عودة استثنائيه لمن أحب أعمالهم الإبداعية
- عوض الشيمي
- ذلك الذي أوصى المساحات بالصمت
- لم يكن الدكتور عوض الشيمي مجرد فنان يعمل في صمت، بل كان كائنًا بصريًا يرى ما لا يُرى، ويحسّ بما لا يُلمس، ثم يسكبه على المساحات الورقية ببطء كأنما يهمس للحبر أن ينهض. لم تكن أعماله تشبه أحدًا، ولم يسع هو يومًا لأن يكون شبيهًا لأحد. كان من صنف أولئك القلائل الذين عرفوا الفن بوصفه كتابة سرية على جدران الذاكرة.
- في أعماله، لا يظهر الإنسان بملامحه، لكنه حاضر دومًا بطيفه، بثوبه، بخطواته التي تركها فوق البلاط، أو بعمامته المعلقة على مسمار الانتظار. هو فنان الحضور الغائب، يختزل الكائن في ما يتركه وراءه، لا في ما يقوله أمامك. وكل قطعة قماش متدلية من جدار و مساحه ورقيه، في عمل من أعماله، لا تكتفي بكونها رمزًا، بل تتحول إلى شاهد على زمن عاش ومضى، أو زمن ما زال يرتجف في الذكرى.
- يمتلك الشيمي قدرة نادرة على تحويل التفاصيل اليومية إلى طقوس ميتافيزيقية. العمارة، النسيج، الزخرفة، الظلال، الشبابيك المغلقة والمفتوحة، كلها تتحول في يديه إلى رموز كونية، تتجاوز محليتها وتقترب من جوهر إنساني مشترك. ومع ذلك، يبقى مصريًا حتى النخاع. لا يخون ذاكرته، ولا يجامل السوق. بل يمنحنا مصر كما يشعر بها، لا كما تُرى في البطاقات البريدية.
- لقد كان عادلًا في حكمه الجمالي، فلا يسرف في التزويق، ولا يُبهر بالصدفة البصرية. بل يضع كل عنصر في مكانه، كأن التكوين لوحة نوتة موسيقية، تُعزف فيها الأشكال قبل أن تُرى. هو منحاز دائمًا إلى الفكرة، إلى المعنى الذي يتكثف بصمت، ويُعلن وجوده دون ضجيج. لا يطارد الانفعال، بل يزرعه. ثم ينتظر، كفلاح قديم، أن ينبت الشعور في قلب المتلقي.
- ومع أن أعماله لا تصرخ، فإنها تشبه القصائد التي لا تُلقى على المنابر، بل تُقرأ في العتمة. هي فنّ صوفي، لا يُقاس بمقاييس الحرفية فقط، بل بمقدار ما يوقظ فيك من أسئلة، وحنين، وتأمل. كأنه يسألك كل مرة: كم مرة تركت قلبك على شماعة ملابس، ومضيت؟
- إن المشروع البصري للدكتور عوض الشيمي هو أكثر من مجرد تجربة فنية. إنه تأمل طويل في الإنسان وهو ينسحب من الصورة، ويترك وراءه قطعة قماش،أو ورقه في برواز بابًا مغلقًا، أو ظلالًا لأشياء كانت. ومع كل عمل، يمنحك الشيمي مساحة لأن تتذكر، أو تنسى، أو تتصالح مع صمتك.
فهو لا يصنع فنًا ليُدهشك، بل ليُعيدك إلى نفسك، إلى البيت الأول، حيث كانت الأقمشة معلّقة، والوجوه تختبئ خلف الضوء، والمكان يحتفظ بأثر الغائبين كما لو كان يحبهم.
بقلم : د./ حاتم شافعي
من صفحات التواصل الاجتماعى (الفيسبوك) 5-8-2025