بالتعبير البصرى وبالشعر .
- يراها بدرجات من الأزرق باتت تشكل البصمة الحية التي تميزه في التشكيل البصري وفي مرايا الشعر أيضا . ربما يكون أزرق البحر السكندري الذي حمله معه إلي الشتات ، علي مدي خمسين عاما . وربما هو أزرق الموت الذي يخايله في أشعاره ويستسلم لدرجاته وتموجاته ونداءاته الخفية الأزرق الحزين ، والأزرق البهي ، وبينهما شعر وتصوير وخيال جامح يتجلي علي هيئته بشر أو جياد وأسماك وطيور تتحدي الواقع وتعلي من شأن الليل ، والحلم .
- لقد رسخ أحمد مرسي لنفسه مكانة في مدارس الفن والتصوير العالمية خاصة المودرنزم والسريالية 0 مكانة يطغي ظلها علي إنتاجه في مجالات أخري مثل الشعر والنقد والترجمة ، وهو إنتاج لا يقل غزارة وأهمية عن إبداعاته في مجال التصوير والحفر 0 امتد معرضه الاستعادي الأخير في جاليري آرت توكس بالقاهرة بعنوان `رؤية واحدة وشكلان` لمدة شهر كامل . أعاد المعرض للإنتاج الأدبي المنسي أو المهمش موقعه في مسيرة مرسي العريضة ، حيث احتفي المعرض بخمسين لوحة ورسما من أعماله ، كما احتفي بأشعاره بما يليق بها بصريا فجاءت مطبوعة بحروف كبيرة علي القماش ، تهبط من سقف قاعة العرض لأرضها فيما يشبه المعلقات القديمة وكأنها إشارة رمزية لرسوخ كتاباته وكلاسيكيتها ومكانتها في مشواره الإبداعى .
- جاء معرض القاهرة وكأنه استكمال لمعرض أحمد مرسي الاستعادي في نيويورك والذي أقيم منذ عامين بعنوان `أحمد مرسي في نيويورك : مرثية للبحر` وضم لوحات أنتجها مرسي في الفترة من 1983 وحتي 2012 ، فيما غابت عنه أشعار مرسي التي يحق لنا الآن أن نترجمها إلي الإنجليزية لعلها تري النور في موطن آخر من هذه الأرض . مرثية البحر ، كانت ربما مرثية للشعر أيضا ، في مدينة نيويورك التي لم تعرف شعره كما ينبغي ، ولم تحتف بكتاباته عن الإسكندرية كما يليق الاحتفاء.
- وربما لا نخطئ كثيرا إذا قلنا عن مسيرة أحمد مرسي الفنية في البدء كان الشعر ! إذ لا تخلو أعماله التصويرية الكبيرة من شعرية بصرية ولونية لا تخفي علي أحد ، كما أن ديوانه الأول صدر وهو بعد في التاسعة عشرة من العمر وهو متاح حاليا ضمن الأعمال الشعرية الكاملة الصادرة عن المجلس الأعلي للثقافة والتي ضمت الدواوين التالية : أغاني المحاريب (1949) ، قطوف من أزهار حقول الأسبرين (1948 - 1968) ، صور من ـألبوم نيويورك (قصائد مكتوبة في التسعينيات من القرن العشرين) ، مراثي البحر الأبيض (انطباعات مكتوبة في 1998 و 1999) ، جاليري يعرض صورا مسروقة (1999) ، بروفة بالملابس لفصل في الجحيم (1999 و 2000) طروبادور وادي السليكون (2000) ، كتاب مواقف البحر اللا نفري (2004) ، وأخيرا ديوان الحضور والغياب في خرائط الشتات (2008) 0 فيما صدر ديوانه الأخير ، موسم الهجرة إلي الزمن الآخر ، منفردا عن هيئة الكتاب عام 2012 وضم قصائد كتبت عام 2008 .
- ما يميز مسيرة أحمد مرسي الشعرية والتصويرية هو كونها مسيرة عابرة للحدود ، حدود الكلمة والصورة ، الواقع والخيال ، والحدود الجغرافية التي تفصل وتجمع بين الإسكندرية التي لم تغادره ، ونيويورك التي عاش بها ما يزيد علي خمسين عاما 0 تجمع مسيرته بين الشعر والتصوير والرسم والنقد والترجمة وبين الحركة الدائمة عبر دروب الفن وأنواعه ومدارسه المختلفة يكتب ويرسم بالأساس ، ينساق وراء تصميم الملابس لمسرح ألفريد فرج تارة ، أو يقرض الشعر العمودي في سنوات الكتابة الأولي تارة أخري . في الأحوال كلها ، يلتقط شعرا مشاهد الحياة اليومية بعين ثاقبة وروح مدفوعة دفعا صوب المجهول ، ويسجل رسما تضاعيف الروح وانشقاقاتها المستمرة.
- في الشعر وفي التصوير ، يحتفي أحمد مرسي بمفردات الحياة من بشر ومد وبحر وحيوان وموجودات ساكنة وجماد ويتناولها بوصفها موضوعات للرؤية والتأمل والكشف ، بعيون مفتوحة للرؤية والتأمل والكشف ، بعيون مفتوحة علي اتساعها . تتجسد رؤيته في حصان يافع أو عصفور بحجم إنسان أو سمكة في يد صياد . أو تتجلي في وجه ينشق علي ذاته متأملا الزمن وقسوة الساعات ، أو في وجوه مستطيلة يخيم عليها الصمت وينهكها السؤال.
- في المقابل ، تتضاعف موضوعاته الشعرية بحثا عن ذات الشاعر وقد تكاثرت وانثرت ، تخاصم نفسها تارة وتصالحها تارة أخري ، إذ يظهر الشاعر للقارئ في ثياب مصور ، أو ناقد ، أو مغني ، أو ممثل ، أو نحات ، أو صياد ، أو نبي رحال يتلمس طريقة في الغربة 0 تنطلق جياد مرسي وطيوره كما تنطلق شخوصه الملونة بلون الأرض والبحر ، وقد ثبتت نظرتها في عين المتفرج تنطلق في مدارات يعجز التصوير واللون وحدهما عن التعبير عنها فيأتي الشعر وكأنه ملاذ للبوح بأدوات ومفردات مجاورة ومكملة لحركة التصوير كلاهما يكمل مشروع مرسي الأكبر ، مغامرته القصوي ، لا ينفصلان عن حركته العابرة للحدود ، عن توقه للتعبير بكل الأدوات الممكنة ، التي تتلازم بفضلها الصورة البصرية والصورة الشعرية .
- ذلك أن مغامرة أحمد مرسي الكبري وليدة الحركة علي عكس ما يظهر في سكون شخصياته المرسومة وثباتها 0 الحركة في شعره وليدة السؤال ، والسؤال هو جوهر الوجود عند مرسي ، يبدأ وينتهي بتمارين الموت 0 يقول `أمارس الموت وحدي / مرة في الأسبوع أو مرتين` ، تماما كما يمارس الرسم أو الكتابة لا تنفصل تمارين الموت عن تمارين الخلق ، وهي تمارين علي الانهزام وعلي صنع الانتصارات الصغيرة ، يمارسها بدأب المصور والشاعر المرتحل دوما فى الواقع وفى الخيال .
- وكأن أحمد مرسى يعى فى أشعاره أن في هزيمة الإنسان وعدا بالتحقيق ، وأن في الغياب يقينا بالحضور ، وأن في الصمت كشفا لمجهول أو سترا لمعلوم ، فيتساءل : `عندما يسقط المغني / من الوحشة فوق المسرح / هل يدرك الجمهور / أن الصمت استلاب / وأحيانا عزوف / عن هتك عرض دفين ؟ / ما الذي يخفيه المغنى / عن الناس وعن نفسه / وكل أغانيه مراث / لشاعر لم يمت / لكن بنى قبره / بغرفة نومى` (2008) .
- فى مرحلة البدايات ، نجا أحمد مرسى بروحه الميالة للتأمل الفلسفى وألاعيب اللغة ومفرداتها غير المطروقة نحو الشعر العمودى وظل مخلصا له زمنا ، قبل أن يتخلى عنه فى مرحلة تالية وينطلق في كتابة قصيدة تتحرر من القوافى. يفصل بين المرحلتين ما يزيد على عقدين من الصمت عن كتابة الشعر الذى قد نفسره باستقراره في نيويورك منذ انتقل للعيش فيها عام 1974 وكتب أثناءها مقالاته النقدية فى الفن احتفى الكاتب الكبير إدوار الخراط بعودة مرسى إلى الشعر عام 1995 فكتب يقول `وإذ عاد الفنان إلي الشعر- الذي كان كامنا وحيا طول الوقت - فقد عادت معه الفاجعة المضمرة والماثلة بقوة والمتعمقة من تفصيلات الحياة اليومية الدقيقة فى المتروبول الكبري ونيويورك مدينة الغربة` .
- فى تحليل الخراط لخصائص الشعر لدى مرسى يرى أن القيمة السردية لقصائد مرسي تتكامل مع قيمة الوصف والتصوير فى نوع من `الدرامية الحارة الديناميكية` وأن `مساحة الشعر براح فسيح تجد فيه كائنات الفن التشكيلى - هنا - نوعا من الحرية لعله لم يكن متاحا لها فى داخل `إطار` اللوحة أو `إسار المكان`.
- فيما يشير الناقد الكبير صبحى حديدى فى مقالة عن شعر أحمد مرسى إلى تطور صوت مرسي الشعري بعدما تخلى عن الشعر العمودى فى ديوانه الثالث ، وفيه يتحرر من القافية دون التنازل عن سحر الموسيقى وجملة التفعيلة ، كما يتراجع عن النبرة الفلسفية دون التخلى عن مسحة التأمل فى معضلات الوجود ، وينحو نحو المتتاليات الوجيزة التى تشارك فى تطوير موضوع الدواوين عوضا عن القصائد الطويلة المستقلة فى أعماله السابقة .
- فى ديوان `جاليرى يعرض صورا مسروقة` والذى يضم فضلا عن الرسوم قصيدة افتتاحية تليها 31 قصيدة مرقمة بعنوان `صورة` ، يشير أحمد مرسى لذلك `الفضاء الماكر` الذى يحتويه ويحتوي أسرارا وصورا `مسروقة من حدائق العشق والموت` 0 فضاء الشعر ، فضاء اللوحة في تلك الحدائق ، تتجلى فجأة الفن التى لا تضاهيها سوى فجأة الموت بينهما ، وفى تلك المناطق المعتمة من الروح ، تنشأ الصورة التى تمنح الديوان اسمه ، مثل الصورة الرابعة التي يجمع فيها الشاعر بين الحركة والسكون من ناحية والحديث والنجوى الروحية من ناحية أخرى : `كنت أصغي/ إلي صدي صوتي الطالع / من بئر داخلى / حين شق الصمت صوت معاكس / لحصان أحمر ميت / يحذرنى / أن لا أصيغ السمع لصوت الخيل / خاصة أن الخيل لا تتقن التعبير / عن آيات فصول الجحيم` .
- صورة الإسكندرية أيضا مسروقة من زمن مضى وولى مما يفسر ربما عودته المضنية لكتابتها شعرا أو تصويرها فى لوحاته الاسكندرية فى الشعر مرادف للفقد والاختفاء والسقوط الدائم فى بئر الأسرار والخفايا يكتب مرسى فى الصورة العاشرة من الديوان : `آتى إليها مرتين منقبا / فى كل عام / بين أكوام الحجارة / والتماثيل الخبيثة / فى حقائب هارب / أخفى جريمته سنين / حاولت مرات عديدة / أن اصور وجهها المحفور / فى مرآة حمامى / ولكنى فشلت / كأنها كانت بناء من ظنون / إسكندرية لا تزال بعيدة / لا أستطيع الاقتراب هنيهة منها / ولا حتي ألتقيها تحت ظلالها الزرقاء / أنى تستكين / طال الطريق وكلما اقترب المريد / تلفعت بإزار قوقعة / ولاذت فى مناورة بمملكة البحار الميتة` تعود إذن مفردات الأزرق والموت لترمى إزارها على وجه الإسكندرية العجوز . البكر فى الخيال وفى التمنى .
- وفي ديوان `الحضور والغياب` يقارن بين صورة الإسكندرية المفقودة المتشظية وصورة نيويورك التي قضي فيها عمرا من التخفي وراء الأقنعة ، بلا هوية وبلا ملامح . يقول : `مدينتي الأولي / فقدتها / كما فقدت / صورتي الحقيقية / في حقيبة سرية / نسيت أن أحملها / معي إلي الشتات / هل أقول / أو دفنتها عن عمد / في الأرض كى / أرسم صورة جديدة / بلا ملامح / أعيش فى الغربة فيها / كنبي كاذب / أو هارب فى السر من / تنفيذ حكم أبدى / داخل سجن اللا وجود / عالقا بين الصموت والسكوت ؟ `
- الموت والغياب يتم استنساخهما وبعثهما بأشكال متنوعة ليس فقط في أعمال مرسي البصرية حيث يتشبث بجدلية الفراغ والامتلاء ، الندرة والكثافة ، ولكن في أعماله الشعرية أيضا . من هنا يكتسب الأزرق الذي يميز لوحاته بعدا جديدا بفضل الشعر ظاهريا ، الأزرق هو رمز البحر ، يحيل للإسكندرية البهية الصامتة الملغزة التي استوحي منها لوحاته . لكن الأزرق الشفيف والداكن ، الحزين والمبهج ، هو أزرق الموت الذى يضفى علي المشهد الشعرى المتأرجح بين الذاكرة والنسيان جلالا وهيبة .هو أزرق الوحدة فى الليل ، والانفصال والتوق للاتصال بالعالم ، أزرق مراثى البحر، وأزرق الصورة الذاتية التى يرسمها الفنان لنفسه وقد تهشمت مراياه على رصيف الشعر.
بقلم : مى التلمسانى
جريدة: أخبار الأدب (العدد 1664 ) 15-6- 2025
أحمد مرسى : أنا كل هذه الوجوه !
- لوحاتى تحتوى على رؤى وتهويمات شعرية مجهضة
- `سيرتي ليست مهمة ، ليس فيها ما يثير خيال القارئ` كانت هذه الجملة خاتمة لحوار طويل مع الفنان والشاعر أحمد مرسي . جري الحوار الخاطف في إحدي زياراته للقاهرة عائدا من نيويورك حيث يقيم . لكن الواقع أن سيرة مرسي الذي يعتبر أحد رواد الفن المصري الحديث سلسلة طويلة من التنقل ، والسفر والمغامرات الفنية ، والمعاناة الحياتية . ولد في الإسكندرية عام 1930 ، لكنه غادر المدينة في خمسينيات القرن العشرين متنقلا ما بين بغداد وباريس وكابول ، والقاهرة . في كل مدينة مغامرة واكتشاف جديد للذات ، قبل أن يستقر في نيويورك منذ عام 1974 . ولكن الإسكندرية التي غادرها مبكرا لم تغادره : `غرفة الرسم .. لا تزال / كأني لم أبارحها / من أكثر من ستين عاما / تعانق المشهد البحري / غموض القصر المتوج رأس التين / مرسي بحار الشحن / صيحات النوارس` كما يقول في إحدي قصائده . تبدو الإسكندرية لديه أكبر من مدينة ، كأنها وطن غائب ، البحر وكائناته حاضر فى لوحاته ، ودرجات الأزرق المختلفة ، وكذلك رمال الشاطئ .
- بدأ شاعرا وأصدر ديوانه الأول `أغانى المحاريب` (1948) . وأثناء دراسته للأدب الإنجليزى جذبه الفن فبدأ فى دراسة الفن التشكيلي بشكل حر في استوديو الفنان الإيطالي سيلفيو أنريكو بيكي بالإسكندرية ، وتزامل فى تلك الحقبة مع الفنان سيف وانلى ، وجمعته عدد من المعارض الجماعية وهو لا يزال فى العشرينات من عمره بنخبة من أهم الفنانين مثل عبد الهادى الجزار وحامد ندا وفؤاد كامل ، وحسن التلمسانى .
- ظل مرسي متأرجحا بين كتابة الشعر ، والرسم ، والترجمة ممارسة النقد الفني وهي الموهبة التي أطلق لها العنان أثناء فترة عمله فى مدينة بغداد فى منتصف الخمسينات ، حيث كانت المدينة مركزا للفنانين والكتاب العراقيين ، من بينهم الشاعر عبد الوهاب البياتى ، والروائى فؤاد التكرلى ، والفنان أردش كاكافيان .
- بعد عامين من الإقامة فى بغداد . عاد إلي مصر عام 1957 واستقر هذه المرة بالقاهرة ، حيث باشر نشاطه الفنى المتنوع ، فلم يكتف بالكتابة والرسم فقط ، بل ساهم فى تصميم ديكور وأزياء عدد من الأعمال المسرحية التى قدمت على المسرح القومى ودار الأوبرا الخديوية ، وشارك مع عبد الهادي الجزار كتابا شعريا احتوى رسومات للجزار ، وقصائد لمرسي ، لكن لم يصدر الكتاب بعد وفاة الجزار المفاجئة .
- في عام 1968 في أعقاب الهزيمة توقف مرسى عن كتابة الشعر ، وشارك في تأسيس مجلة جاليري 68 التي رأس تحريرها الفنى ، كانت المجلة أول مجلة ثقافية مستقلة منذ عام 1952 ، لم تكن المجلة سياسية ، ولكنها كانت محاولة للرد على الهزيمة . واعتبرت المجلة التى لم يصدر منها سوى ثمانية أعداد صوتا للحداثة المصرية الجديدة .
- فى عام 1974 انتقل مع أسرته إلي نيويورك وهناك بدأ شغفه بفن الطباعة فالتحق عام 1976 بعدة دروس فى فن الطباعة والطباعة الحجرية مع رابطة طلاب الفن فى نيويورك .
- أصدر مرسى 9 دواوين شعرية ، وترجم بالاشتراك مع الشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى أشعار لبول إيلوار وأراجون ، وترجم منفردا قصائد قسطنطين كفافى ، ومختارات من الشعر الأمريكي المعاصر ، كما شارك مرسي في العديد من المعارض والبيناليات العالمية من بينها بينالي فينيسيا في دورته الأخيرة 0
- أثناء إحدي زيارته للقاهرة 00 كان معه هذا الحوار :
- تشكيلي ، شاعر ، مترجم ، ناقد ، مهندس ديكور ومصمم أزياء عروض مسرحية ، صانع كتب ومجلات 0000 هل هذا التعدد مفيد 00 وما الأقرب لك منها ؟
كل هذه الوجوه أنا 0 لكن الأقرب لى التشكيلي والشاعر.
- ولو حدثت مفاضلة بين الشعر والتشكيل ماذا تختار ؟
- أنا توقفت عن كتابة الشعر لأكثر من ثلاثين عاما ، لكني لم أتوقف لحظة عن التشكيل . الشعر والتشكيل . بالنسبة لي . وجهان لعملة واحدة . التشكيل قصيدة بالألوان ، أنا أكتب اللوحة ، وأرسم القصيدة ، إنها وسائط مختلفة ، لكن بلغة واحدة كنت شاعرا يعانى الاغتراب . وأمام ما أسميه عملية `الإجهاض الشعري` أصبحت لوحاتي تحتوي رؤي وتهويمات شعرية مجهضة المسحة الشعرية التى تظلل لوحاتى تأتى من قوة قهرية تسيطر علي كل مراكز الأعصاب التي تحرك أصابعي بالفرشاة لذلك أستطيع القول بأني لم أعد أعبأ بها . بل إن ما يشغلني في المقام الأول ، هو اثراء مفردات لغتى التشكيلية أو محاولة اخضاعها إلي لغتى الخاصة ، تلك اللغة التي تسعي الي تحقيق التوافق من خلال الحوار الجدلى بين التناقضات وقد قلت ذلك أكثر من مرة في كتالوجات معارضى.
- هل كان لديك تفسير ذاتى لأسباب التوقف عن كتابة الشعر ؟
- ربما لأننى لم أشعر باعتراف أو تقدير، وبالتالى حدثت عملية عصيان أو تمرد داخلية أدت إلي توقفي عن الكتابة اخترت الصمت الشعري ، وربما كان الخوف هو القيد الحقيقى الذى كان يشدنى إلى جدار الصمت ويحول دون محاولتى التخلص من الأسر ، وربما التردد الهاملتى الوجودي الملعون الذي ابتليت به منذ الوعى بالذات والوجود وما يهيم حواليهما من كائنات وأشياء محسوسة ولا محسوسة ، ومحاولة فهم هذه الأشياء 0 كنت أكتب الشعر على أى أوراق أجدها أمامي علب الكبريت ، أوراق الجرائد 0 وفجأة توقفت فى عام 1996 أتصل بي الروائي الصديق إدوارد الخراط وطلب منى شهادة عن علاقتى به بمناسبة عيد ميلاده السبعين ، دخلت غرفة النوم وخرجت بقصيدة ثم تدفق الشعر، ولم أتوقف من يومها لا أدرى لم أنهار حائط الصمت الشعرى ، عدت كما كنت في الماضى ، أكتب الشعر فى كل وقت وكل مكان.
- ولكن ماذا عن البدايات وسنوات التكوين؟
- البداية من الإسكندرية ، هى مدينتى الأسطورية ، فى الأربعينيات كانت مختلفة تماما عن إسكندرية الحاضر ، مدينة كوزموبوليتانية ، يقيم فيها العديد من الأجانب الأثرياء تحديدا ، فى ذلك الوقت كانت أوروبا فى أزمة مالية بسبب الحرب العالمية ، وبالتالى كان من الطبيعي أن تقام معارض لفنانين عالميين ، لأن الثرياء الأجانب المقيمين في المدينة لديهم مقدرة علي الشراء0 رأيت أعمال بيكاسو وماتيس ومودلياني في الإسكندرية 0 كذلك كانت هناك زيارات لفرق أوبرا ومسرحية فرنسية وإيطالية بشكل متواصل ، ويضاف إلي المسرح السينما الإيطالية والفرنسية التي خرجت من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية ، وكانت `سينما ستراند` ، متخصصة في عرض أفلام الواقعية الجديدة الايطالية ، بينما انفردت سينما فؤاد بعرض الأفلام الفرنسية `الشعرية` ولا أبالغ إذا قلت إن اسكندرية ما قبل الحرب وما بعدها مباشرة كانت سوقا هاما للفن الأوروبي ، الفرنسي بالذات 0 لاشك أن هذا المناخ الثقافي العام قد ترك أثرا عميقا في تقويتي كشاعر وفنان ، كما أن ترددي علي المسرح والأوبرا والسينما شجعني فيما بعد علي أن أقدم تصميم ملابس ومشاهد مسرحية ألفريد فرج `سقوط فرعون` وكان تصميم الملابس في المسرح المصرى فى ذلك الوقت حكرا علي الإيطاليين .
- البداية هنا 00 كانت بالشعر لا بالتشكيل ؟
- الكتابة هى عالمى السرى القديم ، بدأت كتابة الشعر مبكرا جدا عندما كان عمري لا يزيد علي خمسة عشر عاما ، في إحدي مكتبات الإسكندرية نسخت كتابا حول علم العروض ، وشغفت بشعراء مثل محمود حسن إسماعيل . ولكن بعد ثلاث سنوات تقريبا في سن الثامنة عشرة بدأت التعرف علي فنانين سيرياليين مثل بابلو بيكاسو وماكس أرنست وسلفادور دالى .. وآخرين هذه الأعمال غيرت نظرتي لنفسي وللعالم ، كليا كانت بمثابة مفتاح لباب أدخلني إلي عالم جديد لا أول ولا آخر له ، عالم ثري يبدأ بالنظر إلي العالم الخارجي بعدسة تتجاوز المرئي لتنفذ إلي اللامرئي ، وهو ما حاولت التعبير عنه في الشعر والتشكيل كليهما معا . وقد ساعدني إلمامى بالفرنسية علي قراءة الشعراء الذين لعبوا دورا في الحركات الفنية والشعرية في بداية ومنتصف القرن العشرين وبقليل من الجهد قمت بترجمة قصائد لبول فاليري وإيلوار وجاك بريفير وأراجون الخ 0 كانت الترجمة مجرد تدريب لفهم صنعة الشعر ، ولم يكن فى نيتى النشر ، ولكن نشرت فيما بعد مختارات من قصائد بول إيلوار ، وأراجون ، وكافافي . وفي تلك الفترة كنت أكتب قصائد بالفرنسية ، لم تكن قصائد للنشر ولكن لمزاجي الشخصي ، وتدريب على اللغة ، وربما من حسن حظى ، أو من حسن حظ القراء أننى فقدت هذه القصائد .
- هل هناك فرق بين الشعر والرسم ؟ اللوحة والقصيدة ؟
- التشكيل يحتاج إلي احتشاد ، عكس الشعر 0 أكتب الشعر فى أى وقت وأى مكان ، فى المقاهى ، وأنا أسير فى شوارع مانهاتن، عند إشارات المرور الحمراء، فى الأتوبيس، فى مقاهى المفضل فى ` سوهو` على عكس اللوحة، التى تحتاج لتجهيزات خاصة ، ممكن أرسم مخطط لوحة فى المقهى ، لكن لابد أن أعود إلى مرسمى للبدء فيها .
- نشرت ما يسمى كتاب الفنان .. الذى يجمع بين الشعر والتشكيل ماذا عن هذه التجربة ؟
- كانت البداية عندما اشتركت مع الفنان عبد الهادي الجزار في كتاب مشترك . يضم قصائدي ولوحاته ، ولكن للأسف لم يُنشر هذا الكتاب بسبب وفاة الجزار المفاجئة ، فيما بعد أصدرت كتابا فى طبعة محدودة يضم ترجمتى لقصائد كافافي مع رسومات لى ، ثم اشتغلت مع أدونيس علي ترجمة قصائده تشكيليا فكرة كتاب الفنان فكرة قديمة أدين بها لصديق يهودى قديم يسمي `أوسكار` كان صاحب مكتبة `هاشيت` بالإسكندرية فى الأربعينيات وقد تعرفت من خلاله على `كتاب الفنان` وهى الكتب التى كان فنانون مثل بيكاسو وماتيس وغيرهما ، يشاركون شعراء فى إعداد عمل مشترك يجمع بين العمل الجرافيكي الأصيل (الحفر) ويصدر وفى طبعة محدودة النسخ (من 10 نسخ إلى 50 على سبيل المثال) مرقمة وممهورة بتوقيعى الفنان والشاعر . كان أوسكار يقيم فى مكتبته معارض لفنانين سكندريين وأجانب ، ومن ثم كانت المكتبة ملتقى متذوقى الفن وأثرياء المدينة من أصحاب المجموعات الفنية الهامة الذين يمتلكون أعمالا لماتيس وبيكاسو وشاجال وغيرهم من رواد مدرسة باريس التي تربعت علي عرش التصوير الغربى حتي نهاية الحرب العالمية الثانية . وبالرغم من ضيق ذات اليد في تلك السنوات كنت لا أزال طالباً بالجامعة ، وإن كنت أيضاً أعمل مترجماً أتقاضي مرتبا متواضعا لا يسمح لي بأي حال من الأحوال ، باقتناء مثل هذه الكتب الباهظة ، أتاح لي هذا الصديق شراء بعض كتب الفن ذات القيمة المرتفعة بالتقسيط ، وقد بلغ به الكرم ، ذات مرة إلى حد التنازل لى عن ثلاث محفورات أصلية لبيكاسو من أعمال كتاب تحولات أوفيد . وعندما سافرت للعمل في العراق وقرر إغلاق المكتبة والهجرة إلي تونس استعدادا إلي باريس فيما بعد ، ذهب إليه أحد أفراد أسرتي ليسدد له مديونياتي ، رفض الحصول علي أي أموال بل ترك لى بعض هذه الكتب أيضا.
- يعتبرك نقاد الفن فنانا سيرياليا بل آخر السيرياليين هل تتفق مع هذا التصنيف ؟
- لا أحب التصنيفات ، أترك ذلك للنقاد ، هم الأقدر علي ذلك .
- ولكن أنت تمارس النقد أيضا ؟
- في عام 1955 سافرت علي بغداد للعمل ، وعندما وصلت اشتغلت مدرسا ، وصحفيا ومترجما ، وطلب مني أحد الأصدقاء متابعة معارض الفن التشكيلي والكتابة عنها . ولكن طوال سنوات ممارستي للفن نفسه . لا أفضل الحديث عن أعمالي ، عن إيمان بأن العمل الفني ينطوي في ذاته علي كل ما أصبو إلي التعبير عنه باللغة التي آنست فيها قدرة الإفصاح . هذه اللغة الخاصة ، شأن أية لغة أخري للتعبير ، لابد أن تخضع لعملية نماء الكائن البشري ، طالما ظل يستشعر دائما تلك الحاجة الملحة والممرضة للتعبير عن صراعاته ، سواء مع نفسه أو مع العالم الخارجي .
- هل التقيت مجموعة السرياليين جورج حنين ورمسيس يونان وكامل التلمسانى ؟
- كانوا أكبر منى ، لم يكن بيننا علاقة شخصية قوية ، قابلت رمسيس يونان أكثر من مرة فى مرسمه ، كان صديقا لإدوار الخراط وكنا نزوره بين الحين والآخر.
- هل كان حرصك على تعلم الفرنسية من أجل السريالية باعتبار أن السريالية بدأت فى فرنسا ومعظم رموزها يكتبون بالفرنسية حتى المصريين منهم ؟
- لا من أجل الشعر ، لم أتعلم الفرنسية من أجل أندريه بريتون ، وبيانات الحركة السريالية ، وإنما لكى أقرأ شعرا ، لكى أقرأ أرجون ، وبول فاليرى . كنت فى ذلك الوقت مولعا ومفتونا بالقراءة وكانت أمى دائما غاضبة منى ، لماذا أشترى كل هذه الكتب ، وهل أنا فى حاجة إليها ، وغاضبة أنني أغلق علي نفسي الباب لكى أكتب وأقرأ فقط ، لذا كنت حريصا أن يكون لدي دائما `كلب` في المنزل 0 كان في غرفتي دائما حتى لا تدخل أمى وتمزق أوراقى أو تتخلص من كتبى ، ومازلت حتى الآن أحب أن يكون لدى ` كلبى` الخاص .
حوار : محمد شعير
جريدة: أخبار الأدب ( العدد 1664) 15-6-2025
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث