`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
عبد الرحمن النشار محمد وصفى

عبد الرحمن النشار فنان تميز فى مرحلته التشخيصية بقدرة فائقة على بناء اللوحة وتجميع عناصرها فى وحدة متسقة كذلك كانت أعماله الكبرى التى تعبر عن الأحداث وهو بمقدرته هذه يستطيع أن يخاطب الوجدان العام وأن يحقق اللقاء بين العمارة والتصوير لو اتجه إلى اللوحات الجدارية ولكنه يتحول فى مرحلته الجديدة إلى الفن التجريدى مزوداً بقدرته على بناء اللوحة وتكوينها وبمميزاته فى معالجة الألوان . هى رحلة أخرى للفنان تطلعنا على وجه جديد من أسلوبه فى التشكيل.


بدر الدين أبو غازى
من كتالوج معرض النشار 1980
الطبيعة + القانون ، الإنسان + الطاقة ، العضوى + الهندسى ، البناء + التكامل
ـ المربع المتحرك ذو الأضلاع الممتدة والمتغيرة ، ينطلق نحو ثبات بنائى مرئى محكم .
ـ المثلث المنشطر ذو الزوايا الحادة الذى يدق أوتار المربع تتكشف معه منظومة التوالد البنائى على مساحة وعمق الإنشاء المركب للعمل الفنى .
ـ الشكل العضوى الكامنة فيه طاقة الإنسان ، تتفاعل مع منظومة الكونية الهندسية للعمل الفنى .
ـ عالم النشار الفنان المبدع الخلاق ..
ـ والحديث عن أعمال الفنان/النشار يعد من الأمور الصعبة لكون حياته الفنية غنية وثرية الأمر الذى يدفعنا نحو إيجاد طاقة تؤهلنا للكشف عن أغوار مكونات فكره، وفنه، وشخصيته تلك المكونات تشكل مثلثاً ذهبياً تكمن فيه حلقات الدفء الجمالى وتكامل الرؤية الفنية لتأكيد البعد التعبيرى والإنسانى .
ـ ويكمن فى أعمال الفنان النشار الفنية مخزون ثقافى وتراثى تكشف عنه قيم اللون وحركة الأشكال وعمقها وقوة موجاتها الصادرة منها كحلقات التتابع الضوئى والصوتى.. وقد أدى ذلك إلى استخلاص ملامح الشخصية والبعد الفلسفى لها وبعدها الدرامى العميق .. والبعد البنائى الهندسى ذو الحس الرومانسى السيريالى يكشف عن أشكال تسبح فى فضاء مفعم بالحركة وأيضا البعد البنائى النافذ بين الأشكال الهندسية وبين التوليفات العضوية المجسمة والتى تخترق السطح بأعماق متعددة حيث يتكامل النسيج المرئى القائم على مفردات وأشكال متناقضة ومن هنا تظهر قيمة إبداعات `النشار` التى تتألق بتميز وتفرد .
ـ والبناء الإنشائى فى أعماق الفنان يمتد من أعماق الفكرة محملاً بالأحاسيس والمشاعر ومختلطاً بالمواد والأدوات وصولاً إلى مستويات عظمى للبناء الجمالى .. وهذا يذكرنا بالطاقة الكامنة فى الأشياء ـ فكل ما هو محسوس ومرئى هو نتاج طبيعى للعمق الداخلى لبنائها ـ ذلك ما ينطبق على إبداعات ` النشار ` وعلاقة بنائيات أعماله بالطاقة فهى علاقة الجمال بالكوامن الفكرية والفنية للعمل الفنى .
ـ وتتميز أعمال الفنان بمنظور كونى رياضى حركى فالمفردات التشكيلية وانطلاقاتها وتمددها وانشطارها وإنجازاتها واتحادها وتباينها وتكاملها تتحرك من خلال منظومة رياضية محكمة ومرئية تتعاظم فيها الأبعاد الجمالية الكونية للعمل الفنى .
ـ والتقنيات فى أعمال الفنان جزء لا يتجزأ من نشأة الفكرة بما يحملها من مقومات وتأثيرات أساسية للمكان والزمان فهو يمتلك قدرات فائقة من الأداء وسيطرة كاملة على الأدوات باقتدار .
ـ ويعد الفنان / عبد الرحمن النشار من الفنانين القلائل الذين أثروا الحركة الفنية بإبداعهم المتواصل المتدفق كما يعتبر أيضا من الفنانين أصحاب الرؤى الفنية الأصيلة والمتفردة ومن المؤثرين فى حركة تطور الفن التشكيلى فى مصر خلال الثلاثين عاماً الماضية .
أ. د / أحمد نوار

هيثم .. ونبض الضوء
- يسعى `هيثم` فى أعماله إلى تأمل عالم الإنسان ليكتشف كوامن مدموغة فى الجسد عبر نبض القلب وإيقاعه المستمر الذى يمتد بفعل حركة الزمن ويتوقف عندما تتوقف عجلة الحياة فيكتشف شفافية الروح ونظماً معقدة داخل الجسد، يتعاظم فى مركز شبكية الدماغ وما يحمله من إعجاز خلقى فعالم الفنان هو فراغه الكونى الذى يسبح فيه باحثاً عن أسراره ، والجسد عندما تقترب مشاعر الفنان منه فإن اقترابه يأتى وفق عمق فكرى ووفق قيمته الإنسانية، وعلى الجانب الآخر تفاعل الإنسان فى المنظومة الإجتماعية .. وإيمان المبدع بفكرته الجمالية والإنسانية تدفعه للتدفق والاستمرار والتعمق داخل هذا الكائن متلمساً ونابضاً معه وفناناً ورساماً غارقاً فى أغوار وظل الجسد الآتى منه موجات مغناطيسية عبر مجاله الكونى والمركزى وكما لفن الرسم جمالياته الثابتة فلا يمكن تجاهل خصوصية الصياغة والمعالجة المعاصرة لهذا المجال وفناننا عندما يمتلك قدرات تحريك أدوات متنوعة ووسائط مختلفة منها البدائى والتكنولوجى يقترب من عالم الفنان الشامل وإذا تألق فى التعبير عن قضايا وطنه، وقضايا الإنسان المعاصر فهو الفنان هيثم نوار فى معرضه `اسعاف 123 طوارىء` بمركز الجزيرة والذى يعبر عن تجربة جديدة .. ثلاثية الرؤية .
أ.د. احمد نوار
جريدة الحياة - 2006

- فى لوحة الفـنان: عبد الرحمن النشار التى سماها أورشليم `القدس` والتي يرجع تاريخ إنتـاجها إلى عام : 1968. وأبعادها : 149 × 138 سم . وهي ألوان زيتية على خشب . وتتكون من وحدات متراصة بعضها متقدم في الأمام بفعل التأثير البصري للون والبعض مرتد إلي الوراء . تطالعنا أبنية ذات طابع شرقى ( قباب) كنائس ومساجد وأطلال. سحب تتخلل المآذن يطير في وسطها البراق . المسيح طفلا وشابا وهو مصلوب .
- جثث بيضاء متناثرة . حيوان يفترس فتاه بسمت العذراء المقدسة ملقاة على الأرض . يدان ممسكتان بمسجد و ترفعه في الهواء و كأنهما تريدان الإطاحة به. ديك يقف فوق سور المسجد . مدرعة بها مدفع تتجه نحو المسجد و الكنيسة .
- تتكون اللوحة من شرائح أفقية غير منتظمة ولكنها متراصة بإحكام تفصل بينها درجاتها اللونية فبدت مترابطة كقطع الفسيفساء أو كلعبة البازل من الممكن فكها إلي قطع لكن تجمعها وحدة عضوية، هي جسد ممزق الأوصال متشبث ببعضه بأنسجة من ألم، هي بدن نابض بحيوية الدفقات الدلالية التي يبثها الفنان، مفتوح الآفاق مع كل قطعة ممزقة وكل جرح يقطع ويصل ، خطوط التقاء القطع كأماكن الذبح الأليم تنضح بالدماء و الصرخات والتشظي ولكنها شبكة من جراح وسياج من مقاومة وكيان من غضب متحد ينضح بنزيف المأساة الجليل ، هي كل قد فجره العدوان الغشوم، فانتثر في الفضاء ثم سقط ملتئماً مكلوماً مخططاً بالدماء، يتفجر تحت وطأة الظلم و يتوحد في صرخة تمرد دائم دائب مغلول بأصفاد الخيانة… وأتى المنظور الذي استخدمه الفنان أمامياً متعدد الرؤى أعلى وأسفل مستوى النظر.
تتلاشى التفاصيل في العمق وتخف درجات الألوان وتتحد نقاط الارتكاز عند قاعدة البناية والمسجد عند المدرعة والحيوان المفترس . الفراغ هنا عميق ممتد أفقيا وترتيب العناصر يصنع الحركة المتتالية الأفقية مثل حركات عناصر الحدوتة الشعبية في عروض خيال الظل ، ظل يتحرك يتلوه الآخر ، نغم يتردد و يروح ثم يولد نغم جديد .
- تحمل مفردات اللوحة ملامح دينية تاريخية ذات صبغة أيقونية تنتمي للذاكرة الجمعية وتلتقي بها : حيث البراق والمسيح والصلب والمآذن والكنائس والديك وملامح تعبيرية سياسية:كذلك الوحش المفترس ، والمدرعة والسلاح المصوب واليدين الممسكتين بالمسجد.
- جاء التوظيف اللوني متوافق مع سيادة البني والأصفر فهو يستخدم درجات الأصفر بكثرة فهو لون الذبول ، حتى الأبيض مشوب بصفرة - ليس أبيض نقي- استخدم الأبيض للون البراق والأطفال والفتاة المريمية والمسيح الطفل المصلوب وحوله تتناثر الجثث .
- أما الإسقاط الضوئي فليس قويا ولا يؤكد التجسيد النحتي لأن مصدر الضوء موحد موزع بالتساوي في أنحاء اللوحة فيزيد الإحساس بالتسطيح ، وهو منطق رمزي يزيد من إحساسنا بالصبغة الشعبية والأسطورية السابحة في فضاء العمل : تمنحه قرباً وتلاقياً وثيقاً مع الوجدان الجمعي .
- التوازن اللوني والتناسق يصنع الإيقاع البصري ويتوالد من تكرار اللون الأبيض المشوب بصفرة في المقدمة والخلفية والوسط . وتكرار المآذن بارتفاعاتها مع أبراج الكنائس في تنوع بديع مع تكرار المصلوب وكأنه يردد الألم ويكرس الفاجعة ، في تلك المعزوفة الشجية الكثيفة التي كونتها قطع من الشجن والفقد الأليم وركبتها فسيفساء من دمعات وصرخات تنطلق في الأثير ..تكرس المأساة في فلسطين وتعلنها في شكل ممتد كطول الحزن حارق كعمق الجرح وتلعن الظلم والعدوان وتكشف الظالمين .

د.هبة الهوارى

جائزة سبقها الموت إلى صاحبها : رحل عبد الرحمن النشار بعد 40 عاما بين الوجود والعدم
يوم الخميس الماضى كان موعدا لتوزيع جوائز المسابقة السنوية للوحة صغيرة الحجم . ولكن أحد الفائزين لم يتسلم جائزته .. فهو لم يعد موجوداً .. انه الفنان الكبير عبد الرحمن النشار الذى رحل تاركا جائزته واعمالا فنية عالية القيمة وتاريخا طويلا يضعه فى مصاف مبدعى الحركة التشكيلية المصرية النابغين .. وقد رحل النشار فائزا مثلما عاش اكثر من اربعين عاما فائزا بمكانة فنية خاصة بين فنانى مصر المعاصرين .. بوفاته افتقدته الحركة الفنية أحد اهم عناصرها كما افتقدته رفيقة حياته ودرب فنه الفنانة الكبيرة زينب السجينى .
` مرسم الفنان الكبير عبد الرحمن النشار بعد الرحيل أصبح مجرد عشرات من البراويز ومكعبات خشبية واطارات لوحات فارغة وعلب وانابيب ألوان مغلقة وجافة وكان فى وجوده مرسم وورشة فنية تضج حيوية وعمل لا يهدأ .. كانت مساحة النشار من الوجود هى تلك الامتار المربعة القليلة داخل مرسمه حيث مجال حركته الحقيقية فى هذا العالم .. واليوم مرسم النشار مكبل بذكرى وجوده السابق .
الفنانة المصورة زينب السجينى فى مرسم الزوج الراحل الذى لم تعد تغادره .. أخذت ترتب البراويز فى زوايا متطابقة وتضبط لوحاته التى لم تكتمل خلف ورق التغليف وتعد حامل الرسم وترتب الألوان المغلقة الانابيب والفرش كأنها تعد المرسم لحضوره فداخل هذا المكان لم يفترقا وقد تشارك الرفيقان الاحلام والمثابرة على العمل حتى صعدا معا فى عالم الفن الجميل ليصبحا من الاسماء الكبيرة المحترمة فى الحركة التشكيلية المصرية ..
داخل المرسم اشارت الفنانة زينب السجينى الى ركن به حوالى خمس وعشرين لوحة مربعة الشكل مساحتها حوالى المتر المربع واخرى بانورامية ضخمة وقالت ` هذه اللوحات من الاعمال الجاهزة للعرض فى معرضه الذى اتفق على اقامته فى 25 مارس القادم فى مجمع الفنون وبإذن الله سيقام المعرض كما اراد .
` اكثر من هذا ` لم يكن بوسع الفنانة الكبيرة الحديث عن الغائب .. شريك الحياة والمشوار الفنى الممتد خلفهما لأكثر من اربعين عاما من الكفاح المشترك . والنشار قال عنه الكثيرون الكثير .
ولكنى ندرك معا قدر النشار ليس كفنان فقط ولكن كصاحب فكر فلسفى خاص عكسه فى اعماله نقرأ معا بعضا من كثير قيل عن فنه من نقد وتقييم فعنه كتب المثقف الناقد بدر الدين ابو غازى : ` عبد الرحمن النشار فنان تميز فى مرحلته التشخيصية بقدرة فائقة على بناء اللوحة وتجميع عناصرها فى وحدة ` متسقة ` كذلك كانت أعماله الكبرى التى عبر بها عن الاحداث وهو بقدرته هذه يستطيع أن يخاطب الوجدان العام وأن يحقق اللقاء بين العمارة والتصوير .
وعنه كتب الناقد والفنان الكبير حسين بيكار: ` الفنان عبد الرحمن النشار عندما يقسم لوحاته تقسيما ( شطرنجيا ) فإنه بذلك يعبر عن الايقاع الزمنى المنتظم الترتيب الذى يعكس دورات الحياة ويعادل تعاقب الليل والنهار والبسط والقبض والمد والجزر .. وفى المساحات التى تنحصر بين اضلاع كل مربع فى الرقعة الكبيرة تتوالد أنواع من الكائنات قد تكون هندسية وقد تكون عضوية وتأخذ فى شهيق وزفير وعنف ولين لتشكل ذلك النسيج المترامى الاطراف الذى نطلق عليه المياه ` .
وعنه كتب الفنان الكبير حامد ندا : ` يعيش النشار ما بين رومانسيه الحالة التى تغلف شخوصه فى ` الحرب والسلام ` والتعايش والبناء من أجل مجتمع افضل وما بين صراعات الشكل المجرد والفراغ والتضاد اللونى الجرىء وملامس السطوح وقد انفرد بجهد خاص بعيد عن تلك العقلانية الجامدة `.
وعنه قال الناقد دافيد سكاف : ` فى ذلك المزج بين التجريدية الطابع والتعبيرية العميقة تكمن عبقرية النشار ` وعنه قال الفنان الكبير عن الدين حموده ` ابتدع النشار عالمه الخاص المستوحى من العلاقة بين السطح والفراغ واللون فى الفن الهندسى الاسلامى وهذا الابداع ليس مجرد فن للفن بل رغبة فى ايجاد المطلق فى نوع من الوحدة التى تناظر وحدة الكون وتعكس ايمانا عميقا بالخالق `
ونحاول الاقتراب اكثر من لوحات عبد الرحمن النشار فى محاولة رؤية عالمه الفنى الذى أثرى به الكثير من الرؤى الفنية لتلاميذه وأيضا للزملاء .
فى لوحاته .. سنلحظ اولا اهتمام النشار الكبير بتنفيذ لوحاته بشكل دؤوب صبور مهتما بأدق التفاصيل والجزيئات كأنه ينسج خيوطا تقوم فيما بين ` السداه ` و ` اللحمة ` كما تبدو أشكاله العضوية الدقيقة كأنه يكشف عنها بمجهر لا يكشف عنه بالبصر فقط ولكن ايضا بالبصيرة .. وهذا ليس بغريب عن عبد الرحمن النشار الذى بدأ حياته الفنية بدراسات اكاديمية ثم بالتشخيصية التعبيرية ومنها لوحاته الشهيرة ` الحرب والسلام ` و` مأساة القدس ` وكانت هذه أحد روافد عمله الفنى حتى كانت اقامته بمكة المكرمة اربعة اعوام استاذا للفنون ليعود وقد تأثر بالعمارة الاسلامية بقيمها الروحية ليزداد داخله ذلك التراكم الثقافى التراثى .
وليظهر فى لوحاته ذلك التراكم التشكيلى بالتركيبات المكعبة وبازدحام اللوحة بعناصر شتى وايضا يظهر ذلك التراكم المعنوى فى التفاصيل فى كليهما بين الهندسى والعضوى بايحاءاتهما العديدة فيما بين التراث والمعاصرة معاً وايضا فى أفضل حالتهما وهى حالة من التنامى والتصاعد البصرى بين البارز والغائر .
ونلاحظ امام ذلك التصاعد الكلى للوحة عدم اعتماد النشار على بؤرة واحدة او مركزية للوحة ينطلق منها العمل بل العمل كله بتشابك أجزائه فى حالة من الحيوية دون قدرة فصل جزء عن اخر . فكل جزء مركب وقائم على الاخر بصريا وفنيا وان اسقطت جزءا سقطت اللوحة .. بكاملها .. وايضا ما يعوق عمليات فصل اجزاء من لوحات رغم كثرتها هو تناثر كائنات بشرية سيريالية داخل اللوحة رابطة بين اجزائها عضويا وفنيا فى حركتها الذاتية وفى حركتها فى محيط اللوحة .. ` فتبدو لنا كائناته كأنها فى حالة تحول وعدم استقرار يساعدها على ذلك شكلها السيريالى لتحيا فوق سطح اللوحة كما تريد .
وتحمس النشار لتلك العلاقة حمل التركيب المتنافر ما بين الهندسى والعضوى مخاطر اكثر مما يحتمله سطح اللوحة ما بين البارز المرتفع والغائر فانبثاق أشكاله من سكونها وتردد نبضاتها فى ارجاء المسطح الابيض اعطى حيوية لكامل اللوحة خاصة وان الوانه لا تقوم بدور درامى يساعد على تقريب الفجوة بين كائناته العضوية والاخرى الهندسية وان كانت الوان منسجمة الا ان اعتماده الكلى قائم على وجود التنافر والشد والجذب بين اشكاله وليس الوانه .
ومخاطرة النشار هذه تفتح عقل وقلب المشاهد لإعادة النظر ولقبول الاشياء والمواقف التى تبدو لنظرتنا الاولى جامدة وحادة بل ومتنافرة .. وهذه شريحة من منطق الحياة بتناقضاته ومخاطره وهذه قيمة روحية كبرى فى اعمال النشار ومعالجته التشكيلية لها بهذه الدقة والمثابرة تستدعى التقدير لمحاولة تحقيق المواءمة التى تحمل كثيرا من الرؤى الفلسفية لكشف جوهر قطبى العالم المتناقضين وهما العضوى والهندسى وكعلاقة الزمانى المكانى فى امتداده النسبى دون تقييد المشاهد لاعماله بشكل محدد يربطنا برؤية مسبقة متيحا لنا رؤية مفتوحة ، ورؤية تأملية لتلك الكائنات العضوية فضائية التركيب التى تقفز فوق سطح اللوحة فى سيريالية تتصارع لأيجاد مكان لها فى عالم بلغ من الجمود مبلغا كبيرا .
فلوحات الراحل الكبير عبد الرحمن النشار تطرح سؤالا هاما او بالأصح تطرح كائناته الملقاة وسط محيط هندسى حاد هل هو اصرار منها على الحياة ؟
ام هى رحلة بحث عن الحقيقة وماهية الوجود ؟ ام محاولة للأجابة على السؤال الصعب بين الوجود والعدم ؟

فاطمة على
أخبار النجوم: 22-1-2000
النشار وتحليلاته ورحلة إبداع
كان لفقد الفنان عبد الرحمن النشار وقع الكارثة التى هزتنا من الأعماق ، فشعرنا بحالة تفريغ للصوت من النوع الذى يعقب صخب الانطلاق وجلبة الحياة البهية ، صمت شديد مقدس استشعرنا إزاءه أننا لم نصبح كما كنا ، أن شيئا مهما أصبح ينقصنا فجاء ، موته كعاهة مستديمة قدر لنا أن تكتمل حياتنا بها .
وفى السيارة الى المقابر يقول محمد عبلة : أنا لا أتصور أن النشار لا يكون موجودا حولنا فى المجتمع الفنى ، ويقول محمود عبد العاطى كان فى سباق مع نفسه عجلة فى ايقاع الحياة وهرولة إلى نهاية العمر . وفى المطار فى انتظار الابنة ايمان والزوجة الزميلة زينب السجينى ، قادمتين من باريس بصحبة الجثمان وبين تبادل أطرف الحديث مع أحمد نوار وأحمد سليم ، ومحمود شكرى ومحمود عبد العاطى وطه حسين ولساعات طوال ، تسارع شريط الذكريات مع النشار الشريط الذى يرجع الى عام 1961 حينما خرج النشار من التجنيد وعين مدرسا بالمعهد العالى للتربية الفنية بشارع الأخشيد بالروضة ، أتى الينا آنذاك شابا ملئا بالحيوية ، سريع الحركة زاعق الصوت ، حماسيا متفجرا ، دافعا لكل من حوله للعمل والتفاعل النشيط ، فى جولاته تلاميذه للرسم فى المانسترلى ، أو فى الغورية ، الكل فى حالة نشاط وعمل حماسى كان بمثابة المبشر بموجة تجريبية فى فن الرسم والتصوير ، كان يدعو للتجريب بحماس مطلق ` فى الوقت الذى كان استاذ التصوير الحى من الموديل يطالب الطلاب بواقعية صادقة : ` عايز أشوف مية فى العين ` كان النشار يطلب منهم فى محاضراته الموازية ان يستخدموا (الزفت) المنصهر كمادة تعبير ، وان يتركوا لعروقه السيالة العنان لاكتشاف العلاقة المترتبة على التصاقها بقماش الرسم ، خلط ألوان وصبغات وحصى ورمال ، وبصمات متنوعة واستخدام الشفرات . الرسم السريع والتحليل الجمالى للعناصر تشفيفها وتجسيمها وتكعيبها وتجريدها الجمع بين المتناقصات التجرؤ على المساحات الكبيرة للوحات الانغماس فى العمل لعشرات الساعات المتواصلة .
وفى التمهيد لتأسيس جماعة ` المحور ` واثناء العمل فى عروضها المتعاقبة عايشنا النشار أكثر من اى وقت سابق عصبية وعناد وعملا شاقا ، بحب ، وصبر ، وطموح ، وخواطر ، ونوادر ، وضحكات مدوية ، وصياح ، وتهديد وطقس متكرر ، من آن لآخر ، صياح وجلبة مفاجئة ــ للتخلص من المكبوتات والتوهج والانجلاء وفى السفريات رحلات الطلاب ، ورحلات الزملاء داخل وخارج البلاد ، تتجلى صفة الكشافة عند النشار ــ متطوعا سباقا فى قضاء الاشياء التى يتهرب عادة الاخرون من التصدى لها . وفى المؤتمرات ولجان التحكيم وفى النقابة دائما ذات الشخصية الحية المتدفقة .
فى أمسيات طوال متواصلة من السمر والنقد لمجريات الحركة الفنية بشقته القديمة بالمنيل ، فيما بين الستينات والسبعينيات مع وجوه متغيره لجمال السجينى ، ومصطفى أحمد ، وعبد المنعم كرار وسامى رافع ، ومحمد سليم ، وسمير السبع وغيرهم ، نتداول القضايا باحتداد وعناد ، ونناقش المعارض ومسامعى الفنانين الابداعية ، وأحوال الحركة والمؤلفات الجديدة ، قراءاتنا وتأملاتنا ومشاعرنا وخواطرنا تنساب فى جو مسالم أليف أمن ، ومر بالشريط المتسارع أمام ناظرى ، وأنا انتظر الجثمان بالمطار ، أزمة سقوط ابنته من بلكونة بئر السلم بالمنيل من الدور السابع ومعجزة سقوطها فوق حبال الغسيل فتنجو ، ماعدا جروحا ورضوضا هينة وفى الملتقيات الحميمة لفريق من الفنانين من آن لآخر ، يتجلى النشار فى فتح مغاليق الحديث وتحريك ركوده وأصل النشار هذه الصفات المشبوبة طوال حياته المهنية كمعلم قدير ، وقد شاهد طلابا صغارا فى كليتى التربية الفنية والنوعية بالدقى فى حالة انهيار تام لمجرد سماعهم الخبر المشئوم بانطفاء شعلة الحيوية والحياة فى المعلم القدير المحبوب ، وبالمثل شاهدت أجيالا متعاقبة من التلاميذ والزملاء فى حالة وجوم وهلع ، نعم انطفأت فى حياتنا وحياتهم طاقة أضاءت وعلمت وانعشت ، اصبحوا وأصبحنا غير ماكنا ، افتقدنا وافتقدوا روحا وثابة وحيوية بريئة ، منطلقة دوما ، وبلا انقطاع ، فقدنا بهجتنا وبراءتنا ، وغابت فى داخلنا طفولتنا ، وسجيتنا التى كانت منسابة على لسانه وفى لمعان عيونه ، وانطلاقة ضحكاته المجلجلة ، وفى قفزات خطواته وحماسه المفرط وعصبيته ، وهكذا سكتت ، للأبد ــ فيثارة ، فتعكرت ألحاننا ونشزت ، ولذلك فإننا لم نصبح كما كنا.
وفى نهاية حلقة من البيانات المتتابعة عن تأخر الطائرة المقبلة من باريس التى تجاوز مجمل تأخيرها سبع ساعات جاءنا النبأ ` وصلت الطائرة ` تبدد الشريط وانتابتنا حالة من الوجل وبدخول زينب وايمان انسابت الدموع . والتحمت الأيدى ونكست الرءوس .. صمت ووجوم خيما علينا جميعا ، وتجنب كل منا النظر فى عين الآخر ، وفى وسط هذا كله وفى طريق العودة وجدت الجآش منفكا ، ووجدتنى أجهش بالبكاء ولم أتمكن من كبح سيل الدموع المتدافعة . واختلطت امامى أنوار الطريق فخلعت نظارتى وكنت صامتا بجوار محمود شكرى عن طريق العودة ، وحينها تجلت أمامى صورة أحمد نوار الإنسان الشهم الذى أفصح عن أفضل عروق معدنه فى هذه المحنة ، أن استشعر مواقف فاروق حسنى ، الوزير ، ومحمود عبد العاطى ، وأحمد عبد الكريم ، وطه حسين ، ومحمود شكرى ، وأحمد سليم ، والعديد من زملاء وتلاميذ ومحبى النشار ، وقلت ` فينا شىء طيب لايزال ` .

د. مصطفى الرزاز
الأهرام: 9-1-2000
عبد الرحمن النشار وتجلياته
- قُوبل معرض الفنان ` عبد الرحمن النشار` 1988 بدرجة كثيفة من التعتيم الإعلامى، كما قُوبل فى الندوة التى أقيمت لتقويم المعرض بمذبحة استهدفت الإجهاز على تاريخه الفنى. ورغم تلك القسوة فإننى اعد هذا المعرض من المعارض الهامة خلال هذا الموسم .
- أذكر أننى عند أول لقاء بمعرضه، وخاصة بلوحاته الثلاث الكبرى ابتهجت وأخذت بالبراعة والاتقان والصبر ... وحتى عندما توغلت فى عالمه واستوقفنى بعض ما أخالفه فيه .. كانت سطوة البهجة والاحترام لا تزال قائمة فى نفسى.
- اختار ` النشار` اسم ` التجليات `، عنواناً لمعرضه ، ودعوة يوجه بها المشاهد إلى مدخل من مداخل لوحاته، فالتجليات مجالها ` إشراق ` الروح ... ولا تستطيع الكلمة المنطوقة. أو اللون المرسوم وصف تلك الحالة ... بل الإيحاء بها. وعلينا فى الجانب المقابل أن نتلقى هذا الوحى لنغوص أكثر فأكثر فى ذاوتنا ، فالفنان لا يريد لحواسنا أن تلامس` عبثية ` الواقع أو - بدرجة أعلى - أن تشتبك معه أملاً فى خلاص أرضى.
- لهذا كان اعتصامه بالمجردات ضرورة .. وإن أضاف هجينا من ` جوهر` نظام المنمنمات، والزخارف الإسلامية ، والمدرسة البصرية الغربية ، كان من نتيجته - ولمزاج شخصى يتميز به ` النشار` - امتلاء سطح اللوحة إلى حد - التُّخمة بالألوان الصداحة .. المهندسة .. غير أنها هندسة سطحية تتكئ على التداعيات .. ولم يكتف بهذا بل شاء أن يضيف لثوابت الألوان فوق مسطحاتها ظلالاً تتغير بتغير موضوع اللوحة من الضوء .. فأصطنع تموجات مجسمة فى شكل اللوحة : المكونة من جزئيات منفصلة فى الأساس .
- ولقد اختار` الشكل المربع ` أساساً جمالياًّ للوحاته ، ويستخرج أقصى ما يستطيع من اشتقاقات المربع .. والمستطيل .. ويكسر سياق اشتقاقاته تلك بكيانات صغيرة تتمتع بليونة خطية ، ومن التوافق والتخالف بين ما هو عضوى وما هو هندسى ينشأ حوار داخلى ... يسوده غطاء من درجات لون مسيطر فى أغلب الأحوال . وفى اللوحة المنشورة نلاحظ تنويعات على وحدات ثلاث:
- فاللوحة الكلية تتكون من ثلاث قطاعات طويلة، وثلاث وحدات من الأشكال الموحية بالعضوية .. تشكل فيما بينها هرماً مقلوباً. وثلاث وحدات أخرى يتسيدها اللون الأحمر يغاير به تماثل الوحدات الطويلة، والهرم المقلوب متساوى الضلعين. رغم الجهد المضنى الذى لا تخطئه العين فى هذه اللوحة وغيرها من لوحات المعرض فإننى أعترف بأن وحداته الهندسية، الحمراء ، المعترضة، ووحداته العضوية، المفروضة فرضا قد حالت بينى وبين الاستغراق فى سلام مع اللوحة! .. غير أن أهم لوحات معرضه هى تلك اللوحات الثلاثة الكبرى المسماة : ` ملحمة الكون` ، فعلى الرغم من اعتمادها على التركيب المعقد بين وحدات ملتصقة فإن الأغطية اللونية المسيطرة على اللوحات تكشف عن براعة وصبر تثيران الانتباه ، كما توحى بالسلاسة وتفصح عن التماسك أكثر من غيرها من لوحات المعرض ... ولو كنت مكان الفنان لا كتفيت بعرض تلك الثلاثية.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال : فبرير 1988
تجليات الفنان عبد الرحمن النشار
- فنان بدأ متفوقا منذ الخمسينات طوَّر نفسه تحت ضغط التجربة والمعاناه مع وفاء لاستاتذته وزملاء له، تعلم منهم وتعلموا منه، وتلاميذ تخرجوا على يديه وأصبحوا فنانين معروفين.
- وفنان تناول التراث بأبعاد جديدة، وبوعى بالحضارة الإسلامية، فكرا مضمونا بعيدا عن الشكل والمظهر مؤمنا بأن العمل الفنى يتجاوز العالم المرئى، وبأنه عالم مستقل قائم بذاته ألواناً وأشكالاً وعلاقات، ومؤكدا المزج بين التراث والمعاصرة فى رؤية جديدة وأسلوب بنائى متميز.
- فنان مصور ينحت سطوحة بدقة وفرشاة حادة سخية، وبجدية وصبر، مترجما الطبيعة إلى أشكال وألوان مبتكرة ليصل إلى عالمه الخاص ويحقق أهدافه فى المزج بين التراكيب الهندسية والعضوية.
- فنان استطاع فى معرضه الثانى عشر (نوفمبر 1987م) الذى أطلق عليه اسم (تجليات) أن يقدم الجديد فى فن التصوير الجدارى المعاصر، وعندما عرض - من بين ما عرض- لوحاته الثلاث الضخمة الزرقاء والصفراء والخضراء التى أسماها (ملحمة الكون) وقد حقق فيها طموحاته، اقترب من إحدى أهم خصائص الفن الإسلامى وهى تزيين العالم وتجميله، وإمتاع العين معا.
- الدكتور/ عبد الرحمن النشار أستاذ التصوير ورئيس قسم التعبير الفنى بكلية التربية الفنية جامعة حلوان وأمين عام نقابة الفنانين التشكيليين؛ ولد بالقاهرة عام 1932 وتخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1956 وحصل على دبلوم أكاديمية الفنون الجميلة ببوادست 1970 ودكتوراه الفلسفة `تخصص التصوير` عام 1978 ونال جائزة الدولة التشجيعية ووسام الفنون عام 1980، وأقام اثنى عشر معرضا خاصا فى القاهرة والإسكندرية وبودابست وواشنطن ومعارض مشتركة محلية ودولية بمصر والخارج منذ عام 1957. وقد رشّح ممثلا لمصر فى التصوير ببينالى فينسيا القادم دورة عام 1988.
- والمتأمل لأعمال الفنان الحديثة - وبخاصة فى معرضه- الأخير يستطيع أن يتبين امتداد جذورها الفكرية إلى السبعينات وذلك فى بحوثة النظرية وخاصة رسالة الدكتوراه التى كان موضوعها (التكرار فى مختارات من التصوير الحديث والإفادة منه تربويا). وقد جاء فيها أن الجمال فى الطبيعة يقوم على أسس رياضية سواء من الوجهة العددية أو من الوجهة الهندسية، وأن الفنان يتعامل مع جماليات التشكيل لتحقيق نظم تكوين بديلة للموضوعات التقليدية، وأن الإيقاع المتكرر يؤدى إلى إحساس حركى بالأشكال وأن لغة الخطوط والمساحات والألوان من خلال الشكل المجرد هى المثل الأعلى للمنطق الجمالى والفنى.
- ويشير الفنان النشار الى المتغيرات الفكرية والثقافية والعلمية المعاصرة وما أدت إليه من إدراك جديد لمفاهيم القيم التشكيلية وتمثيل الحركة فى التصوير الحديث، وتناول مختارات من الأعمال الفنية بتحليل نظمها الإيقاعية وخصائصها البنائية، وركز على اتجاه فن الخداع البصرى وفن `البوب` (فن الجماهير) كنزعتين اتسمت منجزاتهما بتوظيف التكرار وبخاصة عند فيكتور فازارلى وما توصل إليه من حلول تشكيلية باستخدام الوحدة المفردة الهندسية.
- ويقول أيضا فى أحد بحوثه النظرية `إن المزج بين تراكيب الشكل الهندسى والعضوى كانت القضية التى شغلتنى بهدف إيجاد حلول جديدة لهذا التزاوج أو التلاحم أو الاندماج بينهما فى تركيب الصورة الواحدة، وقد يبدو للوهلة الأولى أن الجمع بين هذين النمطين المتعارضين غير قابل للحل إلا أن التجريب أثبت عكس ذلك عن طريق سيطرة أحد الشكلين الهندسى أو العضوى على تركيب الصورة ويساعد على ذلك الوحدة اللونية سواء كانت قائمة على التناغم أو التباين أو التضاد غير أن أهم الافتراضات القائمة لإيجاد وحدة العمل الفنى هو جعل التركيب العضوى على هيئة مجردة، وهذا التجريد للشكل العضوى هو الذى يتواءم وطبيعة التراكيب الهندسية القائمة على التجريد`.
- لذلك أصبح البناء التجريدى للصورة ضرورة لها أهميتها، وانطلاقا من هذا المفهوم وجد أن أفضل وسيلة لتحقيق وحدة التكوين هى الشكل المجرد، فالتراكيب الهندسية بطبيعتها مجردة، ومنطق التجريد عامل هام فى توحيد التضاد بين طبيعة الشكلين الهندسى والعضوى على بناء الصورة.
- وقد خلص النشار إلى أن المزج بين تراكيب الشكل الهندسى والعضوى معا فى الصورة الواحدة هو ترجمة للطبيعة أكثر شمولا.
- ويقول الدكتو/ عز الدين اسماعيل فى مقدمة كتالوج معرض الفنان الأخير` لقد وجد الفنان عبد الرحمن النشار فى التجريد ضآلته وقد يبدو للناظر فى أعماله للوهلة الأولى أنه يتحرك فى اطار أشكال هندسية ومنضبطة. وهذا صحيح، ولكنه ليس كل شئ، ودون الدخول فى تفصيلات التقنية المركبة والمعقدة التى استخدمها الفنان فى إنجاز أعماله يمكننا أن نقول إن تكويناته لا تشى بأى تشكيل هندسى آلى على الرغم من طابعها الهندسى، بل يبدو هذا التشكيل وثيق الصلة بالرؤية الشمولية للكون، وعندئذ تصبح الأعمال الفنية المختلفة التى يضمها هذا المعرض تنويعات لحنية على تلك الرؤية`.
- وعندما نستعرض الاتجاهات التجريدية المعاصرة فى التصوير نرى أن النشار ينفرد بأسلوبه المتميز ومفرداته الهندسية مع تنغيمات لأشكال موسيقية (عضوية) مجردة فى توازن وإيقاع وحساسية وتقنية عالية، ولوحاته الثلاث الضخمة خير مثال لذلك، فهى مجزأة إلى وحدات منفردة ومجسمة ومتموجة، يحكمها تنظيم وتوازن وبناء متكامل ووحدة لونية شاملة، وهو بذلك يلتقى بالأشكال الحديثة فى التصوير التى أعطت استقلالاً للعمل الفنى (موسيقى العين).
- وكذلك يبتعد النشار عن اللوحة التقليدية ويتحرر من الجدار الخاص المغلق إلى العلم المفتوح متيحاً للمشاهدين أن يكتشفوا رؤيتهم وتفسيراتهم الخاصة.
- وهو يلتقى أيضا بالفنون الاسلامية فى مضمونها، فقد أضافت سنوات عمله فى مكة المكرمة إلى أعماله قيما روحية ورؤية جمالية ذات اتصال وثيق بمنجزات الحضارة الاسلامية، حيث تكون الأشكال الهندسية هى العنصر الرئيسى، وتبدأ من وحدة ثم تنمو وتنتشر فى قوانين وقواعد صارمة.
- ولكن النشار تجاوز التكرار للوحدات الموجودة فى الفن الاسلامى والقائمة على أسس من التنظيم والتناسب الهندسى إلى وحدات منوعة شكلا ولوناً وحجماً، مسطحة ومجسمة، بارزة وغائرة، وحول نقطة محورية تتوزع بالطريقة التى تكفل لها أن تستقر فى حالة بين التوازن تحكمه خطة بنائية وتنظيم وايقاع تشكيلى يسيطر عليه فى وحده متكاملة، ولا تطفى وحدته على تنوعه، هذا التركيب الإبداعى يعكس شعورا عميقا واضحا وعاطفة قوية متميزة.
- إن الرؤية المستقبلية لأعمال النشار سوف تستقر حين يخفف من المعاناة التى تزخر بها لوحاته ويتحرر نهائيا من لوحة الحامل ذات الإطار، وتنتشر أعماله فى الفراغ المحيط بها، مؤكداً منهجه الجدارى المتميز.
بقلم : مصطفى أحمد
مجلة : إبداع (العدد 3) مارس 1988
بين التجريد والتجسيد والوميض
- لكل فنان تشكيلي إيقاعاته البصرية، بما يقابل في الموسيقى الايقاعات السمعية.. لكن الايقاع البصرى لدى الفنان عبد الرحمن النشار يكاد يسمع بالآذن، من فرط ارتباط عناصره الجمالية في ذاكرتنا، بإيقاعات الموسيقى العربية، على آلة العود أو آلة القانون.
- ان لوحاته متتاليات ومتقابلات منتظمة الإيقاع لشرائح من المساحات اللونية، من أشكال المربع والمثلث والمستطيل والمكعب، كما تتميز بالتكوين الذى يقوم على الامتداد الأفقي والرأسي على مسطح ذي بعدين اثنين، مع تكرار الوحدة الهندسية على امتداد ذلك المسطح، وقد تداخلت ألوانها، وأخذت من بعضها البعض تباين أو تضاد، وإن حفلت بالكثير من الإبهار البصرى. وبذلك تصبح اللوحة بأكملها لحنا أساسيا واحدا، لكن كل جزء منها يحمل كافة خصائص اللحن الأساسي، متشبعا بروح الفن الإسلامي وفلسفته، القائم على التجريد، وامتلاء الوجود بذات الله سبحانه، التي ليس لها بداية أو نهاية، وليس لها أول ولا آخر..
- ورحلة الفنان عبد الرحمن النشار بدأت في الخمسينات، كفنان تشخيصي واقعى، يعبر عن البيئة وروح الطبيعة في مصر، وفى الستينيات ارتبط بالتعبير عن القضايا والمواقف الوطنية، بأسلوب تعبيري رمزي، وبعد ذلك اتجه اتجاهات سرياليا، معبراً عن العالم الباطني للإنسان، بكل أحلامه وهواجسه وأحاسيسه المكبوتة، دون التقيد بمنطق عقلاني مباشر، بل مسترسلا مع مخزون اللاوعي في الأعماق ... حتى كان انتصار أكتوبر العظيم عام 1973 فتم التلاقي والعناق في أسلوبه بين الاتجاهين : الاتجاه التعبيري القومي، والاتجاه السريالي، معبرا عن ملحمة البطولة الخارقة للإنسان المصرى.
- غير أن نداء الفن الحديث في الغرب كان دائم الإلحاح على الفنان النشار، بكل ما في الغرب طوال هذا من اتجاهات ومتناقضات وصراعات، فراح يجرب في اتجاهات الفن التجريدي والتكعيبي، وفن الوميض البصرى، وفن التجسيم على مسطح التصوير ... وذلك في رحلة بحث مضنية عن أسلوبه الخاص، في الوقت الذى كان مشدودا إلى فلسفة الفن الإسلامي وجمالياته، ولم يكن الفنان يستطيع التخلي عن أي من الخيارين: الخيار الأوربي الحديث.. بكل ما فيه من قلق وتوتر للإنسان في العصر الحديث، والخيار القومي الآسلامى، بكل ما فيه من روحانية وسمو على الصراع والمتناقضات..
- واستطاع النشار أن يحقق هذه المعادلة الصعبة، عن طريق المزح في لوحته التجريدية، بين التشكيلات الهندسية المسطحة والبارزة عن سطح اللوحة، وبين التشكيلات العضوية، الأقرب إلى جسم الإنسان في تشريحه الداخلي .. وقد بدت أعضاؤه متلوَية متقلصة متوترة، إيحاءَ بالصراع الداخلي، فيما بدت وحداته الهندسية المتجاوزة في امتداد لا نهائي، شكلا من اشكال الذكر والتسبيح لله الواحد الأحد، يتنوع إقاعه بتنوع مستويات سطح اللوحة بين البروز والغَوْر.
- ولقد حل الفنان التناقض بين الاسلوبين، مستلهما فلسفة الفن الإسلامي، التي لا تنشد المحاكاة الظاهرية لمفردات الوجود في الطبيعة، بقدر ما تنشد التغني بالجمال المطلق، حيث يسعى الفنان إلى الذوبان بروحه في ذلك الوجود، وإلى التوحد مع الخالق سبحانه، ومن ثم كان التجريد هو طريقة لتحقيق ذلك كله، وكأن الشكل الهندسي في تداخله وتوالده وتكاثره، وفق قانون رياضي محكم، هو أداته لبلوغ مراده..
- وإذا كان النشار قد ابتعد عن العناصر الحية في الطبيعة، فإنه استوحى في لوحاته الكثير من عناصرها الجامدة خاصة في البيئة الصحراوية، مثل أنواع الزلط والصخور والبلورات الرملية المتكلسة على شكل ورود.. كما استلهم بعض أنماط العمارة الصحراوية في الواحات، حتى أوحت إليه بنوع من الأعمال النحتية، ولا شك أن ذلك كله قد انعكس لا شعوريا في أعماله التصويرية المجردة.
- غير أن ثنائية العنصرين التشكيليين ( الهندسي والعضوي) في لوحات النشار، ما كان يمكن أن تصل إلى التجانس والتعايش، إلا من خلال حس روحاني خاص، أقرب إلى الاشراق الداخلي، وهو الذى مكن الفنان من اكتشاف قانونه الجمالي له وحده، الذى يتوحد فيه الطابع القومي بالعالمي، والذاتي بالموضوعي، والعلاقنى بالعاطفي، والمادي بالروحاني، ويتكامل فيه المتعبد مع المتمرد، والمتصارع مع المتصالح، والمتجمل مع المتأمل، والمبصر مع المتبصر.
- هذا انعكس الاشراق الداخلي للفنان في شكل مرايا صغيرة، تتلاصق وتتداخل بمئات القطع والأشكال الهندسية، محدثة وميضا يتلألأ ويتحرك مع حركة الإنسان أمامه-حركة لا تعرف السكون أو التكرار.. وقد يكون متأثرا بالتراث الشيعي بالعراق في استخدام قطع المرايا في تزيين الصروح الإسلامية برؤية فلسفية.
- وهكذا لم يعد اللحن معزوفة بصرية إيقاعية على آلة عربية رتيبة، بل اصبح للًحن إيقاعه المتعدد المستويات، واشعاعه المتجدد المراوغ، الذى يصعب تحديد مصدره، كأنه تسبيح لله يتردد داخل النفس يعلو ويهبط في وميض متذبذب، وساعدت شرائح المرايا في ترديد ومضاعفة هذا الوميض إلى ما لا نهاية، وفى إدخال الرئى داخل نسيج العمل الفني، فلا يصبح بوسعه الإفلات منه، أو الوقوف محايدا أو غير مبال... بل يصبح عليه أن يجيب على هذا السؤال:
- من أين يأتي هذا الاشعاع؟.. وماذا وراءه ؟
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفنان المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية)
مزيج الإبداع عند عبد الرحمن النشار
- عبد الرحمن النشار فنان من ذلك الطراز الذى ينشأ الإبداع عنده فى مسافة بين علامتى الاتصال والتجسدّ. بين الماضى الذى هو أخلاق وتراث وجذور ـــــ وبين الحاضر الذى هو بمثابة المحور المعرفى لصور الإدراك المجنّح، حين يكون ذلك الإدراك قادراً على تجاوز الزمنى، والواقعى، واليومى.
- والنشار فنان صرحى الطابع. له فيما يبدعه، تلك الحركية اللاهثة المتواترة، اليقظة بيقينها، لا نرى الجسد فيها مجسداً بقدر ما نرى توتراً هائماً مرفٌقا حتى الطيران، من حيث يكون النشار هو بذاته حاضراً في زحام الناس والأصدقاء.
- والنشار رهين بأغانيه البصرية المنمنمة بينما تتجلى المكعبات على الأسطح النافرة في صعودها وهبوطها، وبروزها، محتفظة أيما يكون الحفْظ، بقامتها المبدعة بين الظاهر والخبيء، وبين الأثيرى والمحسوس، بين التعبير والتجميل، بين التهيّوءFiguration والتشخيص، وبين الهندسى، والعضوى.
- بل إنه باختصار فنان من ذلك النوع الذى تتنازعه الفَردانَية؛ إذ يجد نفسه وحيدا أمام المنطق الجمالى، مستشرفاً تلك الهيئة الفيثاغورية لصروح المستويات بمشاهدها الملونة، مثلما هو كذلك في مواجهة المحسوس والمرئى، أي إنه عراك بين ذلك القيد اللافح للمبدع، وبين مشكلة الحرية.
- وفى النصف الثانى من الستينيات كان النشار قد أنجز عدداً من تلك اللوحات الصرحية الملهمة التي تُغنى للبطولة، وتزهو بالعناصر والخصوصيات المبطلٌه لمغزى الوطن، وبالمفهوم المثالى للتضحية بالذات.
- أنجز النشار ` الحرب والسلام` ـــــ و` سوف ننتصر` ـــــ و` مأساة القدس`. كانت لوحاته آنذاك تكشف عن حجم المأساة الوصفية ممثلة في أولئك المصلوبين على الأضرحة، في أولئك المعلقين بين السماء والأرض، في ذلك المزيج الأسطورى بين البيوت والأنهار والأحصلة، في تلك الطيور التي تبدو مُكبَلةّ على البُعد بين الهبوط والطيران.
- نقرأ اللوحة من أعلى إلى أسفل أو العكس، كما لو كنّا أمام ألغاز الحوائط في مصر القديمة. في تلك اللوحات الملهمة بَدأتٌ تبرز للمرة الأولى هذه الأرهاصات المولعة بالنتاج الذى يبثه النقيض الصادم، بين المنظم والعفوى، بين البنائى ـــــ من حيث سيكون ذلك البدائى مسئولاً عن تشكيل الأسطح والمكعبات الملونة فيما بعد ـــ وبين اللهث الإنسانى الذى سوف يتولى ترجمة العاطفى إلى العضوى فيما بعد أيضا.
- بين ذلك الخلط المنظورى للمستويات، وللضوء وللمسقط البصرى، وبين خامات النسيج في السطح الملون وفى التجاويف المعتمة عند تلاقى الأبعاد الثلاثية ` البنية التكاملية ` .
- نقف ونُجيل البصر في ذلك المشهد الذى يبدو كالحشر وقد تماحت فيها جميع نقط التلاشى ــــ ، وبدت عناصر التكوين كلها كما لو كنا نراها من نفس المسافة، ومن نفس الزواية، ومن ذات الإرتفاع والانخفاض معا.
- تلك التراكيب المثلثية التي استطاعت فيما بعد أن تُكلّف وجودها التصّورى، وأن تنزع ذاتها من صفات التراكم، وتستقل بجمالها، وبلغتها التصويرية وهى ذاتها التي سوف تتضاعف حالاً إلى مربع، ثم إلى مجسم ثلاثى الأبعاد في الاتجاه إلى ` المينيماليزمية `.
- فى تلك الأعمال الباهرة التي أنجزها النشار في منتصف السبعينيات وأطلق عليها اسم `علاقة عضوية هندسية ` ـــ ` 1، 2، 3 ` ـــ ، كان ذلك بمثابة إعلان ` لمانيفستو ` التحول المبدع عند عبد الرحمن النشار. بدايةً لتلك البلْورَة المتصاعدة التي جمعت المنظومات الجمالية، وصهرتها حتى ذابت، وتقطرت، واستَوَت، وانمحت، على الأسطح الصرحية في مجموعة ` المحور` منذ أشرف زمان الثمانينيات. تلك الجماعة التي امتزجت فيها عضويات النشار وعلاماته الهندسية بجماليات ` نوار` الفيثاغورية، وبالتجليات الظلية المورقة ` للرزاز` ، وبالاقتحامات المتحفزة المشتاقة لفرغلى عبد الحفيظ. لقد استطاع النشار أن يطبع أثره في مسار الحركة الفنية المصرية الحديثة، وأن يصُكّ علامته ورموزه من حيث أمكن له أن ينفلت من عالم الأطر، ` المينيماليزمية`Minimalism ، ــــ برغم قُرْبه إلى قاعديّتها وروحها ـــــ وأن ينشيء في صرحياته تلك حالة بيئية ` للعضوى` Organism ، التي هي بمثابة شخصانية معبًرة عن الذات إلى جانب ` الجيوميترية` التي هي بمثابة انعكاس ` للاشخصية` من حيث تكشف هذه اللاشخصية عن المنظومات العقلية، والنقدية الحرفية. وبذلك قدم لنا ` النشار` ذلك الرحيق المبتكر لتجليات فنان مبدع بحق، بعيدا عن المنازعة الفلسفية بين الماضى والحاضر، وبين التراث والتجديد.
بقلم: أحمد فؤاد سليم 1995
من كتاب : عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية
تجليات النشار
- أثمرت السنوات الطويلة من التجربة والتأمل والبحث العميق داخل النفس معرضه الأخير بقاعة ` (إخناتون).. كان من الصعب علينا لأول وهلة أن نرى بأعيننا التى تعودت على أن تبصر ما يفرض عليها ما تراه يومياً منذ أن تستيقظ إلى أن تنام، كم هائل يرهق العين ويفسدها من أن ترى تلك التأملات العميقة التى وضعها،` عبد الرحمن النشار` أمامنا كانت لابد أن تصمت العين قليلاً وتبدأ حتى تستطيع أن تبصر بأمانة هذا الذى خلقه النشار أمامنا؛ تلك اللوحات ذات الأبعاد الأربعة التى سماها هو ` التجليات`.. بعد قليل ستر ومضات النور تنطلق أمامك من خلال مجموع الأشكال لتستقر داخلك لا عن طريق عين البصر بل عين البصيرة؛ فتتمتع معنا إلى الحركة الدائمة المنطلقة من مجموع الأعمال خلال ترددات الألوان والأشكال المنظمة فى قالب زمنى متوازن ومتناسق تدور، وتدور معها إلى أن تستقر فى أعماقك وكأننا نجنى من خلالها نوعاً من الأستقرار الهاديء نوعا من الرسوخ داخلك؛ جاءك من خلال المعاناة الطويلة لهذا الفنان، عذاب تحقق فى تلك اللوحات ليكون `عذوبة` تشاركه فيها لو استطعت أن تسكت فيك عين البصر واستخدمت بدلاً منها عين البصيرة حتى تراه، فهل تحاول أن تصمت عينيك المرهقة حتى ترى معنا جمال صوت ضحكة ` النشار` الصافية التى بدأت تنطلق منه أيام الدراسة ولا زالت تجلجل داخله ويطلقها خارجه حتى هذه الأيام الصعبة؟
بقلم : إيهاب شاكر
من كتاب : عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( جريدة :صباح الخير 1987 )
تقديم للوحة ` مأساة القدس`
- كانت فلسطين ومأساة اللاجئين من محاور التعبير التشكيلى عند جيل الشباب من الفنانين الذى تفتح صباه على أحزان الأرض السليبة.
- وفى الآونة الأخيرة هزت المأساة أعماقاً وفجرت طاقات من التعبير الفنى.. والفنان ` عبد الرحمن النشار ` من هذا الجيل الذى هزته الأحداث، وعبر عنها فى لوحاته.. وقد عكف فى الشهور الأخيرة على إتمام لوحته `مأساة القدس` التى عرضت بالصالون السنوى ونالت إحدى جوائزه.. وهو فى هذه اللوحة يرى المدينة العتيدة فى رؤية تداخلها كالحلم. فى سماء القدس وفوق أرضها ترتفع مقدسات عزيزة.. وفى جانب من اللوحة مسيح مصلوب وحطام أجوف من أجسام أحاطتها الألوان البيضاء بدرامية تقبض النفس.. وألوان اللوحة التى تسودها الصفرة تنبيء عن المأساة.. ولكن شيئا فى اللوحة يحملنا إلى رجاء بالخلاص.
- إن هذه اللوحة تضاف إلى أعماله السابقة `الحرب والسلام` و ` وسوف ننتصر` وغيرها من لوحات وَحْى الأحداث.. التى يسعى فيها إلى البحث عن الصيغة التشكيلية الملائمة للموضوع الكبير.. وقد قطع الفنان فى هذا المجال خطى موفقة.

بقلم: بدر الدين أبو غازى
من كتاب : عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( مجلة المجلة 1968 )
غناء النشار
- الأشياء تتحلل إلى جزئياتها الصغيرة.. إلى الخلايا المتعددة الأحجام والأشكال والألوان.. وكأنها لا تُرّى إلا بالميكروسكوب من فرط دقتها وصغر حجمها.. ولكنها فى النهاية تتجمع فى شكل ضخم عظيم يبهرك فى اللوحة فتقف أمامها مشدوهاً متأملاً..
- الفنان ` النشار` يقدم لك فى معرضه هذا المنطق فى فهمه للأشياء.. عين الفنان لها عدسة تكبر دقائق الخلايا وتحيطها بكل أشعة الطيف اللونية؛ فنعيش فى كل لوحة وكأنها كلمات شاعرية متناثرة تكون لك فى النهاية قصيدة بديعة..
- واللغة الشاعرية هنا يغلب عليها اللون؛ فهو صاخب دائماً، ولكنه فى نطاق مختزل.. كأنه يغنى بصوت عالىٍ جداً.. وجميل، ولكنه داخل حجرة ضيقة..
- وبالرغم من أنه انغلق على نفسه فى هذا النطاق.. إلا أنه تحرر من الموضوع وانطلق فى التعبير عن أى شىِء بداخله.. من وحى الإسكندرية أو من وحى أفريقيا.. أو من وحى اسرته .. فلم يرتبط بأسماء للوحاته.. ختى أنها أصبحت فى النهاية تعبر عن أكثر من معنى.. وأكثر من اسم..
- الفنان ` النشار` يسير فى الاتجاهات المعاصرة التى تميز شخصيتنا الحديثة فى الرسم.. والتى تعبر بصدقٍ عن طبيعة بلادنا وجوها.. وروحانية الشرق فى اللون والخط.. مع ارتباطه الوثيق الواعى بالاتجاهات الغربية الحديثة فى عامة الفنون التشكيلية..
بقلم : جورج البهجورى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( مجلة صباح الخير مارس 1967)

- الفنان ` عبد الرحمن النشار` عندما يقسم لوحاته تقسيماً `شطرنجياً` فإنه بذلك يعبر عن الإيقاع الزمنى المنتظم الترتيب الذى يعكس دورات الحياة ويعادل تعاقب الليل والنهار، والبسط والقبض، والمد والجذر. وفى المساحات التى تنحصر بين أضلاع كل مربع فى الرقعة الكبيرة تتوالد أنواع من الكائنات.. قد تكون هندسية وقد تكون عضوية.. وبين قسوة الأشكال الصلبة وليونة الأشكال الصلبة وليونة الأشكال الرخوة، تتشابك عناصر اللحن الكبير فى فى أخذ وعطاء، وشهيق وزفير ، وعنف ولين، لتشكل ذلك النسيج المترامى الأطراف بجميع أبعاده المكانية والزمانية.. الذى نطلق عليه ` الحياة`.


بقلم : حسين بيكار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( جريدة الأخبار 25-4-1975)

-..الذى يتأمل لوحات الفنان `النشار` يرى حصيلة ّضخمةّ من تأملات الفنان فى جوانب مختلفة من الحياة.. والشيء الواضح فى أعماله أنه استطاع تعميق تجاربه أسلوباً وأداءّ وتوسيع امتداد خياله بحيث يتيح لنا جولات ذهنية ووجدانية ممتعة عندما تصحبنا ريشته الذكية فى رحلة طويلة فى عوالم الإبداع التشكيلى.
وكم تتضاعف هذه الثقة عندما نستقبل هذه الأعمال بقلوب متفتحة، ونستجيب لإيحاءاتها دون مناقشتها أو إغراقها فى سيل من الأسئلة والإستيضاحات.



بقلم : حسين بيكار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( من كتالوج المعرض الخامس مارس1967)

- معرض الفنان (عبد الرحمن النشار) بقاعة الأتيلية يوم 6 من مارس تحولت ريشة الفنان إلى دوامة هوائية تعبث بالسطوح الهادئة فتثير ماعليها، وتحلية إلى أشكال بغير حصر.. تتلوى وتشابك وتتصارع وتتداخل، وتصبح اللوحة حلبة تهتتز بعنف من وقع الحركة فوق سطحها الديناميكي غير المستقر الذى يسوده نظام هندسى دقيق يحفظه من التفكيك.
- ولعل الفنان يريد أن يعبر عن الصراع الدائر فوق مسرح الحياة، صراع أفريقياً ضد قوى الإمبريالية من أجل حريتها تحقيق ذاتيتها.. وصراع الإنسان ضد قوى الشر من أجل تحقيق السلام.. وكما تتصارع الأشكال فى لوحات ` النشار` موضوعياً _ ذلك الصراع الذى يضفى عليها ديناميكية حركية دافئة ــــ تتصارع كذلك تشكيلياً نتيجة لعملية التحريف الذى يتعمده الفنان بقصد الحصول على حرية أكبر وأقوى فى التعبير والصياغة. نرى أن الفنان `عبد الرحمن النشار` يسير فى طريقه دون توقف.. محاولاً التفوق على نفسه بإثراء خياله وبتوسيع آفاقه إلى ابعد الحدود، ويكرم شرقى، وبيد مبسوطة، يملأ لوحاته بما لا يحصى من الدقائق والتفصيلات الشهية البارعة، تغرى المتفرج على البقاء امامها ساعات طوالاً دون أن يصيبه الملل اوالإمتلاء..
- ونحن نطالب الفنان ` النشار`بأن يحتفظ دائماً بدرجة الغليان الذى يعمل فى داخله. والذى كان السبب المباشر فى أعماله الناضجة، وأن يتجنب العمل وهو هاديء النفس.. فإن الحرارة نعمة من نعم الطبيعة على الفنان..
بقلم : حسين بيكار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة الأخبار مايو 1967)
حوار بين الهندسى والعضوى
- تواصل `موندريان `بعد دراسة عميقة لقوانين الطبيعة ـــ إلى هناك نظاماً هندسياً بالغ الدقة يتحكم فى مسار الأشياء؛ وبالتالى يفرض عليها أشكالها وسماتها.. وخرج من احتكاكه الطويل بالطبيعة بنظريته التى تقول إن الجمال الأسمى يكمن فى النظام الهندسى فى أبسط أشكاله!!
- ومن هذا المنطلق يتحرك الفنان ` عبد الرحمن النشار` .. إلا أنه يضيف إلى نظرية `موندريان` نظرية أخرى تقول إن المقابلة الدرامية بين ما هو هندسى وبين ما هو عضوى هو الفلك الذى تدور فى مداره جميع الكائنات مهما بلغت من التعقيد .. والهندسى فى رأى ` عبد الرحمن النشار` هو الشكل البسيط الذى ينحصر داخل الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة.. وأكمل هذه الأشكال هو الشكل الهرمى الذى يوحى بالاستقرار والتكامل الجمالى معاً.. أما الشكل العضوى فهو تركيب معقد قوامه المنحنيات اللينة التى تشبه الأعضاء ذات الخلايا الرخوة التى من شأنها مضاعفة وتأكيد الانفعال الناتج من تعامل الأضداد سواء فى الشكل أم الون أم الملمس..
- ويضيف ` النشار` فى إنتاجه الجديد بعداً جديداً إلى بعديه السابقين؛ لا باستعمال قواعد المنظور؛ وإنما بتجسيم مسطحاته وإضافة بعض البروزات والتجاويف والانبعاجات التى تنتج منها ظلال طبيعية غير ثابتة تتغير بتغير مصادر الضوء الملقى على اللوحة، وبذلك تزداد اللوحة ثراء أو تكتسب حركة نسبية تضاف إلى سكونها الهندسى . ويضع الفنان ` النشار` المنمنمات الإسلامية صوب عينيه كمثل أعلى للرخاء والخصوبة والثراء التشكيلى؛ ولذلك يدفعه كرمه الشرقى وطموحه الفنى إلى إثراء لوحاته أحياناً بما يكدسه فوقها من أطايب الأشكال ولذائذ التكوينات وشهى الألوان التى قد تصيب المشاهد ببعض التخمة ولكنه يتدارك هذا السخاء فى أعماله الأخيرة؛ فيلجأ إلى الاقتصاد فى الشكل واللون بتمرير تكويناته من مصفاة البلاغة التشكيلية لتصبح ألذ مذاقاً وأكثر تركيزاً وأجمل مظهراً، وأسهل هضماً..
إنها علامة على طريق التحول الناضخ نرجو أن يمتعنا بالمزيد...
بقلم : حسين بيكار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة الأخبار 18-1- 1980)

- التواصل الحضارى يتم بانتقال الخبرات الأصلية الدافعة للتقدم من الأجداد إلى الأحفاد عبر الخلايا والأوردة. مؤكدة استمرارية الحياة فى مواجهة العدمية، متحدية عوامل الفناء والتخلف والأنطماس تحت الأقدام ` التاتارية` الوافدة...
- ويستلزم التواصل الحضارى بالضرورة توثيق علاقة الإنسان بالأشياء من حوله، والالتحام بالمبنى والمعنى إلتحاماً عضوياً وفكرياً، وربط الجزئيات بالكليات فى نسق شديد الإحكام والتماسك....
- وعلى الرغم من تباعد الأشياء زماناً ومكاناً، فإن هناك وشائج تحتية غائرة تمدها بعصارات الحياة والتواجد المستمر، وتقوم الخصائص البيئية والمناخية والإجتماعية والثقافية بخلط الأشياء فى بوتقة واحدة وصهرها فى درجة عالية من حرارة الإلتزام والإنتماء القدسى؛ بحيث تسفر فى النهاية عن وجود شامخ يبسط ظلاله الوارفة فى كل اتجاه....
- إذا رجعنا بضعة ألاف من السنين إلى الوراء لنلتقى بصناع الحضارة الذين عاشوا على ضفاف النيل العظيم، سنجد أن الإمتداد الصحراوى الذى يخترقة الشريط المائى الرفيع يمتد إلى مالا نهاية لا تعترضه عوائق جولوجية أو جبال تحجب الرؤية، بل تتيح لهذا الإمتداد أن يلتحم بالأفق؛ فتتوحد الأرض والسماء وتفسحان الطريق للرؤية الماورائية لكى تتجول فى آفاق ميتافيزيقية ودروب صوفية بالغة العمق والغموض أيضاً. إن هذا المناخ ذا العبق المركز والتواجد المكثف يمنح ساكن الوادى رؤية ثاقبة تتجاوز الواقع المكانى وتزيح الخط الفاصل بين شاطيء الحياة والموت؛ ليرى بعين اليقين أن الحياة مستمرة فوق الأرض وفيما وراء الأرض؛ مؤمناً بأن الاستمرارية هى القانون الكونى الذى يحكم هذا الوجود المرئى والغيبى على السواء.!!
- إن فكرة القطع والفصل والبتر فكرة يرفضها ساكن الوادى الذى يحتضنه مناخ ربيعى دائم، تتواصل فيه الفصول لتمده بالخير طوال العام، حتى يأتى الفيضان ليغمر الأرض فى زيارته الموسمية؛ معلناً تجدد الحياة وميلاد عام جديد.
- فى هذا المناخ نشأ الفنان `عبد الرحمن النشار` وتشبعت به خلاياه البصرية والفكرية منذ أن بدأ مشواره الفنى، حيث كان ` كَشْفُ ما وراء الأشياء` همه الأول وحلمه البعيد.!!!
- والذى يتابع أعمال هذا الفنان الجاد منذ البداية يلمس ظاهرة ` النماء العضوى` تدفع إبداعاته دفعاً
طبيعياً نحو الطريق الصاعد أبداً.. ويلمس كذلك كيف تمهد كل خطوة للخطوة التى تليها فى تتابع صحى غير مبتور... ولا شك أن ما بلغته قدراته الخلاقة ــــــ بعد أن تجاوز الستين من عمره ــــــ يعتبر محصلة بالغة الثراء لرحلة طويلة حافلة بالتجارب والتفاعل مع الفكر والتطبيق، وخاصة بعد اختياره للحلول الصعبة .. ويقرر بجرأة شديدة الاكتفاء بما حققه بنجاح فى ميدان التصوير التقليدى ذى البعدين الذى يلتزم بأحادية الخامة واستوائية السطح؛ ليفجر طاقاته الدفينة ويحوله إلى مسطح شديد الوعورة يذكرنا `بمقرنصات` العمارة الإسلامية، مستخدماً التجسيم والتسطيح معاً، بالإضافة إلى عنصر اللون بأطيافه الباهرة، والتذهيب الخفيف أحياناً، وهذا هو عين ما فعله القدماء فوق جدران المعابد والمقابر ليدغدغوا السطح الجدارى المصمت وملساويته الباردة ويحولوه إلى كيان ينبض بالحياة والدفء.!!
- فى هذه المرحلة التى تجاوزت حدود النضج يعلن الفنان` النشار` بكل شجاعة عن انتمائه للبيئة المصرية لدرجة الالتصاق. كما يؤكد التزامه بالعصر الذى يعيشه، ويقرر تمسكه الشديد بالأرض المكان ، والعصر الزمان؛ دون تزمت مصطنع ، أو التلويح بشعارات الأصالة والحداثة التى تستعير المفردات التراثية الجاهزة وتعيد تشكيلها بفجاجة ساذجة.!!
- ويقفز`النشار` قفزة بارعة من التشخيص إلى التجريد دون أن تزل قدمه ويسقط فى هاوية التقليد العشوائي لما هو دارج؛ مقرراً أن يطوّر تجريديته ويؤصلها فى الوقت نفسه وذلك بتعميق جذورها فى التربة السمراء؛ ليفوح منها ذلك العبق الساحر الذى يسرى فى ربوع الوادى منذ آلاف السنين رغم ما يتطلبه ذلك من جهاد وإصرار عنيد للتخلص من شرك التقليد الروتينى الذى أدى بالتجريد إلى طريق مسدود.. وحوّله إلى كيان شائه ملطخ بعشوائياتٍ شاردةٍ بلا مخططٍ ولا هدف.
- إنه يريد تجريداً متفائلاً .. بناءّ ينبض بالحياة، تجريداً عاقلاً غير متهور، تجريداً ينبت من التربة مثل عيدان القمح والفول، تجريداً شامخاً ـــــ مثل حوائط الكرنك ــــــ يعكس كلِ ما فوق الرقعة الخضراء من سمات بيئية وحضارية تجريداً يمثل إيقاع الزمن وثراء التاريخ، فيعرى الأشياء من صورها المباشرة وسماتها السطحية ويلتقط مضمونها الباطنى ومذاقها الغائر فى ثنايا الشكل، ويرى فى الاستعارة المكنية رموزِاً تخاطب الذكاء المثقف، وإشارات لماحة لدلالات خفية غير مباشرة...
- ولكى يضيف النشار إلى قاموسه اللغوى هذه المصطلحات الجديدة يفرغ كل ما فى جعبته من عناصر التشكيل فى مصفاة دقيقة المسام؛ ليحصل من خلالهاعلى خلاصات فيها نكهة الواقع لا شكله، ورائحته لا ألياف ، ويحول المرئيات البصرية إلى رموز هندسية تنحنى تارة وتستقيم تارة أخرى، تتراقص فوق مسرح اللوحة تبعا للإيقاع العام والتخطيط السابق.. وفى هذا التنوع الموسيقى تتناغم معزوفاته وتتصاعد ممهدة لخطوات تالية أكثر اتساعاً وغزارةّ وشموليةّ...
- وعلى الرغم مما حققه الفنان بهذه المفردات الجديدة من إنجازات شديدة الذكاء إلا أنه يدرك تماماً أنه ابن عصر الفضاء.. وأنه لا ينبغى أن ينظر إلى الأشياء من منظور تحتى، وإنما عليه أن يستعير جناحى الطائر يحلق بهما وينظر إلى الواقع الأرضى نظرة فوقية تذوب فيها التفاصيل الأفقية والهامشية، ويتعامل مع الكليات دون أن يتنازل عن ملكة الإسهاب المتدفق والإطناب التفصيلي الذى يقترب من الثرثرة التى يقصد بها الخصوبة والوفرة والثراء الحضارى الغزير العطاء الذى يتخلل كل ذرة تفترش هذا الوادى العريق.!!! دون أن تصرعنا هذه الثرثرة.!!!
- ويكشف الفنان فى رحلة التحليق أن المصرى ساكن الوادى بنّاءُ بطبعه.. إستطاع أن يعيد تشكيل الوادى المنبسط ويحوله إلى حقل معمارى تنبت العمائر من تربته مثلما ينبت الزرع الأخضر، ويكسب الموقع الجغرافى سمة جيولوجية لم تكن موجودة من قبل؛ تغير من رتابة الامتداد الأفقى، وذلك يجلب الأحجار الضخمة والصخور الصلبة من أطراف الوادى، يشيد بها الأهرامات والمعابد والمسلات والتماثيل العملاقة؛ لتجاور وتحاور سيقان النخيل وأشجار الجميز بلغة الهمس الذى يقترب من الصمت...
- لقد استطاع المصرى الشديد الولاء لأرضه التحكم فى سطح الوادى جغرافياً، وعليه أيضاً كفنان أن يفعل نفس الشىء بأودية لوحاته لكى تحكى هى الأخرى عن هذا الواقع البيئى والتاريخى والحضارى بلغةٍ مصريةٍ عصريةٍ متطورةٍ وليست لغة ` الفرانكوأراب` الدخيلة.. ولقد نجح فى ذلك..!!
- وهنا تبرز وتنبثق وتتخلق مسطحات جديدة.. تعلو وترتفع عن السطح السفلى ، مسطحات تتشكل معمارياً معبرة عن ميلاد بُعْد ثالث غير البعد الطولى والعرضى التقليديين... بُعْد ثالث ليس نظيراً للبعد ` الوهمى` الذى أفرزه عصر النهضة فى أوروبا، وإنما بعد حقيقى يحتل فراغاً حقيقياً.. بعد له بروز مجسم مثل الشهيق والزفير، تمتد ظلاله مع اختلاف الأضواء المتساقطة عليه؛ تكسب السطح مزيداً من المعطيات البصرية مع تعاقب ساعات النهار...
- ولا يلتزم البروز بالشكل المكعبى والهرمى؛ وإنما يتبع فى تشكيله نسق اللوحة العام وهندسيتها التخطيطية بوعى عقلانى وحس إنسانى غاية فى الرقة والرهافة..
- وتنتهى مرحلة التخطيط والتشييد بانتهاء الخطوة البناءة والدور المعمارى للعناصر المتناثرة فوق سطح اللوحة.. لقد قام التشييد بدوره الحيوى فى وجدان المصرى القديم، ومازال يسرى حتى الآن فى عروقه سريان الدم، ويتضج فوق السطح مؤكداً أن العمل الجاد والأصيل لا يأتى من فراغ وتتحول اللوحة الخشبية العملاقة إلى خريطة رمزية غير طوبوغرافية؛ خريطة عناصرها مثل أبيات الشعر فى القصيدة، فتبدو فيها الأرض غير الأرض والواقع يبدو كالخيال الحالم.
- ثم يأتى الدور التجميلى.. أو التزيينى.. دور العزف بالألوان على أوتار الطيف.. يستلهم الأرض والتاريخ والعلم، فتتحول الساحة التى يطل عليها الفنان من فوق السحاب إلى سجادة شرقية.. عجمية... نسيها الغزاة الفرس وراءهم عند هزيمتهم النكراء.. وتتحول الحقول التى يجتازها الفلاح ويتعامل معها بالفأس والمحراث إلى مسطح غير متناهِ، تقوم فيه الزروع المختلفة الأشكال والألوان فى براعة غنائية بدور الوحدات المزخرفة، والجمل المختلفة الإيقاع فوق السجادة الحقلية العملاقة، وتتناغم الألوان فى هارمونيات شجية وهى تكون المفردات المتجاورة تلين وتصلب تارة آخرى عضوياً وهندسياً؛ حتى تصبح اللوحة فى النهاية روضةّ من رياض الجنة.
- ولا ينتهى التدفق الإبداعى الخلاق عند حدود الشكل واللون وحدهما؛ إذ يظل المسرح الخشبى المعتم ـــــ رغم كل هذه الغزارة اللونية ـــــ ساكناً سكوناً لا ينبيء عن الحركة الفعلية المتجددة التى هى عصب الحياة ونبضها. فهناك تباعد معنوى واضح بين إستاتيكية التصميم وديناميكية المضمون الذى يمثله.. وهنا يقوم الخيال بدوره الخلاق مره أخرى ليضيف إلى ما سبق عنصراً جديداً غير تقليدى، عنصراً لا يقحم نفسه بغرض الإثارة، ولا يفرض وجوده دون دعوةٍ من صاحب الحقل، عنصراً له دور وظيفى وحيوى فوق المسرح وهو ` المرايا` العاكسة التى يستخدمها الفنان لأول مرة، يقتطعها بذكاءٍ شديدٍ ويوزعها بين المجسمات؛ فينبثق منها إشعاع ساحر خلاب.. لقد كان العمل فى حاجة إلى صدمة تخرجة من الحلم إلى الواقع الذى يشمل ظاّهرتى السكون والحركة معاً...
- وهنا يقفز إلى الواقع المرئى الجديد خاطر مفاجىء؛ حيث تذكرنا هذه المرايا بالبحيرات المقدسة التى كان يقيمها الفراعنة تحت قواعد أعمدة المعابد؛ تتراقص ظلالها فوق سطوحها فى الليالى المقمرة.
إن هذا الإشعاع الضوئى الذى ينعكس من هذه المرايا يضيف نبضاً خفاقاً مرتعشاً إلى السيناريو الشديد الثراء، كما أنه يفتح طاقة يشاهد منها المشاهد صورته منعكسة على المرآة إلى جانب رفقاء آخرين يتحركون فى فراغ الغرفة؛ فيضاف إلى اللوحة الثابتة فوق الحائط بعد آخر يلتحم من خلاله بالفراغ الخارجى. فيتوحد الداخل بالخارج، والخيال بالحقيقة، والثابت بالمتحرك.
- وهنا يجدر بنا أن نقف وقفة متأنية نصفق فيها للفنان على هذا الإنجاز الملحمى والكشف الجديد الذى يضيفه بغير افتعال.. فاستخدام المرايا فى التصوير المركب ليس بجديد على الفن الحديث، ولكن استخدامه كعنصر حيوى له حضور معنوى ودور فعال فى سيناريو اللوحة يؤكد مصداقية استخدامه لا بغرض استعراضى وإنما للقيام بدور درامى مؤثر وفعال فوق مسرح اللوحة.
- إن هذا العمل المخلص، الجاد، المضنى، المكلف، يعتبر إضافة شرعية إلى الحركة الفنية المصرية المعاصرة تتصدر قائمة التجارب التى ينبغى أن تقدم كنموذج رفيع وصادق؛ لتأكيد معنى الأصالة والحداثة اللذين نسعى جاهدين للتوصل إليهما؛ تأكيداً للذات والهوية الطموحة التى لا تغمض لها عين عن الماضى الجذور، ولا الواقع الحياة ، ولا المستقبل الأمل.
بقلم : حسين بيكار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية 7-10-1995
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة روزاليوسف 22-3-1965)
- رأيت معرضه الرابع الذى يقام الآن فى صالة إخناتون.. ومن الآلات والصخر والحديد والعمل الجبار الذى يجرى فى السد العالى صاغ الفنان لوحاته.. مرئيات شاعرية تعكس صدق تأثره بالتجربة وقدرته على أن يحولها إلى لغة اللون والخط والحركة.. وإن كانت لغته أعلى من مستوى المتفرج العادى فى بلادنا إلا أنها تتناسب مع مستوى المدارس الحديثة التى تزدهر هذه الأيام فى العالم.. وتمثل تجربتنا العظيمة فى بناء السد..



بقلم : حسن فؤاد


- فى معرض `النشار` صراع حادّ بين ما نراه بعيوننا كأشكال وألوان وما يدركه عقلنا لهذه المساحات اللونية وبين ما نراه ببصيرتنا المحبة المتأملة فى هدوء ورغبة للمعرفة.
- لقد طرق `النشار` باباً جديداً لم يطرقه فنان مصرى من قبل.. حاول أن يفتح باباً جديداً لمعالجة النور المنبعث من الكون.. حاول أن يعبر عن النور مصدر الإلهام.. والنور الذى يبعث فينا الأمل ولا نستطيع أن نمسكه بأيدينا فى عالمنا المادى الذى نعيشه.. وترجم هذا فى مساحات هندسية تستطرد كثيراً فتحقق نوعاً من الديمومة.. وحقق `النشار` معادلاً موضوعياً بين النور السماوى وبين مجموعة العناصر العضوية التى تنبعث منها الحياة فى نفس اللوحة. وقد يتطرق إلى ذهن البعض أن هذا الاتجاه سبقه إليه `فازاريللى` الفنان المجرى الذى يعيش فى باريس الآن أو الفنان الأمريكى `آجم` ، ولكننى أرى أن ما قدمه هذان الفنانان يعتمد على نظرية الخداع البصرى، وهو غالباً تعبير عن القلق الروحى وميكنة العصر وحضارة الغرب، أو تعبير لحظى لعناصر يختارها الفنان.. ولكن `النشار` نجح فى أن يبعث النور من داخل العمل وليس من خارجه.
أكد هذا المعرض أن `النشار` فنان مبدع رائد فى هذا المجال.

بقلم : حسن عثمان
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة الجمهورية ديسمبر 1987)
لوحات النشار ... علامة بارزة فى التصوير الحديث
- تأملت الأعمال الأخيرة للفنان `عبد الرحمن النشار` باحثاً عن المصور، فوجدت شاعراً يتميز بأسلوب خاص، ينفرد به بين أقرانه من أبناء جيله .
- الأشكال التى يختارها المصور`عبد الرحمن النشار` تحل محل الحروف والكلمات التى يتعامل بها الشاعر ليشكل أبياتاً ذات معان دالة.. وهذه الأشكال هى التى تتناغم على سطح اللوحة بفرداتها وألوانها وتوافقها، كما أنها تمثل للمشاهد الخيوط الأولى التي يتكون منها نسيج العمل الفن.. هى أشكال تتحول إلى وحدات متماسكة، ثم تتفاعل مع السطوح المتناغمة لتسمعنا ايقاعاً موسيقياً اختار له النشار المقام والحن بعناية فائقة .
- لقد فاز `عبد الرحمن النشار` بجائزة التصوير فى بينالى القاهرة الدولى لتفرده بالإسلوب ووعيه التام بالإطار العام الذى يبدع فيه.. ينحو نحو التصوير الحديث من ناحية السطح والتشكيل.. وفى نفس الوقت يحرص على التمسك بهويته الشرقية، لم يتأثر بفنانى أوروبا الذين استلهموا فنون الشرق وأعادوا صياغتها فى أسلوب أوروبى، كما انه لم يحاك أساليب التصوير الحديثة الوافدة إلينا من أمريكا وأوروبا، بل قدم لنا سيمفونية من الألوان والأشكال فى إطار شرقى يذكرنا بالمنمنمات الفارسية فى إيقاعها وثرائها بالألوان والخطوط .
- لقد تأمل... وقرأ.. وعايش فنون الشرق فى أشكالها المتعددة، واستنبط أسلوباً خاصاً يوحى بسحر الشرق، كما يشبع رغبة المشاهد فى البحث وراء التفاصيل الدقيقة، مثلها مثل الفراشات التى تتجمع بألوانها الزاهية لتمتص الرحيق من الزهور المتناثرة، لتخرج لنا مزيجاً من هذا الرحيق له مذاق خاص يشف عما يضمه من عناصر لها قيمتها فى بعث الروح المتفائلة من جديد.
- وعندما نتأمل السطح الذى يضم هذه الوحدات والإيقاعات والأنغام الملونة نكتشف قدرة الفنان على الإيهام بالسطوح المائلة، الغائرة، البارزة فى نسيج واحد متكامل رغم تعدد السطوح وتفاوتها وتناغمها فى إيقاعات متغيرة .. دون أن تفقد العمل الوحدة العضوية.
- ومن خلال أعماله يتضح لنا أن الفنان ` عبد الرحمن النشار` اختار معادلاً تشكيلياً لقصيدةٍ أو قطعة موسيقية من مقام الربع تون الشرقى هى مزيج من الإحساس المتصوف المتأمل والرغبة الواعية بالثورة على التصوير التقليدى المعروف أوالتصوير بإسلوب الفن الغربى الحديث.
- إن ما قدمه ` النشار` بكل المقاييس جديد يحقق الإبهار والحداثة، كما يمثل ركناً هاماً فى التصوير المصرى الحديث.
بقلم : حسن عثمان
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية - أكتوبر 1995

- يعيش `النشار` بين رومانسيته الحالمة _ التى تغلف شخوصه فى الحرب والسلام ـــ والتعايش والبناء من أجل مجتمع أفضل ـــ وبين صراعات الشكل المجرد والفراغ والتضاد اللونى الجريء وملامس السطوح المطلقة منها والهندسية مصاغة فى تراكيب انفرد بها بجهد خاص، بعيداً عن تلك العقلانية الجامدة لكى يتيح لشعوره الذاتى إسقاط الكيف فى أصالة.



بقلم : حامد ندا
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية

إن اختيار المصور`عبد الرحمن النشار` بذكاء للعناصر العضوية والهندسية ليؤلف منها أعماله يعطى لنا رؤية جديدة للعالم الذى نعيش فيه، وربما للوهلة الأولى عند النظر إلى أعماله نجدها تخاطب العقل، ولكن بعد التعرف عليها نجد فيها وجدان الفنان وحساسيته الشرقية.


بقلم : ممدوح عمار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية

- التطور هو نتيجة حتمية للصراع أياً كان، وعندما يتحدد هذا الصراع بين عنصرين متضادين فى التشكيل يصبح التطور نوعاَ من الإبداع وهذا ما هو ما نجده فى أعمال `النشار` نتيجة للصراع بين العضوية والهندسية. وبظهور`العضوسية` هذه فى أعماله الأخيرة بزغت آفاق جديدة فى عالم التشكيل المصرى المعاصر.



بقلم : سامى رافع
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية

`عبد الرحمن النشار ` فنان ينحت سطوحه بفرشاة حادة ليمنحنا متعة للبصر والبصيرة؛ فالعين تبصر أشكالاً عصرية، والنفس تنبهر بمعاناة فنان .



بقلم : مصطفى أحمد
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية

- فن `النشار` يعتبر إضافة جديدة إلى مفهوم التصوير المصرى الحديث؛ نظراً للإضافة الجديدة التى أضافها من حيث الحجم الضوئى وانتقال الصورة من حدود البعدين إلى البعد الثالث، وهى الإضافة التى تحقق للتصوير خروجه من أسواره الضيقة المحدودة إلى عالم الرؤية المعاصرة.


بقلم : صالح رضا
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية

- النظرة الهندسية عند `النشار` تؤكد استقرار الرؤية التشكيلية التى ترجع جذورها إلى التراث الشعبى؛ حيث عاش الفنان صباه، وعندما تلعب هذه الأشكال الهندسية مع مثيلاتها العضوية تربط العقل بالوجدان؛ فكلاهما ضرورى عند الفنان فى مراحل إبداعه الفنى.. جديد وأصيل..

بقلم: رمزى مصطفى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( من كتالوج معرض النشار العاشر 1980)

` ... فى ذلك المزج بين التجريدية الطابع والتعبيرية العميقة تكمن عبقرية `النشار` فتوحى الأشكال العضوية بأنها شذرات اختيرت من محتوى أعظم. وأيضاً تكاثف وتباين الأشكال يمنح اتساعاً غير عادى فى مسطحات أعماله. وبالإضافة إلى ذلك فإن الضياء اللونى المنبثق من جزئيات الأشكال العضوية يعكس تضاداً عجيبا لما يكمن فى الواقع المادى.. `

بقلم : دافيد سكاف
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (معرض واشنطن بوست 21- 4- 1976)

ابتداع `عبد الرحمن النشار ` عالمه الخاص المستوحى من السطح والفراغ واللون فى الفن الهندسى الأسلامى. وهذا الإبداع ليس مجرد فن للفن بل رغبة فى إيجاد المطلق فى نوع من الوحدة تناظر وحدة الكون وتعكس إيماناً عميقاً بالخالق.


بقلم : عز الدين حمودة
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية
عالم من الآلات مليء بالهزيان يتولد من أعمال `النشار`
- تتسم أعمال `عبد الرحمن النشار` بغلبة المناخ السوداوى الزاعق الذى يتحول أحياناً إلى مناخ الدمار الشامل لنهاية العالم. وإن كان يجتذب الإعجاب بسبب هذا الجانب الساحر؛ كما تنجذب الفراشات على نور اللهب.
فأختياره لموضوعاته يعتبر مؤشراً للطريقة التى سيتناولها بخطوطه الحادة وغير المستقرة ، فتبرز تكويناتها التأثير الآلى الذى يريده الفنان بألوانه الهادئة وتعبيره الشديد الدقة والعمق..
- وتعتبر الأمومة ــ المرأة الحامل ــ من الموضوعات التى يكررها الفنان والتى تسيطر عليه، وتحتل الشخصيات النسائية مساحة كبيرة من لوحاته فى إنتظار أهم حدث فى حياة كل امرأة..
- كما عالج `النشار` موضوع الحيوانات من خلال نفس الرؤية : التشويهات الدقيقة لأشكال البقر والجاموس، تتلاقى فيها الخطوط المعقدة، والزوايا المتداخلة، والنقاط ذات الأسطح الخشنة تعطى تأثيراً مدهشاً.
- وفى قوة نرى ظهور وحش معدنى أشبه إلى الديناصور، يمد أعضاءه المتقطعة فى درجات من اللون الازرق النحاسى فوق خلفية زرقاء قاتمة. وعند تناوله لموضوع `السد العالى` يلجأ الفنان إلى كل الأدوات من أجل التعبير الراقى فى لوحة كبيرة يسيطر عليها الأخضر والبيج والألوان الترابية.
- ولكى نستريح من كل هذه الغارات فى هذا العالم المليء بالهذيان ويسيطر الآلة، يقدم لنا `عبد الرحمن النشار` لوحة ` بورترية` غاية فى الجمال حيث تظهر قدراته شديدة الإرهاف، كما نرى فى لوحة `البحر الساحر` إلتفاف المراكب الشراعية البيضاء حول الصخور فى لون بنى فاتح، فى وسط المياه.
- استخدم `النشار` مادة الفخار المصنوعة من الطفلة التى تلتفت وتظهر علاقات؛ مكونةّ أحجاماً كبيرة من الفراغ؛ حيث يبرز على السطح من وقت لآخر مربعات صغيرة براقة من الخزف تدل على الفكر المبدع وخصوصية هذا الفنان الشاب صاحب المواهب اللامعة.
بقلم : ديمترى دياكوميدس
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (جريدة بروجريه إجيبسيان 19مارس 1965 )
النشار : التصوير والنحت الجديد
- فى هذه المجموعة الجديدة من اللوحات يستحضر `النشار` شخصيته من خلال التأمل العميق والإحساس بالمادة، والتناغم الرفيع، فيقدم لنا تكوينات كبيرة تشمل على موضوعات تبدو فائقة التأثيرية - إذا جاز لنا التعبير- وإن كانت ذات واقعية ٍبصريةٍ أكيدةٍ ينهلها من المصادر الثلاثة التى تلهمه: مدينة الإسكندرية، وعزته الأفريقية، ورغبتة فى السلام.
- ولدى `النشار` حس الديكور الجدارى، ولكلٍ من الموضوعات النبيلة التى تعامل معها شكل `النشار` لوحةُ ضخمة تجمع كل الأفكار والعناصر التى أوْحَى له بها هذا الموضوع ، لوحات ذات رنين موسيقى جميل، مرتبة مثل لوحات `جيروم بوش` بإيقاعات متماوجة وتناسق يمر من الرماديات إلى اللون الأصفر بكل درجاته، ودرجات الأحمر المغردة التى يمكن بسهولة تحويلها إلى أعمال نسيج رائعة.
- يتغنى `النشار` بمدينة الإسكندرية فى لوحاته شبه التجريدية مضفياً عليها طابعاً رمزياً: الشاطيء المشمس، بشمسياته المفتوحة التى يتلاعب بها الرسام مثل `المشكال` أو `المطوية` التى تبدو وكأنها ترقص رقصة ريفية، والشاليهات التى تتراص فى خطوط أفقية رمادية وبنية وصفراء وزرقاء.
- ينقل إلينا `النشار` روح أفريقيا فى كتل الألوان التى تحقق توليفاً بين فنون هذه القارة بالأقنعة المتراصة والوجوه المقلوبة، وبين منمنمات الكتابة العربية، وأشكال عضوية أو معمارية أو حرة أو هندسية تجمع بين الرشاقة المتحركة للحداثة، وإستاتيكية الفن البدائى.. وفى لوحة `رجل أفريقيا الجديد` يتباهى بإيمانه بقدرته على العمل، وبالذكاء والعزة الأفريقية؛ وذلك من خلال رسم يتميز بجرأةٍ جميلة وألوان تأثيرية وجسارة وقوة فى التعبير.
- وأخيراً، موضوع `الحرب والسلام` يتيح لخياله أن ينطلق فى مجموعة من اللوحات ترمز فيها اللكتل الداكنة المكونة من عدد لانهائى من العناصر، لوحش الحرب، وتصاحبها شخصيات وانفجارات من الألوان الحمراء وانسياب ألوان رمادية وسوداء ذات تأثير مدهش وأصداء ممتدة وعميقة، ويقدم كل هذه الرموز فى إيجاز أخّاذ يدل على تحكم فنى حقيقى.
- وفى مجال النحت، تكتشف القطع المصنوعة من الفخار - ذات الشكال القوية والمتوازية - عن حب للأحجام والكتل، وعن فنان لديه حس معمارى متميز، وأخيراً، مجموعة من الرسومات الرائعة الجمال بالجواش أو بالأقلام الشمع ، يكتمل بها هذا المعرض الذى يجب أن يكون الأتيليه فخوراً باستضافته.
بقلم : ديمترى دياكوميدس
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (جريدة لبروجريه إجيبسيان مارس 1967)

- عندما ينتفى تمثلٌ الطبيعة فيما نطلق عليه الشكل المجرد خلال انتظام دينامى ، تتدفق المعانى اللامحدودة، وتطوف بنا عوالم تتفاعل فيها المادة والروح، إنه العطاء لمدركاتنا المحدودة بالأشكال والخطوط والألوان وما ينبثق منها من طاقات للمدرك اللانهائى لعالم الجمال المطلق.
- يقدم لنا `النشار` فى معرضه الثانى عشر ـــ امتدادا لماضيه الفنى الطويل ـــ بلورة عميقة لعلاقات الشكل المجرد الهندسى والعضوى، تحديات صارخة، إنها منهج ونمط منفرد لهندسة عضوية أو هندسية شاعرية تتحرك فيها المفردات والفراغات فى إحكام رياضى متكامل، إنها بلاغة الأشكال المجردة وما يتولد عنها من طاقات وعطاء لمعانٍ مرهفةٍ لا تتكشف إلا عن حدس صوفى، أو حالة من الوجد الخلاق.
- يكشف لنا `النشار`فى أعماله عامة وفى تكويناته الثلاثة خاصة والتى أطلق عليها `ملحمة الكون `إشعاعات من النور تنتشر فى ترنيمات لا نهائية يصعب علينا إدراك مصادرها. إنه نور باطنى يتخطى محدودية اللحظة الى أغوار الانتظام الكونى فى حركته.
- يضيف `النشار` بعداً جديداً فى أعماله التى أطلق عليها مسمى ` منظومة ` ؛ حيث تصدمنا بساطة المفردة المستخدمة ـــ يستحيل تحقيقها فى الواقع المرئى ـــ والتى تتحول عن طريق التضاعف إلى منظومات بصرية هى تسبيحات وابتهالات روحانية ملتهبة.
- إن أعمال `النشار` توحد رؤية البصر مع رؤية البصيرة .. اللانهائى يكمن فى المحدود، الأشكال تبوح بأسرارٍ تتعدى محدوديتها، إنها رؤية كلية دافقة نحو المطلق.
- فاعماله تمثل مشاهد من رؤية كلية، وكل مشهد يبدو كأنه اجتزاء من كلٍ أكبر، يحمل جوهره ويوحى بما هو أبعد من مداه.
- إن هذه الأعمال تتخطى حدود البهجة البصرية الناتجة من الاستخدام المباشر لمفردات تراثية كدلالة للتأصيل، فأعمال `النشار` يتمثل فيها توجه روحى أصيل؛ مما يجعلنا نطلق عليها `إسلاميات تشكيلية معاصرة`.
بقلم : ا.د./ صلاح عبد الكريم
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( من كتالوج المعرض الثانى عشر1987 )

- فى معرض `النشار` الخامس المقام بقاعة إخناتون من 15 إلى 21 مارس نرى 24 لوحة و15 رسماً وتمثلاّ و8 تكوينات من الطمى المحروق `تراكوتا`.. والخط فى كل هذا الإنتاج يلعب دوره الرئيسى بخيالٍ رائعٍ وألوانٍ متجانسةّ أراها فى لوحات `آلات عملاقة`؛ وهى روافع ميكانيكية من وحى الصناعة الحديثة فى بلادنا، وفى `محطة الكهرباء` حيث تبدو أنفاق السد العالى تعلوها التربينات الكهربائية مهيبة التكوين. وتمتد هذه الخطوط الديناميكية إلى الصورة الشخصية الوحيدة من نوعها والتى تمثل زوجة الفنان زينب السجينى .
- ومعرض الفنان`النشار` فى جملته قفزة عالية للخيال الخصب والإحساس الدقيق بقيمة الألوان المتجانسة فى كل لوحة مع موضوعها والتكوين المحكم لعناصر من خطوطٍ تجد طريقها لنلتلقى فى سهولة أو تنفصل؛ لنؤكد وجودها المستقل، بإحساس دراماتيكى مشرب بالقلق.


بقلم : صدقى الجباخنجى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة الجمهورية مارس 1965)

- الدخول إلى كهف الجسد المعتم لاستشفاف النور الرابض والنابض في قلبه هو معرج من معارج روح الفنان في غزوها للطبيعة والكائنات، وعند ذلك تنسحب العتمة إلى الأطراف لتصبح هامشا تنحل عنده الأشعة المنبعثة من قلب الوجود، والكامنة في أعماله.
- العتمة إذن ليس إلا عرضا ظاهريا؛ لأن النور هو الأصل وهو المبدأ، وحين تتراجع البصيرة المدركة لمكامن النور ومتابعة، تَبْسُطُ العتمة عباءتها على الوجود، وتبرز الأشياء في ثقلها الثقيل وتصبح بهجات الروح مجرد ذكريات؛ ومن ثم تصبح بصيرة الفنان هي القوة الكاشفة التي لا بديل لها، والتي تعيد الانتعاش إلى الروح حين تخترق بها كثافة العتمة إلى منابع الصفاء.
- وتدلنا رحلة الفنان عبد الرحمن النشار ومغامراته الفنية في مراحلها المختلقة ـــ التي مثلتها معارضه الفنية العشرة السابقة ـــ على أنه كان يسعى ــ بوعي منه أو بغير وعي ـــ إلى الوصول إلى المنبع، واقتناص المبدأ الماثل في ذلك الجدل بين الظاهر والباطن، بين العرض والجوهر، بين المتغير والثابت.
- وقد ظل `النشار`، يمعن السير في هذا الاتجاه بصبر ودأّب نادريَنْ، شأنه في هذا شأن أهل الطريق، الذين يفدون الأعوام الطوال في مجالدة النفس ومجاهدتها، وفي شحذ البصيرة وإرهاق القلب، بغية الترقي في مدارج الروح. ومعرضه الذي يقدمه إلينا اليوم يمثل خطوة متقدمة على هذا الطريق.
- إن العين ـــ بما في حاسة إبصارــــ ترى الكون في أشيائه المتفردة، والمتفردة وقد توضع كل منها في كينونته المستقلة. وهي لا تملك أن ترى الأشياء الا في هذه الحدود وعلى هذا النحو. لكن الكون الشامل ليس مجموعة هذه الأشياء، بل ربما بدت هذه الأشياء من منظور أهل البصيرة ـــ ومنهم الفنان ـــ عناصر معطلة عن رؤية ذلك الشمول. لكن البصيرة هي القادرة على التغلغل في باطن الأشياء وإدراك ما وراء تعيناتها الحسية المتغيرة من مبدأ شامل وثابت وأصيل. وعند ذلك يتجلى للبصيرة أن الخيرية هي ذلك المبدأ، وأن الشرية في الوجود
- ليست إلا عرضا مناوئا، بل إنه في قلب الجسد الجاسيء والعتمة المطبقة تكمن منابع الخير والنور والبهجة.
- ولو أنك اطلقت بصيرتك في اللوحات الثلاث الكبرى التي يضمها هذا المعرض لتراءي لك كيف التأم المبدأ الواحد المنظم في رؤية الفنان للسماء التي غلبت عليها الزرقة (اللوحة الأولى)، وللأرض التي غلبت عليها الخضرة (اللوحة الثانية)، وللصحراء التي غلبت عليها الصفرة (اللوحة الثالثة). قد تقع العين هنا وهناك في هذه اللوحات على عنصر مازال يحتفظ ــ ظاهريا ـــ بكيانه العضوي، ولكن ما أسرع ما تنحل أمامك هذه العناصر في المبدأ الكلى الشامل المنجلي في كل لوحة على حدة، وفي اللوحات الثلاث مجتمعة، بل في سائر لوحات المعرض.
- عند هذا المدى تواجهنا أعوص مشكلة تتحدى قدرات الفنان بعامة، والفنان المصور على وجه الخصوص، هي مشكلة التعبير عن الكلي بمفردات الجزئي.
- إن الشاعر الصوفي حين يحاول الكشف عن تجلياته الروحية من خلال اللغة التي نستهلكها كل يوم لا يملك ــ مهما اجتهد ــ أن يحبس هذه التجليات مرة أخرى في سجن الكلمات؛ وهو لذلك يصطنع لغة رمزية تبوح بأكثر مما تقول. ومن ثم كان علينا ـــ إذا أردنا أن نلحق بأطراف تجلياته هذه ــ أن ندرك أبعاد هذه اللغة. فماذا في وسع الفنان التشكيلي الذي يستخدم الحجوم والأشكال والألوان أن يصنع لكي ينقل إلينا تجلياته؟
- لقد وجد الفنان عبد الرحمن النشار في التجريد ضالته. وسيبدو للناظر في أعماله للوهلة الأولى أنه يتحرك في إطار اشكال هندسية دقيقة ومنضبطة، وهذا صحيح، ولكنه ليس كل شيء.
- ودون الدخول في تفصيلات التقنية المركبة والمعقدة التي استخدمها الفنان في إنجاز أعماله يمكننا أن نقول إن تكويناته لا تشي بأي تشكيل هندسي آلي، على الرغم من طابعها الهندسي، بل يبدو هذا التشكيل وثيق الصلة بالرؤية الشمولية للكون. وعندئذ تصبح الأعمال الفنية المختلفة التي يضمها هذا المعرض تنويعات لحنية على تلك الرؤية.
- وبصفة عامة يتطلب هذا اللون من الإبداع معاودة النظر المرة بعد المرة؛ لأنه لا يبوح بمكنونه للوهلة الأولى. إنه مصدر لبهجةٍ عصية، ولكن عندما تتحقق هذه البهجة فإنه لا تعد لها بهجة أخرى.
بقلم: أ.د. عز الدين إسماعيل
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( من كتالوج معرض الفنان النشار الثانى عشر 1987)

- قلت فى تقديم المعرض الثانى عشر للفنان `عبد الرحمن النشار` منذ ثمانية أعوام إنه استكشف لنفسه طريقاً وأمعن السير فيه. واليوم ــــ إذ أشهد أعمال معرضه الثالث عشر ـــ أراه ما زال ممعناً فى هذا الطريق منطلقاً فيه بكل ما أوتى من طاقة إبداعيةِ. ولا شك أن معرفة الطريق شيء والمضى فيه شيء آخر فالطريق، ليس مجرد مكان، ولكنه كذلك تجسيد للحركة، والحركة تجسيد للزمان.
- ومن ثم يٌفترض أن المكان هو فى أية لحظة وجود مادى ثابت، فى حين أن الطريق هو الحركة المتصلة، وهو التغير الدائم، ومن ذا الذى يستطيع أن يتنبأ بما تنطوى عليه زوايا الطريق - أىّ طريق ومنعرجاته؟! ومن ثم يصبح السؤال عن الهدف الأخير الذى يُغدُ النشار السير إليه دون انقطاع سؤالاً غير لازم وبلا معنى؛ لأن هدف الرحلة ـــ كما يقول الفيلسوف الناقد المعاصر `جاك ديريدا` ليس هو المهم، ولكن المهم هو ما يتحقق من كشوف عبر الطريق. وفى كل مرة ينشط فيها `النشار` لاستئناف رحلته، وفى كل خطوة يخطوها، وفى كل لوحة جديدة يفرغ فيها ما ترسب فى ضميره، فى عقله ووجدانه، فى رؤيته التى لا تكف عن التغلغل فى باطن الأشياء وتذويبها وتحويلها إلى أشكال باهرة تسحر العين ـــ دون أن تقول شيئاً محدداً - فى كل ذلك يحقق `النشار` كشوفه الجديدة.
- لقد كان `النشار`يسعى من قبل لاختراق المعتم والكشف عن منابع النور، وهو فى اللوحات التى يضمها معرضه الجديد يعلن عن كشفه هذا فى وضوح. ومع ذلك يظل النور الذى ينبجس من كل لوحة يصنع علاقة تضاد متوترة مع الأغوار والدهاليز التى تشى بها `مفاتيح ` تتناثر هنا وهناك أحياناً، معلنةّ أن أبوابا كثيرة مازالت مُطَلسّمة ومغلقة على أسرار تثير فى النفس ضرباً من الرعب والشوق ــ فى الوقت نفسه ـــ إلى اقتحامه.
- وهكذا يظل الفرح الغامر بالكشف، الذى تفصح عنه القيم التشكيلية التجريدية الصرف، تتاخمه بل تزاحمه ــــ تشكيلات عضوية أو تشكيلات تشى بالعضوية، وتبطن عالماً أسطورياً مغلفاً بالغموض ومثيراً للرهبة ومن هنا يحاول `النشار` أن يستبقى نشوة الفرح بالكشف والتغلب على كل العناصر المناوئة بإشاعة الأضواء وبعثرة الألوان المرحة والنفيسة على حد سواء. ويظل المعنى بعد كل ذلك لا معنى؛ يظل مرجاً لأنه لم يحسم، وأظنه لن يحسم، ما دام النشار قادراً على المضى خطوات جديدة فى طريقة اللانهائى.
بقلم : أ.د./ عز الدين إسماعيل
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية - سبتمبر 1995
الضوء .. التجريد.. نور باطنى .. واستشراف للمطلق.. من الأصالة إلى التحديث..
- تقترن هندسة الضوء في بناء الأعمال الفنية لدى فنان الشرق، بإحساس المؤمن بالرهبة والورع والهدوء في آن واحد، لتكتسب مضموناً روحياً..
- النور إشراق استبطاني غير ملموس.. إدراك قلبي لتعاقب الحضور بصورة تبعث على الخشوع والتأمل.. تسبيح بحمد الله غير المنظور.. يستوعب الحياة، والإنسان والكون، والوجود.. إنه نور فطر? منبعث من القلب..
- وفي الفن، ينتشر مسار الدور، الذي يضفى بريقه في تنوع رحب لا نهائي، وتتلاشى بؤر التمركز... من خلال سطوح تخطف الضوء وتعكسه في إشراق باطن? و تلألؤ روحان?..
- ضوئيات تنبثق من أغوار الأشياء.. تتخطى مصادر التأثيرات الضوئية العارضة، متحررة من المظاهر المادية للمفهوم الفيزيائي للضوء.. إلى نور هو روح البصيرة.
- المطلق واللانهائي.. إيمان عميق وهدف تصبو إليه وتتحرك نحوه الحياة.. ليتواري العرضي والعابر واللحظى، ويتأكد الثابت واليقيني والخالد.. إنه استشعار لما هو فوق الحسى. ذلك الإدراك الذي أكده، `عز الدين إسماعيل`، بفكرة اللانهائي المتجاوز للمكان والزمان، كمشاعر روحية عميقة ترسبت في وجدان المسلم.. ، الذي كان يبدع في رحاب المسجد، وهو يستشعر في نفسه الحضرة الإلهية.
- الرؤية الصوفية، وما تتضمنه من مشاعر وقيم وأفكار.. إنها وجد واسترسال للذات، كما عبر عنها الإمام الغزالي بـ`صفوة الخلوة` هي تصفية وتهذيب.. هي درجة كائنة تحت الوحي، وفوق العقل، وأبعد مدى عن منال الحواس.. إن رحلة المجاهدة والخوف والرجاء عند الصوفية.. طريق ممتد يستدعي شاعرية الوجدان والبصيرة، لاستشفاف كينونة المادة في جوهرها، حين تصبح مجرد أطياف مرئية.. إنه طريق التأمل والإبداع..
- المجرد في الفن منطلق جمالي و منطلق تعبيري يتحدد وفق استجابات لمطالب روحية.. تحليل أشار إليه `هربرت ريد` في إبداعيات الفن الهندسي: البدائي والإسلامي والحديث، كما فسر `حامد سعيد` موقفه من هندسيات الفن الإسلامي بأنها تلخيص لكون معمور بالنظام، موسيقىّ الكيان، موحد البنيان، ينم عن واحد أحد ليس كمثله شيئ.. معان ترجمت خلال رموز لوحدات مجردة، وانتظم تركيبها عن طريق تفهم الأسس الهندسية أو المنطق الرياضي لحركة الكون.. هذا المفهوم عبر عنه أيضاً `مصطفى الأرنؤوطي` في قوله: ` الكل المتجانس الناتج عن المفردة الدينامية ذات الطاقة المطردة والقادرة على الانتشار والنمو في كليات لا نهائية، وفي إتجاه موازٍ لذلك الذي تسلكه الطبيعة في مسار نموها واستمرارها...
- التكوينات التجريدية ـــ سواء الهندسي منها أو الانسيابي ـــ التي تطرح لغة الشكل، من رفيع يكشف في الوقت نفسه عن فكرة الظاهر والباطن.. وما يتولد عنها من طاقات روحية.. معان أبرزها `كاندنسكي` في قوله `إن العلاقات في العمل الفني ليست ـــ بالضرورة ـــ علاقات في الشكل الخارجي، ولكنها تقوم على التعاطف الداخلي للمعاني، وهو إدراك عميق، واستبصار بفهم ثاقب للأبعاد الروحانية المجرد في الفن..
- الرمز نبض وجداني مقترن بجماليات الفن منذ الأزل.. وانطلاقاً من مفهوم الفن بما هو شكل ورمز.. أو رمز ومعنى.. تتكشف قيمة الرمز في كونه تكثيفاً وتركيزاً لجوهر التصور، في توحد جمالي يتخطى حدود الزمان والمكان.. سواء تحققت الرموز في أشكال مجردة أم أشكال تمثيلية أم شبه تمثيلية... وسواء أكانت استلهاماتها من الواقع أم المجهول أم صادرة من الوعي أم اللاشعور.. فالرموز تنبيء وتتشكل وفق إدراك حدسى.. وتكشف عن معنى ضمتى يكمن في صميم بنائياتها.. وتدخل المفردات الهندسية في بنيتها واطرادها ونمائها في نطاق مفهوم الرمز... تجريداً لشمولية الجوهر أو رمزاً للفكرة المجردة.
- منطلق نفى الطبيعة والمادة ـــ غياب أشكال التعبير الفني المتصلة بالطبيعة ـــ الفصل بين المدركات المحدودة المادية للأشكال والمدرك اللانهائي لما هو قدسي ـــ ـــ `الجمال المطلق` هو البيئة التي يتحرك فيها العقل والقلب إيماناً بالقدرية إلى مصدر الطمانينة والسكينة.. إنها حركة في كل اتجاه.. وكل مكان ذات ارتباط بين استمرارية الزمان، وأبعاد المكان،.. وبين صراع الأضداد، إنها حركة تقودنا إلى نشوة الرصانة المقترنة بالسكينة ... بالمطلق الجمالي إنه انتقال إلى حالة من ذاتٍ ملهمةٍ قلقة في طمأنينتها.. تقودنا إلى عالم المطللق والمجرد، إنه استشعار وجداني مرهف في بنية السطوح والألوان...
- موروث الثقافة بأبعاد جذورها المحلية والتراثية، علاقة موصولة الحلقات في تواصل التاريخ، وتأكيد الهوية، وتأصيل الإبداع.. فالتراث ــــ باعتباره ماضي الحاضر.. وطبيعة سريانه في شرايين حياة الفرد ـــ عامل هام في جعل الفن يتخطى هوة العلم.. كما أن الاتجاه بضرورة الأخذ بأبعاد الثقافة الغربية ـــ بكل مقومات تقدمها العلمي والتكنولوجي ــ أمر حيوي في الخروج بالإبداع من دائرة الاجترار والتكرار والثبات... فالتلاحم العضوي بين موروث الثقافة وثقافة الغرب هو السبيل للوصول إلى محتوى إبداعي يجمع بين الأصالة وبين التحديث.
- تغيرت غاية الفن من وجود الفنان ونمطه الفني، كاتزان لأيديولوجيةٍ معينةٍ تخضع الفن والفنان في إطار فكرى عام ـــ شأن معظم فنون الحضارات ـــ إلى مرحلة نشأت مع بداية القرن التاسع عشر ـــ أصبحت فيها شخصية الفنان واتجاهه الفني.. نمطاً له استقلاله وتفرده، كقيمةٍ للإنسان الفرد، واتزان الوجوده الإنساني المنفرد؛ بما يعكس فلسفة العصر وأبعادها العلمية.
- يتبع الفنان المعاصر في إبداعه المنهج التجريبي ` التجريبية العلمية` كطريق للكشف عن الجديد.. وتحقيق عالم باطني الأغوار الذات.. وعمق الإيمان وتفرد الوجدان.. ذلك المفهوم الحيوي الذي كشف عنه `زكي نجيب محمود ` عن أهمية أن يستبدل بالمنهج القياسي، السائد في الشرق، المنهج الاستقرائي والاستنباطي السائدين في الغرب ـــ حيث `التجريبية العلمية` وبذلك يتخطى الإبداع حالة الحتمية التي لا تتفق وإرادة التغير من جانب الفنان. إلى حالة الاحتمالية التي تمتد إلى رحابة الإبداع بكل ما يتضمنه من تفرد وأنماط مستحدثه...
- السادة المشاهدين...
- فضلت أن أقدم إليكم جانباً من المضامين الفكرية والمنطلقات الفلسفية التي تشغلني والتي قادتني إلى إبداع أعمالي بمعرضي الثالث عشر.. تاركاً للنقاد أن يتناولوا الأعمال بالتحليل والنقد والمقارنة.. والكشف عن أبعادها الجمالية والتقنية.
- وَرُبٌ سائلٍ يقول : إلى أين يتجه بك الطريق ؟
- أما زال هناك تحديث بعد الكشف عن هذا العالم الجديد؟
- أما زال للطريق بقية ؟
- وأجيب.. إنني فنان عابد لله أتجه بأدواتي من الخطوط والألوان.. فى دأب وتبجيل.. أصلى لله.. وبالصبر والمثابرة.. وبالمجاهدة والرجاء.. وإيماني بالخالق الواحد الأحد. أن أنطلق من حيث انتهيت نحو أبعاد من التجريب لإضافة مزيد من تحديث حضارة العصر.. مضافاً إليها نبرات وجدان.. وجدانٍ فنانٍ من الشرق.
بقلم : الفنان/ عبد الرحمن النشار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (تقديم الفنان لمعرضه الثالث عشر 1996)
الهندسى والعضوى تألف إبداعي للأضداد...
- الأضداد في تباينها مجال رحب وفسيح لتحقيق رؤية تتشكل فيها العاطفة الانفعالية والتنظيم الصارم.. في رؤية تعكس بعداً حيوياً لما هو متوقع وما هو غير متوقع.. هي صدمة التوازن لتوافق التواترات.. هي تجسيد لبعدية المادة والروح.. إنها الطبيعة والإنسان.. هذه الرؤية هي التي تحدد أسلوب التشكيل، وهي الدافع إلى ابتكار الرموز والأخيلة خلال تفاعل صادق لصباغة تنظيم العناصر..
- استخدام الشكل الهندسي يهدف إلى تحقيق نوع من التناغم لعلاقات الأجزاء وتجنب فوضى عدم الانتظام. سواء أكان هذا النظام يتحقق خلال علاقات نسبية أو تناسبية أم انتظاما عدديا، فإن هذا التناول يضفى على بناء عناصر الصورة درجة من درجات التكامل أو الأتساق.
- ترجمة ذات طابع عضوى تتبين الانحناءات وتتعامل مع الانسيابيات بهدف تحقيق تراكيب حية نابضة تفيض بدرجة من درجات المشاعر متعاطفة مع الطبيعة. وسواء كانت هذه الأشكال مضطربة أم متداخلة، رخوة أم صلبة، منسابة ولينة أو معقدة وخشنة، تتأكد فيها البروزات والنتوءات أو تندمج فيها الأسطح والملامس، هلامية التركيب أم متماسكة سالبناء، ممتدة ومتشعبة أم محددة ومجملة، فأنها تتمثل وفق إدراك حدسى للطبيعة له سمات النمو والحيوية.
- مزج بين تراكيب الشكل الهندسي العضوي معاً في تكوين الصورة الواحدة هو ترجمة للطبيعة أكثر شمولاً.... وهذا الافتراض يمكن تحقيقه جمالياً دون تناقض لطبيعة كل من الشكلين. فعن طريق سيطرة أحداهما ـــ الهندسي أو العضوى ـــ على تركيب الصورة، أو توظيف الشكل المجرد، أو إسهام الخطة اللونية ــ سواء أكانت قائمة على التناغم أم التباين أم التضاد، أم التركيز على التوتر بين انتظام الأشكال من حيث مستويات أسطحها ـــ أمكن المواءمة بين طبيعة التراكيب الهندسية وبين طبيعة التراكيب العضوية في تحقيق وحدة بناء الصورة.
- البناء التجريدي للصورة ضرورة لها أهميتها.. فلغة الخطوط والمساحات خلال الشكل المجرد ــ سواء أكانت هندسية أم عضوية ـــ هي منطق جمالي غير نسبي أو محدود، ومفهوم له ارتباط عميق بالطبيعة.
- رؤية الطبيعة هي تعامل مع جوهرها والكشف عن تراكيبها، رؤية تأملية أو ما يمكن أن يطلق عليه رؤية صوفية للطبيعة، وتمتد هذه الرؤية خلال ترجمة لتركيبات ذات أنسجة انسيابية، وتنتظم في تكوينات بعضها رقيق أو هلامي أو شاعري والبعض الآخر خش أو معقد أو صلب.. وهذه التراكيب تمثل في مجموعها الاستطراد النامي والانبثاقات الحية لتوالد الطبيعة أو الحياة..
- زيادة توتر سطح الصورة ليصبح ذا ارتفاعات حقيقية متباينة - متموجة أو منبعجة ـــ وشغل هذه الأسطح بأنسجة انسيابية أو تقسيمات هندسية يسهم في التوافق بين طبيعة البناء للتركيب الهندسي والتركيب العضوي..
- من تفاعل معطيات تلك العلاقات الجمالية في بناء الصورة، أقدم حلولاً لتكوينات ونظم، يمتزج فيها التركيب الهندسي والعضوي تجسيداً لمعانٍ تتوالد من منطلق الأشكال الخالصة أو المجردة.. معانٍ تنبثق من توافق التوترات... إنها رؤية للطبيعة... للوجود.
بقلم: عبد الرحمن النشار
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (تقديم الفنان لمعرضه العاشر يناير 1980

- الفن يتطلب الموهبة والإحساس والحس المرهف ولكن إلى جانب ذلك ــ كالعلم ــ يتطلب الدرسَ والبحثَ والتجربةَ، فبدون الدرس لا يمكن أن تتوفر ذخيرة العمل، وبدون البحث لا يتأتى الفهم الكامل وبدون التجربة لا نحصل على الخبرة العميقة. إن من ألمع صفات `النشار` أنه يتبع هذا السلوب العلمي الجاد الذي يدفع به الى آفاق بعيدة لا شك ستصل به الى اسمى المستويات، وهو في كفاحه نحو هذا السمو يحقق الكثير من التعبير المخلص الصادق فى اللون والشكل والمغزى العميق. وأهم ما يحتويه هو حاسة الغموض التى تنطوى عليها تعبيرات الفهم المخلص للروح التي تنطوي عليها الأشكال ومسطحات الألوان المنسجمة المتآلفة.. ولو أن ما سيتمخض عنه المستقبل لهو بلا شك أعظم بكثير مما نراه فى الوقت الحاضر وعند ذلك يؤتي الدرس والبحث والتجربة ـــ إلى جانب الموهبة والإلهام ــ آثارة الشائقة.


بقلم: د./ عبد الرازق صدقى
ن كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( من كتالوج معرض الفنان الخامس مارس 1967)
النشار.. وتجليات اللحن التشكيلى
- إذا بحثنا عن معادل تشكيلى للموسيقى العربية الأصيلة، لكان أوضح مثال أمامنا هو لوحات الفنان `عبد الرحمن النشار`.
- إن الترديد الإيقاعي ــ المنتظم للصوت النغمي الصادر من آلة العود أو من أله القانون الذي يتشكل من مئات الذبذبات والدندنات الصوتية المتراتبة والمتقابلة في متتاليات بغير نهاية `التي نسميها التقاسيم ـــ يقابله في لوحة ` النشار`: متتاليات ومقابلات منتظمة الايقاع لشرائح من المساحات اللونية، من أشكال المربع والمثلث والمستطيل والمكعب.
- كما أن خاصية `الربع تون` و`الميزان` الدقيق في ضبط أوتار الآلة الموسيقية والمقامات المختلفة التي تميز الموسيقى العربية عن الموسيقي الغربية.. هي المعادل للقانون الهندسي وراء تتابع الأشكال والعناصر، ووراء الانتقالات اللونية والخطية والإيقاعية في لوحة `النشار`.
- أما التجانس والتقارب بين الأبعاد الصوتية ` بما في ذلك القريب والبعيد` الذي نجده في اللحن العربي، على نقيض اللحن الغربي الذي يتبدي فيه التضاد والصراع بين الجمل اللحنية، وهي تتصاعد تصاعداً درامياً، بما يمكن تشبيهه، على نحو ما، بالمنظور الهندسي ذي الأبعاد الثلاثة في اللوحة الأوروبية، فإن ما يقابل ذلك التجانس والتقارب في لوحة `النشار` هو الامتداد الأفقى والرأسي للتكوين على مسطح ذ? بعدين اثنين، وكذلك تکرار الوحدة الهندسية على امتداد ذلك المسطح، وقد تدخلت ألوانها، وأخذت من بعضها البعض بغير تباين أو تضاد، إن حفلت بكثير من الإبهار البصرى.
- فإذا بحثنا عن اللحن الأساسي أو `الميلودي` في الموسيقى العربية، لوجدناه متوزعاً على امتداد المقطوعة الموسيقية، بغير التصاعد الدرامي المعروف في اللحن الغربي، بحيث يصعب تحديد الميلودي في المقطوعة العربية داخل جملة لحنية واحدة.. وهو نفس الشي في لوحة `النشار`؛ حيث يبدو `التكوين` امتداداً أفقياً ورأسياً بغير بؤرة مركزية محددة، وبذلك تصبح اللوحة بأكملها `لحناً أساسياً`، واحداً، لكن كل جزء منها يحمل خصائص اللحن الأساسي أليس ذلك كله من جماليات الفن الإسلامي ؟ وأليس تعبيراً عن الفلسفة الكامنة في جوهر ذلك الفن؟..
- إن الفن فى الحضارة الإسلامية قائم على فكرة التوحيد الواحد في الكل، والكل في واحد، وعلى فكرة الذكر والتسبيح لله الواحد الأحد، وعلى فكرة إمتلاء الوجود بذات الله التي ليس لها بداية أو نهاية، وليس لها أول ولا آخر، وبقدر ما يسكن الله ذلك الوجود الممتد، فإنه يسكن كل جزئية منه... والفن الإسلامي لا ينشد المحاكاة الظاهرية لمفردات ذلك الوجود في الطبيعة، وبقدر ما ينشد التغنى بالجمال المطلق؛ حيث يسمى الفنان إلى الذوبان فيه بروحه، وإلى التوحد مع الخالق سبحانه، ومن ثم كان التجريد بالنسبة للفنان المسلم (العربي خاصة) هو طريقة لتحقيق ذلك كله، وكان الشكل الهندسي في تداخله وتوالده وتكاثره ــ وفق قانون رياضي محكم ــ هو أداته البلوغ مراده، وليس حلاً ــ فحسب ــ لمشكلة تحريم التصوير للمشخصات الحية في الإسلام، كما قد يتصور البعض.
- غير أن فناننا `النشار`، ربيب الثقافة العربية والغربية في أن واحد، لم يكن إبداعة لينحصر في الرؤى الفنية القديمة للفن الإسلامي وحدها، منعزلاً عن حركة الزمن وتقلبات العصر، وتجليات القيم الجمالية في العالم مع تطورات الفن الحديث، وإلاماكن يمكن أن يحظى بصفة المبدع.. إن إبداعه الحقيقي يكمن في إجابته الخلاقة عن ذلك السؤال الخالد في الفن: `كيف يصوغ رؤيته للحياة والكون،؟..فمن هذا الـ ` كيف` العسيرة، خرجت كل مدارس الفن ورؤى الإبداع والتفرد، والهوية الخاصة بكل فنان.
- لقد استفاد `النشار` من كل ما استطاع الاطلاع عليه من ثمار حركة الفن العالمي الحديثة في الغرب، خلال هذا القرن اللاهث بالمدراس والاتجاهات، والمشبع بالمتناقضات والصراعات، استفاد من حركات الفن التجريدي والتكعيبي والسريالي والبصري Optic Art والبروز فوق سطح التصوير Object وفن الخامة materialism في مسارها العام جميعاً بالحضارة الغربية؛ لتحقيق منظومته الإسلامية الجمالية برؤية معاصرة، واذا كانت بدايته الفنية قد حفلت ببعض التأثيرات المباشرة بتلك الاتجاهات الغربية خاصة السريالية والتجريدية الهندسية ــ فإنه سرعان ما واتاه الإشراق الداخلي، الذي مكنه من اكتشاف قانونه الجمالي الخالص له وحده، الذي يتوحد فيه القومي بالعالمي، والذاتي بالموضوعي والعقلاني بالعاطفي، والهندسي بالعضوي، والمادي بالروحاني، والمتعبد بالمتمرد، والمتصارع بالمتصالح والمتجمل بالمتأمل، والمبصر بالمتبصر....
- هنا لم يعد اللحن معزوفة بصرية إيقاعية على آلة عربية رتيبة، بل أصبح اللحن إيقاعه المتعدد المستويات وإشاعه الضوئي المتجدد والمراوغ الذي يصعب تحديد مصدره، وساعدت شرائح المرايا المتداخلة على مضاعفة الغموض الذي يبلغ حد السحر، كما ساعدت على إدخال الرائي داخل نسيج العمل الفني؛ فلا يصبح بوسعه الإفلات منه، أو الوقوف محايداً أو غير مبالِ بل أصبح عليه أن يجيب عن هذا السؤال: من أين يأتي هذا الإشعاع؟.. وماذا وراءه؟
بقلم: عز الدين نجيب
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية- سبتمبر 1995
محاور الجدل الجمالى عند `النشار`
- تعد تجربة `النشار` التشكيلية على امتداد مسارها من ملامح الحركة التشكيلية المصرية المتميزة؛ حيث تتسم بالأصالة التي تصب في بؤرة الحداثة بلا تشنج أو افتعال..
- فالمتتبع لهذه التجربة يجد متعة تضاف إلى متعة تذوقه؛ وهي متعة الاكتشاف والتحرك المستمر والحيوي بين إبداعات `النشار` في المراحل المختلفة. والمحلل المدقق لمحاور الجدل الجمالي عند `النشار` يستخلص ثلاثة محاور أساسية تستحوذ على اهتماماته الإبداعية، وهذه المحاور هى:
- تجاوز المسطح إلى المعماري.
- الانتظام البلوري للصياغة البنائية...
- دراما التفاعل بين العضوي والهندسي.
- تجاوز المسطح إلى المعماري مرتبط بالمحور الثاني؛ حيث إن فكرة الانتظام البللوري للصياغة البنانية لأعمال `النشار` وصلت إلى أعلى مراحلها في أعماله السابقة على مرحلة البنائيات المعمارية. فتظهر موسيقى الأداء التشكيلي على مستويات مختلفة من الهارمونية المنمنمة الدقيقة بين البللورات المتهامسة، وهارمونية أخرى ذات نبرة أعلى وطبيعة بنائية أكثر درامية.
- ومن أجل تأكيد هذا المزيج السيمفوني بين الحوارات الهامسة والحوارات العالية كان مطلب البنائيات المعمارية أكثر إلحاحاً واحتياجاً، ذلك المنطق الذي يطلق عليه `النشار` التعادلية، وهي حالة نجاح التزاوج بين الأضداد، وهى مسعى `النشار` التشكيلى ونهجه الدائم، وهى فى النهاية تحقيق لحالة الدراما في العمل الفنى.
- والعلاقة التى تتبوأ دور البطولة فى هذه الدراما التشكيلية هي العلاقة بين المضوى والهندسي، والتي هي شغل الفنان الشاغل منذ بداية فكره وفلسفته، بدءا من لوحته الشهيرة بمتحف الفن المصري الحديث `مأساة القدس` التى طرح فيها كل تساؤلاته الفلسفية عن الجوهر والمظهر، أو ما يسميه المتصوفة بالظاهر والباطن.
- فهو لا يخضع لمنهج عقلي معملي بحت بقدر ما يخضع لحدس تصوفي روحي في شبق جارفٍ لمس الحقيقة الكلية.. ثم استغرقه بعد هذه اللوحة الهامة مراحل من البحث التصوفى، تلك المراحل التي كانت تطغى فيها الهندسيات وتتكرر في إلحاح، ولكنها كانت مرحلة هامة للنشار.. مرحلة تمثل قيمة التنامي الدرامي، أو تلاحق السرعة واللهفة التي تسبق الوصول إلى الهدف، وكانت العلاقة بين العضوي والهندسي في هذه المرحلة علاقة عقلية ومعادلات جمالية يحاصر فيها دائماً العضوي بالهندسي، ويبدو العضوى أكثر حركية وغلياناً جياشاً وسط الحصار الهندسى وكأنه أتون متقد..
- وفى أعماله الأخيرة ينطلق العضوي من عقاله زاحفاً، يجتاح الهندسي متوغلاً لا يغطى الأسطح فقط، ولكن يعتلى البنائيات، ويحتضن البللورات ونذوب فيها أحيانا، ويحقق ذلك تشكيلياً بظلالة اللونية الجديدة التي أكسبت لوحاته قوة تعبيرية جديدة.. نكتشف معها بواطن الأشكال وتوحدها في تزاوج رائع يؤكد أن قانون الكون نوتة موسيقية مسطورة بعناية.. واين العازف الماهر؟
- تحية إلى عازف شكل أعذب ألحان التصوف والرؤى الكونية الفاحصة، المتمعنة، وإلى مزيد من التعمق والغوص في جوهر الحقيقة الكلية مع النشار.
بقلم: على نبيل (مدير متحف الفن الحديث سابق-1995)
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية

- الفنان `عبد الرحمن النشار` - بعد ما قطع رحلة طويلة مع الكل الكثير التفاصيل التي تتداعي في تجاورٍ شديدٍ مؤلفاً ما يشبه الأنسجة الحية تحت المجهر باحثاً من خلال ذلك من تكنيك منفرد خاص به وحده ــ وجدناه يقدم أعمالاً بدا العقل متحكماً في تصميمها بحيث يعادل ذلك التداعي التوليفي؛ خالقاً باستخدامه للألوان الصريحة الزاهية وبخاصة الأحمر المتوهج ما بدا كنقاط من ضوء باهر يشد البصر بعنف إليه ثم يدفعه إلى بقية أجزاء الصورة ذات التلافيف التى تبدو كنقط عضوية عند الآداء في الوقت الذي هي فيه مقصودة ومحددة الشكل تماماً.



بقلم : فاروق بسيونى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة المساء - إبريل 1975)

- استطاع الفنان `عبد الرحمن النشار` من خلال ما يبدر كالمزاوجة الحميمة بين عقلانية المصمم التجريدي الحاذق الصارم هندسيا من ناحية، وحيوية وتدفق التعبيرية الكامنة في لمسات الفرشاة المنطلقة في حيوية لدى المصور الإنساني النزعة من ناحية أخرى، مزاوجة تبدو كالحوار المتكافىء، الذي تتولد منه تلك التوليفات المثيرة، برغم أن مادتها الأولى أشكال هندسية بسيطة كالمثلث والمربع والدائرة ، يضعها داخل نظام محكم محسوم، مما يجعلها تبدو كما لو كانت قد أفصحت وانتهت، ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك وحسب؛ لأنه في تلك الحالة سيكون قاصراً، لا يزيد عما يسمى باللعب العقلاني المنظم، وإنما يبدأ بعد بناء الهيكل التصميمي العام في بث ذلك النبض الآدمي في الأشكال ، يملؤها بتلافيف وانعقافات تشبه قطاعات تشريحية في نسيجه البنائي، فتعادل بتحررها وحيويتها صرامة الهندسة التصميمية الساكنة وتغنيها.


بقلم : فاروق بسيونى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية - 1978

- فكرة `الشى فى ذاته` التى وضعها، سارتر، تتردد مع كل بناء عضوي وهندسي كل على حدة في أعمال الفنان `عبد الرحمن النشار`. ولم يعد هدفه خلق تكوين جميل لذاته، وإنما تركيب علاقة توافقية لذاتها بين كائنين متناقضين تمام التناقض.. فلديه القدرة على الإدراك الديناميكي وليس الإدراك الجدلي في عملية مزج النقيضين شكلاً وحساً.
- `انتشار` غير متخوف من عمليته التوافقية، ولكن حرصه الزائد جعل العلاقة تركيبية ميكانيكية.
- وليست مزاجية كيميائية
- ونجاحه الشديد في عملية التركيب هذه ــ وليس المزج ــ جعل كائناته تتكلم لغة تتسم بالحركة؛ فهي متحولة غير مستقرة تحيا كا نريد.
- ورغم صعوبة الربط الروحي بين الأشكال العضوية إلا أن تعدد جوانبها وزواياها وسرعة حركتها وتغيرها كالوجود المتناقص تماماً الغامض أحيانا.. يدفعنا هذا إلى أن نعمل في وقت واحد عقولنا وأحاسيسنا.... فيالها من محاولة جادة ومستمرة من فنانٍ ملتزمٍ ولا ينقصه الحماس لتفتح عقولنا وقلوبنا لإعادة النظر والقبول مبدئياً لأشياء ومواقف كثيرة قد تبدو لنظرتنا الأولى جامدة وحاَدة، بل ومتنافرة..
- فهى رحلة بحث من خلال المطلق للنفاذ لجوهر العالم كزمان ومكان في امتداده اللامتناهي النسبي دائما.
- وأعمال `النشار` رغم قسوتها الظاهرية، فهي مرنة؛ حيث تتضمن الكثير من وجهات النظر تتيحها للمشاهد؛ نظراً لعدم تقيدها بشكل محدد يربطها برؤية سابقة، وإنما هي رؤية مفتوحة الكائنات عضوية فضائية الشكل ممزقة، ولكنها تصارع وجودها في مواجهة عالم بلغ من الصرامة مداه.. فهل هو إصرار الحياة أم هي رحلة بحث عن الحقَيقة أو الذَات الضائعة. ويخال إلينا أن `النشار` أسقط من نفسه الكثير على كائناته إسقاطاً شديداً فاندمجت الأشياء بذاتها منفصلة عن المحيط الخارجي في وحدة متعصبة.
- والتكوين في أعماله التصويرية متزن في علاقات محسوبة بين أشكال الهندسية الفضائية؛ ففى أعماله يولد الكائن العضوى الحي من الشكل الهندسي الصارم؛ فكانت لحظة الميلاد الرائعة والناجحة جداً. وفي النهاية مازلت أتعجب: كيف للنشار بذلك العالم المتفرد الشخصية المتنافر المتوحد في أنٍ واحدٍ؟
بقلم: فاطمة على
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (جريدة آخر ساعة يونيو 1979)

- يندر خلال العقود الثلاثة الأخيرة من هذا القرن أن نجد فناناً منكباً على فئه مؤمناً برسالته مخلصاً لصنوف الحياة المرتبطة بالفن، واهباً كل اكتراثه وكل اهتمامه لقضايا الفن... وهذه الندرة التي نتحدث عنها هي قدرة عالمية تنطبق على كل بلاد الدنيا ومنها مصر بطبيعة الحال.... ويعتبر الفنان `عبد الرحمن النشار` واحداً من هذه القلة القليلة التي قد لا تعيش بالكامل من الفن ولكنها تعيش الكامل من أجل الفن، وهو أمر - كما سبق أن ذكرنا - أصبح نادر الوجود لذلك نرى `النشار` ينغمس ويذوب بكامله داخل العملية الفنية حتى في مراحل إعداده وتجهيزه لـ `التوال` الذي يرسم عليه، يتابع ويخطط وينفعل يهدأ ويصفى ويصمت، ويصل إلى أعلى درجات الرهافة، ثم يعاود الغليان والهدير والفوران.. هذه في طبيعته، وهي طبيعة نقية صافية تلقائية توجهها انفعالات شجاعة وخطط متماسكة تحكم قبضتها على هذا الفوران وتنظيمه. إن موجات التنوع هذه تنطبع على النشار وتصنع منه شخصية متميزة ومتفردة.. كل هذه السمات تنعكس بكل صدق على أعمال `النشار` وعلى إختياراته البصرية؛ فنراه ينفعل ويجيش صدره وتشتعل مشاعره، لم يتحول هذا الانفعال تدريجياً إلى خطط محكمة سرعان ما تجد طريقها إلى التنفيذ.. وتراه يقسم انفعالاته وخططه هذه إلى قسمين أساسيين: القسم الأول هندسي واضح وصريح تعتليه سمات الزهو والفخار والتألق.. ويستطيع المتلقى أن يلحظ بكل يسر هذه المسطحات الهندسية ويتابعها وهي تتجاور وتتشابك وتتداخل أحيانا، يتابعها المتلقى وهي تتصاعد وتلتقى وتغوص في الأفق البعيد، ثم تعاود الظهور والتألق لتصنع نسيجاً متماسكاً قوياً ورصيناً ومتفائلاً.
- على الجانب الآخر نلحظ أنه من بين المسطحات الهندسية ، من بين أبوابها الداخلية ، أو من حول أسوارها الخارجية، ينبثق القسم الثاني الذي يأتي في هيئة عضوية ويختلف تماماً مع ملامح القسم الأول، إلا أنها تتجانس معها وتجاورها وتصنع بدراماتيكية مذاقاً مختلفاً تماماً عن القسم الأول، إلا أن الفنان يكمله ويعانقه ويحقق الحلم الأول الذي أراده في لحظات انفعالاته الأولى.
- ولا شك فى أن اللون يلعب دوراً هاماً ورئيسياً في بناء أعمال `النشار`، وهو دور شاق ومرهق لأن عليه أن يوجد أو يسهم بقدر واسع في التوحيد النسجى بين العناصر الهندسية والعناصر العضوية، كما أن الإيقاع عند `النشار` له دور بالغ الخطورة والأهمية، وهو يعتمد عليه كثيراً في تحقيق التجانس والتفاعل والالتقاء بين الهندسية والعضوية، وهو يلجأ إلى حلول متنوعة لإحداث الإيقاع كما أنه يخوض مغامرات محسوبة لإحداث ترابط ايقاعي بين الأسطح المتعددة في أعماله الأخيرة ...
- إننا في هذا المعرض الكبير نقف - بالصدق والحق - أمام فنان كبير استطاع أن يواصل رحلته الفنية عبر أسفار بدأها بالواحات التي ترين صحراء مصر.. إننى أستطيع أن أتخيل من خلال منظور بعين الطائر الامتداد الهندسي للمسطحات الصحراوية الواسعة والشاسعة تتوسطها وتتخللها بقع الواحات العضوية الخضراء.. إننا أمام فنان كَرّس كل جهده ووقته وعواطفه لخدمة هذا التكاتف وهذا الالتحام الكبير بين الهندسية والعضوية، وهو رائد من رواد هذا المضمار لابد من الانحناء تحية له .
بقلم : فرغلى عبد الحفيظ
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية- 1995
معرض النشار الخامس
- يعرض `النشار` 48 لوحة أيضاً .. وهو رغم انطلاقه فى تجربة خلاقة إلى التلخيص والتجريد الرومانسى الذى يوحى فى بعض لفتاته بالروح السيريالية.. إلا أنه لم يتخلّ فى كل لوحة عن الموضوع المحدد.. فهو يصور لوحة عن الموضوع المحدد؛ فيصور موضوعات عامة مثل (ضراوة).. ثم يصور موضوعات محددة مثل (فى العّيادة) و (سيدة وشمس) و( آلات عملاقة).
- وتذكرك مجموعة من لوحاته بأعمال الفنان `صلاح عبد الكريم` التى يستخدم فيها خامات الحديد فى النحت بأطرافها المدببة الموحية بالعنف وحدة الصراع.
- ويمتاز `النشار` - على كثيرين من الذين يتجهون إلى التلخيص أو التجريد - بارتباطه العميق بروح الموضوع وشحنة التعبير عن جوهره. فلا يشغله الأسلوب أو معالجة الشكل عن أساس العمل الفنى.. وهو فى لوحة (العيادة) يهدف إلى تصوير المعاناة والآلام التى تحسها الأمهات الحوامل... فيستبعد التفصيلات ويستعين بالألوان القاتمة، وكأنه يريد أن ينقل إلى المشاهد قصة طويلة فى عبارة أو كلمة واحدة .. بكل مدلولاتها وجوهرها..
- إن `النشار` يندفع بحماسٍ شديد فى تجربة من أعماله تؤكد أنه جاد على طريق تعميق مفهوم العمل التشكيلى فى فننا المحلى..

بقلم : كمال الجويلى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة المساء 23-3-1965)
عبد الرحمن النشار .. الحرب والسلام فى لوحاته
- هو الفنان `عبد الرحمن النشار` ... واحد من طليعة فنانينا المصورين الذى شغلتهم القضايا والموضوعات الإنسانية؛ فسجلها فى عدد كبير من لوحاته؛ منها مشكلة فلسطين واللاجئين ومأساة القدس والحرب والسلام وأفريقيا؛ واستغرق ذلك فترة طويلة من حياته الفنية.
- ومنذ تخرجه من قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة سنة `1956` وهو يبحث عن أرضٍ جديدةٍ فى الفن الحديث التجريدى والسريالى.. فهو يؤمن بمنطق ترتيب الشكل مع اللون؛ ليعطى الفن المطلوب الذى يترك للمشاهد أن يدركه بمفرده من اللوحة.. وهو يتخذ من الإنسان نموذجاً يستوحى من الحلول التشكيلية والتصويرية فى لوحاته... يترجم بخطوطه المعانى الإنسانية إلى رؤية تشكيلية بأسلوب درامى فيه صراحة وعنف، وخاصة فى مجموعة الألوان التى يستخدمها.. تتجاوب فى أعماله اللمسات الدافئة مع طريقة الأداء، ويوازن بين الشكل والفراغ وبين التشخيص والتجريد وبين الصور والرمز .. يستلهم الشكل الخارجى والروح معاً.. فإذا تأملنا مجموعة أعماله الأخيرة وجدنا تراكيب غريبة من الأشكال والألوان ترمز فى النهاية إلى إشراقة الأمل التى تلوح أمام الفنان بانتصار قوى الخير انتصاراً حاسماً على قوى الشر وأعداء الحياة .. كل ذلك مع الالتقاء الوجدانى والارتباط الوثيق بين الفنان وبيئته التى تأصلت فيها جذوره الفنية.
بقلم : ليلى القبانى
من كتاب عبد الرحمن النشاروسيرته الإبداعية (مجلة الشباب وعلوم المستقبل- العدد 6 - السنة الأولى يناير 1977 )
عبد الرحمن النشار
- التكوينات المتحررة فى أعمال عبد الرحمن النشار واتجاهه إلى عدم الإذعان لقوانين التكرار الفنية، أدت إلى احتفاظه بطاقةٍ قويةٍ من الأحاسيس تظهر بصفةٍ خاصةٍ فى أعماله المبكرة.
إن حساسية هذا الفنان `قريب السجينى ` تبلورت من خلال التعبير باللون عن التجريدية الهندسية المركبة.
- ويلاحظ الناقد ديفيد شاف : ` أن تلك العائلة من الأشكال العضوية الفوضوية ـــ التجريدية فى تصميمها، فى تفاعلها مع مسحات من الظلال اللونية العتيقة كالأكسدة المألوفة كعلامة مميزة فى الفن الواقعى فى التصوير ، هذا هو مفتاح عبقرية النشار، أن تفسير أعمال النشار تقع فى مجموعتين احداها يتمثل فى الالتزام الشديد والمنضبط بفكرة كلية الوجود مستخلصة من النماذج الأوروبية، بينما يتضح فى الناحية الأخرى شعر صامت أولى ومتمرد ومعاند للنمطية`.
- إن اللوحات الخشبية البارزة الكبيرة التى نفذها النشار ـــ بعد عودته من التدريس لسنوات طويلة بالسعودية ــــ تعد نقطة تحول بارزة فى تطوره الفنى انها توضح أن تعبيريته قد تعادلت مع حماسه للحلول `من نوع السهل الممتع` التى استقاها من دراسته لأساسيات الفن الإسلامى.
- إن الأعمال العضوية المبكرة للفنان والتى كانت تقوم على وحدة مفردة لها اصداؤها لتصميمات خلايا النحل التى تتجلى فى المقرنصات المدلاة من أسقف المساجد، تتداخل مع عناصر تصويرية، وأخرى بارزة، ومحققة خداعاً بصرياً غنياً، يراوغ العين ويغمر المشاهد بحالة من التشبع والسعادة.
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (

بقلم : ليليان كرنوك
من كتاب الفن المصرى المعاصر - 1995
العضوى والهندسى عبد الرحمن النشار
- صراع قائم كان داخل وجدان الفنان `عبد الرحمن النشار` بين ما تلقاه فى كلية الفنون الجميلة التى تخرج فيها عام 1956 من أصول وقوانين وقواعد الأكاديمية التقلدية المعتمدة أساساً على التشخيص على أيدى أستاذته `بيكار` و`عز الدين حمودة` و `عبد العزيز درويش` ومدرسته النظرية التربوية التى كانت تتبع أحدث أساليب التجريب فى إجازة أبنائها للقيام بالمهمة التعليمية؛ حيث انضم إليها `النشار` وصار أحد أعضائها المجددين يختلف ويتفق، يتحاور ويجرب.
- وكان للفنان `مصطفى الأرنؤوطى` الدور الكبير المؤثر فى هذا الصراع .. وفى تحول `النشار` خطوة خطوة نحو التجريد؛ ففى معرضه الخاص الخامس عام 1967 شاهدنا زيادة فى معروضاته المجردة.
- وتعتبر لوحته `مأساة القدس` الفائزة بجائزة التصوير الأولى فى صالون القاهرة عام `1968` آخر لوحاته التشخيصية للعبور إلى تجديداته الهندسية أثناء تفرغه الفنى.
- وذهب `عبد الرحمن النشار` إلى `المجر` ليلتحق بأكاديميتها للفنون الجميلة ببودابيست عام 1969 ، وكانت ` الواقعية الإشتراكية` أسلوب كل الفنون والأداب هناك.. وأثناء دراسته جاء ` فيكتور فازاريللى` المجرى الأصل إلى بودابيست محتفياً به؛ لما حقق من شهرة عالمية، ولاكتشافه نظرياته البصرية فى اللون والهندسية التجريدية؛ حيث أقيم له أضخم معرض شغل جميع قاعات المتحف القومى بأدواره الثلاثة فى `بودابيست`؛ ذلك الأمر الذى أثر فى وجدانه وأكد وجوده إلى جانب التجريد.
- لقد وجد `عبد الرحمن النشار` فى `المربع ` - المعروف بأنه أحد الأبجديات الغزيرة فى المعرفة الإنسانية - لغة تعبيرية متواصلة.. متجاوزة حدود الزمان والمكان.. وكما كان المربع لدى اليونان يرمز للأرض والعناصر الأربعة ( الماء ـــ الهواء ـــ النار ـــ التراب) فإن المربع عند العرب أيضا لا يعرف السكون، ولم يفرقوا بينه وبين المكعب والرقم الرباعى.
- ولم يترك `النشار` المربع يسجله على حاله بل جزّأه إلى مربعات داخل مربعات، شاغلاً الفراغ البصرى بمربعات متساوية ومختلفة، متباينة ألوانها ومتناقضة، تظهر أشكالها الداخلية فى أشكال محدبة أو مقعرة نتيجة تواصل أقطارها أو اختلاف درجات الوانها.. واستمر تجريبه وتوالد عناصره إلى أن توصل إلى تعقيدات `شطرنجية` تداخل فيها الإدراك الفراغى بين `الشكل والخلفية`؛ لتدرك عين الرائى حقيقتين متناقضتين، تميز ما بينها من متناقضات متبادلة.. بين الأمامى والخلفى، الزائد والناقص، الضوء والظل، العلوى والسفلى، التى أوحت للفنان برفع وإبراز المربع عن أخيه التوأم من زواياه الأربع.. أو زواياه المتجاورة أو المتقابلة... وهنا تبدل حال المربع الغائر وأختلف عن المربع البارز فى زواياه .. ولم يقف الفنان عند ذلك الحد، بل جعل تلك المربعات المتكررة والمتشابكة فى نسيج اللوحة تنحنى وتتقوس.. تذكرنا بالمقرنصات المميزة للعمارة الإسلامية.. كأنها ثريات معلقة فى السماء عجنت ونحتت من نورٍ، لا تكاد العين أن تفرق بين المقعر والمحدب.. بين السالب والموجب.. بين الذاتىّ والغائر.
- لم يشأ `عبد الرحمن النشار` تكرار تلك العناصر والدخول فى حلقة دائرة مغلقة ... فترجم الأشياء الطبيعية الموجودة فى الخلية الحية الناشئة على الأرض وفى الهواء والماء والتعامل مع أعضائها الرخوة.. الهلامية التركيب.. وعمل بفرشاته كما يصنع الجراح بمشرطة فى إزالة الأنسجة والأغطية الحامية؛ لتظهر بوضوح العناصر العضوية ذات الأسطح الملتفة الناعمة ذات الملمس المائى اللزج.. وبذلك تم فى لوحاته التزاوج بين العناصر الهندسية والعضوية؛ ليشكل هذا النسيج المترامى الأطراف بجميع أبعاده؛ محاولاً المواءمة بين التراكيب الهندسية والطبيعية العضوية ليحقق وحدة معمارية متكاملة. ويصنع `النشار` لوحاته محددة طولاً وعرضاً، ويُوجدٌ بؤرة مركزية داخلها تتحرك حولها الأشياء. إلا أن المتأمل فيها يشعر بإشعاعها للجهات الأربع؛ منتشرة في وميض متناوب يجمع بين حرية اّلشّكل والتدفق الهندسى.. فالبؤرة المركزية تعبر عن الجوهر الذي يرسل الأشياء كلها.. وإليه ترجع جميع الأطراف.. مطابقاً لنظرية وفلسفة الفن الإسلامى المتمثلة فى النظرية الكلية للأشياء والتكوينات الهندسية الإشعاعية التى تنطلق من الجوهر `الواحد` لتعود مرة أخرى إلى الجوهر `الواحد`.
- وحينما يتأهب `عبد الرحمن النشار` لإبداع لوحة جديدة.. تبدأ عنده عملية ولادة روحية؛ فالضرورة الباطنية التي تملى عليه الإنتاج تقتضي الكثير من الاستعدادات النفسية والعقلية والفنية، وحشد شتى أجهزته الشعورية والعاطفية والإرادية.. بما فيها مهنته وصنعته وذوقه العام ووعية الشخصي للمشاكل الجمالية... وما يكاد أن يمضي في عمله الإبداعي حتى يصبح هو نفسه مجرد أداة في يد تلك القوة الإبداعية التي تَسْكنه ، التي تُعَدّ وحدها مسئولة عن ذلك النضج الروحي الضروري لتحقيق الابتكار.
بقلم : محمد حمزة
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية - سبتمبر 1995
الفنان النشار وصوفية إبداع
- الفنان د `عبد الرحمن النشار` يحيا الفن قيمة تعبير وأداء، ويترجم صوفيته إلى هذه التراكيب ما بين الغائر والعالي لونياً.. وتنتقل الفرشاة كما الطائر بين الأغصان؛ لتؤدى هذه السمفونية اللونية وتلك العلاقات الهندسية وألواناً ما بين هرمونية أو أنغام تسابيح.
- وكما الأذكار.. وكما القافية وحواف تنتهى إليها اللوحة فتكاد تسمع حواليك ذكراً.. ما بين أصوات ترتفع في اللوحة وأصوات تهمس ساجية ويحوطها الفنان `عبد الرحمن النشار` بإيحاءات وأصوات لون وأهازيج رؤية ، كما اللحن الذي يسمو سحراً، وكما أوتار العود وأنغامه الشرقية.. تحلو أن تضمها وأن تحياها هذه الإيقاعات التي يحدثها الفنان `النشار` في أعماله، والتي تنبضها روح صوفية وتحدثها روح الشرق ونبض ما بين السماء والأرض. ومن خلال تجليات الفنان وصفاء روحه أحدثت كل هذه الصلات اللونية والتكوينات عبر أوتار وحس فنان يصوغ من أعماله هذا الفن الراقي وهذا النبض الذي يستشعر فيه هوى، ويتردد صدى بين الفنان والمتلقي، وكأنه في محراب يعمق رؤاه وتتحقق فيه ومنه روح الشرق تسرى وتتناغم تسابيح وتحدث توافقاً لحنياً وتشكيلاً على واجهة اللوحة، وتكاد تسمع لألوانها صوتاً ولخطوطها ترديداً ووتراً يوقظ في النفس شرقية محببةّ وسمات أداء فنان صوفي يتعامل مع نفسه صدقاً، ويحقق في اللوحة والعمل الفني رؤية.
- وليصبح للفنان د. `عبد الرحمن النشار` عبر رحلة الإبداع سماته الخاصة وخصوصيتة المتميزة ومشاركته في الحركة التشكيلية وتفرده القائم على روح الفن.
وصوفية ورقى الحس الذي تكاد تستشعره عبر رحلة ومشوار فنان يحقق بأعماله عشقاً يسمو بها ويرتقي ابداعاً وفناً.
بقلم : محمد سليمة
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية- أكتوبر 1995

- عندما نستعرض الأعمال الفنية عبر التاريخ متعمقين فيها نجد أنه من صفات الفن الأساسية الاستمرارية والجدية. تلك الصفات أدت بالفنان قديماً إلى إنتاج فني غزير إلى تنوع هائل فيه؛ من حيث القيمة الجمالية والتقنية.
- كذلك لم يثبت لنا التاريخ في مراحله المتتالية ظهور فن فجأة أو اندثاره فجأة، بل إن مولد نمط أو مولد فنان إنما هو نمو يأخذ دورته الطبيعية حتى مرحلة يمكن إطلاق `النضج` عليها.
- والفنان `عبد الرحمن النشار` يحمل كلتا الصفتين: صفة الاستمرارية، وصفة الجدية. وهو يملك إلى جانب هاتين الصفتين ناصية التقنية..
- و`النشار` من المصورين الذين تمتعوا بإتقان لغة الفكر التصويري التشكيلي وتقنياتها واستغلالها في التعبير عن خيالاته وأفكاره، عاونت خبرته إمكاناته على إبداعيات جديدة مستغلاً الجانب العضوي في الطبيعة والهندسي في التعبير عن الجانب غير المرئى منها، فاتخذ من بعض الأشكال الهلامية والرخوة اساساً للتعبير ـــــ مستخدماً بالته لونية باهتة وأخرى قوية؛ ليؤكد فكره التشكيلي المتمثل في تضاد الأشكال وتباينها ، البارز منها والغائر، المسطح والمجسم ، الصلب واللين.. تلك الأشكال الرخوة التي عاملها برفق حاصرها `انتشار` داخل مساحات هندسية (هجومية) صارمة حادة الزوايا مسطحة تارة وبارزة أخرى
- هذا التباين اللوني والشكلي إنما هو محور التعبير في فن `النشار`؛ ففكرة الصراع والتطاحن والغلبة والتضاد نجده قد عبر عنها بذكاء، وهو بهذا ينفرد بخاصية تصويرية مميزة في الحركة التشكيلية المصرية والمعاصرة.
بقلم : محمد طه حسين
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( تقديم لمعرض الفنان العاشر يناير1980 )
علاقة عضوية
- لماذا فاز `عبد الرحمن النشار` بجائزة بيناني القاهرة الدولي في التصوير، ورفع هو والفنان المثال `أدم حنين` اسم مصر عالياً وسط أجنحة العالم ؟ لقد اشترك الفنان بميزتين رئيسيتين هما الجدية والحداثة، وهما عنصران لا يمكن لأي لجنة تحكيم أن تغفلهما، وخصوصاً أن اللجنة كانت على أعلى مستوى من حيث التشكيل ومستوى الفهم الجيد للفن. هناك أيضا عامل حاسم أخر له قيمته في المعارض الدولية هو الخبرة المتناسقة مع الأسلوب؛ فمن المعروف عن `عبد الرحمن النشار` إتجاهه المتدرج من المعالجة الطبيعية إلى التحليل التكعيبي إلى التجريدية التكرارية.. ويقول `النشار` في دفاعه عن الاتجاه نحو التجريد إن الفنان حينما يريد أن يصور قرية بأكملها فإنه لابد أن يتصرف في تحريك العلاقات بين سطوح الجدران والأشكال بالصورة التي تمكنه من تشكيل جوهر القرية ككل؛ فلابد من اللجوء إلى المدارس الحديثة لإعادة تشكيل العمل الفني.
- وتكشف لنا هذا العبارة الأساس الذي توجه إليه `عبد الرحمن النشار` فهو لا يريد أن يصور جزءاً تفصيلياً من قرية أو لقطة فنية من واقع ما... كما أنه يريد الالتصاق بجوهر الأشياء؛ وهي فلسفة الفن التجريدي المعروفة بالابتعاد عن الموضوع وبخاصة الأشكال المحددة.
- لكن `النشار` دخل حظيرة التكرارية داخل اللوحة الواحدة؛ مثل` فازاريللى`. والمعروف أن المدرسة التكرارية بدأت بوحدات زخرفية تتكرر متقاربة ومتباعدة ومتداخلة ومتفاعلة أحياناً. ولقد برع `النشار` في عمل لوحات كثيرة من هذا النوع، وجاءت أعماله على نحو من التنفيذ المتقن؛ فاكتسبت تلك الخصوصية والتميز الذي أكسبها احتراماً بين أعمال كثير من التجريديين الذين يهملون عنصر الأداء المتقن؛ باعتبار أن فوضي التنفيذ تحسب لصالح الفنان التجريدي.
- وحقيقة إن المدارس التجريدية كثيرة؛ منها الهندسي، ومنها الحسابي والتعبيري والتأثيري والتكراري والعدمي وغيرها مئات من الاتجاهات والمحاولات والأفكار؛ ولعلنا نذكر تجر?دات `رمس?س ?ونان ` وهي أعمال رائعة من التجريد `الليريكي` التي كان يصورها `رمسيس يونان` بكل الدقة والقوة؛ ولذلك اكتسبت احترام الجميع.
- انتقال `النشار` من التحليل الهندسي إلي التكراري؛ فتقدم بحل جديد عندما شرع في تكوين الوحدات المتماوجة البارزة عن سطح اللوحة، وحرك السطح الملون بزخارف دقيقة ؛ وأعطاها ألواناً تصويرية مستغلاً خبرته المتنامية وعمله الدءوب؛ فجاء فوزه بجائزة التصوير الكبرى في البينالي تتويجاً لتاريخ طويل وعمل وجهد لونّ خبرته الفنية بلونٍ خاص فريد، فلقد وقفت أعماله على قاعدة قوية من الجدية والحداثة والخبرة المتناسقة مع أسلوب التنفيذ؛ ومن هنا جاء التميز؛ ومن هنا جاء الفوز.
بقلم : مكرم حنين
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة الأهرام 1-1-1993)

- `.. والصور التى يعرضها الفنان `النشار` تميزت بالألوان والتنغيمات الظاهرة، والمساحات الهندسية البناء. وقد نجح فى تفتيت المساحة إلى جزئيات، كل جزء يستمد لونه وبريقه من المساحة ذاتها ومن الكل فى الصورة، وهو تارة يجده تجريدياً خالصاً، وأخر يستمد وحيه من الطبيعة، وثالثة يتجه إتجاهاً سريالياً مليء بالخيال`.

بقلم : د./ محمود البسيونى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (من كتالوج المعرض الخامس مارس 1967)

- يسعى الفنان الحديث إلى المشاركة فى عملية الحياة النابضة الكائنة فى قوانين الطبيعة ونموها، وإلى الإبداع فى إتجاهٍ موازٍ لهذه العملية؛ فهو فى سعيه هذا يوازن بين الشكل والفراغ وبين الثابت والدينامي وبين التشخيصى والتجريدى وبين الصورة والرمز . إن الفن شيء حى وعضوى ، يستلهم الهيكل والروح معاً كما أنه مجاز تنبض من خلاله - باعتباره عملية دينامية - روح العصر.
- فإذا تأملنا - فى هذا الضوء - الأعمال الفنية للفنان `النشار` النى تطالعنا فى هذا المعرض لوجدنا تراكيب غريبة من الأشكال والألوان ، ترمز أحياناً كينونة ذلك الكرنفال اللاشعورى الزاخر بالصور والخبرات السابقة، أحياناً أخرى ، إلى إشراقة الأمل التى تلوح فى أفق الإنسانية بانتصار قوى الخير انتصاراً حاسما ًونهائياً على جحافل الشر عدوة الحياة، ثم نجد بعضاً أخر من التراكيب الفنية وقد عبرت عن الالتقاء الوجدانى والإرتباط الوثيق بين بيئته التى تأصلت فيها جذوره الفنية.


بقلم : مصطفى الأرنؤوطى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( من كتالوج المعرض الخامس مارس 1967)

- الفنان عبد الرحمن النشار يمثل أحد مفاتيح الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة منذ الستينيات وحتى اليوم. فهو أستاذ قدير لفن التصوير، وهو فنان أعطى لفنه أغلب طاقته وجهده وخياله وفكره، وبالرغم من أنه فنان حديث فإن أعماله الفنية تلقى منه خدمة تقنية أكاديمية، ويتطلب إعدادها ورشة عمل متنوعة الأغراض و معاونين تقنيين متعددين في إعداد مفردات ومسطحات العمل وفى تحضيره بكل عنايةٍ وحذر باستخدام الحيل التجارية المختلفة والقياسات والزوايا البالغة الدقة ففى وقت الإعداد قبل الشروع في عملية الرسم والتلوين ذاتها تشعر وكأن حملة كاملة من خطوات العمل لزومية بدون مهادنة أو تساهل..
- وعند الشروع في العمل الذي يسبق إعداد مخططاته ومعادلاته الهندسية مرحلة الإعداد المبدئي؛ حيث يحدد بكل دقة كافة تفاصيل الوحدات وتكرارها ومواقعها على السطح النهائي، وكذلك مستويات النتوء والغور والتقوس ومعادلات التقسيم الموديولية داخل المفردات المربعة ومشتقات شبكياتها، فهو فنان تهيمن على خيالاته منطق النسب والتقاسيم لأوقات طويلة ومتصلة لإعطاء أعماله ما تتطلبه من جهد وإعداد وتخيل، ومن ضبط للمتغيرات المتعددةٍ التي تكونها لونية، وظلية، وخطية، واتجاهات، وخداع، وتوصل ، وتوازن ، وتنوع، ووحدة، وهو في خضم ذلك كله لديه قدرة خارقة في السيطرة على كل تلك المتغيرات الشاردة والمتشتتة والعناصر في تشكيلاتها واوضاعها وآثارها المادية الدائمة وآثارها اللحظية المكتسبة من إسقاطات الضوء والظلمة وزواياها ودرجتها، فتضيف بعداً جديداً مندمجا مع الواقع اللوني والظلي الفعلي المحقق على مسطحات اللون. فهو بذلك يجمع بين اللوحة وبين النحت البارز وبين الجدارية البنائية وبين الحبكة الهندسية لترصيف المربعات، وهو فضلاً على ذلك يبدع أعمالاً تتفاعل ـــ كما قلنا ـــ مع البيئة التي تحتضن العمل ضيقا واتساعاً ضوءاً وظلالاً، ونوعية الضياء صفراء أو بيضاء ودرجة تركيزها أو تشتتها.
- فتأتى أعماله كنوع من الألعاب الذهنية، ويبث فيها العديد من معطيات الفن الإدراكي والخداعي. فلوحاتة بالأحرى صناديق أكثر منها لوحات؛ لأنها مكونة في الأغلب من تضاريس بنيت بالخشب، و كسيت بالقماش، وجهزت ثم رسمت ولونت.
- وللنشار نصيب آخر من القدرة الاستثنائية على هندسة المجموعات اللونية بنفس الوعي والتمكن الذي يعالج به هندسية مفردات التركيب للصناديق المكونة لأعماله الصرحية.
- وليخفف وطأة الهندسة وصرامة المنطق يطلق على صناديق الموديولية عناصر عضوية الطابع، كالأمعاء والطحالب والأصداف والمحار وقطاعات التشريح، إلى جانب قطاعات المنتجات الصناعية؛ فتتشتت ثم يعاد ترويضها بخلفيات كالستائر والأوشحة والرايات مجهولة الهوية بثنيات القماش وتجعداته ـــ `الدرابية` والظلال الناتجة عن ذلك، والتي يستدرجها لتحوط العناصر المعنوية المشار اليها بالظلال لتأكيدها.
- وفى كل مرة يوزع فيها تلك العناصر العضوية على السطوح الهندسية الموديولية وبينها يُحْدث نوعاً من التباين الغامض؛ حيث تتحوصل تلك العناصر فيما يشبه العلب الإيهامية وتتباين مع بروز المسطحات وتقوسها تحديباً أو تقعيراً؛ فيبدو كأنها غائرة في سطوح بارزة فى أصلها وبنيتها؛ وهنا يكمن اللغز الخداعي في أعماله الذي يضفى عليها إحساسا فريداً، وأحيانا يتخير إحدى وحداته الموديولية الهندسية ويشففها إيحائيا ويصب في داخلها تلك الإيقاعات العضوية المفعمة، كأنها قد علبت في أوانٍ شفافةٍ عجيبة ذات زوايا وانحناءات حادة، فتحدث التباين بين المصمت والشفاف؛ وهو بذلك فنان بصرى ساحر، وقدير وصبور، ولا يتعامل مع الصدفة من أية زاوية، بل يسقط أشعة المنطقة وهندسة `الموديول` والفصاحة اللونية والتحدي لكافة متغيرات العمل؛ فيروضها ويقهرها بإرادته الكلاسيكية الحديثة.
بقلم: د. / مصطفى الرزاز
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( 1995 )

تقديم :
- تقدم قاعة إخناتون بالمركز القومي للفنون هذا المعرض لأعمال واحد من الفنانين الذين أسهموا بشكلٍ واضحٍ في الحركة الفنية، وقدموا أعمالا متميزة تتسم بالجدية والأصالة فتحت الحوار على مصراعيه نحو فن مصري تقدم?.
- فأعمال التشار كما عرفناها دائما تجمع بين العقلانية وبين الأحاسيس والشاعرية، كما تجمع بين الإتقان وبين التفرد من الناحية أخرى. ويواصل الفنان الدكتور عبد الرحمن النشار التجريب والبحث في إصرار في إشكاليته الجمالية للتوفيق بين الكيانات العضوية وبين العناصر الهندسية.. ويقدم في كل مرة الجديد والمثير... كما يتجلى ذلك في معرضه الأخير الذى جاءت نتيجته وليدة الاحتكاك التجريبي والبحث الدائب تجاه رؤيته وما يكمن في ذاته..
- ومن الجديد في هذا المعرض تجربتان : الأولى قدمها الفنان من خلال ثلاثة أعمال على مسطحات كبيرة مربعة الشكل - تحت اسم `ملحمة كونية` - قسمت على أساس رياضي قائم على معادلات هندسية بين السالب والموجب والبارز والغائر.. وتتسم تلك المجموعة في مجملها بتعدد مستويات المسطحات فيها، وتتابع المنظور اللوني والتركيبي في علاقة رياضية تؤلف، هارموني لوني، غاية في الإبداع يوحي بعالم من عوالم التصوف والشفافية الروحية والتألق الوجدانى.
- كما يتأكد في بعض أعمال الفنان القدير عبد الرحمن النتشار ما يسميه هو نفسه `التعادلية` ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في محاولة التوفيق بين مجموع مساحات المقعر والمحدب من ناحية، وبين مساحات البارز والغائر من ناحية أخرى، وبين ما يقدمه من إيحاءاتٍ بتوتر السطح.. مضافاً إلى قضيته الأسسالسية في معالجة فكرة التآلف بين العضوية والهندسية والجمع بين التراكيب الرياضية وذاك المزج الشاعري الصوفي الذي يتبدي في جوانب العمل الفني، ويحد من صرامة الأشكال الهندسية وزوايا المربعات والمستطيلات وتكرارها.
- ومن أهم ما يميز أعمال النشار تناوله للتراث بأبعاد جديدة، ليس بأعتبارها مفردات ومقتطفات من العناصر المتحفية وإعادة صياغتها أو تحريفها، بل على أساس من الوعي بالأساس المعماري لفنون الحضارة العربية؛ فهو يتعامل مع الفكر الإسلامي ولا يتعامل مع مظاهر ذلك الفكر..
ويبقى في تجربة النشار الجديدة الكثير مما هو جدير بالتناول والتحليل ...
بقلم : د مصطفى عبد المعطى (مدير المركز القومى للفنون)
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية (من كتالوج المعرض الثانى عشر للفنان 1987)

- كانت الجائزة الأولى لبينالي القاهرة الدولي الرابع في فرع التصوير التي فازت بها مصر من نصيب الفنان`عبد الرحمن النشار` وله خمسة أعمال؛ منها عمل ذو حجم كبير أطلق عليه الفنان عنوان `ملحمة الكون` رقم (5) - جدار اللا تجاوز`..
- وأعمال الفنان في التصوير ذات طابع مميز؛ فهي متعددة المستويات في تشكيلات هندسية مكعبة ومربعة ومستطيلة بمساحاتٍ لونية واحدة مسيطرة على مساحة اللوحة كلها. وفي أجزاء من الأشكال الهندسية يلجأ الفنان إلى وضع رسومه الخاصة `بموتيفات` مستوحاة من التراث المصري الإسلامي والقبطي والشعبي بطريقة إبداعية تؤكد موهبة الفنان وقدراته الفنية العاليةٍ.. ويقول `عبد الرحمن النشار` : ( أن تعدد المستويات عندى له سبب، فتوتر السطح كان بهدف هام جداً بالنسبة لي، وأنا دائماً أبداً كنت أحاول التعبير عن العلاقة العضوية بين الشكل الهندسي والشكل الانسيابي؛ حيث أعتقد أن التكامل بينهما هو تعبير أكثر صدقاً لوجود الأشكال ومنطقها في الوجود؛ فكانت هناك عدة مراحل لتطور هذه العلاقة، وقد بدأت بتحديد سطح مستوٍ خاص بالأشكال الهندسية وسطح مستو آخر للأشكال الانسيابية، ذلك الأمر الذي جعلنى ألجأ إلى السطوح المنحنية والمتوترة وغير المنتظمة، وأعتقد أنى نجحت في ذلك؛ حيث إن المسطح المستوى الذي أرسم عليه يأخذ انحناءات وأشكالاً لثنيات تتكامل مع الخطوط الانسيابية فيحدث التكامل.. وهذا هو السبب الذي جعلني ألجأ إلى تعدد المستويات وتوتر السطح في اللوحة، ومن حيث إحساسي بالتراث فإني أعكسى حساً صوفياً شرقياً في أعمالي؛ وهي نظرة فلسفية تختلف عن نظرة الغرب للكون.. وأعتقد أن هذا فاصل دقيق بين الشرق والغرب، فالغرب يرى أن الإنسان محور الكون؛ ولكن نظرة الفنان الشرقي مختلفة تماماً؛ فهو ينظر إلى أن الله هو محور الكون؛ فعنده كل الأشياء تتلاشي في الصغر وتجتمع حتى تحدث شيئاً ضخماً يشهد على قدرة الله في الخلق. إن الفنان الشرقي يبتعد عن الحسن اللحظى لوجود الأشكال؛ ومن هذا المنطلق أجد أعمالي في نسيج لا نهائي؛ حيث يتعدد ويتكاتف الجزء مع الجزء الآخر في عالم غير محدود عضوى أو هندسي، وقليل من الفنانين من جمع بين الاثنين في عمل واحد؛ لأن عادة الفنان أن يتخير أسلوباً واحد) .
- وللدكتور الفنان `عبد الرحمن النشار` مشوار طويل مع التصوير، وله أسلوب متميز، ويكاد يكون منفرداً فيه، وهو فنان له قدرة إبداعية عالية وحس فنى خاص.
بقلم :نجوى العشرى
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية(جريدة الأهرام المسائى يناير 1993)
عبد الرحمن النشار وعالمه المتنامى
- `هذا بئر في التراب موغل الجذور...
- جب من الماء الخفي تَجَمّعَ مثل كنوز...
- لخطوه في الأعماق على السطح أصداء...
من قصيدة سفيريس (البئر)
- أذكر للفنان `النشار` أعمالاً عزيزة على النفس ترجع إلى الستينيات، عندما قدم لنا لوحات تعبيرية قوية التأثير عن أحداث قومية أرقت الضمير، وأشير منها على سبيل المثال إلى (مأساة القدس) التي ازدانت بها صفحة الغلاف من مجلة (المجلة) ، سجل الثقافة الرفيعة آنذاك.
- وكان بإمكان `النشار` أن يقنع بهذا النجاح الجماهيري، ويكتفي بالتوقف عنده، إلا أن هذا الفنان - شأنه في ذلك شأن الفنانين الأصلاء في كل عصر وجيل- بداخله جذوة دائبة التأجج من القلق والتمرد والرغبة في النفاذ إلى ما وراء السطوح الجامدة وقوالب الأشكال، ولا يخدعه الواقع الذي يجمد الرؤية ويحدد الروح المتعطشة للينابيع البعيدة المنال عن التغلغل وراء التعددية والكثرة للبلوغ إلى الأصول والجواهر ذات الدمومة والثبات، وهي الانشغالات التي حدت بالمتصوفة للصعود في مدارج اليقين إلى `الوحدة` والإعراض عن الزائل المتعدد.
- وهذا ما رأيناه أيضاً في تاريخ الفن الحديث عند `وسيلي كاندنسكي` (????-????) الذي وصل باسم التجريدية إلى إخلاء الحيز التشكيلي من كل ما يمت إلى مفردات الواقع العربي بصلة، صاعداً إلى ما أسماه (الروحانية في الفن)، متجاوزاً بذلك `التعبيرية` التي كانت لا تزال مرتبطة بالواقع وإن كانت تعلن ردود أفعالها منه، وبالأخص سخطها عليه أو بالأقل توجسها منه ( راجع كتيبنا `التعبيرية في الفن التشكيلي` - دار المعارف - 1987).
- كما رأيناه عند `بيت موندريان` (????-????) الذي توصل من خلال عملية `زهد` تصوفية إلى تخليص أشكال الواقع - وبالأخص الطبيعية - من كل ما هو زائد من خط، حتى انتهى إلى الإبقاء في اللوحة على ما هو أساسي من خط، ومن ثم من شكل، متمثل - على هذا الفهم - في الخط الأفقي والخط الرأسي المتقاطعين، مؤكداً أن ما في الطبيعة لا يعدو هذين الخطين الأفقى والرأسى، وما عداهما ليس تنويعات على هذا الجوهر الجذري، مفتتحاً بذلك في تاريخ الفن صفحة جديدة هى `التجريدية الهندسية`.
- وعلى أية حال، فما كانت فنون الشرق عن أذهان هذه الصبوات التجريدية ببعيدة، وعلى الأخص `كاندينسكي` الذي يعترف في كتاباته عن الفن أنه لم يكتشف التجريدية إلا عندما ذهب إلى بعض الأقاليم القصية من أسيا الداخلة في الأتحاد السوفيتي آنذاك؛ لتسجيل ودراسة فنون شعوب تلك الأقاليم، ومنذ ذلك الحين استيقظ بداخله حس تمردى على النظريات الغربية في التصوير بما فيها من أسس عقلانية في ترجمة الواقع البصري ومن ثم أوغل في دروب تتجاوز إملاءات العقل الواعي وتتحرر من مقتضياته الصارمة، وفي ظل هذه المناحي من التفكير التشكيلي، وهي متاحٍ سميت بالمناحي الصوفية أو الروحانية ، تحرك فناننا المصري `عبد الرحمن النشار` منضماً بذلك إلى حركة مصرية أصيلة في التجريد كان من روادها رمسيس ?ونان (????- 1966) وفؤاد كامل (1919-1972) وأبو خليل لطفي (???? - ????) ومصطفى الأرناؤوطى (1920-1976) وصلاح طاهر المولود عام ???? وقد دفع هؤلاء جميعاً إلى شرايين التصوير المصري الحديث بدماء فتية مكنتهم من التجدد والتواصل ومقاومة الجمود.
- وقد أقتنع `النشار` بما أوصلته إليه قريحته التأملية المتفتحة، وترك `التشخيص` إلى البحثِ عن أبجدية تشكيلية جديدة، وتبين أن أشكال الوجود البصري يمكن أن تصنف إلى (أشكال عضوية) و(أشكال هندسية). ومنذ بداية السبعينيات صور لوحات بعضها مؤلفة من `أشكال عضوية` وبعضها مؤلفة من `أشكال هندسية `، ثم تبين أن الوجود البصري ليس في حقيقته أشكالاً عضوية بحتة، ولا هو `أشكال هندسية` بحتة، بل هو في حقيقته مؤلف من `الأشكال عضوية وأشكال هندسية` معاً. فترجمت لوحاته هذه الحقيقة التشكيلية، وصارت أعماله تنبني على حوارات بين `العضوي` و `الهندسي` وقد تصل هذه الحوارات في بعض الأحيان إلى صراع تشكيلي بين `الهندسي` و`العضوي` مع عدم إغفال عامل اللون في تنويع تلك العلاقات إلى أقصى حدِ، مع بقاء فنه `تشكيلاً بحتاً ، ما عاد ينشغل بعنصر `الحدث` الذي يسجلّ أو المضمون الذي يحكي ، وابتعد حتى عن `الرمز` الذي بالإمكان أن توميء إليه بعض الأعمال التي تتخفف من مفردات `الرؤية البصرية النفعية` المملاة من العقل الواعي، بل وأيضاً تعّمد إفرازاً عن رؤى `اللاوعي` ومخزون العقل الباطن.
وفي هدوء مرسمه راح `النشار` - مثلما العالم في معمله- يجرب ويختبر ويطرح الأسئلة، وبعزيمة من آلوا على أنفسهم عدم إرتضاء الحلول السهلة يناقش الإجابات المسبقة، ويزيح من حيزه التشكيلي كما ضخماً من المعلومات التي لقّتها طوال دراستة الأكاديمية، ووفق في تطبيقها - بل وفي تطويعها-فى معارضة التي لقى عنها النجاحات تلو النجاحات من قبل.
- لماذا يتحتم أن يكون للوحة سطح منبسط مستوٍ، رغم أن الطبيعة لا تتقيد بذلك لزاماً؟
.لماذا يجب أن يكون للوحة ` محور اهتمام مركزي`؟ لماذا `البعد الثالث` في اللوحة ؟ أما من حلول أخرى جديرة بالاعتبار؟
- لماذا يجب على `اللوحة` أن تسجل `الطبيعة` وتنقل عنها` ؟ ألا يمكن أن يكون للعمل الفني بدلاً من ذلك `علاقاته الداخلية المقتصرة عليه` دون إحالة إلى ما هو خارجه أو استدعاء لذلك الخارج إليه؟.
- لماذا يتعين أن يكون للوحة `إطار` بينما الرؤى في الطبيعة ذاتها ممتدة إلى ما لانهايةِ ؟
- كيف `تتنامي` جزئيات اللوحة، ولن تنتهي `الوحدة` بين هذه الجزئيات؟ أين ينفسّخ `التماسك` بين `مفردات اللوحة` قاصماً بذلك `وحدة العمل الفني` ؟ وهل يمكن إنكار قدرة الطبيعة، وأيضاً العمل الفني على التنامي إلى غير ما حدود؟
- ما اللون وما الخط وما الظلمة والنور، في عمل فني لا يسجل الطبيعة ؟ وهل يمكن أن يختلف `تسجيل` الطبيعة عن `استلهامها` في العمل الفني؟
وبعبارة أخرى ، ما `الشكل الفني البحت` ؟
- ما الصراع بين `العضوي` و`الهندسي` ؟ وهل في هذا المقام `مفهوم أوروبي` يختلف عن `مفهوم آخر شرقي` أولى بالاعتبار؟
- وإذا لم يكن `الفن الشرقي` مفهوماً أحادياً بل إن `الشرق` في الحقيقة والتاريخ أكثر من شرق، و`الفن الإسلامي` ذاته له أكثر من ممارسة، وقد حقق ذلك بكل تأكيد ثراءه .. أذا كان ذلك، فأى الفنون الشرقية يستلهمها `النشار` في `تجلياته` ؟ وأي منها تفرزه قريحته المتأثرة بشتى أساليب الفنون في الشرق والغرب على حد سواء ؟
- وإذا لم يكن بالإمكان أن نتأمل في هذه السطور عطاء `النشار` من منظور هذه الانشغالات كلها - رغم أنها جديرة بالاعتبار- فإننا نكتفى بالاستمتاع بتتبع بعض جوانب هذا العطاء البالغ الثراء.
إن الروح المتعطشة للتجريب لا تقنع بما هو سائد ومكرر، بل تتطلع إلى ما هو مبتكر غير مسبوق. وهي تسعى إليه، ولو كان ذلك على حساب الراحة والدعة التي لا يستهدف الفنان العادي غيرهما، ولا يجرؤ كيانه الهش أن يحيد أو يبتعد عنهما أما `النشار` فقد مضى في الطريق الصعب الذي ارتضاه لنفسه، ينزع الأشواك والقشور ويلقى بها جانباً، ويغوص إلى الأعماق باحثاً عن الينابيع الدفيئة ليرتوي من مياهها الصافية التي لم تمسسها من قبل شفاة مدنسة، ومن `منفاه الإختياري`- عبر معاناة `الحداثة` التي هي أيضاً موغلة في القدم - يجلب إلينا `النشار` `فئه المتميز` الذي هو `فن استبطاني` بالمقام الأول..
- وأول ما يستلفت النظر إلى لوحات النشار - مع مضيَة في مدارج تطوره الفني - ذلك `التوتر` الذي أضفاه الفنان على أسطح لوحاته. فما عادت اللوحة `أحادية المستوى` وذلك بأن يثبت على سطح اللوحة مسطحات إضافية مختلة الشكل والسمك والحجم من الخشب المغطي بقماش مبسوط عليها .. وإذ يصمم سطح اللوحة بهذا التراكب الذي يترتب عليه توافر الغائر والبارز في أنحائها المختلفة، يعمد الفنان إلى وضع رسومه على هذه المستويات المتنوعة المتعددة الارتفاع والانخفاض ، فيبدر العمل الفني لافتاً للأنظار، جاذباً للاهتمام إلى تتبع انسياب الخطوط والألوان على أديم التلال والسهول التي راق للفنان أن يحيل سطوح لوحاته إليها.
- وقد جعل هذا التجديد - الذي أتى به `النشار` إلى سطوح لوحاته بتلك `التضاريس` التي أدخلها عليها- جعل من الصعب أن يكون للوحة `مركز ثقل` أو `محور اهتمام مركزي`؛ فالسطوح المتباينة رغم تلاصقها أميل إلى أن تكسر مسار الرؤية. وتحتاج معاودة `التوحد` مع `التعدد` إلى معالجات تختلف عن المعالجات التقليدية لسطح اللوحة، فنحن في الحقيقة مع أعمال `النشار` الفنية أمام لوحات غير تقليدية، وهي بهذا الوصف تحتاج إلى رؤيتها رؤية غير تقليدية أيضاً.
- فقد زالت عمداً بؤرة العمل الفنى التي عبر الفنان التقليدي بأن يتركز فيها اهتمام المتفرج، وهي بؤرة كانت في الأغلب الأعم لا تتعدد، وتنتظم، من حولها الخطوط والألوان في إطار اللوحة ، بل وفي كثير من الأحيان كانت هذه البؤرة أيضاً مركز الإشعاع الضوئي في المنظر كله ويكون الضوء المشع من تلك البؤرة عندئذ ضوءاً روحانياً يستغنى معه عن كل ضوء طبيعي. وقد كان ذلك - كما هو معروف مسلماً أصولياً من مسلمات أساتذة عصر النهضة.
- وقد أجرى `النشار` لتجاوز هذه الصعوبة - التي ليس من السهل على أية حال تجاوزها - حلولاً تعويضية أسعفه فيها ما أستحدثته `التجريدية` من بدائل حديثة كما كان في الطبيعة `الهندسية` لهذه المسطحات المضافة ما جعل الفنان يستعين- في معالجة أسطح لوحاته `المتوترة` هذه - بحلول `تشكيلية هندسية` من حيث سطح اللوحة وموضوعها، وهو ما كان إضافة من `النشار` إلى التجريدية المصرية، تميز بها عن سائر رفاقه المنتمين إليها.
- ولم يكترث `النشار` كثيراً بخلو أعماله المبتكرة من `محور اهتمام مركزي`؛ فقد لاحظ أن هذا المفهوم الغربي للتصوير ليس لزاماً أن يكون المفهوم الأوحد، وسرعان ما استعاض عن ذلك بمفهوم التنامي، وهو المفهوم الذي قامت عليه `الفنون الشرقية` أصلاً، مؤداه أن رؤى الطبيعة ذاتها في تمامها وشمولها تتنامى تنامياً لا يدع مجالاً للتركيز على بؤرة إهتمام واحدة.
- وفى منطلق التنامى اللا محدود تشبه بالطبيعة الولود التي لا تعرف على سبيل المثال - ورقة شجرة بعينها بل الملايين من ورقة الشجر هذه، يمضي `النشار` في تخليق أشكاله والامتداد بها على مدى سطوح لوحته `المتوترة` في تنويعات أريبة مستوحاة من بصيرة الفنان تحاوراً بين `العضوى` و `الهندسي`. والعضوى عند `النشار` أميل إلى أن يكون استدعاء `لأشكال صخرية ونباتية` من ألياف وتكلسات وتشققات وجذور وأغصان شجر، فضلاً على رياش طيور متنوعة، وهكذا نكتشف أن `الطبيعة` مازالت تنبض كامنة في أعماق الفنان الذي يصعدها إلى لوحاته في أبجدية تشكيلية مختلفة تماما عن أية أبجدية سابقة.
- وأيّاً ما كانت السيولة والتلقائية التي تنساب بهما الرسوم والألوان على مجموع المسطح المتوتر، إلا أن هذه الرسوم والألوان في تناميها ليست عشوائية فهي محكومة بتصميم عامٍ سابق، وإذ يحدث تعديل في هذا التصميم أثناء التنفيذ فهو يحدث في التفاصيل التي تشغل المساحات الجزئية، حيث يعكف الفنان بدأب، كصانع حلى ماهر، على اتبداع هذه التفاصيل وتحويرها والمضى بها قدماً لتنضم إلى الكل المتوحد، مع بقائها محتفظة- رغم ذلك - بذاتيتها، فتبدو اللوحة الكبيرة، `ظاهرياً` كمجموعة من اللوحات الصغيرة نسقت في إطار مجموعة واحدة، إلا أن الأمر في النهاية ليس كذلك؛ إذ نحن إزاء كلّ متماسك يحترم في الآن نفسه ذاتية كل من جزئياته.
- وقد مضى `النشار` يصعد بفئه مدارج الرقي، مضيفاً إلى حيزه التشكيلي مزيداً من الرحابة، مولياً جزئيات ذلك الحيز قدراً أكبر من التكثيف والعناية، مزيداً من الحوارات بين الكل وجزئياته. كما أنه بتطعيمه جوانب لوحاته العشرين المنتجة أخيراً بالورق المذهب والمفضض يتيح تنويعات لا حصر لها لرؤى السطوح تبعاً لما ينعكس عليها من إضاة. كما أن الأجزاء البارزة من الأسطح وما تُلْقيه من ظلال متغيرة على المساحات الغائرة إلى جوارها - تكسر كثيراً من رتابة اللوحات، وتبعث فيها مزيداً من الحيوية والحركة.
بقلم : د./ نعيم عطية
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( أكتوبر 1995)

- ضم معرض الفنان `عبد الرحمن النشار` عشرين لوحة بمساحات ترواحت ب?ن (75×75) و (225×225) ، وانقسمت إلى ثلاث مجموعات: ملحمة الكون، وعلاقات هندسية عضوية، ومنظومة، وهو في هذا كله تناول الفكرة الواحدة من أكثر من زاوية، أو بمعنى آخر يسترفد تداعيات فكره فيأتيه فيض من الأشكال يحركها ويعيد بناءها مرات ومرات فيما يسميه `تجليات`.. وإذا أردنا تصنيف أعمال `النشار` التي قدمها في معرضه الأخير تحت عنوان `تجليات` فإنها تنتمى جميعها إلى المدرسة التجريدية، كما تكاد هذه اللوحات تنحصر في فكرتين تشكيلتين أساسيتين: الأولى في التردد لشكل ما فى أوضاع متغايرة يتخلله شكل واحد من بناء مختلف.. وهو أمر مألوف في الموسيقي الشرقية والغربية على حد سواء؛ حيث يتخلل الأيقاع السائد إيقاع من نوع مخالف، أو يدخل اللحن العام جملة لحنية مختلفة تماماً وإن كانت من نفس المقام؛ وبذلك يتحقق التنوع، ويتبدد الملل، ويتأكد اللحن الأساسي.. أما الفكرة الثانية فتقوم على أساس جمع النقوش المختلفة في صعيدٍ واحدٍ على مساحات بارزة أو غائرة، محدبة أو مقعرة؛ ليشكل من هذا الاختلاف البين والتنوع الشديد تألفاً وانسجاماً.
- وفى هذه الإبداعات الذهنية نرى - بوضوح - تأثير الزخارف الإسلامية التي تعتمد أساساً على تكرار الأشكال الهندسية الأولية وتفعيلاتها.. أو الأشكال النباتية المحورة، والتي لا تخرج في مجموعها من المدرسة التجريدية؛ حيث يستبعد التشخيص تماماً، وإن لاح الرمز فى معناه المطلق كأن نعتبر تلك الأشكال المتكررة تتابعاً للأيام بنهارها وليلها، بإشراقها وعتمتها، ثم يتخللها ذلك الشكل المختلف رمزاً لما تأتى به الأيام من أحداث غير عادية. ولولا أن الفنان `عبد الرحمن النشار` ذو طبع دءوب لما استطاع أن يحقق هذه الأفكار.
بقلم : هبة عنايت
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( مجلة الشرقية يناير 1988)
معرض تصوير لعبد الرحمن النشار بمعهد جوته فى القاهرة
- يقام بمعهد جوته بالقاهرة معرض الرسام `عبد الرحمن النشار` بعنوان التكامل الهندسي العضوي. يتميز المعرض بسيادة الأشكال الهندسية والمثلثة بكافة أشكالها. مثلثات مسطحة، مكعبات ذات أسطح مثلثة، مثلثات متساوية الأضلاع، وأخرى متساوية الساقين ذات زاوية قائمة تبدو مقعرة أو بارزة، وكل هذه الأشكال تدخل في علاقة مع أشكال هندسية أخرى مثل المربع والمستطيل والمعين والمخروط أو المقاطع المخروطية أو الاسطوانية... إلخ.
- تجمع لوحات `عبد الرحمن النشار` بين التجريد والتحديد في آن واحد؛ تماماً مثل أشكال الهندسية؛ ولولا حرص الفنان على بعث الحركة بها بأساليب مختلفة لأصبحت اللوحات شديدة الجدية والجفاف، فهو يبعث في لوحاته الحركة باستخدامه الألوان ومستويات الرسم المختلفة والتضاد بين وضوح الأشكال الهندسية وبين تكوينات تميل إلى الفنتازية والخيال.
- فنّجد تبادل الألوان المتضاربة والمتدرجة أو المتكاملة، لتشمل اللوحة الواحدة ثلاث مستويات: سطحي، ومقعر، وبارز، كما يدخل عنصر التماوج لانحناءات مثيرة؛ مما يجعل لوحاته مضيئة ومتنوعة. ويتمكن `النشار` أيضاً من الظلال سواء أكانت انعكاس الإضاءة على اللوحات على كافة مستويات الرسم. أم من خلال رسمها بمسقط هندسي على اللوحة.
- هذه الأساليب أتاحت للفنان أن يعوض قلة التنوع الخطىّ ورتابة هذه الأشكال الهندسية الجافة. وإذا كان `النشار` يركز كل الأشكال الهندسية كموضوع للوحاته فقد ذهب بعيداً بدراسته لإمكانية استخدام رؤيته الخاصة لهذه الأشكال الهندسية في رسومه التجريدية.
بقلم : يوسف سبيع
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية( جريدة بروجريه دى مانش يناير1980)
فنان من الشرق
- التكتيك البالغ الدقة High technic هو سمة الفن المعاصر سواء فى النحت أم في التصوير. والأمثلة واضحة في السوبررياليزم Supper relism والسوبر فوتوجرافى Supper photography وغيرها. والفنان النشار في إنتاجه الأخير من أكثر الفنانين المصريين التزاما بالتكنيك البالغ الدقة، وليس هذا غريباً على فنانٍ شرقى بكل ما في الكلمة من معنى.
- فى فن الشرق نجد النسيج القوى الذي يجمع بين الصيغة والفن والحكمة ، فنظرة الشرق هي احترام الجهد الإنسانى فى الإبداع وبراعة المبدع فى تحويل الخسيس إلى نفيس؛ ولذلك فإنه يجب علينا أن نربط بين المنمنمات الفارسية والسجاد ورسوم القيشاني المزججة والمقرنصات والحلى والمشغولات النحاسية والفضية فى خان الخليلي والخيامية وغيرها. نربط بينها وبين الإنتاج الفني للنشار؛ فهو يرى ويعايش ويهضم هذه الفنون، وقد أخذ عنها استنباط الجزائيات؛ ففى كل سنتيمتر نجد جهداً. ولقد أحس أيضا بفنون الشرق الفنان العالمى فزاريللى، ولعب بالتدريج اللونى لخلق حركة بصرية تكون بديلا للبعد الثالث المفقود... وقبله كان `ما تيس` وحبه للزخارف.
- ويأتى النشار بإضافته الخاصة حلولاً جديدة - في هذا المجال - بحلول جديدة إلى البعد الثالث؛ فيخلق خلفية حاملة للألوان، تتفاوت في ارتفاعاتها؛ فيبرز بعضها عن الآخر من زاوية أو زاويتين أو غائرة وفق نظام صارم وهكذا.
- وتفسير ذلك يعود إلى إلحاح البعد التصويري للوحة؛ فهو كمصور يريد أن يخرج بعمله من دائرة الإبهار الزخرفى؛ فهو يعلم جيداً أن الزخرفة الشديدة التماثل تفسد العمل الفنى؛ ولذلك فهو دائماً يكسر الانتظام من خلال الجزئيات وإخراج اللوحة من نطاق البعدين فقط.
- ولذلك فإن الحصول على وحدات متماثلة أمر محال تماماً في أعمال النشار رغم خضوع هذه الوحدات لنظام ولقوة التصميم أكثر من الانفعال العابر.. ومما لاشك فيه أن هدف الفنان هو البحث عن المعنى الكلى. وفي فنون الشرق يستغرق المتلقي في تلك الجماليات التي تسبح به بعيداً وتنتزعه من العارض؛ فيخلو الذهن إلى التأمل المؤدي إلى إدراك الكل.. فالفنان النشار لا يرسم المعنى الكلى، ولكنه يمهد الطريق للإحساس بالمطلق من خلال النسبي واللوحة بلا أسرار تكشف بآلاف الجزئيات عن الكل من الجرئي والمنتهي إلى اللامتنهي، وهنا تتكامل في اللوحة الوحدة التجريدية للموضوع والتناول معاً.
بقلم : مكرم حنين
من كتاب عبد الرحمن النشار وسيرته الإبداعية ( جريدة القاهرة 15-9-1995)
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث