فى معرضه ` المرحلة ` عمر جبر .. موهبة شابة تعلن عن نفسها
- موهبة تعلن عن نفسها بفصاحة في دنيا الأضواء والظلال .. بلمسة متوهجة لا تعرف الملل أو التكرار بلا حدود أو قيود .. صاحبها فنان شاب متحفز .. لديه طاقة تعبيرية كبيرة وهدير لا يهدأ .. ينساب في فضاءاته التصويرية .. أعماله تثير الدهشة تتجاوز المألوف والمعتاد .
- الفنان عمر جبر ` عشرون عاماً ` له لغته الخاصة .. يمتلك خلالها شخصية فنية تمتد بالتنوع والثراء وكثافة التعبير .. على الرغم من أنه لم يلتحق بأي كلية دراسته فنية ولم يدرس الفن دراسة أكاديمية .. فقط كانت دراسته في لغة الحساب والأرقام والتعاملات المالية فهو حاصل على دبلوم التجارة الثانوية .. لكن هذا لم يثنه عن الإبداع الكامن بداخله والذي أنساب في طلاقة وشخصية متفردة جسدت عالماً ينتمي إلى الواقعية التعبيرية ويقود إلى الرمزية والسيريالية في حوار مشاكس وجرئ مع افن المصري القديم .. كما ينحاز إلى الإنسان في كل مكان .
- وقد كانت شخصيته في الرسم من البداية توحي بموهبة كبيرة عندما كان طفلاً صغيراً عمره 4 سنوات .. فقد مزج بين الرسم والفوتوغرافيا حين وضع صورته في هذه السن مثبته على الورقة البيضاء وأحاطها ببراوز ورسم حولها في اسكتش سريع عناصر عديدة لأشجار وطيور وقروش معدنية .. وعلم مصر بشكل أكثر وضوحاً .
- عندما أقيم معرضه الخاص بجاليري ` إيزل اند كاميرا ` قال : معرض فني يسجل مرحلة تمثلت في لحظات متناقضة أنتابني فيها إحساس بعد التساوي أو التكافؤ وهو معرض يستعرض مراحل شتى : حياتي الشخصية .. الماضي والحاضر .. مرحلتي في الفن وحيرتي بين الدين والسياسة وهي أسئلة تراودني تارة .. تؤرقني تارة أخرى فرسمت لنفسي بورتريه أظن أنه يجسد هذه الحالة .. نعم فهو بورتريه كئيب حزين .. هل حزنه يعبر عن كآبة المرحلة أم أن هذا الحزن هو طبيعة الحال ؟ .. عند التفكير في الماضي على الفوز تستحضرني عظمة أجدادنا .. أفيق إلى منظر نشاهده يومياً في محطات المترو بجانب تمثال من التماثيل الفرعونية الموضوعة هناك .. بعض من النفايات متتأثرة حوله وعلى جانب من جوانب جسده يحفر أحدهم على سطحه بآلة حادة كتابات غريبة تسئ لحضارتنا وتاريخينا .. هنا ربما نشعر بعدم الولاء وعدم الحب من المجتمع تجاه أجدادنا .. بالرغم من وضعهم في الميادين والمتاحف أعتقد أننا لسنا على حق .. لهذا رسمت لوحة لملكة من الفراعنة تلوح لنا بإشارة من يدها وهي محنطة .. وكأنها تتحدانا لعدم البوح بسرالتحنيط حتى الآن !! .. وفي هذا تجسيد لمعنى العظمة والعبقرية .
- ويضيف وسط قلقه أيضاً هناك مرحلة الدين : مازالت مستمرة في البحث عنه أو عن من يعرفه جيداً .. لم أجد من يرشدني لغايتي لذا سميت لوحتي ` الشيوخ في الساحل ` منتظراً عودتهم من الساحل و أن يفيقوا من نومهم ليقوموا بواجبهم تجاهنا وتجاه ديننا !.
- الخطوط حادة تنقض على السطوح الورقية أو في فضاء التصوير مثقلة بالتعبير والإنفعال .. الأعمال عموماً تذكرنا بقوة البدايات الأولى للفنانين الكبار فيها تمرس في تعبير ووعي بالتكوين والإيقاع وإذا كانت هذه الأعمال مجرد ` مرحلة ` بتعبير الفنان كما أطلق هذا المسمى على معرضه .. فلاشك أن أمامه خطوات آخرى .. مراحل ومراحل وهو يمتلك هذا بدابه الشديد وتحديه بالفن والإرادة .. لحرمانه من الدراسة الأكاديمية المنظمة .. وقد جعل من تجربته في التواصل المستمر مع الإبداع ميزانا للتسامي والأشراق .. وترمومتراً للتجاوز والبحث عن شخصية دائمة السطوع .
- في طفولته وعمره أربع سنوات لصق صورته الفوتوغرافيا وأحاطها ببرواز مرسوم وتخيلها معلقة على الحائط فأوصل خطين من طرفيها مسمار .. وأحاطها بعناصر بالقلم الرصاص .. أشجار وطيور وقروش فضية بطريقة الصغط مع علم مصر ووقع ورسم وجه دائي كأنه جزء من التوقع ولم ينس كتابة تاريخ اللوحة .
- أما البورتريه الذي صوره عمر جبر لنفسه من بداياته الأولى من الفن بعد أن أنتهى من الدراسة .. فجاء غارقاً في الأسود يطل من الخلفية الداكنة ربما بلون الحزن .. فقط مساحتين صغيرتين من الأبيض في العينين ومساحة آخرى مجرد رقم 1939 مع حرف الهاء .. على بقعة من الأحمر الطوبي الداكن باللوحة علىة اليسار .. وكأنه إشارة إلى أننا أصبحنا في عصرنا ` عصر الديجيتال ` مجرد أرقام في صحراء هذا الزمن .
- وفي الحقيقة من الصعب تصنيف أعمال عمر بشكل عام وأن كان يحكمها وحدة أسلوبية واحدة .. ففيها الواقع وفيها تعبيرية وأحياناً تبدو مغلقة بروح سيريالية تتجاوز الحياة اليومية .. وأن كانت في مجملها تنحاز إلى الإنسان المعاصر المثقل بالضغوط .. والمحاصر ببؤر الصراع والموجوع بالتمييز والتنافر والإختلاف مع الآخر .. وهو هنا يهفو إلى العدالة الإنسانية وينشد السلام والمحبة في دنيا البشر .
- في أحد الأعمال بصور رجلاً في صورة نصفية أشبة بالصور الرسمية التي تلتقط للهوية .. لكن يطمس الوجه من أسفل العينين إلى نهايته باللون الأزرق وكأنه يمحو أو يطمس الهوية .
- وهو يقترب بمشاعره وأحاسيسه من أهالينا ليس من مصر فقط ولكن من إفريقيا ويصور بروح شديدة الإنسانية مفعمة بالحزن .. يصور الإنسان الإفريقي المهمش بتلك الوجوه الحزينة والملامح المتأكلة يمتد بعضها بين التصوير والرسم بألوان داكنة يغلب عليها البنيات والأسود والبعض الآخر بسن أسود رفيع بوجوه أتعبتها الحياة .. كما يصور وجوها أخرى مصرية بنفس الحزن الشاعري والأسى الدفين .
- وبحس حوشي خشن أشبة بخربشات الطفولة يصور ثلاثة شخوص أمام مساحة على الحائط بهيئة سبورة مكتوب عليها ` حبيبي منتظرني عند البحر ` واللون الأسود هو الغالب مع لمسات من الروز الفاتح الوردي والبنفسجي والبرتقالي .. هل هو حلم البحث عن الصفاء والخروج من ثقل الواقع حيث الإبحار بلا حدود بإتساع البحر وإمتداد الآفق ؟.
- كما يصور فرعون شاخص العينين محاطاً بالأسود الفاحم .. وفي كل أعماله يبحث عن معنى للحياة بروح هائمة كما نرى من تلك المرأة المصرة التي تحمل بداخلها صورة لأخرى تنتمي للأجداد بجوارها رجل يعلوه وجوه أشبة بخيالات لفراعنة .. أنها الصورة والأصل .. الماضي البعيد والزمن الحالي .. وأحياناً يجسد ثنائيات من الصور الشخصية كل صورة تعبير وكل تعبير حالة ومعنى .
- وفي أعماله قد تنافر وتألف أشياء في اللوحة كما في لوحة ` البنت والسمكة ` صورها تحمل سمكة كبيرة محفوفة بالدجاجات وفروع الأشجار وأغصان الزروع .. وقد يأخذنا إلى متاهات رمزية كما في لوحته حوار الديكة والتي تحمل مساحة من الشموخ والأعتداد ربما جاءت تعويضاً عن معاناة الإنسان في الزمن .
- هكذا يبدو عالم عمر جبر غريباً .. فيه عمق الحياة وفي نفس الوقت العزلة من الحياة ومن الآخر ومن أوجاع الزمن .. وهو عالم يسطع من خلاله في شخصية متمردة ومتفردة تعد بالكثير .. وأرجو أن يظل متواصلاً مع الإبداع ولا يتوقف خاصة من عالمه الدرامي الذي يثير التساؤلات .
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة 1- 2-2019