وداعا فؤاد تاج الدين.. مايسترو فن الصالون
- فيلسوف ترميم اللوحات التاريخية
- عن عمر يناهز 90عاما رحل الفنان محمد فؤاد تاج الدين.. استاذ التصوير بالفنون الجميلة بالإسكندرية.. بعد رحلة طويلة من الابداع امتدت فى الفن الصحفى لاكثر من عشرين عاما.. من الرسوم التعبيرية والمساهمة فى الاخراج الفنى بصحف ومجلات: المساء والجمهورية وصباح الخير وحواء.. مع تخرجه من الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1958.. ومنها إنضم إلى هيئة تدريس الفنون الجميلة بالإسكندرية من بداية الستينيات.
- كان مصورا من طراز خاص.. `مايسترو` له لغته المشرقة فى فن الصالون.. وإلى إعماله التى تمتد من الواقعية التعبيرية إلى السيريالية والرمزية بحس تعبيرى وتكعيبى.. كما تألقت لمسته التى لا تبارى فى فلسفة الترميم فى اللوحات التاريخية من التصوير الجدارى والأعمال المجسمة.. لعل اهمها.. رسومه لسقف كنيسة مارجرجس ولوحات الزجاج المعشق بقصر راس التين بالاسكندرية.
- طنطا والسيد البدوى
- ولد الفنان فؤاد تاج بمدينة طنطا.. تلك المدينة التى تنفرد بملامح جمالية وروحية وبيئية بوسط الدلتا.. ففيها السيد البدوى بضريحه التاريخى الشهير والذى يعد مزارا للقادمين من من الريف والمدينة.. وامتلا كثيرا بفيض المباهج والاحتفالات التى كانت تقام سنويا.. تزدان فى المدينة بالأضواء والألوان الساطعة.. وتعلو التراتيل القرانية الكريمة وترتفع الأصوات من مكبرات الصوت الحاشدة بالاغانى الشعبية.. الصداحة مع مواكب الطرق الصوفية وتجمعات الذكر والانشاد والسامر والاراجوز.
- يقول الفنان فؤاد فى حديث له مع صديقه الناقد الفنان حسن عثمان: `التحقت بمدرسة الاحمدية الثانوية وزاملنا العديد من الزملاء من بينهم: د.عمرو موسى والاعلامى حمدى قنديل والمشير طنطاوى.... انتهى العام الدراسى وحصلت على الثانوية العامة عام 1953.. والتحقت بالفنون الجميلة تلميذا لاساتذة كبار منهم أحمد صبرى الذى علمنى الدقة والانضباط فى التعامل مع اللوحة.. ويوسف كامل الذى تعلمت منه الدخول فى العمل باحساس تعبيرى وعدم التمسك بتصميم مسبق.. أما حسين بيكار فاستوعبت منه: الواقعية التعبيرية فى الوان منسجمة لا تعوق التعبير الفنى.. مع عبد العزيز درويش بشخصيتة التى تفيض بالشفافية وعز الدين حمودة الفنان الملكى تعبيرا والانيق فى اختياراته اللونية.. وأخيرا عبد السلام الشريف الذى اغرانى بالدخول إلى عالم الصحافة.. رساما ومخرجا فنيا وكاتبا فى الفن التشكيلى.. وأن كنت لم استمر.. واتجهت إلى الدراسة الأكاديمية وعينت بهيئة تدريس الفنون الجميلة بالإسكندرية`.
- سافر فناننا مع الفنان أحمد عبد الوهاب إلى روما للدراسة.. حيث الأكاديمية المصرية والايطالية.. ومن هناك أقيم معرضه الخاص بباريس والتقى باعمال رواد الفن الحديث وتأمل فضاءات التصوير ومجسمات النحت.. مثلما كان معه زملاء من فنانى مصر: عمر النجدى رفعت أحمد وعبد الحميد الدواخلى وأحمد عبد الوهاب.. وتعددت رحلاته إلى ايطاليا شمالا وجنوبا وإلى النمسا وهولندا واسبانيا.. رحلات من الثقافة البصرية والبحث والتجريب.
- عالمه
- كان فناننا من فنانى الصالون الكبار بلمسة تعبيرية خاصة.. وإذا كان قد رحل عنا منذ أيام.. فتظل اعماله بيننا شاهدا على ما كان يحمل من قدرات فى فقه التصوير.. وهو الأستاذ والمعلم.. الذى تخرج على يديه العديد والعديد من الطلبة بقسم التصوير.. من بينهم فنانون كبار حاليا.
ولا شك أن مساحة التالق والتانق التى تشع بها أعماله فى البورتريه.. جعلت له تلك المساحة المهمة المشرقة.. ومن بين اجملها `امراة بتاج الحسن` وهى لوحة فيها شفافية لسيدة بنظرة متطلعة ووجه نورانى.. مع ردائها الأبيض الهامس بالنور والنقاء.
- أما لوحة `هى والخطاب` للسيدة زوجته.. فقد نقلنا خلالها إلى تعبير درامى آخر فى قسمات جمال الوجه والرداء الأسود والأساور.. مع الخلفية من الأحمر والصورة المعلقة على الحائط بملامح هادئة.. جسدها مع القلم فى لحظة كتابة خطاب.
- وله لوحة بورتريه `صورة شخصية` للرئيس أنور السادات.. فيها بلاغة التشكيل والتعبير وفيها حيوية اللمسة.. بنظرة تنفذ من خارج اللوحة إلى افاق فى السياسة والناس على خلفية من الزرق الهادىء والابيض.
- وتظل لوحة `انتظار بالباب` مساحة تعبيرية مختلفة تفيض بالأشراق لفتاة متوحدة مع باب مفتوح.. على دنيا من الأضواء بالداخل لمنزل من طراز عتيق.. بلمسة من الحيوية.. بينما ننتقل إلى مستوى آخر من الضوء الباهر فى العمق بالداخل.. ومقعد خالى.. والجميل هذا الترديد اللونى من الازرق فى رداء الفتاة واللمسة من أعلى وبالداخل أيضا.. فى مساحة من الصفاء.
- وينقلنا فى عالمه إلى مساحات أخرى.. تمتد من التعبير إلى التلخيص الشديد ومن الحس التكعيبى إلى الرمزية وحتى السيريالية.
- فى لوحته الفريدة `هى وهو` يصور ما يوحى بملك متوج متوحد مع مليكته فى لحظة من البساطة.. والاسترخاء مضجعا على بساط.. محفوفا بمنضدة وطبق من الفاكهة فى مستوى أعلى.. بينما يبدو كرسى مقلوب على اليمين.. وتتنوع مستويات التشكيل فى سطوح هندسية من التكعيب الافقى والرأسى.. متوازية مع المنظومات اللونية من الأحمر والبيج والبنيات الهادئة.. ودرجات الضوء الساطع.. أقرب إلى المشهد المسرحى.. تقتنص لحظة من الزمن بلمسة حديثة. وقد وضع `اللمسات الفنية القانونية` بتعبير الفنان ثروت البحر `ليحوز اجازة الجودة`.
- وتظل لوحته `المفتاح المعلق` بعمق سيريالى من خلال هذا المزيج من العناصر المتنافرة والممتزجة.. من السطح المعدنى الصلب المؤكسد.. والمفتاح والكالون البارز فى حوارية مع عناصر من الملابس الداخلية النسائية فى مقدمة اللوحة من أسفل.. حوارية من الحركة والسكون.. والنعومة والصلابة وأفكار من المعانى.
- ولا شك أن لوحته البحرية الزرقاء بما تحمل من الحزن والشجن.. تذكرنا باحزان المرحلة الزرقاء عند بيكاسو.. مع اختلاف الحالة التعبيرية والأداء.. فيها رجل وامراة داخل قارب فى جانب واسماك فى الجانب الاخر.. ورغم الخير الوفير تظل تلك الحالة من الانسحاب تاكيدا ربما.. على مشاعر القلق والخوف من المجهول.. وربما أراد أن يعكس للحظة سابقة.. من الصراع مع البحر والجهاد من اجل الرزق.. ورغم سيادة الأزرق يفاجئنا بلمسة من البنفسجى فى رداء المراة واخرى من الأصفر الأوكر فى السمك. .خروجا من حالة السكون.
- وتعد لوحة `المولد` من وحى النوبة.. بما تحمل من تعبير درامى بالأبيض والأسود وما تفيض من رموز وعناصر شعبية.. من المراة والديك والعين والهلال والسمكة والمدائن أقرب إلى نقوش على جدران الزمن.. بين حيوية الخطوط التلقائية وبهاء ونقاء الأبيض وعتمة الأسود مع الرمادى.. حالة متفردة من السحر الشعبى.
- وننتقل فى أعمال الفنان من المسطح إلى المجسم فى تشكيله النحتى `السمكة` الحافل بالرموز والذى يوحى بالبحر.. على قاعدة هرمية ينفرج التشكيل فى عناصر من أشكال دائرية بهيئة قواقع ومحار مع السمكة الاسطورية المتربعة أفقيا من أعلى التشكيل.. والرمز البشرى لإنسان الإسكندرية الموغل فى الزمن.. ما يحمل تاريخ الثغر مدينة البحر وتعاقب الحضارات.
- دنيا الترميم
- تلك كانت بعض ملامح من فن فؤاد تاج الدين.. قليل من كثير فى عالمه ودنياه التشكيلية.. لكن يبقى الجانب الآخر من شخصيته الفنية.. ما قدم من ترميم بطاقته التعبيرية ولمسته الحيوية.. وقد أعاد الرونق لآيات من الإبداع الإنسانى المصرى على مر التاريخ للعديد من الجداريات واللوحات التاريخية والمجسمات.. من بينها: أعمال الترميم بقصور رئاسة الجمهورية بالإسكندرية: الحرملك - رأس التين - الصفا - الثورة وقصر سموحة.. كما قام برسم سقف كنيسة مارجرجس باسبورتنج 1969.. وترميم الزجاح المعشق بقصرى رأس التين وقصر المجوهرات الملكية.. وترميم تمثال الأشرعة بمنطقة السلسلة بالإسكندرية.. مع عدة لوحات تاريخية بمتحف حسين صبحى للفنون الجميلة.. وغيرها بالإسكندرية وأسوان.
- سلام عليه وتحية إلى روحه.. وخالص العزاء لأسرته.. وأبنائه بهيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة 4-4-2023