`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
محمد السيد عبلة
محمد عبلة .. البحث فى جدية
- إذا كانت حركة الفن التشكيلى الحديث بمصر، قد شهدت منذ مولدها مع بدايات هذا القرن وحتى نهاية الستينيات، ثلاثة أجيال متعاقبة بدأ الفن المصرى عن طريقها يرتبط بمفهوم الفن فى العصر الحديث، متحولاً عبر أجياله الثلاثة من الأكاديمية التسجيلية، فى البداية ثم الثورية المتمردة على القوالب التزيينية عن طريق الجماعات المتعددة والمتحاورة فى ( صخب ) إيجابى مثمر، برغم تعدد منابع الرؤية لديها ودوافع التغيير، وصولاً بعد ذلك إلى الجيل الثالث، الذى استطاع أن يحقق ـ إلى حد كبير ـ سمات مصرية ومستحدثة معاً ، بدت برغم اتساع رقعة التباين والتعدد فى الرؤى والتناول ومستوى الإجادة ذات مستوى عام مرتفع القيمة إلى حد كبير .
- ومع بدايات السبعينات، يبدأ الجيل الرابع ـ الذى هو جيل الشباب الآن ـ فى التوالد والظهور، مصاباً فى معظمه بما يشبه الإعياء ضئيل الجسم، مشتت الرؤى، متكاسل إلى حد كبير عن البحث الجاد مقطوع الصلة والحوار مع بعضه أو مع ما قبله تقريباً، اللهم إلا قلة قليلة جداً منه، لولاها مع ما تكابده من عزلة، لما كان هناك جيل رابع ولا يحزنون ولعل فناناً مثل ( محمد عبلة ) واحدمن تلك القلة التى تبحث ـ برغم التشتت والاغتراب ـ عن صياغة ورؤية معا تتيح لها أن تبلور التجربة لتحقق ما يصنع التواصل والاستمرار مع ما سبق .
- وإذا كنا إزاء تجربته نشعر بفارق كبير بين بدايتها، ونتائجها الآن ــ برغم قصر مدتها الزمنية ــ إلا أننا نلمح إشارات منبئة وصادقة تبشر ببداية الوقوف على أسلوب خاص، فبعد ما هضم معطيات التجربة (التصويرية) عند ( حامد ندا ) نجده يمر على نصاعة اللون عند (فرانز مارك ) لينتقل الى البحث فيما أرساه ( بول كلى ) من تجارب فى علاقة ( الشكل باللون ) ليتحول بعد ذلك الى البحث فى علاقة فعل الشكل عن طريق المصادفة بالحركة الانتشارية ( للون ـ اللمسة ) كما يفعل فنانو ( التاتشيزم ) وعلى رأسهم ( جاكسون بولوك) .
- أى أنه قد تحول فى رحلة ( بحث ) من التشخيص للتجريد منشغلاً أثناءها بتحقيق توازن بين ( التعبير والتشكيل ) سواء كان ذلك التعبير آتياً عن طريق الشكل أو عن طريق اللون بدرجات إشعاعه وتأثيره وسيطرته أو حياديته من ناحية، سواء كان التشكيل قائماً على ( الرسم ) المرتبط بملامح الطبيعة، أو عن طريق التجريد الخاص لملامح تلك الطبيعة من ناحية أخرى وتلك الجدية فى البحث والوعى بلغة الشكل، اللذان يأتيان بعد اجتياز التدريب الأكاديمى الجيد هى ما تجلعنا ( نستشعر ) إزاء تجاربه المتعددة - مولد فنان جيد مبشر بالكثير .
فاروق بسيونى

!! الانفعالية .. مذهب جديد
- تتيح تقنية ( المونوتيب ) لاعمال الفنان (عبلة) مذاقا خاصا لا يتبع الرسم المباشر ولا فن الحفر التقليدى لانه لا يستخدم سوى أحبار الطباعة السوداء ولوح زجاجى يسقط فوقه ملاحمه ثم يقوم بطبعها على الورق مرة واحدة فقط، ولذلك لا تدخل هذه الطريقة فى نطاق فن الحفر الذى يحصل الفنان بواسطته على عدة نسخ متشابهة تمام التشابه .
- ان هذه المعركة الضارية بين الفنان والشكل التى لا يحكمها ( سوى الانفعال) اللحظى ورد الفعل المباشر يمكن ان نطلق عليها (الانفعالية ) لانها ليست موقفا عاطفيا كالتعبيرية، ولا انبهاراً بصريا كالتاثيرية، ولكنها موقف جدلى بين ندين متكافئين، الفنان والشكل، نسيجه تلك المراوغة الماكرة والتصرف العفوى الذى يعتمد على قدرة وخبرة وذكاء الفنان فى تسخير رد الفعل المباشر من اجل تحقيق قيمة تشكيلية اشبه بالصدمة الكهربائية التى تفيق المتلقى من غفلة السلبية وغيبوبة اللامبالاة او الرفض .
الفنان/ حسين بيكار
جريدة الأخبار
تشكيلى مصرى يرسم أشخاصاً من وراء حاجز بلاستيك
- ابتكر طريقة جديدة للعلاج النفسى الجماعى ..
- ابتكر الفنان التشكيلى المصرى المعروف محمد عبلة، المدرس بجامعة سالزبورغ النمساوية، تجربة إبداعية جديدة في مجال الرسم في إطار ما يعرف بالفن التفاعلى، تعتمد الفكرة على رسم الاشخاص على ستار أو حاجز رقيق من البلاستيك أو الزجاج أو أي خامة شفافة تجعلهم متواطلين مع الفنان .
- الفكرة لاقت إعجاب خبراء الفن التشكيلى فى العديد من دول العالم الغربى،إذ تلقى عبلة دعوات لشرحها وتطبيقها عملياً فى النمسا وألمانيا وروسيا، والجديد هو استخدام هذه الطريقة في العلاج النفسي الجماعى .
- وقال عبلة فى تصريح لـ (الجريدة): بدأت العمل على هذه التجربة قبل 3 سنوات تقريباً، وحققت فيها إنجازاً كبيراً، إذ تناسب الفئات كافة، وبتكلفة بسيطة جداً تعتمد على الفرشاة، أي نوع من الألوان والهدف منها خلق حالة من التقاعل الإنساني بين الفنان والأشخاص الذين يتم رسمهم من ناحية وبين الأشخاص أنفسهم من ناحية أخري. وأضاف (أظن أنني افتتحت طريقة جديدة في تدريس الفن بدون تجهيزات، وسيكون لها أثر مهم فى العلاج بالفن ) .
- وبدأت أمس فعاليات ( طريقة عبلة التفاعلية ) وهو عنوان أحدث معارض الفنان المصري فى هذا المجال، بمركز محمود مختار الثقافى بالقاهرة .
الناقد / أحمد الجمال
الجريدة 27 /10/ 2008
أضواء محمد عبلة
- طائر متوتر سريع الحركة لا يستقر على حديقة واحدة بل هو يقضى غالب وجوده طائرا محلقا يصطاد قوات إبداعه من عدة مصادر لهذا فإن تحركه الديناميكى أحيانا يحير المتابعين لتحليقه المستغرب لكنه يملك ذكاء يدعم موهبته وشجاعة تتلامس مع التهور المقبول إنه طائر وديع الروح كاسر الملمح فى بساطته وانطلاقه اقتحاميته تتعدى أسوار مراجعة الغير !!عاشق للتجريب، لهذا فأعماله مثيرة دوما للجدل ونقطة تكبر لتصبح دائرة حوارية متفقة أحيانا ومختلفة غالبا !!
- وكثيرا ما تصدمك توجهاته ومعارضه لكن الدهشة المحببة تلف الحالة بوشاح من جرأة غير صادمة وأحيانا نجد أنفسنا أمام عدة فنانين فى واحد .
- هناك رقة وعنف بساطة وتعقيد سلاسه أدائية وصعوبة قليلا فى الإقناع ..يرسم.. يجرب يمارس فنا ونشاطا اجتماعيا إبداعيا.. لا تخلو شخصيته من إثارة للجدل يحمل وراء بساطة وجوده عقلا مركبا محيرا لكنه مقبول على أى حال وفى أى حال أيضا كثيرا لكنى أو من بأنه صاحب موهبة متمكنة وقدرة على المناورة الجمالية الإيجابية وفى معرضه الحالى بقاعة الفن بالزمالك آخر مغامراته الجمالية فى موضوع صعب.. وهو ليل القاهرة.. وفيه انطباعاته وتفاعله مع أضواء هذه المدينة المحيرة سحرا وعمرا.. يتجاوز محمد عبلة التوثيقية التسجيلية المباشرة إلى التقاط النور المنطلق ليلا من مدينة مغرية للإبداع ..وللحق فقد نجح فى نقل مشاعره بتمكن وسلاسه ربما تكون هناك تحفظات على التقنية والاستعانة بعناصر غير العين والمشاعر لكن النتيجة أمامنا هى الأساس .. أعمال تصويرية لفنان فاهم ولديه وعى كبير بفكره وإيمان عال بموهبته مع شجاعة أدائية تستحق التقدير .
- إن قاهرة محمد عبلة فى ليلها المبهج انطباعات صادقة لا تخطئها مشاعر تتجول فى ميادينها وتجلس على كورنيشها لتتأمل سكينة نيلها الجميل أو تمشى فى شوارعها وفوق كباريها أو زوايا حواريها بفرحة تعكسها ألوانا متآخية يسكنها دفء جغرافيتها المحببة ..اللوحات مجموعة ابتسامات بصرية تصدر لنا سعادة جمالية .
إبراهيم عبد الملاك
مجلة صباح الخير - 2009
محمد عبلة يضع الضوء فى قلب اللوحة
- والمبانى والشوارع والميادين لصالح الضوء وهو مايفسره محمد عبلة بقوله : ` الضوء هو البطل وتجسيده عبر اللوحات هو الهدف الأساسى من المعرض فالضوء الصناعى موضوع لم يهتم به كثير من الفنانين حول العالم وعادة مايتجه اهتمامهم الى تأثيرات الضوء على الموجودات من بشر وأشياء.. الضوء دوما فى الهامش،هذا المعرض يهدف لآن يجعل منه متنا وماسواه الهامش ` .
- ويكمل الفنان محمد عبلة تفسيره لاختيار الضوء الصناعى كموضوع لمعرضه فيقول : `بدأت العمل على لوحات المعرض منذ عام انطلاقا من فكرة أن الضوء يغير شكل المدينة، فالقاهرة تحت تأثيره تتحول إلى مدينة أخرى لهذا اهتممت بابراز هذا الأختلاف، واؤكد ليس ابراز جمال المدينة هو الهدف بل أبراز مايضيفه الضوء فى الليل من اختلاف وجمال ` .
- ورغم اصرار محمد عبلة الواضح على جعل الضوء هو سيد المشاهد واللقطات التى سجلتها ريشته بألوان الاكريليك على القماش الا أنه لم يستطع تجاهل موضوع الفن الرئيسى `الإنسان` الذى تسلل ليصيد الاهتمام عبر لوحات صغيرة الحجم متناثرة فى صالات العرض الثلاث الداخلية التى تكمل الصالة الكبرى الواسعة لقاعة الزمالك للفنون، ففى بعض اللوحات أطفال يلعبون ويعابثون ظلالهم المرتمية على الارض تحت أحد أعمدة الأنارة الليلية أو صياد مراهق تبدو خطوط جسده الخارجية تحت أضاءة خافتة قادمة من مصدر غير مرئى أو كما تبدو فى لوحة متوسطة فى احدى القاعات الداخلية مارة فى ملابسهم الشتوية يخطون فوق كوبرى قصر النيل فيما تمرق بجوارهم السيارات لتكون مصابيحها هى مصدر اضاءة اللوحة .
- كوبرى قصرالنيل، مبنى اتحاد الاذاعة والتليفزيون، الفنادق الشهيرة مبانى ميادين طلعت حرب ومصطفى كامل ومدخل شارع عماد الدين كلها تبدو فى اللوحات غائمة طافية على سطح تأثيرات الضوء فيما تنطق كتل الالوان الممثلة لأعمدة الأنارة والمصابيح بوضوح فى مقدمة اللوحة وقلبها ويبدو كل شئ أخر فى الخلفية الا النيل .
- النيل - ومراكبه العائمة الصغيرة باضوائها الملونة- هو صاحب نصيب الاسد فى لوحات المعرض ويعلق محمد عبلة على ذلك بقوله : النيل هو بطل المدينة هو الذى يبرز تلك الأضواء ويحيلها من مجرد أشعة مرتمية من مصدر صناعى إلى عناصر جمالية شديدة الخصوصية والجمال للنيل لدى أهمية خاصة يمكن تبينها فى المعرض فالنيل هو مصدر حياة القاهرة ومصدر بهجتها كذلك، لهذا اهتمت بتبيان أثر الأنعكاسات على صفحة مياهه فى النيل .
- وإلى جانب النيل تطل منطقة وسط المدينة على الرائى عبر اغلب اللوحات وهو مايفسره محمد عبلة بانه يرسم ماتقع عليه عيناه خاصة وأن مرسمه الخاص يقع فى منطقة وسط البلد مما دعاه للرسم من فوق كوبرى المحور والسادس من أكتوبر وغيرهما .
- ومن بين اللوحات تبرز على استحياء لوحتان تصوران مولد السيدة زينب - التى يقع مسجدها بالقرب من منطقة وسط القاهرة وعلى احد مداخل القاهرة التاريخية فبدت اللوحتان غريبتين عن جو المعرض ويعلق الفنان محمد عبلة على هذا بقوله، ` لا يمكننى أن أتجاهل البهجة التى يصنعها البسطاء عبر الضوء فى الموالد والأعراس فالضوء الصناعى له فى وجدانهم دلالات خاصة، فهم يعرفون كيف يوظفون ألوانه فى صنع حالة البهجة أو يعكسون من خلال اضاءات النيون الهادئة أجواء الحزن المصاحب للعزاء ويضيف: هاتان اللوحتان هما مقدمة لمشروع مستقل حول الضوء الصناعى فى أحياء وحياوات `جمع حياة `البسطاء بعيدا عن زخرف وسط المدينة .
- لا يحكم معرض محمد عبلة منظور واحد فبعض اللوحات تبدو مصورة من منظور عين الطائر وبعضها يبدو من زوايا جانبية أو زوايا أخرى ذات صبغة سينمائية واضحة، ورغم أن اعتماد المعرض على الأضاءة الصناعية يعطى انطباعا بأن جميع اللوحات تصور القاهرة فى الليل الا أن محمد عبلة يصر على كسر التوقع وتبدو بعض اللوحات وقد تسلل اليها بجرأة ضوء نهارى . وعن هذا يقول عبلة لم يكن من الممكن أن اقصر التصوير على الليل فقط فهناك لحظات تختلط فيها الأضواء لتصنع حالة لونية وضوئية وجمالية خاصة ، كاللحظات القريبة من الغروب وتلك القريبة من الشروق وهذا لا يتعارض مع فكرة المعرض التى تبحث فى فكرة الضوء فى أشكالها ومواقيتها المختلفة، فالضوء صديق الوقت ويشترك كل منهما فى تحديد ملامح الاخر والدلالة عليه .
عزة مغازى
جريدة الأهرام المسائى - 2009
محمد عبلة يدعو الجمهور إلى التأمل وإمعان النظر
- يخرج محمد عبلة من جعبته 45 لوحة يهديها لليل المدينة ، يطرق فيها مناطق فنية جديدة ولا يحيد عن إشراك جمهوره فيها .
- إنها المدينة الباهرة المبهرة التى سحرت الشعراء، فتغنوا بليل القاهرة، وأضواء باريس، وليالى روما.. صارت هى القدر الذى يرحقك كما وصفها الشاعر اليونانى كفافى ، وسواء كانت القاهرة هى `نداهة ` يوسف أدريس أم ` مدينة بلا قلب ` لعنها وأحبها حجازى، فقد خطفت قلب الفنان التشكيلى محمد عبلة الذى سار فى فلكها منذ بداياته، فطبعته المدينة بتغيراتها المتواترة، يهيم على وجهه فى أرجائها معلقا آلة التصوير حول رقبته مسجلا اندهاشاته اللانهائية، ثم منكفئا فى مرسمه ليخرج لنا فى كل مرة مغامرة فنية جديدة .
- فى هذه المرة يسجل عبلة لحظة أن يدرك الظلام ليل المدينة، وتغمر الأضواء واجهات الأبنية والبيوت، وتعكس أضواء الكشافات العملاقة ولمبات النيون الملونة على صفحة النيل، فتتغير جغرافية المكان، وتتبدل الأشكال وتتخذ أحجاما مختلفة عما عهدتها عيوننا فى ضوء النهار - يعطى الفنان لهذا المعرض (الذى يضم حوالى 45 لوحة أكريلك وزيت على ورق) عنوان `أضواء المدينة ` ويكتب فى مطوية المعرض بلغة شعرية بليغة: ` فى هذا المعرض ألقيت بنفسى فى ليل المدينة أصارع أمواج الضوء وهى تبرق وتومض من حولى، فجأة تنير وفجأة تظلم وتتلاشى ` يتعامل عبلة مع الفن كمادة للبحث يطرح من خلالها أسئلة فنية جديدة ولا ينسى أن يدخل معه دائما المتلقى، فعلها حين ابتكر تقنية بسيطة يشرك في الجمهور و `يحثه `على المشاركة فى دعوة للرسم أقامها فى متحف محمود خليل ومهد فيها السبل لجمهور المتفرجين أن يمسكوا بالقلم ويرسموا بحرية وبلا خوف من التجربة،فعلها ثانية حين شارك فى معرض ` كتاب مصر يرسمون ` فى 2008 ، الذى شجع فيه كتابا مصريين على آلا يهابوا فرشاة الرسم وأن يطلقوا العنان لخيالهم بلا قيد أو شرط، أو فى معرضه التوثيقى عن احداث جزيرة القرصاية التى تبنى فيها قضية أصحاب الأرض وحقهم فى التمسك بأرضهم. وبالأضافة إلى محاولات عبلة الدائمة لتجاوز حدود اللوحة والتواصل مع البشر من حوله، فإن أعماله الفنية وأفكار معارضه لا تغفل أبدا وجود المتلقى، وقد تكون تجاربه العديدة فى الأعتماد على الفوتوغرافيا أو دمجها بالتصوير الزيتى هى أحد صور التعبير عن البشر الحقيقيين، كما لوكان يسعى للسيطرة على مفردات اللوحة والأمساك بملامح بحثه الفنى وفى الوقت نفسه أن يلامس المتفرج ويؤثر فيه. أو كما يعبر الفنان نفسه عن ذلك بحرارة وصدق : `أحاول من خلال هذا المعرض أن أدعو الناس لتأمل الطبيعة من حولهم ، اخترت موضوع ليل المدينة لما يطرحه من احتمالات وخيال ورؤى لا محدودة لكننا لا نتأمله جيدا، وحرصت رغم صعوبة رسم الليل أن تكون الأعمال بسيطة أقرب إلى الفوتوغرافيا `ففى لوحة قد يجذبك هذا التناقص الرائع بين الأسود الحالك الذى يلف المدينة والألوان الزاهية المبهرة تضئ السفن والفلوكة فى قلب النيل، وهى لوحة أخرى `يستعيض` الفنان عن الخط بنقاط الضوء التى ترسم وحدها حدود الأشياء، فيتضاعف حجم فوانيس السيارات المارقة فوق كوبرى قصر النيل، وتتعاظم هالات الضوء المنبعثة من أعمدة الأنارة لتكون أقراص شمس متعددة، `يلهو `عبلة بفرشاته وينقر مثل خربشات طفل يذهب بعيدا بخياله، ويقابل فى لهوه هذا ، وفى منطقة ما ، تخمينات المتفرج الذى `يحرز ويفزر ` ليتعرف على أماكن عهدها وتقاسم معرفتها مع الفنان، أماكن أحبها أو ضاق بها ، لكنه يراها تحت ضوء جديد. وقد يذهب خيال المتلقى إلى المقارنة بين رؤية الفنان وخيال المشاهد، قد تتراءى أقراص الأنارة للفنان كقرص الشمس، بينما تتحول لدى المشاهد إلى زهرة عباد الشمس عملاقة تختال فوق عمود شاهق. إنها هذه الحالة التى تجمع بين الغموض والضبابية وبين الكشف والتعرى تحت تأثير الأضواء الكاشفة، التى تؤكد تفرد فكرة المعرض وتساعد على التفاعل مع المتلقى فى منطقة وسط، فلا يمكنك أثناء تجوالك فى المعرض أن تنسى صوت فيروز وكلمات جبران خليل منشدة : `سكن الليل - وفى ثوب السكون - تختبئ الأحلام ` .
- أما على مستوى المغامرة الفنية كما يسميها الفنان نفسه، فقد كان ضوء النهار هو المحرك والحافز دائما لإنجاز الأعمال الفنية واختبار تأثيرات الأضاءة الطبيعية عليها ، أما عبلة فقد جعل من الإضاءة الصناعية وتأثيرها مادة بحثه : ` القاهرة تعشق الضوء فهو ينير وجهها ويرسم معالمها ` ويضيف فى مقدمته للمعرض `الضوء فى ليل المدينة يرسم جغرافيا خاصة وعالم مختلف من الخطوط والأقواس والدوائر والنقاط المضيئة ` .
- فالمثال المعروف فى تاريخ الفن كان لأعمال الانطباعيين، الذين عكفوا على دراسة تأثير الضوء فى ساعات النهار المختلفة على الموضوع، وكانت الاثنتى عشرة لوحة للفنان الفرنسى مونيه مصورا كاتدرائية نوتر دام بمدينة روان شاهدة على هذا الاتجاه. سلك محمد عبلة طريقا معاكسا للانطباعيين، تأمل من خلاله مدى تغيير الضوء الاصطناعى، تأمل من خلاله مدى تغيير الضوء الاصطناعى للمكان وكيف تبدل وجه المدينة ليلا. فى إحدى لوحات عبلة تسيطر زرقة الليل على سطح اللوحة، وتتكاثر البقع اللونية المضيئة فوق واجهات البنايات، فتتحلل الأشكال وتنكسر بفعل الضوء لتستحيل إلى أشكال تجريدية متطايرة تؤكد على روح الفنان الحداثية ومشاركة الآخر فى كشف الأحلام .
دينا قابيل
جريدة الشروق - 2009
محمد عبلة يرسم مرثية للنيل
- كعادته فى كل معرض فنى جديد يثير محمد عبلة الدهشة.. يفاجئك بأسلوب جديد فى أعماله، أو بموضوع معرضه..هو يدرك تماماً أن المدارس الفنية قد أغلقت أبوابها من زمان.. لم يعد مهماً الانتماء أو الأعتماد على مدرسة فنية معينة تعبيرية أو تكعيبية أو تجريدية.. المهم هو `الموضوع`.. موضوع اللوحة وموضوع المعرض.. كثيرون من الفنانين التشكيليين يغرقون أنفسهم فى تجارب مع الشكل أو اللون أو الأسلوب الفنى يفهمها المتخصصون، فيقضون سنوات من عمرهم محصورين داخل دوائر ضيقة من التأثير .. وقليلون - منهم محمد عبلة - تجاوزوا ذلك المنحنى ليمتد تأثيرهم إلى دائرة أوسع .
- فى معرضه الجديد يقدم `عبلة `رسالة واضحة المعنى.. رسالة تحذير أو قل رسالة رثاء مرثية للنيل.. مستخدماً الصورة الفوتوغرافية مع جذع شجرة، أو الفيديو مع فروع جافة خالية من الخضرة، إلى جانب اللوحة التقليدية.. مشهد لنيل القاهرة يبعثر على سطح مياهه باقات من الورود، وكأنه يقدم للنيل تحية عرفان وينبه الآخرين الذين لوثوه إلى فداحة جريمتهم. ليست المسألة خروجاً على نص العمل الفنى.. وليس الهدف مجرد إثارة الدهشة، وإنما السبب أن محمد عبلة تربطه علاقة خاصة بالنيل.. أحد مقومات الحياة فى مصر وأحد العناصر المكونة للشخصية المصرية .. كان مشروع تخرجه فى `فنون الإسكندرية` عن المراكبية الذين ينقلون البضائع من الصعيد إلى القاهرة، يصارعون الرياح ويتسلقون السقالات ويفردون القلوع.. عاش `عبلة ` فى وسطهم وهم يقرأون خريطة النيل وحركة الماء.. تلك التجربة الإنسانية المباشرة علمته أن النيل كائن حى، قدسه المصريون القدماء وقدموا له القرابين كإله لإدراكهم مدى أهميته فى حياتهم..على خلاف جهلنا الحالى بشريان الحياة فى بلدنا.. كفنان تشكيلى يعتمد على ذاكراته البصرية مازال مشهد الفيضان محفوراً فى وجدانه.. هدير المياه واندفاعها وانعكاس أشعة الشمس عليها أعطته خليطاً من الألوان الذهبية والفضية.. ورسمت صورة لا تفارق خياله.
- ليس غريباً أن يقيم `عبلة ` فى جزيرة وسط النيل، وأن يخوض معركة إلى جانب أبناء القرصاية من فلاحين ومثقفين لمنع الانقضاض عليها وتحويلها إلى منتجع سياحى يستعيد حالة المصرى القديم عندما كان النيل وسيطه فى التنقل من مكان إلى آخر.. معايشة الفنان لبيئته ولناسه تجعله أكثر ارتباطاً بهم حين يبدع، يبحث فى أعماله الفنية عن طريقة للتواصل مع الجمهور الأوسع، لا أن يتقوقع فى دائرة النقاد والمختصين بالفن التشكيلى.. وليس غريباً أن تجد عبلة دائماً وسط مجموعات من الناس.. الشباب والكبار والفنانين والصحفيين والأدباء والشعراء..هو دائماً حلقة وصل، وبوصلة تساعد الآخرين على تحديد الاتجاه بما يملكه من خبرة إنسانية وفنية..وهو يدعو دائماً إلى إعادة النظر فى طرق تدريس الفن فى المدارس والجامعات.. أن نبتعد عن النظريات الجامدة، أن نعيد النظر فى تقليد المدارس الفنية الغربية، وأن نراجع أسباب تأثر فنانينا بالغرب، ونتيجة ذلك على أعمالهم وحضورهم فى مجتمعهم..النتيجة حالة من الاغتراب عن الواقع البصرى والاجتماعى لدى الفنان المصرى، وضياع الذائقة الجمالية لدى الفنان ما دام قد ارتبط بتصورات خارجية تحدد ما هو الجميل وما هو القبيح، ما هو الصحيح وما هو الخاطئ فى العمل الفنى فتحية إلى محمد عبلة وعذراً للنيل.
حسام شرف
الدستور - 23 / 11 / 2010
محمد عبلة: معرض تحية حب من مصر تضامنا مع الشعب السوري
أكد الفنان التشكيلي محمد عبلة أن معرض `تحية حب من مصر` للتضامن مع الفنان السوري علي فرزات هو تضامن بالأساس مع الفنان فرزات والشعب السوري بالكامل والتأكيد على حقوق التظاهر وحرية التعبير في جميع أنحاء الوطن العربي .
وأضاف عبلة أن دور التشكيليين والرسامين في الوطن العربي لا يتوقف عند إنجاز أعمال فنية لكن يشمل الوقوف بجانب زملائهم في المهنة وهو ما نفعله بإقامة هذا المعرض من أجل بث رسالة إلى على فرزات بأننا واقفون بجانبه ضد أي تعد على رواد الفن وأضاف أن فرزات دفع ثمن موقفه النبيل جراء تأييده لشعبه رغم جميع الإغراءات المقدمة له .
ومن جانبه قال أحمد طوغان رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير المنظمة للمعرض إن هذا المعرض تعبير من جانب الفنانين المصريين عن مساندتهم للشعب السوري مؤكدا أن الجمعية لم تتوقف عن دعم فرزات وأنها بصدد إعداد ملف خاص بالتشكيليين السوريين في عدد المجلة الصادر عن الجمعية خلال الفترة المقبلة وذلك إيمانا بأن الرسام في مقدمة المدافعين عن الحريات .
وكانت الجمعية المصرية لفناني الكاريكاتير قد أفتتحت الثلاثاء الماضي معرض `تحية حب من مصر` للتضامن مع الفنان السوري على فرزات بالتعاون مع أتيليه القاهرة .
ويضم المعرض الذي يستمر لمدة أسبوع 50 عملا للفنان على فرزات بجانب 20 لوحة من أعمال فنانين مصريين منهم أحمد طوغان ومحمد الصباغ ومصطفى الشيخ وحسن فاروق وحسن فداوى وسمير عبد الغني بالإضافة إلى جدارية بيضاء لتعبير الحضور عن تضامن الفنانين والجمهور من خلال الكتابة عليها وإرسالها إلى الفنان السوري .

الشروق
«يوميات القاهرة»
- العشوائية التى فرضت نفسها علي منازل القاهرة يجسدها الفنان محمد عبلة في أعمال فنية تحت عنوان «يوميات القاهرة» تحمل كلها صرخة متشائمة تتناقض مع بهجة ألوانها .
- من اللحظة الأولى تشعر بالصدمة.. فالأبراج التى تخيلتها شاهقة مختلفة كما قد يوحى لك اسم المعرض «أبراج القاهرة» ليست كذلك فى واقع الأمر إنما هى بيوت مألوفة مما تكتظ به شوارع القاهرة.. وتكتمل الصدمة عندما تكتشف أن لوحاته ولأول مرة تخلو من الشخوص التى اعتدنا أن نراها فى أعماله، لتتساءل عن سر اختفائها ؟
- وهذا بالضبط ما يرمى إليه «عبلة» أن تشعر بالصدمة لأن ذلك كما يقول هو ما يدفعنا إلى التفكير وطرح التساؤلات، وعندما نفعل سنفكر كيف نخرج من الأزمة، كيف نعيد الجمال والنور إلى قاهرتنا.. وبعد قليل عندما تبدأ فى التدقيق فى لوحاته وتطالع اليوميات تكتشف أن البيوت ليست مألوفة واللوحات ليست خالية من شخوصها !
كلمات: نادية عبدالحليم

( محمد عبلة يبدأ مرحلة فنية جديدة فى ( البحث عن الضوء
- يبدو أن الفنان محمد عبلة يبدأ مرحلة جديدة فى مسيرته الفنية فى المعرض الأول من مشروعة الفنى الجديد ` البحث عن الضوء ` الذى افتتح مؤخرا بقاعة المركز المصرى للتعاون الثقافى الدولى بالزمالك،فلقد تخلى عبلة عن الوسائط المختلفة وأبرزها الصورة الفوتوغرافية، التى كان يضيفها لسطح لوحاته الفنية ليعود مرة أخرى إلى الباليتة والألوان الزيتية والأكليريك والفرشاة فقط، ليخرج بها بما يقرب من 25 لوحة فنية متنوعة الأبعاد ما بين الكبيرة والمتوسطة، ومجموعة أخرى أقل حجما من المتوسط، وهو اتجاه جديد أيضا غير معتاد من عبلة، الذى اعتاد العمل على المساحات الكبيرة.
- قرر عبلة أن يجوب محافظات مصر باحثا عن الضوء ابتعدنا عنها مؤخرا وانخرطنا فى المشاكل اليومية بكل تفاصيلها التى لا تنتهى،عبلة بدأ البحث فى مدينة الفيوم وبحيرة قارون ليرسم مشاهد مختلفة منها كمنظر طبيعى بحت يخلو تماما من الانسان وهو أيضا اتجاه جديد لدى عبلة الشغوف برسم الإنسان فى لوحاته، ربما نتذكر هنا الرحلة التى قام بها الشاعر فؤاد قاعود ورسام الكاريكاتير حجازى اللذان كانا يجوبان محافظات مصر ليلتقط منها حجازى لقطاته الخاصة لأهل القرى والمدن الإقليمية بمصر ويعبر عنها قاعود بالكلمة المنظومة بالعامية المصرية، فى محاولة منهما لأرشفة حياة المصريين والروح المصرية بالريشة والكلمة.
- تأثر عبلة فى الأعمال بروح الانطباعية وباليتة رينوار بروحها الزرقاء الشفيفة مقتربا من أسلوبة أيضا فى ضربات الفرشاة ذات المساحات المستطيلة رأسيا المتراصة فى ليونة معبرة عن الحشائش البرية على ضفاف البحيرة محيطة بالجزء اليابس الممتد بها.. بينما تتضاد معها حركة السحب فى سماء العمل التى تبدو متحركة فيها ومتقاطعة معا فى مساحات شبة بيضاوية أفقية لتأخذ فى التمدد والتفكك مع اقترابها من خط الأفق المتلامس مع البحيرة .
- أما الضوء فى أعمال عبلة وهو المادة الأولية للطبيعة فلقد اختار الفنان وقت العصارى وهو اللحظة الانتقالية ما بين الصباح والمساء التى تخفت فيها حدة حرارة أشعة الشمس فتبدو الأشعة أكثر تحديدا ووضوحا تكتسب لونا ذهبيا إلى حد ما فيعكس بريقا خاصا فى عيون المعايش لتلك اللحظة، لتمنحة بعضا من الأمل والشجن .. تحتاج هذه اللحظة الضوئية لعين حساسية فى التقاط الدرجات اللونية المتعددة التى تزخر بها الطبيعة فى تلك اللحظة ليبدو المشهد الطبيعى غنيا باللون متجاوزا للتجسيم والبعد الثالث للعانصر وهو ما ركز علية علبة فى لقطاته بينما اختار لحظات أخرى قريبة أكثر للمساء أو مشمسة أكثر فتبدو الطبيعة متوهجة وساخنة .
- لم يقرر بعد عبلة وجهته التالية أو أين سيتم العرض لكن جنبات مصر كثيرة وثرية وأرضها خصبة بحاجة للكشف عنها واستدعائها مرة أخرى لعيون المصريين .
تغريد الصبان
روز اليوسف - 9/ 4/ 2013
محمد عبلة يتجاوز جدار العزلة
اكتسب مكانة متميزة ضمن أفراد جيله بتشابكه الواعى مع الواقع سواء كان اجتماعيا أو فكريا أو سياسيا من خلال تأكيد مفهوم جعل اللاممكن ممكنا حيث شحن أعماله بصفات شخصية
رفع محمد عبلة جدار العزلة الذى ظل قرونا يقف بين الفنان فى عزلته داخل مرسمه والناس فى شئونهم اليومية، متصديا لقضاياهم وهمومهم فى المحيط الذى يعيش فيه كقضية القرصاية وتجلى مفهوم عبلة عن قضية الفن مع فجر 25 يناير 2011 فلم يبتعد يوما عن ساحات النضال من أجل الحرية والرغبة فى التقدم .
ينتمى ` محمد عبلة ` إلى جيل الثمانينات الذى يتميز بتمرده على القوالب الكلاسيكية لصالح النزعة التلقائية والصدفة واللحظية التى تعكس رغبة عارمة تحررية مغامرة تتجاوز الحسابات الرياضية والهندسية فى الفن تلك الحسابات الأكاديمية التى أدت إلى الجمود والتكلس وساهمت فى تفريغ الفن من محتواه كانعكاس لتفاعل الأفكار فى المجتمع وعلى الرغم من أن حركة جيل الثمانينات حركة عالمية، دفع الشباب بإبداعاتهم من خلالها إلى فضاءات جديدة غير مسبوقة إلا أن عبلة احتفظ بجذور تربطه ببيئته وتراثه والنيل الذى يسكن الآن على شاطئه بجزيرة الذهب مقابل الجيزة وعلى مقربة من الأهرامات وهو الذى جاء من رحم دلتا النيل حيث ولد بمدينة بلقاس -المنصورة ، ودرس الفن بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ومنذ تخرجه فى عام 1977 بترتيب الأول على دفعته فى قسم التصوير ( الرسم الملون ) وهو يشارك فى الحياة الفنية على كل المستويات سواء كانت جماعيا من خلال فرق عمل فى الأحياء الشعبية بهدف التواصل مع جمهور جديد أو شخصيا عبر المعارض الخاصة .
تشكيل الوعى
اكتسب محمد عبلة مكانة متميزة ضمن أفراد جيله بتشابكه الواعى مع الواقع سواء كان اجتماعيا أو فكريا أو سياسيا من خلال تأكيد مفهوم جعل اللاممكن ممكنا حيث شحن أعماله بصفات شخصية يصعب تصنيفها تداخلت فيها الوسائط والأشكال والنماذج والصور والرموز وكأنها عابرة للنوعية والتصنيف لكنها تعكس واقعا معاشا شديد الإلتباس والتعقيد ومع ذلك تأتى معادلاته بسيطة معتمدا على السرد الحر التلقائى فالأشكال لدية تصف العلاقات فيما تتفاعل المفردات والاجزاء متبعا أسلوبا بسيطا فى التناول يستند إلى استخدام اللون باقتصاد دون ترتيبات محكمة فى محاولة إلى تحرى الصدق وعدم الإدعاء والتعبير الحر .
لذا عندما يتناول قضية بيئية كالتعدى الصارخ على النيل ( شريان الحياة فى مصر ) فإنه لم ينزلق فى التعبير الخطابى المباشر وإن كان قد استخدم الصورة الفوتوغرافية فى تكويناته ضمن تقنية الإلصاق والتجميع إلا أنها عبرت عما يعتمل فى صدره من خلال نظرات الحيرة فى عيون سكان جزيرة الذهب مكان إقامته الأثير والتى تعكس دهشة أهالى الجزيرة متسائلين هل الفنان بكاميرته يحتفى بنا عندما يصورنا ؟ وأنه يفضح سلوكنا تجاه شريان الحياة فى مصر والغريب أن الحيرة التى ارتسمت على وجوه شخوصه المصورة لا تقل عن حجم الالتباس الذى تعكسه الحالة الإبداعية لدى عبلة والتى تتشابه مع منحى` عبد الهادى الجزار` عندما جسد مظاهر تخلف بيئته التى يقطن فيها بحى الميضة بالسيدة زينب وكأنه جراح يمسك بمشرط يسعى إلى استئصال الداء وليس رغبته فى سماع آهات المعذبين والمرضى.
تماس عبلة مع فن البوب ارت باستخدامه رسائل الإعلام الأكثر تداولا الأقل جمالية الأكثر وان انفرد بالنقد الذاتى وتعرية المجتمع بعد أن شحن أعماله بطاقة تعبيرية رمزية هائلة وتناول صادق فى الوقت الذى كانت فيه أعمال فن البوب تعكس موقف الفنان الحيادى البارد تجاه تجاوز السلوك الرأسمالى وسطوته فى ظل غياب أيه محاولة نقديا قاسية كما فى لوحة ( عبلة الشوربة ) لا وندى وارهول أو لوحة فنية الكوكاكولا فى أعماله روزنكويست .
منطلقات جماعية
وإن كان `عبلة` قد اتفق مع منطلقات جماعة الفنانين المستقلين الشباب الذى كان الناقد الإنجليزى لورانس اللوى قد أطلق على إبداعاتهم عبارة ( بوب ارت ) كإختصار لكلمة Popular وتعنى ` شعبى ` عندما وقفوا ضد الفن اللاشكلى وعبروا عن رغبتهم فى العودة إلى مظاهر الحياة الحديثة ووسائل الثقافة الشعبية حيث جاءت أعمال `عبلة ` تعبيرا عن التغييرات الحادة والعنيفة التى حدثت للمجتمع المصرى بعد قرارات الرئيس السادات الاإنفتاحية ووقعت أغلب فئات المجتمع أسيرة لوطأة ممارسات رأسمالية سادت فيه ثقافة الإستهلاك متجاوزة القيم الإجتماعية والإقتصادية التى كانت سائدة فى ظل نظام اشتراكى .
انطلق ` عبلة` من رحم جيل اندفع يدافع عن ثقافته التى انتهكها المجتمع المدنى الجديد مجتمع الشركات المتعددة الجنسيات والبحث عن الربح السريع عالم تحكمه الإعتبارات المادية جيل يبحث عن الإستقلال فى وسائط التعبير المختلفة سواء فى السينما أو الأدب أو فى الشعر حيث يقول : أقدم لوحات فنية ورموزا إنسانية خاصة بى وبالإنسان عموما وهى أشبه بكتابات الكهوف الحديثة باختصار الجزء الآخر من الرموز والحنين والقصص والأشكال وأطرح أيضا مخاوفى الخاصة وحنينى إلى الماضى عبر مخزون الذاكرة .
لذا انعكست هواجس هذه الرحلة فى أعماله التصويرية كلوحة ` السلم والثعبان ` و ` حفريات المستقبل ` سواء من حيث تناول موضوعات جديدة تحمل رؤى مغايرة أو من حيث المعالجة التى اتسمت بالجرأة فى استخدام اللون وأحدثت ملمسا خشنا يتفق مع الصراع الإجتماعى الدائر بين تيار يتمسك بالجذور والمكتسبات الحضارية والبعض الذى يحاول اقتلاع الجذور لصالح نباتات شيطانية .
وإذا كانت حركة جيل الثمانينات قد تمردت على واقع السبعينات إلا أننا نجد لها امتدادات فى جيل الستينات الذى ارتبط بالمشروع القومى لثورة يوليو 1952 وعبر أغلب فنانى هذا الجيل عن الحلم بواقع جديد وعلى الرغم من وجود قواسم مشتركة كثيرة بين توجهات جيل الستينات وجيل الثمانينات إلا أن اختلاف أطر التناول يجعل من الصعب الجمع بين الجيلين خاصة والنزعة السائدة فى أعمال جيل الثمانينات تعكس الفراغ الفكرى والسياسى والفلسفى التى اتسمت به المرحلة فجعل من إبداعات الجيل تبدو وكأنها وليدة الصدفة أو اللحظة أو أنها تخلت عما يمنحه الفن من خلود فى بحثه عن اليقين والحقيقة المطلقة .
ويبقى أن محمد عبلة يطرح نموذجا للفنان المستقل الذى اختار التفرغ للفن فى وقت لا توجد فيه سوق للأعمال الفنية بالمعنى العلمى الذى يتيح آليات للبيع والشراء ويضمن هامش امان للفنان فقد كان اختيار التفرغ للفن مغامرة ومازال بعد التغييرات العنيفة التى يشهدها المجتمع الآن مع ثورة شعبية .
سيد هويدى
القاهرة 2013
حكايات لمريم ... معرض مرح لمحمد عبلة فى القاهرة
- يلعب الفنان محمد عبلة فى معرضه الجديد حكايات لمريم مع حفيدته عبر لغة فنية مرحة شفيفة يتقاطع ويتجاور فيها بحيوية إيقاع الفن والحياة بمفرداتها وحواراتها اليومية البسيطة .
- ويبدو لافتا فى لوحات المعرض الذى اهداه الفنان لحفيدته الاحتفاء بأجواء الطفولة طفولة الفن واللغة والحياة وكأنها تجدد نفسها وبهجتها من خلال عفوية الصورة التى يحرص عبلة دائما على تطويرها فى مغامرته التشكيلية محافظا على رسوخ تجربته والتصاقه الشخصى الحميم بها الذى لا ينفصل عن دبيب البشر ورائحة الأرض وحواديت الليل والنهار .
- وإذا كان الفن لعبا فهوعدوى أيضا هذا الاحساس سيطاردك بقوة وأنت تتأمل لوحات المعرض المقام حاليا بقاعة مشربية بالقاهرة وسوف تتفاعل مع أجوائها ورموزها من طيور ونباتات وحيوانات أليفة وأولاد ونباتات وأسماك وشمس ونجوم تلمع فى شطحات الخيال ونزق الفرشاة والألوان ولا تندهش وأنت تتوقف أمام إحدى اللوحات وتسترع مناخات طفولتك القصية بأن رائحة حدوتة ما طالعة من هذه اللوحات ربما روتها لك جدتك أو أمك أو أبوك عن أسماك تطير وقطط بأجنحة ملونة كالعصافير.
- يجسد عبلة هذا العالم الشيق من خلال مجموعة من المقومات والأساليب الفنية ففى صدارة المعرض يبنى جدارية مصورة من القصاقيص الفنية ( السلويت ) معتمدا عى مهارته كرسام حيث تحلق الرسوم بلونها الأسود الداكن على خلفية بيضاء وتنساب حركتها من كل اتجاه بحيوية داخل الجدارية مخلفة احساسا ما بالفرح والرغبة فى الطيران يترك أثره المبهج على عين المشاهد .
وفى بعض اللوحات يعمد عبلة إلى تلوين هذه القصاقيص بصباغات حارة مشعة أو باستخدام قصاصات ملونة فى الخلفية لكسر التضاد الصورى الذى يحدثه تجاوز اللونين الأبيض والأسود كما يلجأ إلى تخليق مساقط أخرى للضوء من العلاقات المباغتة بين الخط واللون والفراغ وهو ما يجعل حركة الرسوم تبدو كأنها تمتد إلى الخارج كتنويع على فضاء اللوحة الداخلى وفى الوقت نفسه يغرى بالمزيد من التأمل للوحة نفسها .
- وكعادته دائما فى كل معارضه التى يوثق بها لتجربته الفنية لا يكف عبلة عن المغامرة والتمرد على أسلوبه وذلك بدفعه فى كل مرة إلى آفاق أوسع من التجريب ينصهر فيها بمحبة إيقاع الحياة المتغير ومشاعره المتباينة على المستوى الشخصى والاجتماعى والسياسى وربطها بالأشكال والأساليب الفنية المختلفة .
- لذلك لا ينسى فى هذا المعرض خبرته الطويلة كفنان غرافيك فيقدم ملمحا آخر لملامسة هذه الأشكال والرسومات فى مجموعة من لوحات الغرافيك الملونة بخامة الزيت ليؤكد رحابة الشكل الفنى وقدرته على أن يستوعب الكثير من الرؤى والأفكار .
- هذه التنوع فى الخامة وأسلوب الرسم واللعب الفنى أثرى المعرض بصريا وفكريا فالحكاية لم تعد عالما مفردا قائما بذاته وإنما أصبحت مادة خصبة للحوار واستدعاء الأحلام والأشواق والذكريات ليس فقط من عبائة الطفولة والماضى وإنما تداعيات اللحظة الأخيرة إنها عالم لا ينتهى يتناسل كل يوم فى الواقع واللوحة معا لكن علينا أن ندخله ونتفاعل معه بوسائط بسيطة لأن جوهره بسيط وفطرى أيضا كما تشى بذلك وتعبر عنه بقوة لوحات المعرض حيث التنويع المستمر على تيمة الحكاية كمخزون بصرى وإنسانى متعدد الدلالات والإشارات والرموز .
- أيضا يبرز هذا التنوع حتى على مستوى أحجام اللوحات هل تتجاور فى باقات مجمعة ينتظمها خيط فنى مشترك فى إطار معين ثم يتسع هذا التجاور فى لوحات أخرى ذات أحجام متوسطة أو كبيرة نسبيا وهنا تطرح اللوحات فكرة التكرار للكثير من العلامات والرموز والشخوص لكن كقيمة إيجابية ولتخلق لها حيوات جديدة وزوايا نظر أخرى دون أن تسقط فى الاجترار والتشابه أو التماثل الفنى فالأشياء تتكرر فى لوحات المعرض لتحقق نوعا من الاستدامة للحكاية وللرسم نفسه بروح مغايرة ومعالجة فنية مختلفة .
بقلم / جمال القصاص
جريدة الشرق الاوسط يونيو 2015
المزاج البصرى عند محمد عبلة
بينى وبين محمد عبلة مساحة تسمح لنا بالنقد والعتاب.. تاريخ ممتد من أكثر من ثلاثين عاما.. الخلاف بيننا صحى جدا.. الأقتراب والبعد مثل لغة التشكيل.. له نصوص مشغولة بالعانى الجميلة توصل فى النهاية الى قراءات يستفيد منها الجميع.. علاقة أشبه بضربات فرشاته المتقطعة.. محمد عبلة يقيم الأن معرضا مهما بجاليرى سفر خان بالزمالك.
فى حضرة الصبار والألوان المعجونة بالندى وضوء النهار بجزيرة القرصاية التى يقيم بها الفنان أستطاع أن يختزل الحكايات والبنايات، والحركة فى تشكيلاته لمجموعات من نبات الصبار مع نباتات وزهور مختلفة.. الألوان والتشكيلات حروف للطبيعة لها معان ترتبط بفلسفة الفنان ورؤيته للكون. حروف تحرر فيها من المعانى التقليدية للشكل واللون ليقدم لنا الحياة العاطفية للعالم الطبيعى بين الروحانى والمادى، فاللون هو جسر يربط يربط بين حياتنا الروحية الداخلية، والعالم المادى الخارجى فنشعر بالأزرق ونرى الأحمر، ونتعافى مع الأخضر.. اللون هو روح الطبيعة الذى نختبر فيه الأحاسيس المرئية من حولنا والتى أنطقها محمد عبلة ليوثق الحى من الأشكال بنغمات شديدة الدفء ومتوسطة الدفء لتتلاقى مع ألوان متوسطة البرودة وشديدة البرودة، وأيضا لتحقق التوازن مع تأكيد الحركة ، وتحرك شهيتنا الغريزية من خلال لغة جمالية متأججة من قبل الفنان. لا يمكنك التنفس خارج إطار اللوحات وأنت تشاهدها لقدرة صاحبها فى تصدير إشعاعات الألوان لتعبق المكان فتثير حواسنا فى حالة تجمع بين شروق الشمس وغروبها فى وقت واحد، مؤكد على الحالة الإنفعالية الجريئة فى تحقيق هذه التناقضات التى تطل علينا بتلك الألوان القوية فى تشكيلات حادة شديدة الفتنة.
تجليات مرتبطة بالمكان والغريزة لا يتدخل إلا من خلال حالته اللاشعورية التى تعكس حالته النفسية للطبيعة وألوانها التى تسكرك بالأضواء التى تعكسها بداخلك لتصبح جذا منك إنها مثل الضوء الناتج من كأس ذهبى حين تنظر اليه مباشرة. ألوان جريئة وغير باهتة ونباتات برية تشعرك بؤلفة بدفئها ونقائها، ويحقق العداء بين درجات الأحمر الذى تناوله فى المناظر الطبيعية بجانب الدرجات الزرقاء الشعور بالسخونة والحيوية التى تحقق الحركة التفاعلية فى حالة من التوحش الذى يغرى الجسد بالإهتزاز الذى يصل الى الرقص بقدرة الفنان على تحقيق الحركة رغم كثافة اللون، وشحن الفضاء التصويرى بدفء يوصل فى بعض الأعمال الى حالة من التوتر البصرى والإنفعال وتهييج المشاعر.
هذا الأسلوب يتبعه محمد عبلة عندما ينتبه الى نفسه دون غيرها، والمكان الذى يعيش فيه، ويبعد كل التأثيرات الخارجية التى ترتبط بالترتيبات العقلية، فترى تأثيرات ضربات فرشاته المتقطعة التى تحقق تناغمات تشعرك بالثقة والحرية عندما يتناول بيوت القاهرة، وحياة البسطاء بالشوارع، وشواطىء النيل. كل هذا يعكس العالم الحقيقى لعبلة حين يحافظ على أدواته ولا يستجيب الا لمزاجه البصرى فتجد تناغماته الخاصة فى التشكيل والتلوين تتناقض مع النظريات التقليدية وترتبط بعزفه الخاص.
تأثر عبلة بفكر الإنطباعيون الجدد وصنع لنفسه آلة عزف خاصة به فترى ألوانه قوية تغنى وترقص بتوليفة من النظام والعشوائية تشعرك بحالة بوهيمية بما فيها من مغامرة، وإستفزاز، وكسر للقواعد التقليدية.
ولد محمد عبلة بالمنصورة سنة 1953، وتخرج من كلية الفنون الجميلة قسم تصوير جامعة الإسكندرية 1977، هذا بالإضافة إلى دبلوم كلية الفنون الجميلة 1978،ودرس في كلية الفنون والصناعات `نحت` بزيورخ - سويسرا 1981، فيسنة 1987. بدأ زيارة المتاحف الفنية في أسبانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا، وأقام العديد من المعارض فردية ومشتركة بالقاهرة، وفيسنة 2007 أسس محمد عبلة مركزالفيوم للفنون. وفي2009 أقام أول متحف لفن الكاريكتير بالشرق الأوسط ، وحصل على جوائزمن مختلف الدول وكانت أول جائزة في معرض القاهرة في عيون الفنانين .

د سامى البلشى
مجلة الإذاعة والتليفزيون 13 مارس 2021.
تحولات السلم والثعبان
-أقام الفنان محمد عبله معرضه الجديد فى قاعة (مشربية) الشهر الماضى، الذى ضم لوحات زيتية وحفر وخزف ملون وجاء المعرض الجديد ليثبت مجدداً، الصفات الإيجابية لعمل الفنان، عالم دائم التجدد، يكتشف موضوعات جديدة، ويجرب دوما أساليب وتقنيات تشكيلية جديدة، مع عمق الصلة بالمجتمع والحياة، فلا يجعل الشكل والأسلوب همه الأوحد، ولا يحصر نفسه داخل نفسه ليجترمفردات عوالم داخلية يسيطر عليها التجريد أو الرمز.
- فى لوحات المعرض الزيتية والجرافيكية، يُسيطر موضوع رئيسى يحمل المعرض اسمه: السلم والثعبان. هناك ثلاثة مصادر ساهمت فى صياغة الموضوع وتحديد معانيه وتوليد مفرداته، أولها مصدر بصرى أو شكلى نجده فى لعبة السلم والثعبان المعروفة، مماً يمنح اللوحات وحدتها التشكيلية الأساسية: المربعات المتجاورة المتباينة لونياً، مفردات السلم والثعبان المتناثرة عفوياً عبر مساحة اللوحة، ولكن مع تلك المفردات التشكيلية تتسلل عناصر موضوعية.
- طرفان متناقضان يتنافسان، عشوائية تحكم الصراع بينهما، وقدر مجهول لا تتحكم فيه الإرادة. والمصدر الثانى هو المصدر الميثولوجى. إنه الثعبان كما تعرفه الديانات والمثيولوجيات القديمة، الثعبان والمفردات العقلية والحياتية المرتبطة به. أى الرجل والمرأة، الحب والرغبة، إرادة التحرر والمعرفة، ومنطق الصراع بين النقائض: الحياة والموت، الرجل والمرأة، الله والإنسان، الخير والشر، فى الميثولوجيا الفرعونية هناك ثلاث إلهات ثعابين: الإلهه الثعبان ميرتسيجر، ربة مدينة الموتى فى طيبة، الحارسة لمقابر الصحراء، والتى كانت ترسم فى شكل ثعبان له رأس إنسان، والإلهه الثعبان بوتو، منقذة الطفل المقدس حورس، الحارسة والحامية للفراعنة، المرسومة فى شكل كوبرا مجنحة، والإلهة الثعبان رينينيت، الربة المشرفة على رضاعة الأطفال والتى تمنحهم اسمهم وتحدد حياتهم، وعند الموت تكون حاضرة لحظة ميزان الروح، وانطلاقا من وظائفها تلك، نراها تظهر أحيانا كإلهة للحصاد، وفى ميثولوجيا قبائل غرب أفريقيا، يرسم الثعبان فى دائرة مكتملة، ليرمز للحياة الاستمرارية والأبدية، ولدى قبائل داهومى هناك الإله الثعبان دان أيدو، الذى يرسم فى صورة دائرة ترمز لوظيفته فى توحيد العالم ودمج أجزائه، وفى حضارات المكسيك وأمريكا الوسطى، هناك الإله الثعبان كويتزلكوات، سيد الحياة ورب الرياح، الخالق لكل فن ومخترع التعدين، وفى الأساطير الهندية تظهر الثعابين كآلهه شيطانيه ماكرة، لكنها تركن احيانا إلى الخير ليرقد بعض الآلهة الخيرة فى حمايتها، ولكن أهم من كل ما سبق هو الثعبان فى الميثولوجيا التوارتية، لا حاجة بنا لتكرر قصة الحية وآدم وحواء كما أوردها سفر التكوين، وما نحتاجه هو رصد دلالات الحية كما تطرحها الأسطورة، إنها مصدر للشر الخالص، فهى التى أغوت آدم وحواء بعصيان الله، فعاقبهما بطردهما من جنات عدن، ولكنها أيضا مصدر للخير الخالص، فتحت تأثير غوايتها استجاب الإنسان لإرادة المعرفة والفعل والحياة وعرف العمل، وهى تتوحد مع المرأة، أى مع الحياة والطبيعة والتجدد والخصوبة، هل كان الفنان يعى كل ما سبق فى لحظة الإبداع؟ لا أعلم. ربما كان يعرف بعضه أو كله، ولكن من المؤكد أنه يعرف جيدا رمزية الثعبان فى الميثولوجيات الفرعونية والتوراتية، وفى كل الأحوال فإن المعرفة النظرية ليست هى ذاتها المعرفة فى العملية الإبداعية، فبينهما دوماً مسافة ومفارقة، فالمعرفة كمصدر للعملية الابداعية تتحدد وفقا لمنطق مزدوج: اختيار وإعادة تشكيل لعناصر بعينها من جهة، ومن جهة ثانية دمج لتلك العناصر المنتقاه فى إطار المصادر الأخرى وتحت تأثير صيرورة العملية الأبداعية، وهو الدمج الذى ينتج عنه تحولات ومفارقات عديدة، وفى النهاية يأتى المصدر الثالث والأخير، إنه الحياة ذاتها، أى المجتمع والمدينة بزحامها ومنازلها، والبشر بصراعاتهم وأشواقهم والنوازع المختلفة التى تحكمهم.
- وسوف تتفاعل تلك المصار الثلاثة لكى تشكل موضوع المعرض ككل، ولكنه التفاعل الذى يتفاوت وزن كل مصدر فيه من لوحة إلى أخرى فعبر لوحات المعرض سينتقل ثقل السيطرة الموضوعية من مصدر لآخر، فيسيطر هذا المصدر ليحتوى داخله المصادر الأخرى ويكيفها، وتحمل سيطرة المصدر الموضوعى معها، جزءا من خصوصية لغة الأداء التشكيلى ومفرداته، وخاصة المصدر الأولى ذا التأثير البصرى المهيمن، ولكن تلك اللغة ليست محض امتداد لمصدر ما، فهى تمتلك أيضا استقلاليتها النابعة من جدلية التشكيل ذاتها.
- وتمثل الملاحظة السابقة أفضل مدخل لتحليل لغة الأداء التشكيلى، فإذا بدأنا باللوحات الزيتية سنجدها قابلة للتمايز الداخلى إلى مجموعات.
- إن المجموعة الأولى تمثلها اللوحات رقم: 2، 3، 4، 5، وفيهما يسيطر التأثير البصرى الشكلى المباشر للعبة السلم والثعبان: سطح مقسم إلى مربعات متباينة ومتبادلة لونيا، وتتوزع داخلها وعبرها عناصر مختلفة، فى تكوين تسيطر عليه الأمامية، هنا توزيع عشوائى للعناصر، دونما بؤرة أو بناء تشكيلى يجمعهما وينظمها، وهنا رتابة هندسية فى إيقاع الخط واللون وتكرارية زخرفية فى تكوين بعض العناصر وتوزيعها.
- وفى المجموعة الثانية، وتمثلها هنا اللوحة رقم 6، ينحل التركيب الهندسى فى اتجاهين مترابطين، ستستمر ذات المربعات السابقة ذاتها مسيطرة على سطح اللوحة، ولكن مع تحولات بنائية جذرية فسوف تتخفف كثيراً من استوائها وتماثلها الهندسى لتتفاوت فى المساحة، كما ستتخفف من استقلالية المساحات التى تأخذ فى التداخل فى علاقة تدرج واحتواء متبادل، كما تتراجع سمة التقابل والتبادل اللونى لتكتسب سيولة وتداخلاً وتدريجاً فى الألوان، وفى النهاية ترتد فى المساحة متخذة وضع الخلفية، وفى تراجعها تتحول إلى هيكل وتشكيل معمارى لمنازل مدنية، ويوازى ما سبق إعادة صياغة العلاقة بين المفردات الأخرى، فالبشر يتجمعون فى علاقة حميمة بالقرب من السلالم وعلى مداخل البيوت، ينظرون إلى أعلى وإلى بعضهم ويتخلصون من الجحود والسطحية ليكتسبوا حياة وحيوية وحركة: وسوف تستمر السلالم ولكنها تفقد وجودها الشكلى السابق وتندمج فى الحياة حولها، فهى تنبثق من تجمع البشر فتربط بين البشر والبيوت، وفى أعلى اللوحة تبدوا كأنها قناطر وضعت بعناية لتربط بين البيوت ذاتها، أما الثعابين فهى الآن ليست محض أجساد ملتوية تصل بين المربعات، إذ تبدأ بالقرب من تجمعات البشر وتحلق فوقهم مستقطبة أنظارهم وكأنها الهة بدائية يتجمعون حولها وأسفلها فى علاقة تواصل حميم.
- وفى المجموعة الثالثة وتمثلها اللوحات 7، 8، 9، 10، تنبثق المفردات البشرية المتناثرة داخل هياكل المجموعتين الأولى والثانية لتحتل مركز اللوحة، وفى إطار لغة تشكيلية أخرى، هنا تختفى المربعات إلا فى لوحة واحدة، وتختفى معها السلالم، ليستمر الجوهرى فى الفكرة، الرجل والمرأة والأفعى، هنا عفوية الألوان، وحرية تعبيرية فى لمسات الفرشاة. فقد غابت المربعات والهياكل التى كانت تقيدها وهنا خطوط قوية بعضها فطرى والآخر وحشى، تحتوى ألوان دافئة مشعة، ولكن لهذه المجموعة أيضا وجهها السلبى، ففى بعضها نجد تطرفا ومباشرة فى إبراز المعنى، وانفلات فى عفوية اللون، ودمج بين أساليب خطية نختلفة وغير متجانسة.
- إذا انتقلنا من اللوحات الزيتية إلى الجرافيك، سنجد أنفسنا أمام ذروة المعرض، إنها لوحات جميلة، مرسومة بحرفية عالية، تنضح بالحساسية البصرية واكتمال التكوين، فلننظر إلى اللوحتين: 11، 12، إن زحام البشر وتعدد العناصر الذى سيطر على اللوحات الزيتية، سنجده هنا فى حالة اختزال نقى يساهم فى تركيز المعنى وبلورته ويسهل البناء القوى المحكم لسطح اللوحة: والموضوع نفسه سيحصل على وسيطه اللونى الملائم تماماً من أجل بلورة أى تناقض بين الأبيض والأسود وما ينتج عنه من توتر وتآلف، ومفردات المربعات والسلم والثعبان تصل إلى أفضل صياغة تشكيلية لها، فالمربعات تتخذ شكل الأفق والطرق، وتتحدد تشكيلياً مع تصميم السلالم واتجاهاتها، والسلالم الآن موزعة باتقان كامل ووحدة فى الاتجاه، وتتحرك فى اتجاهين يوازن كل منهما الآخر، حركة إلى أعلى وحركة صوب العمق، أى حركة عمودية وأخرى أفقية والسطح له أكثر من مستوى، وتتحد بعض المستويات مع أنماط خطية معينة تتمايز من حيث الوجهة والسمك، مما يضفى حيوية على تركيب اللوحة، وتوزيع الأبيض والأسود يشدد على التناقض، ولكنه أيضا يخفف منه أو يوازنه من خلال أسلوبين: البقع البيضاء فى قلب اللون الأسود والبقع السوداء فى قلب المساحات البيضاء، والرتوش الرمادية الخفيفة التى تمتد عبر المساحات الأبيض والأسود.
بقلم : صلاح أبو نار
مجلة إبداع ( العدد 12 ) ديسمبر 1994
الفنان محمد عبله وتجارب فى التصوير
- الفنان `محمد عبله `من مواليد `بلقاس ` وقد شاهد فى طفولته وصباه نفس الحقول والمشاهد الريفية التى شاهدها الفنان المصرى القديم ،فماذا سيكون ناتج تفاعل هذا التراث القديم بداخله مع المؤثرات البيئية والقيم الاجتماعية السائدة ، ليس هذا فحسب بل والدراسة الأكاديمية التى تلقاها ومشاهداته للمدارس الحديثة فى أوربا ؟ هذا ماسنراه عند محاولة الدخول إلى تجارب ( محمد عبله ) التشكيلية.
- التجربة الأولى
- بدأت هذه التجربة عندما شرع فى دراسة المقابر فى الأقصر فى فترة دراسته بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ، وتفاعل هناك مع التراث المتمثل فى الآثار والمقابر الفرعونية بما تحتويه من جماليات خاصة بهذا الفن العتيد ، كما تفاعل مع الحياة التى ارتبط فيها الإنسان الجنوبى بالطبيعة وتشربت عيناه حركة الصيادين والباعة وتجمعاتهم فى مراكبهم وطرقاتهم ومقاهيهم - بطء حركتهم وقوة بنيانهم وخلو أجسامهم من الترهل والسمنة إنهم يشبهون أجدادهم المرسومين على جدران المعابد والمقابر - فقرر أن يقدم مشروع تخرجه عن ` الصيادين والمراكبيه `.
- ومنذ هذه اللحظة وحتى الآن يمر ( محمد عبله ) بمحاولات وتجارب تعبر عن نزوعه إلى التغيير وأمله فى استشراق فى عوالم جمالية جديدة ولكنها محاولات تشبه النزوات الفنية تمر أغلبها بطرق مسدودة ليعود مرات ومرات إلى تجربته الأولى يضيف إليها ملمساً أو إحساساً جديداً .وقد تميزت تجربته الأولى بملامح عامة يمكن أن نوجزها فيما يلى:
أ- الأشكال والشخوص
- اعتمد على تسطيح الأشكال مستفيداً من الشكل الفرعونى لرسم الأشخاص أو ماعرف بالوقفة الفرعونية التى يبدو فيها الإنسان رأسه فى الوضع الجانبى أما الأكتاف والصدر فمن الوضع الأمامى والخصر فى الوضع الثلاثى الأرباع ليعود ثانية فى القدمين والذراعين إلى الوضع الجانبى ، أما بقية الأشكال من حيوانات كالأبقار من حيوانات كالأبقار والقطط والحمير والجمال والمراكب فقد رسمها ` محمد عبلة ` من الوضع الجانبى.
ب- الفراغ والأرضية
- استفاد من الموروث الفرعونى والفن البدائى بشكل يقترب من استفادة أستاذه ` حامد ندا ` بهذا التراث ولكن معالجته للفراغ والأرضية هى التى اختلفت عن أستاذه - فحامد ندا يترك الأشكال والأشخاص فى فراغ تام للوحة يحاكى معالجة رسوم قبائل ` البوشمان ` البدائية - وهو يهتم بعمل علاقة متوازنة بين الشكل والأرضية رغم ظهور الأشكال فى أوضاع طائرة أحياناً وغير طبيعية فى أغلب الأحيان .
- أما معالجة ` محمد عبلة ` للفراغ والأرضية فهو يشكل بها خلفية محسوبة للشكل تحدث تحدث ذبذبة ناشئة عن انتشار الأشكال وتعددها - كما أنه يهتم بالأوضاع الطبيعية للشخوص مما يحتم عليه فى أحيان كثيرة بناء أقواس وتقاطعات على هيئة مراكب لها أكثر من فائدة فهى أحياناً أرض للأشكال أو قوس يلم مجموعة الأشكال ويؤكد ترابطها ويوجِه حركة البصر خلال اللوحة - وهى أيضاً وسيلة جمالية لخلق علاقات لونية تثرى الشكل .
ج- اللون
- استفاد من ألوان ` فرانز مارك ` الناصعة ومن ` سيف وانلى ` فى معالجة اللونين الأحمر والأزرق وتجاورهما ، ورغم حرصه على تصوير البحر بالأزرق الصريح الناصع والفاتح وعلى خلق تحاور بينه وبين الأحمر والبيج - فإن شخوصه قائمة لايبرز منها أية ملامح فهى بنية محروقة الأجساد متسربلة بأرديتها الخضراء الداكنة ، وهذه الألوان القاتمة أتاحت له فرصة تجريد الشخوص وتحويلها إلى هياكل متشابهة البنية فهو يقصد شخصيات عامة تواجهها فى الطرقات ولا يرسم شخصيات بذاتها - بل هى حركة حياة منتشرة ومتنامية فما حاجته - فى الأغلب الأعم - للغوص فى ذات الشخصية وفرديتها .
- قراءة لبعض اللوحات
- فى لوحة ( منظر من الأقصر 1977 ) يبدو ملمح هام استقاه من التصوير الجدارى الفرعونى ولايتمثل هذا التأثير فى استخدام المنظور الجانبى فى تصوير جماعات الحمير فهو يصور النساء فى أعلى شمال اللوحة من الوضع الأمامى إلا أنه يكاد يقسم اللوحة إلى ثلاثة مستويات أفقية فى المستوى الأول وفى وسط اللوحة يضع الحمار وراكبته والطفل - أما فى المستوى الثانى فيضع مجموعتين من البشر بأحجام أقل مفسحاً فى وسط اللوحة مساحة تحيط بمجموعة المستوى الأول ` الرئيسية ` لتؤكد عليها وتحصرها ، أما فى المستوى الثالث فقد وضع مجموعة بيوت فى يمين اللوحة وبعض الشخوص فى يسارها ونلاحظ أنه اجتهد فى إخفاء هذه المستويات إلا أن السمات الفرعونية تبدو مستقرة فيها من خلال توجيه حركة المجموعات ، ولولا أنه لجأ إلى تغيير الأحجام ليصبح الأقل هو الأبعد وأخفى بعض الأشكال وراء بعضها - لما أوحى لنا بوجود المنظور ، ورغم التقاط المشهد من الحياة اليومية فإن أسلوب التصوير يضيف إليه جلالاً ووقاراً ويحول اللحظة العابرة إلى لحظة أبدية وقد ساعدت ألوانه القاتمة والوجوه الممسوخة على إضفاء الوقار ومسحة البطء والحزن فى اللوحة .

وهو يستخدم هذا الأسلوب فى لوحة أخرى عن المراكبيه وإن قسَم الأشخاص إلى مستويين وجعل أحجامهم متساوية إلا أنه لجأ إلى خدعة أخرى للإيهام بالمنظور حيث رسم المركب التى تضم الأشخاص فى خلفية اللوحة ووضع مقدمتها فى الثلث العلوى للوحة مما يوحى بالعمق .
- و نلاحظ فى هاتين اللوحتين من بداية التجربة الأولى أنه يريد أن يمزج الحس الموروث لديه من التراث الفرعونى بشىء من الصبغة الاكاديمية وأنه يلجأ إلى حيل جمالية تمثل انعكاسا واعيا لاستيعاب جيد لهذه الدراسة.
- وأما فى لوحته ( الخيامية 79) وهى إحدى لوحتين أنتجهما عن صناعة الخيام ومزج فيها الإحساس الزخرفى بقدرته على التصوير والتجسيد وهذه القدرة على المزاوجة بين مجموعة متناقضات جمالية يهضمها ويمتزج بها حتى تخرج من فرشاته بشكل تلقائى - فهو لايحيل الموضوع التصوير إلى زخرفة شكلية - أو إلى موضوع زخرفى على طريقة `هنرى ماتيس ` محتوياً كيان اللوحة كله - وإنما تظل شخوصه ( العمال ) بشكل ينأى بهم عن الزخرفة التى يستخدمها فى تصوير الخيام على هيئة أقواس متقابلة بألوان حمراء وبرتقالية وبيضاء .
- أما العمال أنفسهم فتكوينهم هرمى مألوف وتمتزج شخوص الخيام المعلقة على الجدار فى أعلى يسار اللوحة بالعمال حتى تتحول اللوحة إلى معزوفة واحدة .
- وهو يلجأ إلى استخدام ثلاثة عناصر لربط حركة العين داخل اللوحة ، فالباب فى أعلى اللوحة يمثل قوساً يربط بين العاملين ، والقطة التى فى أسفل العامل الذى فى اليمين تحول دون أن تتبع العين حركة القدم المتجه إلى خارج اللوحة ، والترحيلة التى فى اليسار تقوم بنفس العمل مع العامل الأيسر.
- فهو إذن يضع المفردات التشكيلية فى خدمة الموضوع الذى يصوره والعلاقات التى تحتويها اللوحة علاقات جمالية أكثر منها علاقات موضوعية - رغم انكفاء العمال الساكن على خيماتهم يطرزونها فى دقة وأناة . وتبرز أيضا قدرته على الجمع بين التشخيص وبين تجريد الشخوص من ملامحهم كمايجمع بين ألوان واضحة وصريحة كالأحمر والأزرق والألوان الداكنة والباهتة البنية من خلال إدراك واع بجماليات حديثة.
- وفى لوحته ( قرية مصرية 80 ) يبدو أكثر جرأة وقدرة على الفكاك من أسر رغبته فى استعراض مهاراته وحيله الفنية ، فتتحول الشخوص إلى تجريد مطلق ذى لون واحد لايفرق بين الثوب والبدن وتتقارب الأحجام وتبرز المستويات الأفقية وإن بدا للوهلة الأولى أن توزيع العناصر عشوائى وإن بدا للوهلة الأولى أن توزيع العناصر عشوائى إلا أنه توزيع يعتمد عل المستوى الأفقى انتشاراً للشخوص المتطاولة رأسياً ، كما أن بعض العناصر تؤكد هذا الأمر فكل قطة موضوعة فى اللوحة ليست إلا خطاً يمثل أرضاً أفقية لأقدام الأشخاص أما القوس العلوى مع النخلتين فى اليسار واليمين والأعشاب الصغيرة فى أسفل اليسار فإنهم عناصر ذات نزوع رأسى أيضاً لتوجيه حركة العين ، وهو يتعامل مع الفرشاة بجرأة أكثر ويبدو مقتصداً فى ألوانه بما يشبه العزف على وترين لونيين أفقياً ورأسياً . أما لوحته ( على ضفاف النيل 1980 ) و( المعدية 81 ) فتبرز فيهما قدرة محبة للحياة وألوان ساطعة وحركة ذاتية وهو يستخدم نفس أسلوبه السابق وإن زاد عليه اهتمامه بحركة الأقواس التى يستخدمها كأرض أو كمركب ليضيف ألواناً مختلفة خلال هذه الأقواس ويكون علاقات جمالية جديدة ، وهو يرسم الأسماك بداخل الماء تماماً كما توجد بالمقابر الفرعونية منذ أن رسمها المصرى القديم على جدرانها .
- وفى لوحته ( المعدية ) تتحول المعدية إلى حياة خصبة وإن عالجها بأسلوب فانتازى يحيل المركب التى فى اليمين إلى قوس بصرى يربط فقط بين هذه المجموعات البشرية التى تعلوه وهو فى تكوين هذه اللوحة الذى يأخذ شكل رقم (6) يقدم معالجة أكثر جرأة للفراغ حيث لايهتم بشغل المساحة كلها بالشخوص وإنما يوزعها توزيعاً جدلياً بحيث يتحاور الشخص الصغير فى أقصى اليسار وقطته مع الحمَال فى أقصى اليمين مروراً ببقية العناصر مشكلاً عاملاً هاماً فى اتزان اللوحة .
- وفى اللوحات الثلاث السابقة نحس بإيقاع الحياة : حركة الفلاحات الرشيقة وهن يحملن جرارهن وآنيتهن إلى السوق ، الحمالون على شاطىء النيل يقومون بإنزال حمولات المراكب أو يقومون بتحميلها ، الطفل يلعب بالطوق أمام كلبه أو قطته ، العاشقان يجلسان فى سكينة ويتناجيان ، الأنعام وهى تجر العربات أو يسوقها الناس - النخيل والنهر والمراكب والأشرعة ، حياة يعكسها بعفوية لها قدر من الوعى لاتستطيع قراءتها قراءة الموضوع الأدبى فقط وإنما لكل وحدة صغيرة فى اللوحة أهميتها الجمالية قبل أهميتها الموضوعية . أما لوحته ( حوار على النيل 83 ) فإنك تشعر لأول وهلة أنك لست أمام لوحة واحدة وإنما أمام لوحتين واحدة على اليمين وتحتوى على الفتاة التى تضع يدها على رأسها وأخرى على اليسار وتحتوى على الفتاتين الواقفتين ويعمل على تأكيد هذا الفصل السهمٌ الأزرق فى منتصف اللوحة الذى يشير إلى الفتاة ويمر بذراع الفتاة الأخرى ، كما أن اختلاف الأرضية التى تقف عليها الفتاة الوحيدة عن التى تقف عليها الفتاتان يؤكد هذا الفصل وهو هنا ` ربما ` يؤكد على عزلة الفتاة عزلة تامة يؤكدها جمالياً قبل أن يؤكدها كحالة فى اللوحة - وهو يمزج بين رغبتين تنازعاته فأشرعة المراكب أقواس تكون مثلثات متوجهة إلى خارج إلى خارج اللوحة ، أما الفراغ الناشىء عنها فهو مثلثات زرقاء تتجه إلى أسفل وإلى الأجناب لتتجه بالعين المتأملة إلى داخل اللوحة ، وهاتان القوتان تتوازنان وتحدثان أثراً ساكناً فلا يصبح للخلفية أثر على الشخوص ولولا أنه قطع نهايات الأشرعة فصارت مثلثات بلا رؤوس لكانت الغلبة لها ولاختلف الأثر الناشىء عنها على اللوحة .
- كما أنه فى هذه اللوحة يلجأ إلى قليل من التجسيم والتفاصيل دون أن يخرج كلية عن أسلوبه السابق .
- إلا أن الوحدة التى ظهرت فى لوحة ` حوار على النيل ` ظهرت من قبل فى لوحة ( الفتاة والسمكة ) تلك الفتاة الوحيدة التى تحتضن سمكتها فى رقة وشفافية وحزن وفى خطوط متأثرة إلى حد كبير بالفنان ` بيكار ` فالملامح واضحة والخطوط انسيابية والأسلوب رومانسى . كما برز فى لوحته ( القاهرة والطائر 78) أثر تجربة الفنية بعد رحلة دراسية وفنية استمرت ست ستوات زار فيها أسبانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا مروراً بتركيا واليونان ويوغوسلافيا وسويسرا فأقام فأقام عشرة معارض خاصة ومارس العلاج بالرسم فى زيورخ وحصَل دراسات فى علم النفس وفى فنى الحفر والنحت .
- التجربة الثانية
- اتجه ( محمد عبلة ) فى هذه التجربة أثناء وجوده خارج مصر . إلى مفردات متغيرة نوعاً ما فقد لجأ إلى ` الحصان والطائر والطفل والمرأة والرجل ` فى محاولة ( لإيجاد لغة إنسانية تعتمد على التشخيص فشكل بهذه المفردات لوحات متعددة ومن أجمل هذه اللوحات لوحة تمثل تصويره للحصان الجامح والراكب الذى يكاد يطير من فوقه وهى لوحة تعبر عن قدرته على تركيز الألوان والرسم بلون واحد تقريباً وقدرته على التعبير السريع عن الحركة والتوتر .
- وكذلك لوحته ( الحصان والطائر 82 ) التى تبرز فيها مفرداته هذه معالجة بشكل قريب من أسلوبه فى التجربة الأولى ، فالشخوص تبدو حتى الأكتاف والذراعان من المسقط الجانبى أما النصف السفلى فقد تحرر من الوقفة المصرية تماماً - كما احتفظ بألوانه البنية الداكنة التى تمزج الثوب بالبدن .
- وقد حاول فى هذه اللوحات خلق عالم رمزى يهتم بمدلولات محورية محددة كالأمل واليأس والحب ولهذا اتسم التركيب البنائى للوحة بالبساطة الشديدة .
- التجربة الثالثة
- برزت بشكل واضح فى هذه التجربة عناصر الفن البدائى حيث تحول إلى رسم الأشخاص والحيوانات بشكل يحتوى على تحريف كبير واستطالات غير عادية فى النسب مع توزيع عشوائى للأشكال وإن ظهرت فيه آثار من أسلوب توزيعه للعناصر فى التجربة الأولى كما لم يتغير أسلوب استعماله للازدواجات اللونية التى استعملها فى التجربة الأولى .
- التجربة الرابعة
فى الحقيقة ليست هذه تجربة واحدة وإنما مجموعة تجارب تندرج كلها بوضوح تحت الأساليب التجريدية وإن ضمت مجموعتين إحداهما للتجريد الرمزى والأخرى للتجريد التعبيرى ففى لوحته ( منظر درامى 79) يبدو المشهد الدرامى الذى أنتجه عقب وفاة جدته فرسم بانفعال شديد وعفوية مجموعة أشكال وإن أمكننا ردَها إلى أصولها مثل العفاريت فى أسفل يمين اللوحة ، وبعض مفردات ذات إيقاع طفولى أو شعبى ، فالأطفال الثلاثة فى منتصف اللوحة يسعون إلى مومياء أبيض تحوطه هالة رمادية سوداء وشواهد ومقابر فى النصف الأسفل وكلب من الخرافة الشعبية تتطاول رقبته فى يمين اللوحة ، وقد استخدم اللون الأسود والرمادى والأبيض فى إضفاء جو من الحزن على المشهد .
- أما لوحته ( حنين 82 ) وهى حفر على خشب فقد رسمها خارج مصر فترى شخصاً يمسك بيديه قفصاً على شكل قبة مسجد وبداخل هذا القفص عصفور سجين ، وملامح هذا الشخص ورسمه ينطقان بالفرعونية ؛ فقد أراد أن يعبر عن حنينه لوطنه من خلال هذا الإسقاط الواعى على مصير العصفور السجين والحقيقة أن كثيراً من المعانى يمكن أم يدركها المشاهد لمثل هذه اللوحة فأنت لاتدرك من هو العصفور هل هو الوطن أم الفنان نفسه .
- أما لوحته ( الهرم فى المساء 85 ) فهى أول اللوحات التجريدية التى خرج فيها فناننا من إطار الفكرة والرمز فلا تستطيع أن تقرأ هذه اللوحة قراءة فكرية ، أو أدبية ، إنها فقط منظر للأهرام فى المساء عندما يطل عليها من شرفة منزله .
- أما أسلوب معالجته لتلوين المساحة عندما يترك بعض البقع أو لايحددها - مما يشكل تخبطاً فإن هذا يعكس رغبة قلقة لخوض تجربة جمالية جديدة ، إلا أننا نستطيع أن نجد بعض سمات معالجته القديمة للمساحة فهو يقسَم اللوحة فى مستويين ، رسم فى النصف الأسفل مجموعة نباتات لانستطيع من فرط تجريدها التيقن هل هذا النبات هو البردى أم هل هو النخيل المترامى على شاطىء النيل .
- أما فى النصف العلوى فقد رسم الأهرامات الثلاثة بطريقة بسيطة ومبتكرة وأراد التأكيد على شكل الأهرامات الثلاثة بوضعها فى نقطة تلاقى خطين أحدهما رأسى والآخر أفقى وهو لايكتفى بهذا ، بل يؤكد نقطة التلاقى من خلال مجموعتين ثلاثيتين من الألوان ، المجموعة الأولى هى المجموعة ( البنية ) التى تشكل أرضية النصف الأسفل مع الامتداد الناشىء بين الهرمين الكبيرين والمحصورة بين الأزرق والسماوى - والمجموعة الثانية هى الخط الأبيض تحت الهرم الأيسر ، والسماء الزرقاء الفاتحة فى خلفيته أما العنصر الثالث فهو الهرم الثالث الأصغر الأزرق اللون الذى يحتضنه الهرم الأكبر فى اليمين . وهو لايستهدف هذا التكوين لذاته وإنما للتأكيد البصرى على عنصر الأهرامات وبقية عناصر اللوحة تساعد على هذا : اتجاهات النباتات والمربعات التى تشكل خلفية الأهرامات والصليب الصغير الموضوع فى البقعة الحمراء أسفل الأهرامات والذى يشكل سهماً يتجه إلى الأهرامات أيضا.
- ويمكننا كذلك أن نلاحظ أسلوب معالجته للون الأحمر فقد غطى قمة الهرم باللون الأحمر ليتزن مع المساحة الحمراء فى وهذا التكوين البنائى يعتمد أيضاً على العناصر الرأسية والأفقية ، إلا أنه فجأة دخل فى تجربة جديدة تماماً وهى التى تندرج تحت التجريدية التعبيرية ، فبعد عودة ( محمد عبلة )إلى القاهرة أحس بالزحام الشديد فراح يرسم هذه التجمعات فى ازدحام شديد ، مما جعل بعض النقاد يربطون بينها وبين أسلوب ، التبقيعية ، التى ابتكرها الأمريكى ، (جاكسون بولوك) ولكننا فى أعمال محمد عبلة نلاحظ أن تجريديته التعبيرية تحتوى على نظام دقيق ؛فهناك أجسام بشرية وهناك رؤوس سوداء لهذه الأجسام وتجمعات لونية وطرق تضم هذه التجمعات ، فلابد للمشاهد أن يبحث لنفسه عن طريق وسط هذه الطرق والطوابير وعن مكان وسط هذا الزحام الشديد فهى ليست مجرد بقع لونية تحاكى ماأنتجه ` جاكسون بولوك` ولكنها فكرة اجتماعية تعكس واقعاً اجتماعياً ، جعله يفوز فى أبريل الماضى بالجائزة الأولى للمسابقة التى أقامها المركز القومى للفنون التشكيلية تحت عنوان ( القاهرة فى عيون الفنانين ) ، ويضيق المجال عن ذكر أعمال الحفر والمائيات التى أنتجها الفنان إلا أننا نطالبه بمزيد من الجهد فقد ثبَت أقدامه فى حقل الفن الذى لم ينشغل عنه ولم يشتغل بسواه . إننا ننتظر ما سيقدمه ( محمد عبلة ) فى السنوات القادمة .
بقلم : محمد حلمى حامد
مجلة : إبداع ( العدد 2 ) فبراير 1987
شعرية الماء فى لوحات محمد عبلة
- فى هذه اللوحات يطرح محمد عبلة معالجة جديدة لأسلوبه الفنى والذى لا يكف عن تطويره ، ودفعه إلى أفاق لغة تشكيلية تمتزج فيها الهموم والأشكال الإنسانية بالرؤى والمكونات الأساسية فى لوحاته .
- أول ما يلفت النظر فى هذه اللوحات هو طابعها الشعرى وإيقاعها الموسيقى الخاطف ، وثراؤها التعبيرى الذى يصل باللون إلى قوة إيحاء داخلية ، تضفى جواً من الدفء والبهجة على الإشارات والرموز التشكيلية فى اللوحات . وفى الوقت نفسه ، تكثف تساؤلاتها وتجعلها مفتوحة على الداخل والخارج بتلقائية لها وقع محبب وآخاذ .
- تتخذ اللوحات من تأمل الماء مثيراً جمالياً ، وتفجر دلالات هذا المثير عبر طقس احتفالى يتقاطع فيه مشهدان تشكيليان على درجة كبيرة من التباين ، من حيث طبيعة الخامة المستخدمة ، والصياغات والتواليف الجمالية لكنهما بالرغم من هذا - يتلاحمان فى نسيبج رؤية بصرية ، لا تنحصر فى الظاهر ، بل تسعى إلى كشف المتناقصات المضمرة والصريحة ، سواء على السطح أم فى الأعماق. ذلك لأن لوحات عبلة - فى عمومها - تسعى لأن تكون جسور تواصل مع الإنسان ، تقربه من فضائها ، وتدفعه إلى الدخول فى محتويات هذا الفضاء والتحاور معه كأنه جزء من نسيجه الخاص .
- ترتكز اللوحات إلى بساطة التكوين وعفوية الخطوط والأشكال ، والميل إلى الألوان التلقائية المتفجرة الناصعة ، والانفلات من إيقاع البناء الهندسى الصارم بمخطوطاته الذهنية المدروسة ، مع الاهتمام بالضوء كعنصر حركى ، يساهم فى إنضاج الفراغ وتنظيمه ، وفى الوقت نفسه ، يمنح الكتلة انسيابية وأوضاعاً خاصة فى سياق من العلاقات الجمالية الجديدة .
يتجسد المشهد الأول فى لوحات التسخة الواحدة أو ما يسمى بالـ : ( Mono Prmt ) وذلك فى شكل دوامات مائية تتبدى على هيئة دوائر متشابكة ومتقطعة ، تتكرر فى جمل تشكيلية ساكنة ومتحركة ، مشربة بنثارات وبقع ولطشات لونية نشطة ، تتدرج فى مساحات ضوئية كاشفة فضاء اللوحة وحركة الأشكال . واللافت أن هذا التباين اللونى ، على الرغم من أنه يتم بشكل مباشر على السطح الطباعى الزجاجى الوسيط إلا أننا لا نحس بأى نتوء للألوان ، بل تكاد معجونة فى نسيج اللوحات منذ بداية تبلورها كفكرة أو هاجس فى مخيلة الفنان .
- فى هذا السياق تبرز سيطرة الفنان على خاماته وأدواته وحساسيته الفائقة فى إبراز المضمون وإثرائه بتقنيات تعبيرية مختلفة . كذلك تبرز مقدرته على استشفاف النتيجة سواء فى مراحل التشكيل الأولى على السطح الطباعى الوسيط أم فى مرحلة استنساخ اللوحة على الورق .
- إن ما يميز محمد عبلة فى هذا الفن الصعب ( فن الجرافىك ) والمحفوف بالمخاطر والمغامرة ، أنه لا يقتصر على وسيط طباعى محدد ، يحيله إلى مضمون جمالى أحادى القيمة والدلالة ، بل يجرب - دائماً - استخدام وسائط متعددة ، لخلق وتشكيل الصورة بسيمات تعبيرية وجمالية متنوعة ، ويتطلب هذا جهداً مكثفاً لكى يتوحد الفنان مع وسائطه بدءاً من تجهيزه أدواته وخاماته من أحبار وأحماض وألوان .. وغيرها ، ثم مقدرته على ترويص كل هذه المواد على المسطح الطباعى أياً كانت طبيعته ، من النحاس أو الخشب أو الزنك أو الزجاج ... أوغيرها من الوسائط المستحدثة .
- وبعيداً عن هذه الأفكار الجرافيكية فإن التحول اللافت فى لوحات هذا المشهد ، هو التنوعات الابتكارية المفتوحة بحرية ، ليس فقط على لغة الحفر بإيقاعها التعبيرى الرائق ، وإنما نحس بأن ثمة حواراً آخر يتخلق فى اللوحات ، مسكوناً بانفعالات تعبيرية مشحونة بحدس الشعر والموسيقى ، يتبدى هذا الحوار فى زوايا التظليل والتلوين ، وحيوية الأرضية التى لا تعزل الشخوص والعناصر والأشكال ، بل تبرزها كصيرورة جمالية تستمد وجودها من النسيج الخاص للوحات نفسها .
- فى معظم هذه اللوحات نلاحظ حضوراً جلياً للكائن البشرى . ومن سمات هذا الحضور الدهشة المستمرة بالماء والفرح به ، سواء بالملامسة الخارجية لسطحه ، أو الغمر فيه ، أو تأمل رقرقته وعذوبته ، أوالنظر إليه كمرأة لا تعكس فقط صورة الكائن ، بل تفتح فى جسده حواراً يتوغل إلى الأعماق . إن الماء وهو يجسد تحولات العناصر والأشكال فى اللوحات ، يكاد يكون تلخيصاً لجذرية الحياة الحياة ، بل هو قانونها الأساسى بالفعل . ثم إنه يشكل النبض الداخلى للوحات ، وفى الوقت نفسه ، يكسب مظهرها الخارجى طاقة صوتية ، تتجلى فى التموجات اللونية المنسابة برجرجة ناعمة وعفوية ، متدرجة ما بين البنى المشرب بشظايا من الزرقة الخفيفة الساجية ، والأبيض المخدوش بروتوش من الرمادى الشفيف . بينما يقبع الأسود الداكن الثقيل على حواف الكتلة المفتوحة مسامها على حركة الماء الذى يغمرها من كل اتجاه .
- يستخدم عبلة فى اللوحات مساحات ضوئية صريحة ، تزداد نصاعتها فى خلفىة الشخوص ، وفى ثنايا البقع اللونية التى تشبه الحصى ونتف الصخور . وأحياناً أخرى تشبه هذه البقع النباتات المتطفلة على سطح الماء مثل ( ورد النيل) .. وبشكل عام تتسم هذه اللوحات باتزان محتوى مفرداتها وانفتاحها على الحيز التشكيلى بنعومة وسلاسة ، كما أن التوافق بين حركة الضوء والأشكال والألوان التى تتدرج ما بين الثقل والشفافية من أسفل إلى أعلى اللوحة تكسب سطح اللوحة إنسيابية موسيقية تغرينا بمحاولة لمسها والاندماج فيها .
- ويبدوأن محمد عبلة فى هذه اللوحات يتجاوب - إلى حد كبير مع حكمة هيراقليطس الشهيرة `أنت لا تستطيع أن تنل البحر مرتين` لأن الماء يتجدد فى كل مرة ، فهو كذلك لا يستطيع أن ينسخ من تأمله للماء سوى أصل واحد لا يتكرر.
- فى المشهد الثانى من اللوحات يحاول عبلة خلق خليفة تشكيلية تعتمد على المغامرة اللونية ، وذلك باستخدام مادة الشمع الساخن بعد معالجتها بمواد كيميائية ، مع إبراز فراغات وانعكاسات الكتلة فى سياق رمزى يربط بين القيم اللونية والخطية . وفى تصورى أنه من العبث أن نبحث فى هذه اللوحات عن بنية مضمونية محددة ، فهى تنبع من حرية التخيل الداخلية للفنان ، ومعايشته لواقعه بما يفرز من ظواهر مختلفة على كل الأصعدة . بيد أننا - فى هذه اللوحات - نحس بنوع من الانسجام والتوافق الحركى والشعورى بين خبرة الفنان ووعيه الخاص وطرائف تشكلها فى اللوحات .
- وعلى ذلك يمكن النظر إلى هذه اللوحات باعتبارها معزوفة لونية ، ومحاولة لخلق شكل فنى ، يشكل - إلى حد كبير - ترديداً نغمياً للوحات الأصل الواحد . فالحضور الإنسانى البازخ فى الفضاء الجرافىكى يتحول فى هذه اللوحات إلى تصور تجريدى ، يحتفى بالتضاد المباشر بين مفردات اللوحة ، وإبراز المسطح التصويرى فى أشكال لونية يتفتت فيها مركز الإيقاع ويتداخل بكل أبعاده ، رأسياً وعمودياً ، ومن أعلى وأسفل فى صورة تنبيهات وإشارات لونية وضوئية ، بينما يتسم التكوين بتوتره العشوائى المباغت ، ويبدو كأنه مجرد رجع صدى لأحاسيس ومشاعر داخلية غير مستقرة ، يقابل ذلك مسحة تفاؤلية تنبثق من طوايا اللوحات ، يساهو فى تكثيفها الطاقة الشاعرية للألوان ، والمفتوحة على أشكال وعناصر متحررة من سطوة المضمون والمركز البصرى الواحد وفى الوقت الذى تسعى فيه هذه اللوحات إلى اتخاذ اللون نقطة انطلاق لا تسعى إلى كسر التوازن المألوف فى مستويات التكوين ، مطلقة سهامها اللونية فى كل اتجاه .
- يبقى أن أؤكد أن محمد عبلة فنان دائم التمرد على ذاته وعلى أسلوبه الفنى ، شأنه فى ذلك أى فنان أصيل ، لا يرضيه أن يطرح تساؤلاته من خلال صيغ جمالية ، وإنما من خلال لغة تشكيلية خاصة به .
بقلم : جمال القصاص
مجلة : إبداع العدد (11) نـوفمبر 1997
تشكيلات `برونزيه`.. تنتمى للغة الرمل والنار
** تجربة معرض محمد عبله فى جاليرى سماح :
- قدم الفنان المصور محمد عبله عرضاً لعشرين تشكيل نحتى فى الفراغ بخامة البرونز بعنوان `اللعب بالنار` أقيم فى جاليرى سماح بالزمالك وقد جمع العرض بين تشكيلات نحتيه ولوحات للفنان صغيرة الحجم تضم نفس عناصر العرض البرونزية.. فمن اللوحة إلى المجسم هى تجربة محمد عبله الجديدة.. ومن صب القوالب النحتية بالبرونز إلى ملئ فرغات رمليه مسطحه أيضاً بالبرونز هى أيضاً تقنية عبله الأخيرة.. لتصبح تعرجات سطح تشكيلاته النحتية والمسطحة هى الناتج الحسي الملموس للغة الرمل والبرونز.. فتعرجات سطوح وتفاصيل تشكيلاته بفعل أثر الرمل والنار..
- هذا هو معرضه الثانى فى تجاربه النحتية خلال أقل من عامين.. السابق أقامه 2018 فى جاليرى مصر بعنوان `بره الكادر`.. وواضح ان النحت ليس رغبه عارضه راودت عبله المصور .. فمنذ أكثر من ربع قرن بالتحديد عام 1994 أقام تمثاله `معاناة سيزيف` الرابض فى أحد ميادين المانيا استخدم فيه قضبان الحديد بلحام النار.. لكنه هنا يشكل مباشره بالبرونز المصهور بالنار يملأ بها رسوماته الغائرة فى الرمل.. فقدم الفنان عبله تقنيه نحتيه بالبرونز دون قوالب أو نسخ بل شكل منحوتاته الأقرب للمسطحة بتقيته الخاصة والقريبة من مادة الرسم شكل بها قوام تشكيلاته فى الفراغ وذلك برسم أشكاله محفورة فى الرمال وصبها برونزاً فكأنه يرسم بالبرونز.. ويأتى دور النار مباشره فى الأماكن ذات التخانة فى منحوتته بإعادة تسخينها لدرجة الاحمرار معيداً تشكيلها ناراً..
- فى منحوتات هذا العرض والسابق عليه.. شعرت ان عبله يريد التركيز على شخصية عبله النحات وعلى أمزجته التجريبية والتقنية وليس على النحت أو التشكيل ذاته.. فقد اقام فى فتره قصيرة تجاربه النحتيه فى عرضين ليثبت انه حرفى ممتاز وأن اختلاف الخامة يساعده على ترجمة أفكاره مجسمه جديده وأكثر نقاء.. إلا أن معرضه الأول كان أكثر اهتماماً بالمفهوم والرؤية الفكرية فكان هناك تحدى ذهنى ورؤيه مفاهيمية مهمه فى العرض السابق.. ويبقى هناك فارق فى انتقال الفنان بين معرضين يبحثان فى تجربة التشكيلات النحتية والانتقال بمعالجتين الأولى جاءت مفاهيمية متحركة.. والثانية لتجسيم رسومات خرجت من لوحة التصوير المسطح معظمها ابيض واسود لتتشكيلها فى الهواء الخارجى مروراً بالذوبان الحار لخامة البرونز بنفس طاقة وحس عمل فرشاته..
- وفيما بين عرضي `بره الكادر` و`اللعب بالنار` وكلاهما برونزى الخامة مع اختلاف التقنية فى حضور النار كجزء من الوسيلة والإحساس بأثرها إلا أن لغتها باقيه تعرجات تُشكل الهيئة الخارجية للتشكيلات النحتية بتفاصيلها الرفيعة والفتحات بين شرائح الأعمدة الحديدية كما فى عرضه الأخير حتى ليبدو اتجاه النار فى تعرجات وتضاريس أعمدة حواجزه `كالبانوه` المُفرغة وشخوصه بداخلها كأننا نشهد هيئة حركة النار كجزء من قصديته البصرية التى استخلصها وقاد بها عفوية النار.. فمثلما الرمال الصحراوية وحركتها هى لغة الرياح كذلك تعرجات السطح الساخن هو لغة النار.. وفيما بين وحشية البرونز المصهور والنار أقام عبله عالمه الساخن..
- فى هذا العرض بدا اهتمام الفنان بإقامة تشكيل العلاقات الخطية الزخرفيه والتشخيصية فى مسطحاته المفرغة التى أسماها `كتابات`.. `نافذه`.. `حكايات`.. `حواجز` وان كان خطوط تشكيل الإنسان تتضاءل أمام قضبانية العمل المسطح المفرغ بما يوحى بنقص كبير فى الكثافة النحتية.. ورغم اهتمامه بالفضاء الا أن القضبان فتتته.. وفى هذه الأعمال البانوهية الطابع نرى جمع الأجزاء دون شكل مركزي للعمل.. وفى عرضه هذا أظهر عبله فكرة الحركة الجزئية والسكونيه معاً مع احساس بدائى..
- ضم العرض اشكال تجريبية مستوحاه من لوحات الفنان بتأثيرات فنيه عديدة لا يمكن وضعها تحت مسمى مفاهيمى أو فكرى مثل معرضه الهام الأول `بره الكادر` أو عمله النحتى `مُعاناة سيزيف`.. وأيضاً بدا أقل طموحاً تجاه الكتلة الواضحة فى معرضه السابق مقابل التشكيلات التى تتماثل تجريداً وكائنات من الطبيعة.. فبدى مولع بالمظهر والأجزاء التى تنغلق معاً أو تُترك كما هى مع انغلاق أجزاء وانفتاحها من الداخل دون تحدى ذهنى بل اهتم بالقيم الجمالية المتوازنة..
- الذى بدا تأثيرياً بهيئة السطح اللامستو الخشن.. والشخوص داخل أطره المنفصلة المتصلة قد يوحى نسبياً بمفهوم تصويرى أو فراغى.. وقد بدت تأثيريته والتقنية والخيال يموجان معاً ما بين الفراغ والكتلة ومسطح التصوير.. إلى حد أن يبدو لوهلة ما تموج به تشكيلاته كأنها قابله للتحلل أمامنا ولم تهدأ نارها بعد لتتشكل فى عين المشاهد ذاتياً وفى مرونة التحول.. ترسخت هذه الرؤية لدى داخل العرض ربما لإدراكى أن عبله يختبر رؤيته للمجسم وللشكل فى الفضاء وتخيل صياغات جديدة بعيدا عن المسطح على مشهد ومشاركه من المشاهد..
- يقول الفنان فى كتالوج معرضه: `أشكالى تخرج من بين ثنايا الرسم وبدائية الخط ورحم الحكايات القديمة كانت فى بدايتها خطوط بسيطة وكأنها مجرد إشارات لشئ ما قبل أن يضربها برق السماء فاستحالت وجودا اخر مملوء بالطاقة والوهج والرنين النحاسى الآسر..` `وأن فعل النار المقدسة التى تحيل تلك الرسوم البسيطة إلى حضور صلد.. وأن النحت عندى هو فعل النار وذوبان الوجود الصلب والتحول لأطوار جديدة..
- `اللعب بالنار` عرض تميز بالتشكيل النابض الممتع بأثر النار الجامحة بغريزة الحياه وغريزة الموت كقوة متأججة ومُغيره.. ومن طاقتها استدعى عبله مفردات عرضه من اللوحة إلى المجسم بفعل النار..
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة 25/2/2020
فى معرضه `بره الكادر` فى جاليرى مصر : محمد عبله.. التوازن القلق فوق الحافة..
- الإنسان القربان.. وعودة مُعاصرة لسيزيف المعاصر
- على مدار رحلته الفنية الأقرب للبحثية اهتم الفنان الكبير محمد عبله بالإنسان.. صوره فى حاضره وعلاقته بالنيل أسطورة وجوده.. ثم قام باستدعاء زمنى من الماضى لصورة الإنسان من فوتوغرافيا القديمة.. ثم قفز الى خارج جلده الأول ليصور جلده الثانى بيوتاً متراكمة سميكة فى هشاشة.. ومن `طريق الحرير` المُهجن بالحكايات عاد مرة أخرى إلى ذاكرة الانسان وحكاياته القديمة.. ثم ليعود للإنسان ككيان وجودى ليواجه مصيره الشبه عبثى.. هذه العودة الأخيرة تمثلت فى عرضه النحتى ` بره الكادر` فى `جاليرى مصر`..
- محمد عبله المثال دندن خارج الكادر برنين النحاس وبخفوت البرونز المكتوم لتبدو أجزاء البرونز المؤكسد كحالة من تخفى البريق وما بينهما تقدمت منحوتاته.. ومن أثر الفضاء على المجسم أصاغ بالمنحوتة حالات جدلية مثلما فعل فى معرضه `طريق الحرير` الذى كان صوره بصرية لأثر فعل الموسيقى على الماء وتحكمه فى مسار اللون.. فكانت أدواته الفضاء والموسيقى والماء..
- فى معرضه هذا استطاع عبلة ان ينشئ مفهومه عن تواجد الجسد النحتى ليقدم كثير من الإشارات تجاه إنسان عصرنا مثلما فعل أدباء العبث واللامعقول فى مجال المسرح.. لذلك كانت لعبله منصات مسرحية عديدة داخل قاعة العرض كثفت المسافات ولخصت ما بين الأمل وبين الوجود المتجه بشكل حثيث تجاه الفقد أو اللاجدوى.. ولتبدو سيقان نباتاته هى الأكثر صلابة وحياة من مقدرة الإنسان.. فبينما اتجهت سوقه منطلقة لأعلى بدا الإنسان هابط الدرجات على حافة خطر أو جالساً فى انتظار يأس..
- سيزيف الإنسان والقربان
- قدم الفنان عبله قبلاً منحوتته `سيزيف` فى أحد ميادين `فالسرودة` الألمانية الذى بدا فيه سيزيف والصخرة التى هزمته فى النهاية.. ليستحضر عبله فى هذا المعرض فلسفياً صخرة سيزيف كقضية وجود.. وجعل إنسانه السيزيفى هو المسيطر عليها جالساً فوقها مطلاً على حافة خطره أخرى وقد فقد أسطورته.. كما قدم إثنين جالسين أيضاً فوق صخرة فى إنتظار كـ `انتظار جودو` لللاشئ لـ`صمويل بيكيت` ورأيت `فلاديمير` و`إستراجون` رجلى `بيكيت` فى شخصية إحداهما الجالس فى ملل والآخر المتكئ اليها فى لامبالاة من طوال الانتظار.. وأيضا رأيتهما فى ثلاثة قطع نحتية لشخوص متجاورين فوق منضدة واحدة.. احدهما يعبر عن الترقب.. والآخر عن القلق.. والثالث وقد بلغ به الملل فرقد على ظهره.. إلا أن وجودها الإنسانى بليغ فى علاقة ندية وصلابة الحجر .. وكالحجر جميع شخوصه بلا تعبيرات يفوقها تمثاله `الضحية`..
- أما الوضع السيزيفى المُقلق نحتياً رأيته فى معضلة بصرية بين التوازن والاهتزاز خاصة فى عمله ذى الكتلة المخروطية القائم عليها العمل بكامله وبين الفراغ أعلاها المحتجز بداخله إنسان فى مشهد مستمر بلا حل لا للكتلة لتثبيتها ولا للفراغ وهشاشته..
- قدم عبلة ببلاغة صدمة انفصال العقل عن جسديته المادية وتركه معلقاً فى الفراغ وقد انتزع أحد شخوص منحوتاته رأسه من فوق كتفيه وقدمها كقربان - أى أصبح العقل قرباناً - فجعله كائن غير قابل للاستمرار.. ونلاحظ أن عينى الرأس المنتزع من مكانه تحدق بضعف يائس إلى داخلها وبلا إرادة مما قد يدفع المشاهد للحظه ما إذا كان ينظر لنفسه فى المرآة؟.. العمل يُثير حالة إشفاق أمام الرأس المنزوع بإرادة صاحبه والذى على طول ذراعية وطواعية يقدمه قرباناً لمن لا نعلم.. ولا أعرف دلالة فكرة القربان فى هذا العمل إلا أن يكون تم سلب عقله قبل نزعه.. خاصة يبدو أن فاعله ينفذ أمراً وإلا ما بدى بهذه الحماسة.. غير أن قسوة الوجود ولا مبالاته بذلك الضعيف يجسد كم القهر والمعاناة ينتهيا باللاجدوى.. تماما كسيزيف وجهد اللاجدوى.. وانتظار جودو وترقب اللاآتى.
- أعتقد أن رأس الإنسان موضوع يشغل عبلة فبدا فى بورتريهاته كأنه ينحتها على المذهب التكعيبى.. وتجاهله للعينين بل وطمسهما كى يزيد من الغموض وإرباك المشاهد.. فرأينا بورتريهاته لامعة غير بشرية ومن الصعب معرفة أهى لنساء أم رجال وهى ليست نصفية بل هى مُنتزعة عند الرقبة ربما رمز منه لتوقف سردية الحياة.. وبدت أحد بورتريهاته النحاسية المنضغطة على جانب كهيئة بروفيل ومقابلها على الجانب المقابل هيئة بروفيل آخر كبورتريهين لكل منهما اتجاه وينظر عكس الأخر فى انفصام.
- الفراغ والفضائى
- قدم الفنان أكثر من رؤية للإطار والفضائى المحيط وجعل التواجد النحتى لمفرداته فى فضاء الجاليرى يبدو غير سردي كأنه ينطلق من لا شئ فى لحظة فى مكاناً ما أثناء حركة مباغته لم تكد فيها شخوصه تعيد وضع ساقها المرفوعة إلى مكانها.. او بعودة البورتريه المنبعج بضغط الهواء المحيط الى التفاتته.. وبدت بورتريهاته مجموعة مسطحات مُنبعجة لهيئة تكعيبية نتيجة سُحب الهواء منها فضُغطت الى الداخل بقوة الضغط الخارجى.. كأن الفضاء المحيط نشط للغاية وبدى يتشكل بالسالب فوق البورتريه الواقع بين ضغطين.. كأن أحدهما يتلاعب بحجم ووجود الآخر ومزاحمته فى المكان.. ورمزياً هذا السحب والضغط بدا كرحلة تطهير والاقتراب أكثر من صورة النفس وليس الملامح.
- وقدم الفنان أعمال طولية رفيعة تقترب من فكرة الوجود فى الفضائى وإعادة تشكيله عند `البرتو جياكوميتى` أراها تصور سيقان نباتية نحيلة بلا جسد تقريباً متجذرة تنتصب رأسياً بقوة الحياة يسرى بها حس النماء الداخلى يجذبنا اليها اهتزازات أو شبه نبض حياة يثير ويُذبذب الفراغ المحيط تعلوها بترات تكاد تتفتح أو تفتحت تواً ولتبدو واهية كظلال انعكاساتها على الجدار خلفها أو كحالة طوطمية ساحرة.. وأراها تُشبه الإنسان المتآكل كأنه ظل لنفسه بين الوجود واللاشئ لكنها أكثر نبضاً وحياه منه.. فسيقان نباتاته أوجدت لنفسها معنى فلسفى لوجودها فهى تتمسك بوجوديتها مرتبطة بالأرض ومتطلعة للسماء.. وأيضاً بدا اهتمام الفنان بتشكيل الفضاء فى عمل دائرى داخله مساحة مُفرغة أسماه `خارج الفضاء` ليبدو كثقب أسود.. وقدم أيضا شخص داخل أطر مربعة فى الفراغ كقفص لتشكيل مساحة افتراضية.
- أما شخوصه العابرة إلى فراغ فوق أرض غير مستوية ممتدة إلى حافة صخرة فى صمت وبلا عيون نستشعرها فى حالة ترحال عن طبيعتها المادية إلى لا اتجاه.. هذا الصمت البشرى وسياقاته المتقطعة كأشكال مُلقاه فى الفضاء توقفت أرجلها عن اكمال المسير رغم الوضع الفعلى لحركة إحدى الساقين الذى تحول لمساحة نشطة لفعل دراماتيكى تتغير فيه وضعيته فى اللحظة التالية بالسقوط.. حيث أن شخوصه لا يسيرون إلا فوق حافة كأننا نشاهد لحظة ما قبل السقوط.. بينما شخوص جياكوميتى لا يرفعون أى ساق بل يسيرون على امتداد الأرض بطول خطوطها المستوية دون مخاطر السقوط بل مخاطر اللانهائية.. كأن رؤية محمد عبلة لحركة الإنسان أو العالم ما تكاد تبدأ حتى تنتهى إلى لا شئ.
- إتزان النفس والمنحوتة
- هل تتحرك يد المصور فوق المسطح بنفس الكيفية فوق المجسم؟ هل تجعل من كل مساحة جزئية فى منحوتته مسطح يتعامل معه تصويريا..؟ كمصور.. تم التسطيح بالضغط حول محيط مجسم البورتريه رغم الانبعاجات.. كذلك الشكل الكروى النحاسى قدمه محدب إلى الحواف شبه مسطح ككرة معلقة سحب ما بداخلها من هواء.. والبورتريه المُهدى للفنان الجزار استلهاماً من لوحته `المجنون الأخضر` عالجه ملوناً كمُسطح مع ريليف للأذن والزهرة الحمراء والعين.
- أما الاتزان والتوازن الذى يختلف فى لوحة التصوير عنه فى المنحوتة المجسمة ويعمل كل نحات على تحقيقه وإلا سقط مُجسمه نرى الفنان عبلة مثلما خاض مخاطر `طريق الحرير` الوعر أيضا خاض مخاطرة النحت المقلق.. فتمثاله المهدى تقديراً للمثال الرائع آدم حنين عبر عنه بتجسيد لأحد شخوصه يعلو كتلتين ليشكل ثلاثتهم مدرج إلى الخارج يوحى بالسقوط لولا ثقل كتله القاعدة.
- وهذا اللاتوازن القلق قدمه فى عمل آخر يُمثل كتله لشخص يهبط من أعلى درجات سلم رفيع ومستمر بالهبوط فإحدى القدمين مرتفعة عن الأخرى ليبدو كمعلق فى الفراغ ويظلل رأسه بإحدى ذراعيه متطلعاً لبعيد.. هذا الهابط للدرجات إن شاهدناه بعد عشر سنوات أو ما بعدها سنجده مازال آخذ فى الهبوط.. إنها عبثية الحالة الإنسانية الآخذة فى الهبوط البلا مُستقر.. فهذا سيزيف آخر ومصير لا مستقر.. درجات السلم تمثل إيقاع بصرى يوحى بالاستمرارية وبالخطر بفقد الشخص الذى يقف على الحافة الخارجية لتوازنه وتوازن الكتلة المائلة بما يوحى مع كل هبوط لدرجة تتغير حسابات التوازن وعدم الاستقرار وتؤدى حتما الى السقوط.. أرى هذا العمل المتحرك كخداع الأوب آرت من كتل النحت الرائعة فى عدم اتزانها.
- الإبداع خارج الكادر
- كل ما هو خارج الكادر يقترب من تعبير خارج الصندوق.. لذلك قدم عبله الفنان الكبير رؤى غير متداولة أو تحتاج لنحات يفكر أكثر بيديه.. لذلك رأينا كثير من شخوصه مغادره أماكنها إلى مجهول.. وحواف خطرة.. ودرجات لانهائية.. وأطر أربعة تحاصر فضاء افتراضي داخلها.. وقاعدة لا توفر الاستقرار.. والإقامة فوق سن مخروطى غير مستقر.. كذلك الخامة خارج الكادر تغادر منطقيتها كشروط العمل النحتى متحولة إلى حالة وليس كتلة.
- أعمال المعرض تتهادى بين اللامع والمؤكسد المعتم.. وبين الفضائى المحيط بالشكل والفراغ حبيس المجوف.. وبين البساطة وفلسفة الوجود.. وبين الحالة الطوطمية والقوة السحرية .. وبين بدائية الحس وذهنية المُعاصرة.. وبين الكتلة المضغوطة تكعيباً الى الداخل والنحافة المنطلقة سيريالياً فى الفضاء.. وبين الوجود الراسخ لنباتاته والوجود الهش للإنسان.. وأعماله هذه التى تزاحمت فى قاعتى العرض رأيتهم جملة واحدة يستحضرون أنفسهم أضداداً حتى بدا لى أن هناك نضال خفى داخل القاعتين يستشعره من يتجول بهما لأكثر من مرة.. فكل كائن لديه إحساس برغبة التواجد كى يكون مرئياً داخل الفضاء المزدحم.. وأعتقد أن الفنان كان مفتوناً بهذا النضال من أعماله لتُرى وتُثير الإعجاب الصعب ودهشة المشاهد.. وبما حققه من اتصال رائع بين ما يمكن أن يُنجزه النحات المفكر والمُصور المحترف.
- إن معرض عبله لرائع ومخيف.. كأنه يطل بخاماته البراقة على جحيم عبثية المصير الإنسانى.. وهذه الفكرة امتزجت وخامة البرونز فى النار كوسيط قاس تحتاجه كى تتشكل مفاهيمياً.. وليست الجماليات ولا القواعد النحتية هى التى شكلتها.. فقد شكل عبله افكاره وترك كل قطعة تذهب لما عليها تجاهنا.
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة - 17 أبريل 2018
! الفنان محمد عبلة (1953 ) مدينة بلا قلب - تليق بعصر العولمة
- منذ عام بالتمام كتبت عن معرض الفنان محمد عبلة الذى أقيم آنذاك بقاعة الزمالك مايلى:` محمد عبلة حالة خاصة ومحيرة فى الحركة التشكيلية، فهو أحيانا يبدو لك فنانا واقعيا يشغله التعبير المباشر عن صورة الحياة الاجتماعية ومشاهد الطبيعة ومايدور فوقها من كفاح إنسانى ومعاناة طبقية، وأحيانا أخرى يبدو لك تعبيريا - بالمفهوم الأوروبى - يشغله البحث فى الصراع الداخلى للنفس وماتعكسه من تمزقات، وأحيانا ثالثة يبدو لك رمزياً مفاهيمياً يقدم - بالكناية والإيماء - صورة لحال الوطن المأساوية من خلال مخلفات الواقع المادى فى قاع النيل ونفايات الإنسان على الأرض، أو صراعاته وتكالبه فى تزاحم محموم من أجل البقاء، وأحيانا رابعة تراه فنانا تجريبيا يستمتع باللعب بالخامات والصور الفوتوغرافية والرسوم الطباعية وبقايا أقمشة التنجيد، وقد يصل فى النهاية إلى التجريد الخالص` . ( الوفد 2 / 12 / 2008 )
- فى معرضه الأخير المقام حاليا بقاعة الزمالك، أكاد أشعر بأنه استنفد تماما طاقاته الإبداعية فى تلك المسارات الأربعة، وراح يكرر نفسه معتمدا على لقطات فوتوغرافية لمناظر ليلية فى وسط القاهرة مكتظة بزحام العمارات والبشر والسيارات ، دون أن يضيف جديدا لما قدمه فى معرضه السابق، الذى اعتمد فيه على الموضوع ذاته والأسلوب أيضا، القائم على اللمسات الانطباعية المتطايرة كالشظايا اللونية فوق مسطحات هائلة الحجم، ودون أن يبتعد قيد أنملة عن تكوين المنظر الفوتوغرافى للميادين والشوارع المزدحمة، أو لانعكاسات الأضواء والمبانى على مياه النيل المعتمة، فتبدو متلألئة بفنادقها وملاهيها الساهرة وإعلاناتها الضوئية المبهرة ، وتلك هى ` القاهرة الأخرى التى لاينتمى إليها عامة الشعب ولاتنتمى إليهم .. إنه يتبع المنظور الهندسى من عين الطائر، فيجعل من الأرض أغلب مساحة اللوحة، حيث تتحرك فوقها السيارات والبشر كلعب ميكانيكية` بريموت كنترول `، ثم يلجأ إلى طمس الملامح الواقعية ` بلطشات` غليظة من الألوان القوية المتابينة، موحيا بحركة كرنفالية صاخبة لاتتوقف، فيما يملأ السماء السوداء بانفجارات الشظايا الضوئية للألعاب النارية تأكيدا لتلك الحالة الكرنفالية، مولدا من خلال ذلك كله طاقة حركية لاتخطئها العين، لكنها تخطىء طريقها إلى قلب المشاهد المصرى، إذ تبدو مدينة غريبة عليه، مدينة أوربية عولمية باردة المشاعر رغم سخونة ألوانها، ذلك أن القاهرة ، تلك المدينة متحجرة القلب نهارا بزحامها الخانق والطارد للبشر، تستعيد رقة قلبها حين يأتى الليل، لكن مدينة ` عبلة ` الليلة مدينة بلا قلب أو بقلب صناعى، حتى لو بدت مدينة جذابة مثيرة .. إن دواماتها التى تدور حول تماثيل الميادين بسياراتها التى تبدو كزوبعة حلزونية ، لانحسها مخيفة قاسية كما نراها أثناء النهار، لكنها تبدو كلعبة ( جيم ) على الكمبيوتر، أو كمدن مثل هونج كونج وتايوان فى الشرق، ومثل باريس وسان فرانسيسكو فى الغرب، أو ربما كمدينة افتراضية بلا هوية ، وهو ما أعنيه بالمدينة العولمية.
- وعندما أقول إنه استنفد طاقاته الإبداعية، فإنما أعنى أن ما يقدمه اليوم ليس إلا تكراراً لما قدمه فى معرضه السابق، وكان وقتها يحمل جدة وإثارة، تذكرنا بصور القمر الصناعى على شبكة الإنترنت من خلال موقع ` جوجل ` الذى يتجسس علينا ليل ونهار ويتوغل فى شوارعنا حتى يقودك - لو شئت - إلى بيتك الخاص، وكان المعرض يوحى آنذاك بشرعية أن يستعين الفنان بهذه التقنية فيما يقدمه إلينا بنظرة نقدية لاجتياح العولمة لخصوصية المجتمعات البشرية على يد قوى عظمى باتت تهيمن على مقدرات الكرة الأرضية .. أما هنا، حيث اكتفى الفنان بعرض الطابع المهرجانى الخادع لمدينة بشعة نهارا بكل المقاييس، فإن الرسالة التعبيرية أصبحت مختلفة تماما، إذ تبدو أقرب إلى الرسالة السياحية الجاذبة للعين الأجنبية، وللمقتنى الأجنبى أيضا أو - فى الجانب الآخر - هى رسالة تعنى القبول باندماجنا الاختيارى فى نظام العولمة، غير مكترثين بخصوصية تميزنا بطابع معين وهو طابع لا يزال موجودا ومحركا للمشاعر والرؤى الإبداعية فى الكثير من معالم القاهرة والأقاليم .
- غير أن ` الموضوع ` وحده ليس بيت القصيد ، فللفنان أن يعبر عما يشاء، ومن حق ` عبلة ` أو غيره أن يختار وجهة النظر التى يراها تجاه الواقع والعصر حتى لو كان يدعو إلى العولمة، لكن السؤال هو : أين خصوصية التعبير عما يقصده ؟ .. والخصوصية هنا تعنى أصالة الأسلوب وتفرد الذاتية الإبداعية للفنان، لكن ما نراه نوع من الاسترسال التقنى بتحويل الصورة الفوتوغرافية إلى لوحة تصويرية بأسلوب عشوائى يوحى بعدم النضج ، وقد يذكرنا بالمناظر الطبيعية لبعض الإنطباعيين المغمورين فى أوروبا، اللذين يطلق عليهم : فنانى يوم الأحد، ويبدو أنه كان معنيا بالكم أكثر من الكيف، حيث نرى عددا هائلا من اللوحات المتشابهة التى توحى بإنتاج ورشة محتشدة بالدرجة الأولى لتلبية طلبات السوق !
- ولا أجد مناصا من استعادة بعض ما كتبته عن محمد عبلة فى مقالى السابق، مرجعا أزمة بعض فنانينا إلى رغبتهم فى اللحاق بعصر العولمة، بكل ما يثيره من حلم ` العالمية ` والثروة عبر سوق مفتوحة لمستجدات الإبداع على شبكة الإنترنت، فإذا بالحلم ينتهى بالسطو على الفنان بأيدى شبكات العلاقات العامة المالكة لمهارات الاتصال والترويج ، وأيدى ترزية التفصيل على مقاسات مزادات الفن الدولية، وبذلك يبقى الفن - صناعة واستهلاكا - شأنا خاصا بنخبة محدودة جدا من المقتدرين والوسطاء وندرة من المتذوقين أما الجماهير التى كان الفنان يحلم فى شبابه بالوصول إليها فأصبحت خارج الحسبة !
- ونحن نقدر أن محمد عبلة هو أحد أبناء جيل السبعينيات الذى بدأ فنانوه يثبتون وجودهم فى الثمانينيات، الجيل الذى شهد أكبر الانتصارات وأكبر الهزائم ، حتى شهد انكسار الحلم بالسطو على الثروة والسلطة بأيدى الطبقة الجديدة التى أفرزها زمن الانفتاح الاقتصادى ، واستمر الجيل بين صعود الحلم وهبوطه عبر عمليات إجهاض متلاحقة لمطالب التغيير، وشهد مثقفوه ومبدعوه سطوة المؤسسة الرسمية التى عملت - على امتداد ربع قرن - على تهميش أصحاب حلم التغيير، فى مقابل صعود الموالين لتثبيت الأوضاع وانفرادهم بالساحة ، ماأدى إلى استقطاب الكثير من أبناء ذلك الجيل للدوران فى فلك المؤسسة الرسمية، ومنها إلى فلك أكبر: وهو فلك التبعية الثقافية لعصر العولمة، قاطفين ثماره السخية ولو إلى حين !
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث