`



ما رأيك في الموقع:



مقبول
جيد
جيد جدا
ممتاز

 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث
 
العودة
حول رؤية الفنان
 
جاذبية حسن سرى

- البداية الفنية بأسلوب متفرد شعبى إنسانى تعبيرى ممزوج بالفانتازيا، تطور على مدى ما يزيد على أربعين عاماً تدريجيا إلى أسلوب تعبيرى شخصى يكاد يصل إلى حافة التجريد التعبيرى ويعتبر منذ سنوات أسلوباً معاصراً ذا مذاق مصرى خاص .
- جاذبية سرى فنانة مصرية تحلق فرشاتها فى سماء الفن الرفيع الخلاب انها ليست بالنسبة لى اكتشافاً جديداً حيث أتيح لى أن أتابع منذ سنوات عديدة إبداعها فى فن التصوير وأن أزور مرسمها بالقاهرة وأن اقدر قوتها تلك القوة المتدفقة التى لا تقتصر على كيانها كامرأة تتميز بحسم وتصميم فى مواجهة دائمة مع صعاب الحياة والتغلب عليها و لكنها أيضاً قوة يدها التى تنبض حيوية و تغذيها الأحاسيس الباطنية وروح الفنانة الإبداعية إنها قوة فرشاتها و قوة ألوانها .
- وتعتبر جاذبية سرى معلماً من معالم البانوراما المصرية للفن النسائى لأنها تعكس فى تكويناتها المملوءة بالحركة والألوان والانطلاقة الحيوية العصبية التى تتسم بها شخصيتها وإنه لا يكون فناً نسائياً بالمعنى الذى صار من المألوف اضفاؤه على هذا التعريف إن هذا خطأ نظرا لأن التعبير الفنى يجب أن يحكم عليه بمعيار القيمة الذى يتخطى الجنس ولا يضعه فى حسبانه حيث إن فنها لا علاقة له بتلك الخصائص التى تتصف بها النساء الفنانات .
- إن تصويرها تصويرغريزى عنيف مشحون بانفعالات داخلية غير مرتبط بالبحث عن الجمال فقط، على العكس متأهب دائما لقلب القوانين والقواعد، إنه فن تشكيلى لا يخضع للشكل والصورة، إنه فن معاصر ولكن من خلال اللاشعور يعكس دائماً الأصول القديمة، إنه فن يحكى فى باب النوادر والحواديت يحكى مشاكل يومية وأيضاً مشاكل تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ .
كارمينى سينسيكالكو
روما - فبراير 1994
` جاذبية سرى والذوبان فى `جلاتيا
ـ تحتل جاذبية سرى مكانه فريدة فى حركة الفن المصرى المعاصر منذ بدأت تستنسخ وعيها الجوانى فى التعبير عن لعبة `الطيران ` بين ` البيت ` الذى هو ` جسدى` وبين الفضاء الذى هو خروج على المادى .
ـ منذ تلك الخمسينات البعيدة التى أطرتها بصكوكها الأولى فى ذلك العالم من المشخصات المليئة بحركيه الشعر حتى استشراف ما فوق الطبيعى METAPHYSICAL كانت جاذبية سرى قد عثرت على موهبة الاندهاش أمام رسومات الأشخاص المتراسلة إلى بعضها وهى تجتاج العاطفى باللون المظلل وتشتاق العكوف الدائم فى بنيات الصور الباطنه مثلما تشتاق الإنفلات إلى مسافات الوعى حتى الصدام مع ` الواقعى `.
ـ آنذاك كانت ` البنت الصغيرة خارج بيتها تطلق طائرتها الورقية ` أو هن ` فتيات صغيرات يجتمعن على لعبة من لعب الحارات ` أو هو ` شهيد تسامقت قامته حتى إستوت من ضوء الشمس .
* لفرط الامتزاج بالصوفى :
ـ انذاك كانت جاذبية سرى تنحت صورتها الذهنية ` محتفظة بتلك المسافة الثقافية التى تحجزها عن استساخ المرئى كانت ` تعبيرية ` بمفهوم `جوجان ` كاشفة عن الوحش `FAUVE ` فى تلك الثنائية المتألقة للروحى والجنسى مثلما كان `ماتيس` مجتاحاً للرمزى `SYMBOLISM` بكل حواجزه مثلما كان `مونش`.
ـ وفى الستينات كانت جاذبية سرى جزءا متحالفاً مع حركة التيار الثقافى جزءاً من ذلك النسيج الذى ` تهراً ` وهو يرتشف من رحيق `الحلم القومى` دون طائل أما جاذبية سرى . فكانت قد كرست نفسها للقلق بمثل ماكرست روحها للفن فكأنها فى الستينات صارت نموذجاً مجسدا لـ ` جلاتيا ` بيجماليون فنزحت فى فعلها وأخذتها رغبة التوحد فى ثنائية الشكل الآدامى حتى كان لها ما أرادت .
ـ فى تلك الستينات كانت رسومها فى أغلبها `بيوتاً ` بيوتاً غارقة فى حمرة الساخن مغسولة ببرودة الأزرق تمسح القماشة مسحاً حتى الثمالة مع أن الخطوط تقاطعت وتراصت فوق بعضها إلا إنها كانت وقد انفلتت وتاقت إلى المجرد صار طيران الخمسينات بيتاً والحارة بيتاً والشهيد بيتاً .
ـ صار حلمها إذ ذاك ` بيتاً ` وكان تحرر `الرمزى` من الموضوعى إلى `الشكلى` وكان تخلص الإستنساخى من الواقعى إلى الفوق مرئى `Super - naturalism ` وفيما بعد فسوف نرى فى السبعينات أن البيت صار `هرماً ` ثم إذا به يبدو فى الضوء الصحراوى المشمس وقد تحرر من الرؤية الوهمية Prospective حتى صار مثلثاً مثبتاً على قماش الرسم كانت جاذبية سرى آنذاك تقترب وتتباعد ـ فى الخفايا المسافة المرسومة من `التوازنى ` MINIMALISM من ناحية والتجريدى ` ABSTRACTIONISN ` من ناحية أخرى بين الجمالية المتخيلة وبين الصورة الذهنية وبإختصار كانت انغرزت بين المفردة ونقيضها فى سبيل توحيد الخيالى.
ـ فى هذا المعرض الذى يمثل زمنها الجديد نجد جاذبية وقد انخرطت فى عالم جسدى ذى قدرة تخيل تنبؤية جمعت الأشياء التى تمثل ذلك العالم فى رسومها وصهرت الدلالات وعرضت حواجز الرموز للمحو. حتى تصل إلى تلك التجليات التى تكتنف المشهد الإنسانى وليس إعادة مراجعة وإنما هو تحول الطاقة المبدعة من التواصل الاحادى الى المشاركة الكلية هذه المشاركة التى تعاود تكييف المجرد للمادى وتكريس المادى وفقاً لإرادة المبدع `المتهور` و الجامح ثم أخيراً تلك الجينة ` الكونية فى الجذور المبكرة .
ـ فى لوحاتها الجديدة تلك نجد جاذبية وقد سارت فنانة ` وهلية ` قريبة إلى الحدث أو المباغت HAPPENING المتوحدة فى ثنائية الإدراك بين الحسى والعقلى قريبة إلى التصور CONCEPTION حين نرى خطوطها المنحدرة العواطف وقد انفصلت عن الارادة الواعية وإتسعت مع التخيلى .
ـ فى رسومها الجديدة تلك لانعثر على ذلك التفريق بين اللونى أو الخطى أو بين الكثيف والأثيرى أو بين المكانى واللحظى أو بين الشخصانى والشكلى .
ـ عبرت جاذبية سرى حتى تجاوزت ما بعد التعبيرية POST - EXPRESSIONISM - عبرت الى ذلك العالم الذى هو عالمها حتى صارت ذاتها المفردة وقد طرحت علاماتها وإشارتها وتشيأت فى الجميل والمبدع .
أحمد فؤاد سليم
القاهرة - يناير 1994
جاذبية .. نجمة النجوم
- الحديث عن الفنانة المبدعة جاذبية سرى يحتاج إلى زمن يطاول زمن حياتها وإبداعاتها .. الفنانة من مواليد العام 1925 - خريجة المعهد العالى للبنات -قسم الفنون الجميلة1948 (كلية التربية الفنية حالياً)، حاصلة على دراسات فى روما ولندن، أقامت 66 معرضاً خاصاً، عملت أستاذة بقسم التصوير بكلية التربية الفنية والجامعة الأمريكية بالقاهرة - كما شاركت فى كثير من المعارض المحلية والدولية ، وإسمها مسجل بموسوعة (روبير للفن) بباريس العام 1976، وموسوعة (لاروس للتصوير) بباريس العام 1976، وواحدة من عشرة فنانين من العالم الإسلامى بموسوعة متحف المتروبوليتان بنيويورك 2004، حصلت على الجائزة الشرفية لبينالى فينيسيا العام 1956، كما حصلت على الجائزة الرابعة الدولية للفن المعاصر موناكو 1968، حصلت على جائزة الدولة التشجيعية ووسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى العام 1970، وجائزة الدولة التقديرية العام 2000، والجائزة الأولى لبينالى الإسكندرية العام 1963 وغيرها من الأنشطة الواسعة والممتدة فى الحركة الفنية والثقافية بالمجتمع . جاذبية فنانة أصيلة ذابت فى شرايين المجتمع وانصهرت مع تقاليده وعاداته وفنونه الشعبية المتأصلة فى الطبقات الفقيرة، وامتلأت بحياة الناس واعتبرت البيئة الشعبية والطبيعة هما المكنون الحامل للقيم الوطنية والشعبية مؤكدة ملامح المجتمع وهويته، والنيل فى لوحاتها هو الشريان النابض والحى فى وجوه وأجساد ناسها المكتظين فى كونيات وفضائيات لوحاتها، مزجت حياة الناس وحركتهم وآمالهم وحزنهم وفرحهم فى عجائن ألوانها .. وذابت الأجساد واختلطت ببيوتها المتراصة ونوافذها التى أصبحت بمثابة عيون بشرية فلا فرق بين نافذة البيت والعين، كلاهما نوافذ مفتوحة على جمال الطبيعة وعلى جمال شفافية البسطاء من الأطفال والشباب متحدين مع مراجيحهم وألعابهم البدائية فى عشق ممتد منقطع النظير، جموع الناس فى لوحات جاذبية هى جينات تتفاعل وتتنامى وتتنوع وتتأمل.. جسداً واحداً متلاحماً فى بناء تشكيلى تدفعه طاقة شعورية آتية من الداخل، وتحتضنها من الجانب الآخر سماء زرقاء، أتت بلمسات متقطعة كأنها زفير وشهيق لهذه الجموع الإنسانية وكأن الأرض أصبحت فى السماء والسماء بفضائها تبدلت لتحتل مكان الأرض، كأنه حلم تتساقط فيه الآمال فى بحر الحب الممتد عبر فضاء محمل بمكنون لا منتهى، ونحن نتأمل لوحتها هذه بالمعرض المقام حالياً بمركز الجزيرة للفنون الذى يضم أعمال 128 فنانة ضمن أنشطة مهرجان إبداعات المرأة المصرية ، نرى أن البناء اللونى يأتى على مسطح ممدود وتلقائى الأداء ولمسات اللون السريعة والمباشرة تكون نسيجاً متسقاً من التفاعل والتواتر اللاشعورى لهذه الوجوه الصامتة والدالة على نبع تعبيرى بليغ ، وإذا كانت هوية الفنان تأتى أهميتها فى المقام الأول، فجاذبية صاحبة رؤية خاصة ومحددة المعالم ، وصاحبة فكر نابع من مصريتها وارتباطها بالأرض والناس والنيل والسماء ، طاقتها الإبداعية هى طاقة نجمة ساطعة بين نجوم الفن التشكيلى المصرى المعاصر .
أ.د. احمد نوار
مجلة الفن - 2004
حميمة اللوجهات الصغيرة فى عالم جاذبية سرى
- تغنى بفرشاتها وتؤلف ألحانا جديدة.. ترسمنا وتلوننا.. تجيد صنع الوقفات والنهايات.. اللون يحتوى الضوء, والخط يحتوى الشكل, والفرشاة تجرى بعفوية لا حدود لها تستدرجنا للدخول فى عالمها المزدحم بالناس والبيوت .
- بين لون متدفق ولون تعب تصارع الفنانة جاذبية سرى لتحفيف حالة التوتر, إلا أن المساحات الكبيرة ترهقها..فاللون المتدفق يحتاج لمن يوقفه أو يتدفق معه, واللون المتعب يحتاج إلى من يسانده .. وتقف الفنانة بين اللونين تحاول فض الاشتباك باللون الأبيض أو بكتل من الأسود, وأحياناً تستخدم تهشيرات لتحديد صفات كتلة.. ربما يقلل هذا التحديد فى بعض المناطق من قيمتها.. فى المساحات الضغيرة تتمكن الفنانة جاذبية سرى من التعامل مع ألوانها المتدفقة النتوهجة, مثل الأحمر حين يصارع الأزرق فيكون الأبيض اوناً مخاصاً وريما شبه مصالح .
- أما في المساحات المبيرة خاصة الأخيرة فإنها تفقد السيطرة بعض الشئ فتتوقف فرشاتها عن التجديف فى مناطق تحتاج لتجديفها .
- تتميز الفنانة جاذبية بقدرة عالية فى التلوين واستخدام الألوان فى إقامة لغة حوارية تعكس الحركة والدينامية وهذا أسلوب الفنانة منذ زمن فاللون لديها مسكون بطاقتها . تشعر بأن به نبضاً, وأنه لون حى متحرك, أيضا هو مصدر للضوء.. تشعر بأن اللون يشع ضوءاً, ورغم إحساسى بالمعاناة الكبيرة التى واجهتها الفنانة فى تنفيذ اللوحات كبيرة الحجم, ورغم حالة الإرهاق التى انعكست على حين شاهدت هذه الأعمال إلا أن هذا الانعكاس أضاف رؤية جديدة ربما لمعنى اللون المرهق والخط المرهق في مقابل الفكرة المتدفقة .
- هذا الصراع الداخل ربما حقق إيقاعاً من نوع خاص وحركة جديدة .
- ولأن الفنان جاذبية سرى فنانة متمردة منذ صغرها فقد انعكس هذا على أسلوبها الفنى فهى لا تلتزم بالأساليب التقليدية, ولا حتى بطريقة الأداء الواحدة. هى تبحث فى أسلوبها الفنى, وتجدد نفسها باستمرار.. تلخص وتبحث عن رموز الأشياء وايحاءات الألوان لتبدع ألحاناً جديدة فى الشكل واللون والحركة تميزها نابع من قناعتها بأن كل شئ دينامى يتنافس مع الوقت مثل التفاعلات الكيميائية ولكنها تفاعلات إنسانية مرتبط بتطور الحياة والواقع من حولنا .
-الجميل فى كل أعمال الفنانة أنها دائمة التفاعل مع الحياة والناس والأضواء والظلال.. والحركة بداخلها طاقة مفعمة بالتحدى, إنها فنانة متجددة حصلت على جوائز من المهرجانات العالمية مثل فينيسيا وروما والإسكندرية والقاهرة, كما حصلت على جائزة الدولة التشجيعية والتقديرية, ولها مقتنيات فى العديد من المتاحف المصرية والعربية والعالمية .
د . سامى البلشى
الإذاعة والتليفزيون 22 /3 /2008
`طيارة ` جاذبية سرى .. أول لوحة مصرية فى متحف المتروبوليتان
- نجاح فنى كبير حققته الفنانة المصرية الشهيرة ` جاذبية سرى ` بحصولها على بطاقة العضوية البلاتينية بمتحف ` البترو بوليتان ` بنيويورك وهو من أكبر وأهم المتاحف العالمية المخصصة للفن الحديث .. وقد قبل المتحف عرض لوحة الفنانة المرسومة عام 1960 التى قامت بإهدائها للمتحف وهى لوحة الطيارة لتكون ضمن مقتنيات المتحف الكبير .. وهذه اللوحة هى واحدة من مجموعة لوحات ` لعب الأطفال ` التى انشغلت برسمها فى آواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضى وتصور طفلة تطلق طائرة ورقية وتكاد تطير معها .
- لوحة ` الطيارة ` هى أول لوحة مصرية تعرض فى متحف المترو بوليتا بنيويورك .. وقد سبق أن دخلت اعمال من الفن المصرى فى متاحف عالمية لا تزيد على ثلاثة هى : تمثال ` لقية فى وادى الملوك ` لمحمود مختار ` 1891-1934 ` بمتحف التويلرى بباريس ثم لوحة منظر من الحبشة للفنان محمد ناجى ` 1888-1956 ` بمتحف التيت جالارى بلندن ، ولوحة الحرية للمثال جمال السجينى ` 1917-1977 ` متحف الأرميتاج فى روسيا .
- وقد تحقق هذا النجاح للفنانة الكبيرة عندما ادركت الدور الذى لعبته الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى تحقيق فوز الأديب الراحل نجيب محفوظ بجائزة نوبل العالمية بعد أن اعطى لهذه الجامعة حق طبع ترجمات رواياته للغات الأوروبية وتوزيعها عالميا .. فأعطت الفنانة كتابها عن فنها المحتوى على مجموعة من المقالات عن حياتها وفنها بقلم عدد من الكتاب مع صور ملونة غير ملونة لعدد كبير من لوحاتها للجامعة الأمريكية بالقاهرة لنشره باللغة الانجليزية عام 1998 بعنوان ` الشغف بالألوان ` وقام بمراجعة الترجمة والاشراف على الكتاب الاستاذ مرسى سعد الدين .. فتحقق التعريف بفنها للمتحدثين بالانجليزية ، وربما تم ترشيحها لجائزة مماثلة لجائزة نوبل أو أكبر منها خلال السنوات القادمة .
- وجاذبية سرى من اكثر الفنانات انتاجا وتطورا فى فنها ، عبرت فى نهاية الخمسينيات عن القضايا الاجتماعية وكفاح المرأة فى مواجهة الضغوط والأوضاع الاجتماعية المتخلفة ، ثم انشغلت بالتعبير من العاب الفتيات ومرحهن ، ثم انتقلت إلى مرحلة انشغلت فيها ببيوت المدن وزخارفها واتخذت من المبانى أشكالا انسانية كما اتخذ الناس فى لوحاتها اشكالا معمارية .. ثم عبرت عن الصحراء وثرواتها .. ثم عادت لتخرج بين مراحلها المختلفة فى تشكيلات تجد يومية مبهجة الألوان .
- وهى قد درست فن التصوير الزيتى بالمعهد العالى لمعلمات الفنون وحصلت على الدبلوم عام 1948 ، وسافرت الى باريس لدراسة الرسم بالألوان عام 1950 ثم انتقلت الى روما عام 1952 ثم إلى كلية سليد بلندن حيث حصلت على دبلوم الدراسات العليا عام 1955 ، وبعد عودتها عملت فى وظائف التدريس حتى استقرت فى المعهد العالى للتربية الفنية ` كلية التربية الفنية حاليا ` استاذة لفن التصوير الزيتى عام 1981 .
- حصلت على العديد من الجوائز اهمها : الجائزة الثانية فى فنون الطباعة اليدوية على القسم المصرى فى بينالى الإسكندرية عام 1959 ، ثم جائزة التصوير الأولى من نفس البينالى عام 1963 ، والجائزة الأولى من صالون القاهرة عام 1960 ، وجائزة الدولة التشجيعية فى فن التصوير الزيتى مع وسام العلوى والفنون من الطبقة الأولي عام 1970 ، وجائزة من مسابقة تجميل دار الأوبرا عام 1990 عن تصميم رباعية نسيج .
- وقد حصلت على منحة التفرغ للابداع الفنى من وزارة الثقافة عام 1966 لمدة 6 سنوات ، وكانت قد حصلت عام 1965 قبلها بعام واحد على منحة للتفرغ للرسم فى لوس أنجلوس لمدة سته أشهر ، ثم حصلت على منحة من ` الهيئة الألمانية لتبادل الاساتذة عام 1975 فى برلين ثم منحة من هيئة ` فولبرايت ` الأمريكية والمتحف الوطنى لفنون المرأة فى واشنطن عام 1993 .
- وقد أقامت الفنانة اكثر من 65 معرضا خاصا للوحاتها منذ عام 1957 فى القاهرة والإسكندرية والعديد من العواصم والمدن الأوروبية والأمريكية كما اشتركت فى معظم المعارض الجماعية بمصر والخارج منذ عام 1950 .
- خصص الناقد ` إيميه آذار ` فصلا عن فنها فى كتابه عن فن التصوير الحديث فى مصر الصادر بالفرنسية فى القاهرة عام 1969 ، وحددت ترجمته العربية عام 2007 كما احتل فنها فصلا فى كتاب الدكتور نعيم عطيه ` العين العاشقة ` الصادر عن هيئة الكتاب عام 1976 .. وكتبت منها موسوعة روبير عام 1976 الصادرة من باريس .. وموسوعة لاروس عام 1979 ، وقاموس السيرة الذاتية المطبوع فى كامبردج بانجلترا عام 1982 ، كما انتج التليفزيون المصرى فيلما تسجيليا عن فنها عام 1982 ، وانتج المركز القومى للافلام التسجيلية فيلما عنها عام 1992 .. وقد أصدرت هيئة الاستعلامات في مصر عام 1984 كتابا عنها وعن فنها يضم صورا ملونة لأربعين لوحة فى سلسلة الفنون التشكيلية التى أصدرت 9 كتب فقط .
- لكل هذا أصبحت لوحات الفنانة الشهيرة ذات قيمة عالمية واصبح مكانها فى المتاحف الكبرى اضافة حقيقية لمعروضات هذه المتاحف .

المساء - 2009
جاذبية سرى.. ومعزوفة الزمان والمكان
- إن أحد المكونات الأساسية للنشاط الإبداعى في مجال الفن هو العلاقة بين الفنان وبيئته الاجتماعية، وفن التصوير هو عملية مستمرة للتمثيل والانعكاس تتم من خلال الحصول على كمية كبيرة من المعلومات من البيئة، وهذه المعلومات من خلال امتزاجها بالذات المبدعة تتم صياغتها فى أشكال فنية جديدة، والفن هو محاولة لتوصيل نسق القيم الداخلية للرؤية الخاصة بالفنان إلى المشاهدين أو الآخرين أملا في تحقيق نسق لقيم أخرى، وتغيير النسق القيمى لديهم `ونحن إذ نتطلع اليوم إلى تجربة الفنانة جاذبية سري الإبداعية نرى مثالاً ساطعاً لتلك العلاقة النشطة الثرية بين الفنان والمجتمع فقد ارتبطت إبداعات جاذبية سري بروح المجتمع المصري الخلاقة الناهضة منذ بداية تجربتها الفريدة فهى تعتمد على المجتمع، تأخذ طابعه وإيقاعه، تبث إشراقاتها نابضة بفرديتها وخصوصيتها وإرادتها الجسور، وهي تتصف رغم محاولاتها الواضحة للتجاوز والكشف وعبور القوالب الجامدة في السلوك والتفكير والإدراك - بقدر من مقاربة لذوق الجماعة، فى محاولات دائمة لتغيير وتعديل مستوى الذوق والإدراك السائدين ولا تنسى أبدا أن الغاية أو الهدف الذي تتوجه إليه هو قطاعات المجتمع المختلفة المحيطة بها.وتلك القيم النبيلة التي تأسس عليها.وسنحاول بمناسبةإقامة معرضها الحادي والسبعين أن نطوف مع تجربتها التشكيلية الاجتماعية المتميزة من خلال بعض أعمالها في مراحل مختلفة.
-ففى لوحة الإنسان العربي الجديد وهى من مقتنيات متحف الفن الحديث بالقاهرة والتي أنتجتها في عام 1961تحتفل جاذبية سري بالنموذج الثوري الفريد مرددة معزوفة العصر الذهبي لعصر ثورة يوليو فى تمجيد الطبقة العاملة وتكريس روح القومية العربية، والسعى نحو تحقيق المشروع القومي لنهضة مصر الجديدة.
- نرى هنا رجلاً عملاقاً مفتولَ العضلات يرتدي ثياب العمال أو الصيادين ملامحه تشبه ملامح الرئيس جمال عبد الناصر، مستبشر الوجه يتطلع إلي الأمام فى تفاؤل وتصميم حافي القدمين وهما كبيرتا الحجم راسختين على الأرض - و كأن جاذبية سري قد غرستهما في تربة مصر العفية البهية بقوة الميلاد الجديد وعندهما نلقى المراكب الصغيرة فجمعت له الفنانة - باستحقاق كل قيم الخصب والنماء والبهجة وخير البحر والنهر الوفير يمتد ويقبع عند قدميه فى ولاء، وقد ارتكنت في أمان إلى ظل وجوده الراسخ الرابض في حضور العزة والكرامة والتحقق الفريد، تصل جاذبية بقامة الرجل إلى ارتفاع البيوت الموجودة فى الخلفية وتباهى به الدنيا كلها في غناء وسرور وبهجة طاغية، تتضح في المستطيل العلوي من اللوحة سماء في الليل مضاءة بالألعاب النارية والنجوم والهلال فهى احتفالية متلألئة فرحانة بهذا الإنسان الذى وصفته الفنانة فى اسم اللوحة بالعربي الجديد فى إشارة واضحة للمناخ العام المشبع بمفاهيم القومية العربية ووحدة الوطن النابعة من وحدة اللغة والدين والمكان. ولروح الثورة وكفاح التحرير الذي تدفق في مصر والوطن العربي كله فتفجرت تلك الروح الوثابة في المناخ الثقافي المصري،فنجد جاذبية هنا تخلق روحاً طقسية خلابة في تقديس جوهر المعنى العميق لذلك الإنسان المتفجر بكل معان الوجود الكريم، تحتفي بهذا الانتصار للمبادئ التى آمنت بها وتغنت بها فى الكثير من لوحاتها التى أنتجت فى تلك الفترة، ولهذا نرى الجو العام المفرح والألوان الساطعة والمبشرة واستخدام اللون الأخضر لجسد الرجل- فهو قلب الخصوبة وهو نبض النماء - هو الذى يتدفق حيوية وإقداماً وترتفع قامته لتطاول المدينة المبتهجة بأسرها (قد الدنيا)، تطالعنا في تلك الأنشودة البهية صورة الإنسان العربى المثال، مصدر الضوء في اللوحة واحد، وهو هادئ كضوء القمر، ينبع من استخدام اللون الأبيض فى البيت وفى صدرية الرجل.كما نرصد فى اللوحة إيقاعاً ناشئاً من تنوع الارتفاعات وتوزيع اللون الوردي وكذلك من توزيع درجات الإضاءة، وقد خالفت الفنانة قواعد المنظور التقليدى. كما أن استخدام اللون الأزرق والأخضر والأبيض والوردي هى ألوان مبهجة تذكرنا بالخضرة والبحر والأمل والبهجة بسيطة كالزينات الشعبية الجدارية والفطرية المسطحة التى تعكس الاحتفالية الساطعة بالإنسان العربي الجديد. أما في لوحتها المسماة بالنكسة والتي أنتجت عام 1967 نرى اللوحة مقسمة إلي ثلاثة أقسام أفقية: العلوي به سماء ملبدة بالغيوم مظلمة بها بيوت ومساجد وكنائس، والقسم الثاني عبارة عن بيوت متجاورة تشبه بيوت الأحياء الفقيرة عليها صورة لسيدة تنتحب ووجهها لأسفل وتضع يدها على رأسها. والقسم الثالث يحتوى وجوها لنساء ورجال فاغرى الأفواه شاخصى الأبصار تحت تأثير كارثة أذهلتهم. وتتضح عناصر التكوين فى الخطوط العامة الأفقية والرأسية المتشابكة تشابك مستتر وهذا التقسيم الأفقي للوحة يوحي بالتسطيح والحزن والخمول ولا توجد خطوط منحنية أو لينة إلا في جسم المرأة المنتحبة وقبة المسجد والغلبة هنا للخطوط الحادة المتعامدة في تعسف وزحام مقصود يذكرنا بمقولة `رودلف أرنهايم`: إننا نتذكر حركات الرقص الحزين ليس بسبب أننا شاهدنا أغلب الأشخاص الحزانى يتصرفون بطريقة مماثلة، ولكن بسبب أن الملامح الدينامية للحزن تكون موجودة بدنيا أو فيزيقيا في هذه الحركات، والتخطيط هنا كقضبان السجن ينطق بالسكون والحصار في تلك المستطيلات الضيقة. والكتلة موزعة ومعلقة في الهواء مع المرأة المعلقة بين البيوت كفاقد الوزن فاقد الجذور والرسوخ، الحركة التي تؤديها هذه السيدة تشبه حركات النادبات في صعيد مصر عند موت أحد الأشخاص لديهن يقمن بنفس الحركة مع البكاء وترديد النواح. الإيقاع المتولد من الخطوط الأفقية والمستطيلات إيقاع رتيب مقبض حزين، الخطوط المكونة للمستطيلات توحي بالتقسيم التعسفي والحشد للناس في المستطيل السفلي يشيع الزحام والضيق كالجنازة.. كالمظاهرة، كما أن المواضع المكانية والعلاقات التكوينية تساعد على خلق أنماط مهيمنة ثلاث هي البيوت - وهى عنصر شائع في أعمالها - والبشر وتلك المعلقة في الفراغ الأوسط التي تنتحب وهي تخفي وجهها الموصوم. لا يوجد باللوحة إيحاء بالعمق أو المنظور بل يوجد عرض أفقي جليل يسري بأسى يحمل وجود جسم السيدة في الفراغ الأوسط ووجود وجوه البشر في أسفل اللوحـة. وتمضي جاذبية سري في رحلتها التشكيلية وهي تحتفي بالإنسان المصري الثائر الجديد وهي تتفاعل مع متغيرات المجتمع وتبث روحها فيه، ونجدها لا تتخلى أبداً عن شكلها الأثير وهو الجسد البشري و تحيطه ببنية راسخة من بيوت وتكوينات متماسكة تعضد ما تبتغيه من قيم و تنويرات فكرية و تشكيلية بصرية، نرى في معرضها الجديد المقام في قاعة الزمالك للفن ثلاثة عشر لوحة منفذة بألوان الزيت على التوال والذي أطلقته تحت عنوان الزمان والمكان نراها وهي تحتفي بقيمة الإنسان وقدرته الجبارة على الفعل و إرادته الناهضة صوب التغيير ونراها و قد بسطت له مسطح اللوحة الأبيض و أطلقته في كون مشرق بهيج، تحدوه الآمال وتحركه الطاقات و تضع على عاتقه كل خير وكل رجاء، نجده وقد أفردت له كل فضاءاتها وقد اكتمل فيه كل المعنى وهو عامر به كل الوجود، لم تعد جاذبية سري تحيطه بالبيوت والكيانات بل صنعت من الجسد البشري صروحاً شاهقة طرحتها في مساحات لونية باسقة غمستها في الكثير من الضوء ،نراها تحشد الناس الذين جردتهم من ثقل التفاصيل وكرستهم في جلال ورشاقة وصفتهم في جرأة واتزان بديع، لم تعد تتوسل بالأشياء والموجودات، انطلقت جاذبية سري من الشيئية والمعمار والأطر وطفقت تصوغ الوجود من هؤلاء البشر الذين جمعتهم وقدمتهم لنا في تجليات متنوعة تجسد وجهة نظرها عن الإنسان المصري المأمول، عن المجتمع المصري الجديد،عقدت الأمل كله وأخذت تشدو بنبوءتها مرددة يقينها الدائم بالإنسان وطاقته الجبارة وقدرته على الخلق الجديد، تخلت الفنانة جاذبية سري عن بيوتها و صفت البشر بنياناً جميلاً حياً هادراً بإيقاع فريد، عالمها صاخب بكتل من البشر متلاصقون متشبثون ببعضهم البعض تاركين مسطح اللوحة وفيه الفراغ المضيء في بلاغة مدهشة وسيطرة كاملة على الحس البنائي والكتلي للوحة وعلى عنفوان الحركة الموسيقية الناتجة من إيقاع الترديد الرأسي الشاهق الذي نثرته في كل لوحاتها في هذا المعرض، هي تزرع لأعلى وتنمو مع تكويناتها وتحلق في الضياء، قليلاً ما نرى بناءً أفقياً، لقد أظهرتهم في كون طاهر جديد بكر أبيض هو جل براحها المفضل الذي مسته بيديها فصدح بالألق النبيل هي تريد هذا هي ترى هذا هي تأمل هذا المدى الحر الطلق الأبيض وقد انغرست فيه شخوصها العفية تغير وجه مصر وتخلقها من جديد،أنبتتهم في مدى أخضر خصيب، أو غمرتهم في لجة حمراء قانية كالأرحام تنتظر تمام التشكل و الميلاد، شاخصون منادون، منطلقون يشيرون بأيديهم ويتحركون رددت شكل أجسادهم المضيئة تتغنى بالحياة والنماء و النبض والخلق الموار، في ألوانها البرتقالية والصفراء والخضراء والحمراء النقية البهيجة، وكما صنعت احتفاليتها الشجية بالإنسان العربي الجديد في العصر الذهبي بالستينات من القرن العشرين، نراها الآن وهي تحتفي بالبشر وبالمصري الجديد الذي لم تعد تصوره بطلاً فرداً مفتول العضلات، بل باتت تغرسه في بطن الأرض بناءً شاهقاً مكرساً مكوناً من كتل بشرية قوية متماسكة، لم يعد هذا عصر البطل الأوحد، أو الفارس المثال، لقد اكتملت معانى الثورة والتغيير والبناء في ذلك الحشد الذي رددته جاذبية في معزوفتها البديعة، أدعوكم لمشاهدة هذا العالم البهي المنير الذي صنعته الفنانة جاذبية سري و بثته روحها الحرة النبيلة .
د.هبة الهوارى
2012/3/8 جريدة نهضة مصر - صفحة فنون جميلة
بعد ما خرجوا من البيت
-هم شخوصها الذين عرفناهم من خلال معارضها الكثيرة.. وهذه هى ألوانها التى لم تتخل عنها ولكنهم الآن يحملون رسالة أخرى، وأبعاداً ونسباً مختلفة، بعد أن طالتهم الحرية وخرجوا من البيت !!
- ولم يعد هناك مبرر فنى لوجود بيوت جاذبية، لم تعد هى التى تتصدر المشهد، فهذه البيوت التى لطالما رسمتها فنانتنا لسنوات طويلة وحبست داخلها شخوصها لم تكن إلا تجسيدا لواقع مؤلم خاصة أنها لم تكن يوما بيوتا دافئة تحتضن ساكنيها تقول ` لم أكن أنا التى حبستهم فى واقع الأمر، الظروف الموجعة والخوف حبسهم ولذلك لم يكن من الممكن أن تراهم إلا من خلال نوافذ البيوت فى لوحاتى بل تحولوا هم أنفسهم فى بعض الأعمال إلى بيوت صماء، وفى كل الأحوال هناك من أخذ مفتاح الباب المغلق ليظلوا عاجزين عن الخروج، عن التقدم خطوة واحدة للأمام`.
-الآن اختلف الأمر كثيرا، كسر الناس الأبواب كلها، خرجوا من بيوت الخوف والذل التى بقوا داخلها لسنوات طويلة ولذلك لم يعد هناك مكان للبيوت فى لوحاتها فاهتمامها كله ينصب على الخروج الكبير وهو لا يعنى عندها الثورة نفسها التى تمثل وسيلة للتغيير، بابا مفتوحا ينطلق منه المصريون فى خروج كبير نحو التعمير والتقدم، إذن اختارت جاذبية أن تقدم رؤية مستقبلية لمصر، تقول `هكذا يفعل الفنان يرسم المستقبل بخياله ليستلهمه الناس فى حاضرهم`.
- وهو ما يفسر لنا لماذا يشهد المعرض الذى يضمه الآن جاليرى الزمالك نقله فنية كبيرة لجاذبية سرى تلمسها من خلال الاختزال فى الألوان والعناصر وملامح الشخوص على السوداء،فقد جاءت المسطحات واسعة بدت وكأنها خلفيات مضيئة بيضاء تأكيدا للإحساس بالحرية والتحرر كما جاءت الألوان دون مزج أو خلط بينها على العكس مما عودتنا عليه فى أعمالها السابقة، أرادت أن تسهم بها فى متانة تكوين اللوحة وقوتها ولتؤكد على معان مختلفة من خلالها لذلك جاءت بها واضحة صريحة `لن يكون هناك اختلاط للأوراق وتشابك بين المشاكل` تبعث داخلك الإحساس بالتفاؤل والبهجة فالأخضر على سبيل المثال عندها هو الخير تقول` ستشهد مصر ثورة فى الزراعة ` والأحمر هو حب الوطن وحماس المصريين نحو التغيير، أما الشخوص فقد أصبحوا هم أهم عنصر فى اللوحة بعد اختفاء البيوت جعلتهم أكثر استطالة بعد أن استعادوا كرامتهم وعزتهم كما لم يعودوا متداخلين فى الازدحام للفوضى، فقط تضمهم كتلة واحدة `لأنهم فى حالة تلاحم، يتجهون نحو العمل، نحو مستقبل واحد`، ولذلك تلاحظ أن أجسادهم ووجوههم تتخذ اتجاها واحدا رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية الفكرية أو الدينية وهو ما تعبر عنه من خلال تعدد الألوان التى استخدمتها فى تجسيدهم، حتى عندما تتأمل النوافذ فى لوحاتها والتى ترمز بها إلى قدرة الشعب على استنشاق هواء الحرية تكتشف أنها متعددة الألوان والأشكال فلم يعد هناك كان للفكر الواحد، تفاجئك بأنها تقدم فى معرضها هذا لوحة رسمتها عام 2009 واحتفظت بها لنفسها لأنها كانت تصور إعصار الغضب الذى يجتاح المصريين وينذر بالثورة حينئذ قالت فى ثقة `اقترب الإعصار`..
- فعلت جاذبية سرى ما عليها كفنانة مصرية عظيمة، سبقت الزمن لتقدم لنا أول رؤية فنية للمستقبل، فهل نستوعبها نحن جيدا ونستلهمها ؟!..
نادية عبد الحليم
مجلة البيت - مارس 2012
رحلة الطائرة الحائرة
- يظل وجه البحيرة ساكناً إلى أن تلقى فيها يد عابثة حجراً يثير سطحها الهادئ ... أو تهب ريح عاصفة فتتحول صفحتها الهادئة إلى وجه عابس تجتاحه الامواج ..
- وحياة الفنان ما هى إلا صفحة رائعة تتميز بحساسيتها الشديدة تجاه المؤثرات الخارجية، تنطبع عليها او تثيرها وتخرجها من سلبيات لتشارك الوجود تقلباته وتغيراته ..
- وقد جعلت طبيعة الفنانة ` جاذبية سرى ` من شخصيتها عنصرا متجاوباً شديد الحساسية ، فواجهت الحياة منذ أن بدأت تقبض على الحياة بقلب متفتح ، وتركته يستجيب للحياة بفطرة طفولية يمتزج فيها الحلم بالواقع ، والحقيقة بالخيال .. والتقت بجموع الناس من مختلف القطاعات ، وتغلغلت فى صميم حياتهم . بل وغاصت فى أعماق مشاعرهم . ونابت عنهم فى بث شكاواهم . واستطاعت أن تعبر المرحلة التعبيرية بقدم واثقة . يصهرها الاحتكاك الدائم بالناس . ويزيد من انصهارها القضايا الكبيرة التى يعانى منها مواطنوها كجزء . والعالم الإنسانى ككل .
- وبعد أن قالت كل ما استطاعت قوله بلسان التشخيصية ، متوجه هذه المرحلة باللوحة العملاقة التى تمثل ` الحياة على النيل ` راحت تبحث حولها عن نوع آخر من المثيرات.
- فوجدته فى زحام العلب والمكعبات التى يأوى إليها الناس ، والتى نسميها مجازاً بالمساكن أو المنازل .. راحت تبحث من خلالها عن مناخ أكثر شمولاً، ومعنى أكثر رمزية من التعبير المباشر واستفادت منها تشكيلاتها المكعبية فى خلق تكوينات أقرب إلى التجريد بعد أن تحررت تدريجيا من الالتصاق بالإنسان .. ولكن الفنانة تضيق بحياة المدينة والناس . وتهرب إلى الصحراء لعلها تجد بين كثبانها شعبا يشبع نهمها وطموحها الذى لا يهدأ .. وتحت عنوان ` الصحراء ` تقدم الفنانة تجربتها الجديدة فى قاعة العرض بالمركز الثقافى الألمانى ..
- إن أول لوحة تستقبلك تحتوى على طائر يخلق فى فضاء أصفر ، ومن تحته تمتد الصحراء كبحر من الرمال تتلاطم كثبانها كأمواج تبحث عن الشاطئ الحلم .. الأمل .. ولا سماء هناك ولا سحب ولا نجوم .. الطائر وحده وسط هذا التيه الشاسع بلا حدود .. وآخر لوحه تودعك فى المعرض نفسه لوحة تضم ثلاثة أهرامات تغمرها زرقة ليلية حالمة .. وبين اللوحتين عشرات اللوحات تحكى قصة مشوار طويل قطعته الفنانة بحثا عن المجهول .
- وتبذل الفنانة ` جاذبية ` جهدا مستميتا للتخلص من ` جاذبية ` الأرض ، والتحرر من ماديتها ، ويبدو ذلك فى أطراف الكثبان الناتئة والمتموجة عشوائيا فى محاولتها اليائسة للانطلاق إلى الفوق .. وما هذا الغليان الداخلى إلا قوة دفع عارمة لتقليب الأرض وتحريك وجدانها لتثور على نفسها ، وتمتزج الألوان وتتشابك طبقاتها بدون توافق مقصود ، محدثة ذلك الصخب المكتوم .. ورغم المقاومة الضارية بين التحت والفوق ، والداخل والخارج .. ينتصر الطموح ، وتتكور ذرات الرمال المائعة لتصنع شيئا أكثر صلابة وتماسكا .. يولد من بطن الصحراء بعد مخاض أليم . تكوينات صخرية تنفصل عن الأرض كما ينفصل الجنين من رحم الأم ناقص التكوين فى أول الأمر، غير محدد القسمات .. وينمو هذا الجسم الوليد تدريجا مقتربا من شكله المتكامل ، ليأخذ شكلاً هرميا سوى البناء والصورة . يقف شامخا راسخا كعنصر معمارى يثبت وجوده كمأوى حصنى تحتمى فيه النفس .. كالعقيدة وسط هذا الضياع الصحراوى المبيد .. وكأنه يقول ` أنا هنا وثيقة اعتراف ببقاء القيم والنواميس البناءة .. شهادة بخضوع كل شئ إلى النظام الهندسى المحكم رغم صرامته .. وإن البقاء دائما لنواميس البناء وليس للعواطف الهوجاء ..
- وعندما يكتمل الهرم ، ويستقر بكل ثقله وشموخه فوق رمال الصحراء ، تهدأ العاصفة ، وتسكن الأرض ، ويتفلطح أديمها ، وينتهى مخاضها .. وكان عنيفا بأناته البنية المكتومة تارة وصرخاته الحمراء كاللهب والحمم تارة أخرى ..
- ولا تنتهى الرحلة عند هذا الحد .. فالرحلة ينقصها شئ لكى تصل القافلة إلى غايتها .. إن الهرم بطرفه المدبب إشارة التطلع إلى الفوق .. وشوق إلى التسامى والترفع والتعالى .. ولكن هذه المكانية المعنوية يعوزها المقابل المحسوس الذى يترجمها كواقع له واللوحة الأولى يمكن أن يستعار مضمونها ليكون عنوانا للمرحلة الجديدة التى تجتازها الفنانة فى رحلة القلق بحثاً عن واحة وسط الصحراء يبنى فيها الطائر عشه ، والجديد فى المعرض ليس الصحراء نفسها ، فقد سبق أن اكتشفتها الفنانة فى العام الماضى ، ولكن الجديد أن الفنانة لم تعثر على ضالتها فى صحراء الصخب والقلق والزمجرة والغليان والصراع والكبت . بل وجدت جميع ما تركته فى المدينة يلاحقها ويطاردها فى الفراغ الموحش ، وإن دل ذلك على شئ فانما يدل على أن كل إنسان فى داخله قدره يحمله معه أينما ذهب ، يحمل البرد والأمن والنعيم ، ويحمل أيضا العذاب والنار والجحيم .
- وصحراء ` جاذبية سرى ` ليست الصحراء ` الطوبرغرافية ` ولا الصحراء ` المساحية ` التى تحدد المواقع وتميز سماتها الجيولوجية ، ولكنها صحراء جوفية تنطوى على التمرد الذى عرفت به الفنانة منذ أول يوم عبثت فيه بالألوان . وقد عثرت الفنانة على الأداة التى تعبر بها عن صحرائها .. إنها سكين المعجون .. ومخيفة هذه السكين ومفزعة .. إنها أداة نافعة عندما يواجه بها الفنان ` حول وجود حسى ملموس .. وهنا تظهر السماء لأول مرة بتنويعاتها اللونية والغمامية مجاورة للشكل الهرمى . ويأتى الحل التشكيلى لهذا المضمون ببساطة تجريدية شديدة عندما تقتطع الفنانة جزءا من زاوية اللوحة وتصنع منه مثلثا تشحنه بالانفعالات اللونية الصاخبة ، وتصنع من بقية اللوحة سماء تطل بصفاءها على هذا العالم الجوفى المغلق على صرخاته وعذاباته . إن هذا الفاصل الهندسى بين المثلث المسدود والفضاء المفتوح هو المرادف الرمزى للحد الذى يفصل بين السماء والأرض ، والغرائز والروح . أو الطبيعة الحيوانية والعقل الأسمى .
- وتسكب الفنانة فى ردعها شيئا من السكينة عندما نعثر على المعادلة الصعبة التى تهيئ لها التوازن النفسى والسلام الداخلى فتشغل إحدى اللواحات بالأهرامات الثلاثة وتتركها غارقة فى سبات ليلى صوفى .. فهل هى العودة إلى أطراف القاهرة دون الانعماس فى زحامها المدمر ؟؟ والبقاء هناك عند هضبتها التى تطل على الأبدية حيث ينطوى الزمن بأبعاده الثلاثة فى هذه المثلثات الهرمية . ويذوب الماضى والحاضر والمستقبل . ولا يبقى غير الوجود المطلق بلا زمان ولا مكان ؟؟
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
مصر والناس والبحر والبيوت
- ما زالت أنامل الفنانة جاذبية سرى متوهجة بسحر الفن .. ومازالت رحلتها فى الإبداع تتدفق بدنيا من الأنغام والألحان بين التجريد والتشخيص .. وهى رحلة تمتد لأكثر من ستين عاما .. كانت بداياتها مع لوحات يمتزج فيها الواقع بالتعبير .. كما فى ` أم عنتر ` و ` أم رتيبة ` و ` أم صابر ` و ` الطيارة ` و ` المراجيح ` .. تؤكد بداية فنانة .. تطل على الشخصية المصرية بكل مكنوناتها الروحية والاجتماعية .. والتى تمتد فى أعمالها بلا انتهاء .. تجعلها لا تحتاج إلى التوقيع على لوحاتها من فرط خصوصيتها وتميزها .. فهى أغنية مصرية طويلة متعددة النغمات.. تنوعت فى مراحل عديدة من الواقعية إلى التعبيرية ، إلى التلخيص الشديد الذى اختزلت فيه الزمان والمكان .. وانطلقت فى قوة تعبيرية ، وفوران شديد ، حتى تحولت أعمالها الحالية إلى أصداء وعلامات على مشوارها الفنى ، بمثابة شفرات تجريدية .. جعل منها رائدة من الجيل الذى تلا الرواد .. رواد التصوير الستة : يوسف كامل ، وراغب عياد ، وأحمد صبرى ، ومحمد حسن ومحمود سعيد ، ومحمد ناجى .
- وتأكيدا لمكانتها الفنية الكبيرة .. تم اقتناء أحد أعمالها لوحة ` الطيارة ` من قبل متحف المتروبوليتان للفن بنيويورك ، وهو أحد أكبر متاحف العالم .
ومن هنا كان لقاء الخيال بالفنانة الكبيرة وذلك بمنزلها بشارع الجزيرة الوسطى بالزمالك .. وكان هذا الحديث .
- الطفولة .. والحلمية
- فى قلب حى الحلمية بالقرب من السيدة زينب والقلعة .. والذى ينتسب إلى عباس حلمى باشا ، بعد أن بنى قصره بها ، وأنشأ ميدانا ، أطلق عليه ميدان الحلمية .. ولدت جاذبية ونشأت ، وقضت طفولتها وبداية الشباب حتى العشرين .. فى بيت عتيق يتكون من ثلاثة طوابق ، تفصله عن العالم الخارجى ، كما قالت لنا : بوابة كبيرة وكأنه حصن أو قلعة من قلاع الزمن الماضى ، الذى يدخل فى عمق التاريخ .. تحيط بالجدران مشربيات من الأرابيسك .. ومن الداخل يتوسطه صحن واسع ، تطل عليه المناور والأجنحة للخدم .. بيت كل ما فيه يحرض على الإبداع ، ويدعو إلى التأمل .
- وتضيف : وفى مدرسة الحلمية بدأ حبى للرسم ، وولعى الشديد بالتكوين .. وقد كلفنى هذا حصولى على 6 درجات من عشرين فى مادة الرسم ، وذلك لأننى أردت التعبير عما بداخل عقلى ووجدانى .. مما يتعارض مع مناهج التربية الفنية التى تعرض أنماطا محفوظة ومكررة ، وتعاليم مدرسية .
- فن البورترية
- وعندما التحقت بالمدرسة الثانوية بدأت علامات التفوق والنبوغ فى الرسم ، خاصة حين بدأتُ أرسمُ صورا شخصية لأساتذتى أثارت إعجابهم ودهشتهم فى ذلك الوقت ، وقد تمرست بفن البورتريه فى هذه السن الصغيرة .
- تضيف جاذبية : بعد حصولى على الثانوية العامة ` البكالوريا ` أرادت العائلة أن أكون ` ست بيت ` .. يعنى أتزوج .. وكان هذا بإجماع العائلة ، أى أخوالى وأعمامى بعد وفاة أبى وأنا فى الرابعة عشر .. وتحت تلك الضغوط اضطررت للبقاء عاما بأكمله بالمنزل .. وبعد ذلك التحقت بالمعهد العالى للفنون الجميلة للمعلمات ، ولم تكن كلية الفنون الجميلة قد فتحت أبوابها بعد للبنات إلا عام 1954 .. تخرجت فى عام 1946 .. ورغم أن أخوالى كانو يمارسون الرسم كهواة .. إلا أنهم اعتبروا أننى اخترت مهنة دون المستوى .. حتى عمى سامى الذى كان له اتيليه ` مرسم ` مع الفنان الرائد أحمد صبرى نظر إلىّ بنفس المفهوم .
- وبداية الفنانة جاذبية فى مجال الفن ؟
- لاشك أن البداية الحقيقية لى عندما عرضت لأول مرة فى صالون القاهرة عام 1950 ، وعندما اشتركت مع جماعة ` شباب الفن ` التى كانت تضم كمال يوسف ، وموريس فريد ، وسيد عبد الرسول وغيرهم .. ولكن تفككت الجماعة بعد عام واحد .. فانضممت إلى جماعة الفن المصرى الحديث التى أقامت أول معارضها عام 1946 ، واستمر نشاطها حتى عام 1955 ، والتى ضمت : جمال السجينى ، وزينب عبد الحميد ، وعز الدين حمودة ، ويوسف سيدة ، وصلاح يسرى .. كما عرضت أعمالى أيضا مع جماعة الفن المعاصر ، وكان من أعضائها حامد ندا ، وعبد الهادى الجزار ، وسمير رافع ، وإبراهيم مسعودة ، وماهر رائف .. وفى ذلك الوقت تأملت كل الفنون المصرية مع تنوعها وثرائها ، من الفن المصرى القديم ، والقبطى ، والإسلامى ، والفن الشعبى .
- ثورة 25 يناير
- وماذا عن ثورة 25 يناير والفن وجاذبية ؟
- أنا مع الثورة منذ أن قامت ، بل ومن مقدماتها الأولى ، وفى كل أعمالى تجدنى منحازة للشعب المصرى ، الذى أُعدُّ واحدة منه ، وموقفى واضح وقد رسمت الثورة فى أوجها قبل عمليات الفوضى والبلطجة .. وما حدث فيها من تضحيات نبيلة .. رسمت هذه الثورة البيضاء فى 6 لوحات ، سوف يضمها معرضى فى مارس من العام القادم إن شاء الله .
- وهل هناك حاليا إبداع عكس ما حدث ؟
- فى تصورى أن على الفنانين أن يهضموا ما حدث ، ويستوعبوا واحدة من أهم الثورات فى العالم وهذا سوف يأخذ وقتاً لحين ظهوره إلى النور ، حتى يكون بقيمة الثورة ، يعنى ليس مجرد اليستريشن ` رسوم صحفية سريعة ` ولا كرتون .. وبالنسبة لى فأنا طوال عمرى أسير فى خط واتجاه فى نطاق وأهداف الثورة ، ولم يتغير شئ ؛ لأن هذه هى أهدافى ، وطيلة حياتى الإبداعية ، ومن بداية الخمسينيات وحتى الآن أرجو الأمل فى إيجاد حلول ديمقراطية علمانية عادلة .. بل ودستورية ومدنية لأن هذا يفتح الآفاق لمصر المستقبل .. آفاق التقدم .
- وما رأيك فيما نعيشه من مركزية الحركة التشكيلية بالقاهرة بعيدا عن أقاليم مصر ؟
- فى الحقيقة هذه مسئولية القائمين على قطاع الفنون التشكيلية ، فمسؤوليتهم نشر الثقافة الفنية والفنانين .. وبالنسبة لى أنا عملت معارض فى مصر بالقاهرة والإسكندرية ، وخارجها فى أوروبا و أمريكا وكندا وأفريقيا .. هذا على الرغم من أنه طيلة فترة ال23 عاما لتولى فاروق حسنى وزارة الثقافة لم أمثل مصر فى أى معرض دولى .. هذا بالإضافة إلى أنه على الرغم من أننى حصلت على الجائزة التقديرية الشرفية من بينالى فينيسيا عام 1956 .. حذفوا هذا الحدث فى الفنون التشكيلية طوال هذه الفترة أيضا ، ولم يأت سوى سيرة الأسد الذهبى لبينالى فينيسيا ، والذى حصلت عليه مصر عام 1995 .
- وقد أهديت وزارة الثقافة فترة الأستاذ فاروق حسنى 20 لوحة من مجموعتى الخاصة ، تمثل مراحلى المختلفة مع عشر لوحات مائية نادرة ، تمثل النوبة قبل إنشاء السد العالى .. هذا على الرغم من معرفتى بفقدان عدد كبير من لوحاتى التى اقتناها المتحف فى الماضى .. فُقدت بشكل غامض يدعو للغضب والأسف والحزن .. ولكن ضميرى المصرى والوطنى والقومى ، ألزمنى أن أهدى أعمالى مرة أخرى لمتحف الفن الحديث .. وانا أقترح أن تعرض هذه الأعمال فى معرض سيار، ويطوف أرجاء المحافظات كنوع من إلغاء المركزية فى الفن .
- ومتابعات الفنانة جاذبية للفن فى مصر والخارج ؟
تبهرنى الأعمال الفنية الصادقة عموما ، فهى تشبه الموسيقى الكلاسيكية العالمية ، خاصة وأنا أسافر كل عام إلى باريس ؛ للاطلاع على أحدث الاتجاهات الفنية هناك .. وفى مصر أتابع المعارض الجماعية فقط ؛ لصعوبة الحركة بالقاهرة .. وفى الحقيقة أنا ذاكرتى ضعيفة تجاه ذكر الأسماء ، ولكن هناك فنان شاب ممتاز : جورج فكرى تطربنى أعماله خاصة ، ولدى جذور من الفن الشعبى القبطى .. وهناك أيضا شادى النشوقاتى وأيضا أيمن السمرى فى اللوحة التقليدية ، والفيديو ارت ، والانستليشن ` العمل الفنى المركب `.
- ومن يصون أعمالك ؟
- العناية الإنسانية والفنية ، واللطافة والذوق والظرف من ناهدة خورى ، ونهى خورى ، وهانى ياسين .. أى شئ أنا فى حاجة إليه يبحثون عنه فى كل مكان ، ويسألون دائما عنى .. ولو مرضت يستدعون الطبيب .. أجد منهم عناية خاصة ، وحب واهتمام .. ولا يمكن أن أجد هذه العناية من أى جاليرى فى العالم .. وهى تقصد هنا القائمين على قاعة الزمالك.
- فى الحجرة التى جلسنا معها فيها ببيتها ، كانت تطل أربع لوحات تجريدية لجاذبية فى تكوين واحد تبدو أقرب إلى الموسيقى .. وتعد بحق موسيقى بصرية سيمفونية .
- قالت عنها : هى مستنسخ من أربع لوحات موجودة حاليا بالصالة الرئيسية بدار الأوبرا ، مساحتها 4 متر × 3 متر ، قال عنها فاروق حسنى : هذا هو التجريد الحقيقى .
- تضيف جاذبية : وربما كان كتابى ` الولع بالالوان ` وهو مجلد كبير فى 230 صفحة من القطع الكبير ، ويضم 130 لوحة بالألوان ، صدر عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية .. أحد أسباب اهتمام قسم القرن التاسع عشر ، والفن الحديث والمعاصر بمتحف المتروبوليتان بلوحتى `الطيارة ` ذلك لأنهم قرروا بمناسبة إنشاء قسم خاص بالفن الإسلامى أن يطلقوا عام 2004 موقعا إلكترونيا للفن الإسلامى المعاصر ، اختاروا له عشرة أعمال فنية ، لفنانين من العالم الإسلامى ، من بينها لوحتى ` الطيارة ` .. وكان هذا تكريما وتشريفا لى ، حفزنى على أن أقترح على المتحف إهداء هذه اللوحة .
- أثناء حوارنا معها كانت جاذبية تشعل السيجارة من السيجارة .. كانت تحترق من فرط الانفعال.
- وقد قال عنها الناقد الإيطالى كارمينى سينيسكالكو : أنظر إليها وهى تذهب وتجئ ، ومعها لوحات ذات حجم أكبر منها شخصيا وأدرك أن هناك أمرين فى هذه الظاهرة الطبيعية من القوة ` التى هى محبوسة داخل جسد أنثوى صغير ، ولكنه قوى .. ولن تستطيع الاستغناء عنهما أبدا ألا وهما الرسم والسيجارة ` .
-رفقا بصحتك .. لماذا هذا الإفراط فى التدخين ؟
- قالت بعصبية بعد كل هذه الفترة الطويلة أتراجع عن التدخين .. لقد كنت أدخن وأنا فى الثانية عشرة من عمرى وعندما كنت أضبط من الأهل ، كان مصيرى دائما علقة ساخنة ، ورغم هذا لم أكف عن التدخين .. أنا حالة خاصة جدا فى الفن ، وفى الحياة !! .
- هى .. وعالمها
- فى فترة الخمسينيات من القرن الماضى ، ظهرت لوحات جاذبية ذات البعد الاجتماعى عندما قدمت ` أم رتيبة ` و ` أم عنتر ` و ` أم صابر ` وتجلت فى ملامحهن القسمات المصرية الأصيلة .. كما تجلى نقدها الاجتماعى فى تصوير وضع المرأة فى لوحتها ` الزوجتان ` .. فقد صرخت اللوحة بملامح الحزن البادية على الزوجة الأولى التى أعطاها الزوج ظهره هى وأولادها وتصدرت اللوحة الزوجة الثانية الدلوعة المقربة مع وليدها .
- ولوحاتها هنا تطالب بتغيير اجتماعى حقيقى . ثم انطلقت فرشاتها مع الثورة .. تصور وضع المرأة الجديد ، ورسمت العازفة التى تعزف لحن الثورة ، والمعلمة تحيط بها الطالبات ، وحررتهن من المنظور والنسب ، وانطلقت تحلق وترسم آمال الوطن ، وآمال المواطن المصرى و آلامة .. وجاءت لوحتها المراجيح 1956 بداية للتغيرات الاجتماعية والسياسية ، فقد رسمتها من زاوية عليا ، مع الإيحاء بأنها ترسمها من المقدمة ، وبعدها بثلاث سنوات عام 1959 رسمت لوحاتها ` الطيارة الورقية ` التى رمزت فيها إلى الانطلاق والتحليق ، والطيران إلى أعلى .. خاصة وقد انطلقت الطائرة بعيدا عن الأرض تشق عنان السماء ، داخل منطقة مختلفة جدا عن الواقع ، وعن الطفلة الممسكة بها بعيدا عن كل قواعد المنظور .. حيث نرى السماء مفتوحة ، وكل شئ لا يخضع للمنطق الأرضى .
- وفى الرحلة التاريخية إلى النوبة سافرت جاذبية مع من سافروا من فنانى مصر ومثقفيها ، عام 1962 : حبيب جورج ، فنان المائيات وصاحب تجربة النحت التلقائى مع الأطفال ، والمعمارى حسن فتحى ، والدكتور لويس عوض ، والمفكر الفنان حامد سعيد رائد مدرسة الفن والحياة ، وتحية حليم ، وآدم حنين ، ورمسيس يونان ، وحامد ندا .. وظهرت النوبة بكل مكنوناتها ، وملامحها البيئية .. مثيرا كبيرا لجاذبية أضاف الكثير إلى تعبيراتها .. وقدمت العديد من الأعمال من وحى إلهامها مثل ` شروق فى النوبة ` و ` استشهاد بلاد النوبة ` وصورتها فى مجموعة لوحات .
- ولوحات الألم والحزن .
- وعندما جاءت النكسة فى يونيو من عام 1967 أصابت الفنانة الكبيرة بإصابة بالغة .. كانت بمثابة صفعة قوية ، جعلتها تعزف عن الحياة لفترة طويلة .
- وما أبلغ تلك اللوحة التى صورت فيها فتاة منكفئة من شدة السقوط ، مع نوافذ مغلقة .
- إلا ان أعمالها فيها بعد تغنى لمصر ، وتتغنى بسحرها فى كل مكان ، حيث تمزج البيوت بالبشر بصخب الحياة ، من الواقع إلى الرمز ، ومن التجريد إلى التعبير ، فى خصوصية الزمان والمكان فى بقاع مصر .
- وتكمن قيمة أعمال جاذبية الحديثة ، ليس فقط من أجل تكثيف مراحلها الفنية بلغة تشكيلية تعتمد على الرمز والإيحاء ، والتلميح ببلاغة شديدة مع التحرر الأكاديمى ، وتعبيرية اللون الذى ينطلق فى قوة ، تجمع بين الوعى وحكمة التشكيل ، والتلقائية وهى تفسر أحداث أعمالها : البيوت عبارة عن رموز لبيوت ، مجرد إشارات تجمع بين الشكل الهندسى المتمثل فى الشرائط ، والشكل العضوى للبيوت ، وما تضم من بشر .. والشرائط هنا موجودة فى كل مكان ، فى الشارع من إشارات وعلامات والتى تعنى التوقف والحركة ، وتحديد الاتجاهات .
- ولقد جاء معرضها ` تجسيد ` والذى ضم أحدث أعمالها فى ثلاثية من البحر والوادى والناس .. وهو مساحة متسعة ، تمثل تراكما لعالمها المتسع بلا حدود ممتدا باللمسة والمشاعر والأحاسيس كما فى لوحتها المرأة والرجل على خلفية تجريدية من الأزرق الصافى الذى يمتزج بالأخضر الزرعى .
- كما يتوحد البشر مع البيوت فى لوحتها التى تضم ثلاثة شخوص ، ما بين الوجوه الجانبية ، والوجه الأمامى ، مع بوابة عتيقة رمزا للبيت .
- لقد اختزلت الفنانة عالمها ولغتها التشكيلية ولكن باحت أيضا بدنيا تشخيصية .. تموج بالناس فى بلادى .. والبحر والوادى .. وتشرق بالبيوت ذات الفتحات ، والتى تطل بعيون شاخصة .
- وفى لوحة جاذبية ` الأم وأطفالها ` تلخص الفنانة بكثافة تعبيرية ، امرأة بطول اللوحة ، وفى أماميتها أربعة أطفال ، مع مساحة من الأحمر النارى ، وتعد تعبيرا رمزيا عن الأم أو الوطن والأبناء.
- وجاذبية سرى حصلت على دراسات عليا مع مارسيل جرومير فى باريس ، ودراسات أخرى بروما وكلية سلين بجامعة لندن .
- كما حصلت على جائزة روما ، والجائزة الشرفية لبينالى فينيسيا ، والجائزة الأولى من بينالى الإسكندرية ، والجائزة الكبرى الرابعة للفن العالمى بموناكو 1998 ، وأخيرا جائزة الدولة التقديرية عام 2000 .
تحية إلى لمسة توهجت بسحر الإبداع ، بعمق ستين عاما من الفن الجميل .
بقلم : صلاح بيصار
مجلة الخيال ( العدد العشرون ) نوفمبر 2011
فن المصورة جاذبية سرى
- عندما يتطرق إلى الخاطر دور الفنانات المصريات فى حركة الفن التشكيلى فى مصر فإن المرء يذكر للوهلة الأولى دور الفنانة جاذبية سرى منذ الخمسينات
فهى تقف بينهن فى المقدمة .
- اتخذت الفنانة جاذبية سرى من الفن حرفة الحياة، فقد عكفت على دراسة الفن بطريقة منظمة ، ثم لم تلبث أن قامت بتدريس الفن فى المعاهد الفنية الرسمية .وهى تنتج الفن دائما وبلا توقف ، فلا يمر عام إلا وتقيم معرضا خاصا لها ، عدا اشتراكها فى المعارض العامة .وكما أن الفن يملك عليها عالمها فإنها بدورها تنجح فى أن تخلق عالما للفن تميزت به ويتطور هذا العالم عاما بعد عام تطورا طبيعيا ، فتتحدد ملامحه على الرغم من الفروق الواضحة بين مرحلة وأخرى .إنها فروق طبيعية يصنعها الزمان والمكان.
- فالحياة ليست هى نفس الحياة .والبيئة الاجتماعية قد تشكلت أكثر من مرة وتتسارع الحركة وتتغير وتتنوع ، والفنانة ترقب بعينيها ، وتنفعل بوجدانها وتسجل على لوحاتها .. ثم تعرض هذه اللوحات على الناظرين.
- طفولة الشىء!!
- من الوهلة الأولى يلتقى المشاهد ذلك المذاق المتكرر فى أعمالها .. اللمسة الفطرية ، والميل إلى ` سحب الخط ` وهو يحمل سذاجة الطفولة .وغرارة الصبا ، والرغبة الملحة فى التعبير الحى المباشر.التعبير الملىء بالانفعال الصادق .ثم إحساس طارىء بالملل لا يلبث الخط معه أن ينقطع حتى تلتقط هذه الرغبة الساعية أنفاسها .إنها الطفولة الفطرية .والفنانة تعطيك هذه الجرعة فور المشاهدة إنها سمة رئيسية فى أعمالها وخاصة أعمال الحقبة الأولى .وهذه السمة قد تضاءلت بعض الشىء فى المرحلة الأخيرة وإن لم تتنف ، بل لعلها قد اكتسبت فى بعض الأحيان تركيزاً أكبر وشعوراً أعمق .وأدت طبيعة التكوينات والموضوعات الجديدة إلى أن تصبح هذه الفطرية صفة تشكيلية جديدة ومتوافقة مع ظروف الأداء التكنيكى الأحدث ، وظروف الفهم الفكرى المتطور لطبيعة العمل ومبناه .
- الكل فى واحد
ومثلما حدث من تحول فى الأداء بفطرية شديدة حدث نفس الشىء فى نظرة الفنانة إلى عملية التكوين الفنى للوحاتها.
- لقد كانت مادة العمل ومكوناته تفرض على الفنانة طريقة تشكيل العمل ، وكان التكوين المنشغل بالموضوع ، ومفردات هذا الموضوع ، هو الذى أدى بها إلى الاعتماد على عملية الرص والتجاور .ولا يهم فى ذلك ما يظهر فى مقدمة الصورة أو فى خلفيتها .ولم يكن البعد الثالث له أدنى شاغل فى خيال الفنانة عند عملية التكوين ومن باب أولى إشكاليات المنظور .وإنما كان ما يهمها هو عملية التجاور والملاصقة بين الأشياء والاعتماد على التقاطعات الخطية ، ولحنية اللون .وكان هذا كافيا لكى يحول دون سقوط العمل فى دوامة التسطيح والزخرفة ويبقى عليه فى دنيا الإبداع التصويرى.
- وفى المرحلة الأخيرة أصاب عملية التكوين فى فنها تحور جديد ، وأصبح الاهتمام عندها أكبر بعملية خلق ` الكل فى واحد` . وهى عملية تحتاج إلى التخلى بعض الشىء عن التلقائية البحتة أثناء عملية التشكيل .لقد أصبحت المعانى التى تطلقها لمسات الفرشاة ، ومساحات الأشياء المصففة ، والموضوعة جنبا إلى جنب ، عملية أكثر تعقيداً .إنها تنطلق اليوم من النظرة الكلية الأشمل ومن علاقة الأشياء المتداخلة والمتفاعلة مثل النغمات التى تنبثق من عملية التعدد والتفاعل البولفونى اللونى .وبدلا من القضايا الاجتماعية المباشرة وهى ذات أهمية كبيرة ولا شك - حلت قضايا أكثر عمومية وذات دلالات فلسفية .فالبنت الصغيرة ، أو السيدة الشابة المرحة المنطلقة ، أصبحت مجردة ومحصورة داخل شكل مستطيلى ، أو داخل مربع ، أو مثلث ، أو نصف دائرة ، وهى تكاد تستغيث من الواقع القدرى .ولا شك أن المعانى اليوم قد ازدادت تكثيفا وإن نحت أكثر فأكثر إلى المطلق ..إلى المجرد.
- المطلق أو المجرد the Absolute لا التجريد the Abstract
عملية الخلق التجريدية عملية ذهنية بحتة .تتخلق من اللاشىء.إنها نقطة فى مساحة أو مساحة بجوار مساحة .هذا إذا اقتصر العمل على معايير هندسية بحتة ، أو مقاييس متعلقة بالتوازن والاتزان .أما إذا دخلت عملية الخلق التجريدية فى إطار تلقائى أو عبثى فإنها تنتهى إلى تخليقات متنوعة متباينة لا نهائية عشوائية.
- والأمر عند الفنانة مختلف تماما ، فرؤية الطبيعة وموادها وعناصرها تتحول عندها إلى المجرد ، إلى المطلق ، كما تشير إلى ذلك ، أعمالها الأخيرة.
- فالبيوت متلاصقة مكدسة بعضها فوق بعض ، والناس داخل البيوت محتشدون متلاصقون .لا مجال للتنفس أو الحياة .ومع ذلك فهم يحيون ويتنفسون المكان محاط بالظلال أو الخطوط البيضاء .ومع ذلك فالتتابع الحياتى واقع والمكان مأوى للجميع .ثم تتجمع عناصر الرؤية فى شكل مكثف .فتتحول البيوت إلى مجرد علامة تشخيصية .إنها رؤية للمكان .ثم تنحصر الأشياء داخل أشكال مثلثة أو مربعة ، وتصبح هذه الأطر مليئة بالإشارات الحية المتجددة للعلاقة الإنسانية الأبدية بين الجنسين - فهذا شكل هرمى يعج بهذه الصور ، وفى الخلفية يحاط المكان باللانهائى ، وبالهدوء الرومانسى الأبدى ، وتستمر عملية التكثيف لتشير بهذا الإيحاء الهرمى إلى الزمان.
- إن الفنانة قد أمسكت بواقع الحياة وصهرته ليصبح فى آخر الأمر إشارة أو علامة.
- وهكذا تنتقل الفنانة إلى معايير الرمز بلغة تشكيلية اجتهادية ناجحة.
- إن الفنانة قد انتقلت فى تطورها بشكل طبيعى ، تعبيرا عن نضج ، وإيماء إلى ظروف ألمت بالواقع الاجتماعى لقد انتقلت من التعبيرية المباشرة إلى التعبيرية الرمزية .. أهو مسار إلى الأنضج ؟أم هو اختفاء وراء الرمز؟
وكثيرا ما كان الرمز وسيلة وسلاحا.
- لغة التشكيل 00 والضرورة
- عندما يتعرض الفنان لموضوع ، أو يتناول قضية فلابد له من أدوات خاصة بهذه العملية الإبداعية .إنها الأدوات الفنية التى يعالج بها هذا الموضوع .والفنانة لها أدواتها التى تستخدمها والتى تشكل فى آخر الأمر شخصيتها الفنية المتميزة.
- البناء الأساسى للوحات بشكل عام يعتمد على تكوين هندسى بسيط فأغلب اللوحات وخاصة فى الفترة الأخيرة تحكمها تقاطعات طولية وعرضية وكأنها علب مفتوحة ناحية المتلقى وبداخلها تشكيلات متجمعة ، ثم يطرأ على الخط ميل إلى ناحية أو أخرى .وهو نوع من التغير فى الاتجاة ليجلب للمشاهد تنويعا ضروريا .والخطوط كثيرا ما تفقد استمراريتها فتتقطع أو تتوقف.
- ثم يدخل عنصر جديد فتتداخل الحواشى imbrication ، وينتقل جزء من هذا الشكل إلى الشكل المجاور ، وتتبادل الفورمات فى جوانبها عمليات الانتقال .وتظل عملية التداخل قائمة فى اللوحة حتى يظن الرائى غير المدرب أن هناك عملية من التشويش والخلط .وعملية التداخل هذه تعد من إنجازات الفن الحديث. فأعلام الواقعية تجاوزوا عملية التحديد المميتة للأشياء بهدف تحقيق حرفية النقل البصرية . وكان ذلك إدراكا منهم لقضية التأثر والتأثير فى الطبيعة كما فى الحياة ..وكم كان ذلك بالغ الأهمية لإضفاء حيوية أكيدة على الرؤية.
- ثمة تفصيلات صغيرة تملأ اللوحة .وفى غمار هذه التفصيلات لا يضيع التكوين الكلى بل إننا نلمس التماسك فالتفصيلات عند الفنانة ليست دراسات حرفية أو جزئية ، إنما هى أقرب إلى النمنمة التى نراها فى كثير من الفنون البدائية والقديمة .وهذا يخدم الغرض الفنى والموضوعى عند الفنانة .فهى تملأ المكان بعناصر الرؤية ، ويزدحم المكان إلى حد الضيق وتساعد هذه التفصيلات الكثيرة والمكونة من خطوط أصغر، ويقع أضال ، حتى تصبح اللوحة وكأنها شىء موشى .وعلى الرغم من ذلك فإن العمل الفنى لا ينحدر إلى شكل من الصياغة الزخرفية .فالفنانة تسارع إلى إنقاذ الموقف بإضافة شىء كبير بارز له وجوده وضرورته ، فلا يلبث العمل أن يرتكز على أسس من فن التصوير ، وتصبح هذه الكتلة الأساسية محورا يحيط به عالم من المنمنات ويدوران معا فى اتساق.
- ومعالجة الفنانة للون فى لوحاتها تدل على تطور حيوى ، فهى فى مراحلها الأولى تعتمد على التناول البسيط للألوان.فالمساحات الواضحة تبتعد عن محاولة التجسيم ، وتستعيض عن ذلك بحل موفق، هو الاعتماد على تجاور المساحات اللونية والتداخل بينهما ، ويلعب الخط دورا فى استكمال التأثير اللونى .
- ثم انتقلت الفنانة فى مرحلة تالية إلى التخفيف من التحديدات اللونية ، وتزايدت عملية التداخل، واستعاضت عن الخط الأساسى المحدد بمجموعة من الخطوط الفاتحة ، قد تصل إلى الأبيض ، وهى خطوط متقطعة ، ومعها خطوط أخرى داكنة ، قد تصل إلى الأسواد ، وهى خطوط متقطعة، أيضا، وأخذت مع هذا التطوير تميل إلى الأقلال من عملية خلط الألوان ، وأقتربت أكثر فأكثر من أساسيات اللون.
- والتحول الأخير أخذ ينبىء باقتراب أكثر فأكثر من الألوان الأساسية تعبيرا عن المباشرة ، ويبدو أن الفنانة وهى تستخدم التحديدات المتقطعة للألوان الفاتحة والداكنة تستعيض بهما عن الإحساس بالكتلة ، وهى تبدو فى كافة مراحل حياتها وكأنها لا تحتاج إليه كضرورة فنية. وهذا يوقع الفنانة فى إغفال الاستخدامات المحسوبة للتونات.
- غير أن الفنانة فى الغالبية العظمى من أعمالها تضع يدها على مسألة هامة فى المعالجة اللونية هى إدراكها لعنصر التضاد اللونى caunterpaint والمدارس الحديثة فى فن التصوير تميزت أساسا بإدراكها لهذه القضية .فمنذ أن اكتشفت المدرسة التأثيرية عملية تحليل اللون فقد تبين أن استخدام اللون ونقيضه حقيقة تشى بها الرؤية الجيدة للطبيعة ، وأصبح من مميزات الفنان المدرك لحقيقة هذا التطور الهام فى قضية اللون نجاحه فى استخدام هذا الاتجاه التشكيلى .وهذا ولا شك ميزة فى أعمال الفنانة مما يؤكد وعيها وتميزها عن غيرها من الفنانين العديدين المتعلقين بالحداثة .وإن استخدام هذه الصياغات التشكيلية اللونية الحديثة تحتاج إلى براعة تكنيكية كبيرة والفنانة قد حققت من ذلك الشىء الكثير .
- الفطرية the naivity وموضوعات أخرى :
وتحظى أعمال الفنانة كما قلنا بلمحة شاملة وواضحة فى أعمالها، وهى فطرية التعبير ، واقترابها بشكل كبير من الفنون البدائية ، وأحيانا من فنون الأطفال ، وهو تعبير عارم عن الرغبة فى تسجيل انفعالية صادقة بشكل مباشر.وهذه الرغبة الصادقة تكسب لوحاتها تلك السمة المميزة .وقد ارتبطت هذه السمة الخاصة إلى حد كبير بطبيعة الموضوعات التى عبرت عنها ، وخاصة فى مراحلها الأولى : فالفتاة الصبية ، والمرأة ، والطفل .. الكل فى حالة من الانطلاق، واللهو البرىء أو فى حالة من الرغبة فى مواجهة المصاعب فى سهولة وألفة .ولكن مع مرور الزمن .جيلا بعد جيل ، تعقدت المشاكل ، وأصبحت الأنثى ، طفلة ، وصبية ، وامرأة .. فى دوامة ، وتراكمت القيود ، وأـحاطت بشخوص الفنانة خطوط عديدة وبراويز ، وازدحمت الأمكنة بالأحياء .
- وبدأ الموقف وكأنه لا خلاص منه ، وتلاشت إلى حد ما النظرة البريئة ، وأصبحت الوجوة وكأنها أقنعة ، وذهبت المساحات اللونية الواضحة ، وأفسحت مكانها اللألوان المتراكمة ، وغدت الوجوة وكأنها لا تعى ولا تعرف ..كل هذا فى صيغ رمزية.
- وعلى الرغم من كل هذا التحول فإن اللمسة الفطرية ما زالت تظهر على استحياء ، فالمرأة المكتملة المحملة بالأعباء يطل منها وجه طفل . إن التعبير عند جاذبية قد وصل إلى درجة من التكثيف يجعلها تبتعد عن الجانب الوصفى ، وتطرق أبواب اللمسات الفلسفية.
- ثم يأتى جديد
- إن الفنانة فى مشوار حياتها قد وصلت بفنها إلى عناصر من وسائل التشكيل المتقدمة ، واقتربت بها من الرمز والاتجاة الفلسفى .وحقائق الحياة مليئة بالجديد ، مشكلات تلو الأخرى .حقائق الصياغات التشكيلية لها أبعاد كموج البحر.
- وعندما تتلاقى الصياغات الحديثة مع المشكلات المتجددة تنبثق قوى الخلق الجديدة ، وهى قوى تتشوق إليها حركة الفن المعاصرة فى بلادنا . والفنانة واحدة من فرسانها .
بقلم : داود عزيز
مجلة إبداع ( العدد 4 ) إبريل 1985
البيوت والناس عند جاذبية سرى
- تناولت جاذبية سرى فى المراحل الأولى من أعمالها حياة الإنسان المصرى فى تصوير شعبى راسخ التصميم والبناء، تصميمات لحياة الأسرة المصرية فى كثير من أوجه نشاطها اليومى، صور موشاة بوحدات من الزخارف الشعبية تغنى سطح اللوحة وتؤكد تماسك بنائها.
- ومع ظهور رؤية جديدة لفن التصوير اتجهت جاذبية إلى الخروج من قيود الأشكال التقليدية سعياً للانصهار مع الحياة كلها، حتى بلغت بإنتاجها الغزير وتأملها لكل مظاهر الحياة، وبحثها المستمر الدءوب فى مختلف مدارس الفن عن منهج فى التصوير تتجاوز به النظريات الكلاسيكية بعلاقتها وقوالبها التقليدية.
- كانت التجريدية الواقعية هى الشكل المنشود حيث اندفعت فى نشاط رائع إلى مزج الأشكال الإنسانية بالأشكال التجريدية من مربعات ومثلثات ودوائر فى وحدة عضوية بليغة، وكانت مساحات الألوان والخطوط بحدتها وهدوئها وهمسها هى مفردات اللغة فى تصويرها. رفضت جاذبية سرى المدارس والنظريات والأشكال التجريدية المتطرفة التى وفدت إلينا من الغرب ولا صلة لها بواقع حياتنا ذى الخصوصية المتميزة ولكنها استلهمت التراث مثل زخارف القماش الإسلامى (الخيام) والمنمنمات ووحدات الأرابيسك.
- وعلى مدى رحلة الإبداع الفنى، صورت جاذبية سرى عالماً رحباً من العلاقات اللونية والمشاعر الإنسانية، صورت المدينة وبيوتها والناس، صورت الريف والبحر، ثم الصحراء هذه الأشياء كلها هى الحياة، هى قصص وأغنيات حب، وقصائد بالغة العذوبة شديدة الإيحاء.
فبعض أعمال الفنانة جاذبية سرى جعلت التجريد فيها يختلط بالإنسان والانسان يختلط بالتجريد ويذوب فيه ليكونا فى النهاية شيئاً واحداً، ويبقى الإنسان أولاً وأخيراً هو السيد فى كل أعمالها.
بقلم : سعد عبد الوهاب
مجلة: إبداع (العدد 9 ) سبتمبر 1988
جاذبية سري.. أيقونة الفن التشكيلى فى مصر
- رحلت أمس عن عالمنا الفنانة التشكيلية الكبيرة جاذبية سري، بعد رحلة عطاء استمرت لأكثر من سبعين عام، أثرت خلالها الفن بلوحاتها المُبهرة والمتفردة في آن واحد، وجمعت كل المدارس في لوحات واحدة تُعبر عن الواقع الوطني والاجتماعي وتجسد حياة المُهمشين وأحلام الفقراء.
- وُلدت جاذبية حسن سري في الحادي عشر من أكتوبر لعام 1925 في القاهرة وتحديدًا بالحلمية القديمة في شارع `نور الظلام` التي أحبته وقضت فيه كل طفولتها تلعب على سطح منزلها الكبير وتشكل التماثيل من الطين والصابون .
- انتمت جاذبية سري لعائلة أرستقراطية من الطراز الأول، فكان والدها قاضيًا ولكنه توفي وتركها وهي لازالت طفلة لا تدرك الواقع من حولها جيدًا، فتولى تربيتها مع أخوتها جدها لأبيها وكان على حسب وصفها ديكتاتور خاصة في الأمور المادية، لكن أعمامها حاولوا تعويض غياب والدها واهتموا بإطلاعها على الفنون والثقافة والكتب من مكتبة أبيها الكبيرة، كذلك كانوا هواة للفن التشكيلي فكانت من هنا نقطة انطلاقة وتكوين وعي جاذبية سري.
- بتوجيه من عمها وصديق له التحقت الفنانة بالمعهد العالي للتربية الفنية لتدرس موهبتها بشكل أكاديمي ثم تخرجت منها عام 1948 لتسافر روما ثم برلين لاستكمال دراساتها العليا لتعود إلى مصر وتصبح أستاذًا للتصوير في كلية التربية الفنية.
- خرجت الفنانة جاذبية سري من بوتقة الليبرالية المصرية وحركات الحقوق والحرية وكذلك الأوضاع المتغيرة تغير عنيف في تلك الفترة من الملكية للجمهورية ومعايشة حركة الضباط الأحرار والقومية والوطنية، كل هذا شكل وعي الفنانة بشكل مختلف فقد جمعت كل واقعية الشارع المصري وأحداثه ودمجتهم في المدارس الفنية لتخرج علينا بتشكيلة من اللوحات ذات الطراز الخاص .
- وتقول هاجر سعيد في دراسة بعنوان الصياغات التشكيلية لأعمال جاذبية سري، إنها من أهم فناني مصر التشكيليين ولها أسلوب متفرد شعبي إنساني تعبيري ممزوج بالفانتزيا، تطور تدريجيًا حتى وصل إلى الأسلوب تعبيري ذاتي مرتبط بالأسلوب التعبيري التجريدي ويعتبر أسلوب معاصر ذا مذاق خاص.
- وعن أي مدرسة خضعت أعمال الفنانة جاذبية سرى تقول في حوار لها نشر عام 2010 أجراه عبدالرحمن أبو عوف، إن كل أعمالها تخضع للمدرسة التعبيرية وإن الواقع وما وراء الواقع متداخل فيها أو ربما تسميها التعبيرية الرمزية، بصرف النظر عن المراحل أو التجسيدات في الظاهرة المختلفة التي عبر عنها البعض أنما مراحل مثل طرق موضوعات إنسانية أو سياسية أو من مناظر البيوت وأحلام وذكريات وعوالم الطفولة إلى مواقف البحث والصحراء والنوبة والنيل، فرغم هذه التجسيدات المختلفة في عدة مراحل إلا أن وراءها نسقا في المفهوم معاصرا يخضع محاولة في التعبير والرؤية الواحدة، ولا يتضمن هذا التنوع والتعدد ومحانقة الموقف المنظور التشكيلي حسب موقف حضاري، غير أني أخضع مفهوم ولغة اللوحة من نقطة انطلاق أساسية وهو ما يحدث في مصر.
- وعن تجسيد ذكرياتها في اللوحات تقول :أنها بشكل طبيعي وتلقائي من أول نشأتها لديها رصيد وإحساس بتصوير البيوت المنهارة والمتساندة بعضها على بعض، فقد نشأت في حي الحلمية وعاشت في البيوت العربية القديمة المتسعة الأرجاء والتي تشكل واجهاتها تشکلات وتكوينات أثرت فيها منذ الطفولة وكانت تقدمها بمفهوم محدد قبل نكسة 1967، ولكن بعد النكسة، تقول ` أنا كنت كغيري من المواطنين خائفة على الناس في هذه البيوت، لقد صورت إحساسها بأزمة الشخصية المصرية عبر ركام البيوت فاتخذت التكوينات في اللوحة وجوه غريبة غير واقعية في البيوت، عندما تنظر إليها من أية زاوية سوف تتخذ لديك ملامح الأشخاص وإحساس بالخوف عليهم من أن تنهار هذه البيوت، لقد عملت فيها فتحات مختلفة، كانت البيوت مثل الناس تكلست وأصبحت مثل الحجارة، ثم طورت اللوحة تشكيليا بحيث إن الناس في اللوحة بدأت تأخذ مواقف، هناك بيوت نراها رسمت وكانها تمشي.
- ومن الغريب عند الفنانة جاذبية سرى هو تجسيدها للفقراء والمهمشين على الرغم من كونها أرستقراطية، لكن ذلك عكس علاقة حب جمعت بينها وبين المجتمع الذي تحيا فيه ويعكس إيضًا درايتها بألام وأحلام الناس وقضاياهم في الشارع فحتى آخر معرض لها كانت تقول إن كل ماتفعله هو التأمل في واقع الشارع وتحويل هذا التأمل إلى لوحات تعبيرية ترتبط بقضايا الناس.
- وقد تميزت جاذبية سرى كما ذكرنا بتنوع اتجاهاتها الفنية، على مسار حركتها الفنية التي امتدت معها منذ بداية الخمسينات وحتى وقتنا هذا، فكما تقول الدكتورة ني?ين محمد في دراستها أثر الثقافة الشعبية على الفنانات المصورات المصريات، إن الفنانة استطاعت الانتقال من التشخيصية التزينية، وكذلك ما أنتشر قبل ذلك من مداعبات للتأثيرية نحو الواقعية التعبيرية الممتدة الجذور في مصر التاريخ والتراث الحضاري وملامح المجتمع مبلورة لنفسها أسلوبا خاصا مواكبا لمستحدثات العصر الفنية التشكيلية، دون انبهار وجري وراء الموضة المبهرة، محققة بذلك لنفسها وداخل إطار حركة فن التصوير ذات الحس والروح المصرية، دورا حيويا وهائما بجوار تفردها في الشكل والمحتوى.
- وتعتبر الفنانة جاذبية سري نجحت بتفوق شديد في التوفيق بين الحداثة والواقعية التعبيرية، وعانت وأصرت عل? الخروج من مأزق التحول للتجريد الخالص، إلى الاستناد للأصالة الواعية بمعطيات جوهر التراث وليس شکله.
- وقد حملت جاذبية رؤية متطورة تبحث عن علاقة الفن بالواقع غير أبعاده الاجتماعية والقومية وتقوم بترجمتها بصيغة تعبيرية حديثة تستفيد من الفنون الشعبية بفلسفتها وجماليتها وتطرح على بساط البحث أهمية الموضوع الاجتماعي والسياسي وتربطه فيها بحياة الريف ومشكلاته وجمالياته، كما تميزت كل أعمالها بالتكوينات الغنية بالألوان والحياة.
- وتعتبر لوحتها `طيارة` التي رسمتها في الستينات وكانت تجسد فتاة تلهو بطيارتها الورقية وتكاد تطير معها أول اللوحات المصرية التي حُفظت ضمن مقتنيات متحف المتروبوليتان بنيويورك وهو واحد من أهم وأكبر المتاحف العالمية المًقدرة للفنون.
- درست جاذبية سرى في العديد من الجامعات المصرية والأوروبية وقد حصلت على جائزة الدولة التشجيعية ثم جائزة الدولة التقديرية وكذلك وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وأقامت العديد من المعارض الفنية في مصر وخارج مصر، ومن أهم لوحاتها نشر الغسيل، أم عنتر، الفتاة النوبية، طيارة، أم رتيبة، الزوجان، المراجيح وغيرهم الكثير والذي لا يسعنا مقال واحد لرصدهم والحديث عنهم وعن تكويناتهم الخلابة.
- برحيل الفنانة جاذبية سري بالأمس عن عمر ناهز الـ96 عامًا، تكون مصر قد فقدت أحد أهم أعمدتها وروادها في الفنون التشكيلية ولكن سيرتها وإبداعها سيظل حاضرًا من جيل إلى جيل.
بقلم : مريانا سامى
مجلة : دار الهلال 11-11-2021
من التعبيرية الاجتماعية ..الى دنيا البيوت والتجريد
- عن عمر يناهز 96 عاما رحلت الفنانة الكبيرة والاستاذة والرائدة جاذبية سرى صاحبة لوحات التصوير الاجتماعى من ` ام عنتر ` و`ام رتيبة `و`ام صابر ` و `الزوجتان `..مع لوحتها الطيارة الى اقتناها متحف `المتروبوليتان`بامريكا . وجاذبية يمتد عالمها بين دنيا الناس والبحر وبيوتها الشهيرة ..وهو عالم فوار ظل لاكثر من65 عاما مفعما بالتنوع والثراء ..فى تحولات وتجليات وافاق خاصة وكانت فنانة اناملها متوهجة بسحر الفن..
- يعد المثلث الذهبى للفنانات الثلاث : تحية حليم وانجى افلاطون وجاذبية سرى ..العلامة الثانية بعد رائدة التصوير المجسم عفت ناجى ..وقد شبه المفكر` كامل زهيرى ` اعمالهن بصوت الموسيقى مع اختلاف النغمات `.. وبينما كانت `تحية حليم `قمة الشجن والحنان اشبه بعازفة الناى الشجى الحنون ..تعد `انجى افلاطون` اقرب الى الموسيقى الوترية وعازفة الكمان والفيولا ..و تبدو `جاذبية سرى` اقرب فى لوحاتها الى الموسيقى النحاسية.. بالوانها الرنانة والفصيحة والصريحة والصارخة`.
- وظلت رحلتها مع الابداع تتدفق ..بدنيا من الانغام والالحان بين التجريد والتشخيص .. رحلة كانت بداياتها مع لوحات يمتزج فيها الواقع بالتعبير .. كما فى ` ام عنتر ` و` ام رتيبة ` و` ام صابر ` والطيارة ` والمراجيح ` .. تؤكد على بداية فنانة.. تضىء على الشخصية المصرية بكل مكنوناتها الروحية والاجتماعية .. تجعلها لاتحتاج الى التوقيع علي لوحاتها من فرط خصوصيتها وتميزها . . .. تنوعت فى مراحل عديدة من التعبيرية.. الى التلخيص الشديد الذى اختزلت فيه الزمان والمكان .. حتى تحولت اعمالها الاخيرة الى اصداء وعلامات على مشوارها الفنى ..بمثابة شفرات تجريدية .
وتاكيدا على مكانتها الفنية الكبيرة .. فقد تم اقتناء احد اعمالها` لوحة الطيارة ` من قبل متحف` المتروبوليتان` للفن بنيويورك .. .
- فى قلب حى` الحلمية`بالقاهرة .. بالقرب من السيدة زينب والقلعة ..والذى ينتسب الى `عباس حلمى` باشا بعد ان بنى قصره بها.. وانشا ميدانا اطلق عليه ميدان الحلمية ..ولدت جاذبية فى شهر اكتوبر من عام 1925 ونشات..فى بيت عتيق يتكون من ثلاثة طوابق تفصله عن العالم الخارجى .. بوابة كبيرة وكانه حصن او قلعة من قلاع الزمن الماضى فى عمق التاريخ .. تحيط بالجدران مشربيات من الارابيسك ....بيت كل مافيه يحرض على الابداع ويدعو الى التامل .
- وفى مدرسة الحلمية بدا حب جاذبية للرسم ..وقد كلفها هذا حصولها على 6 درجات من عشرين درجة.. فى مادة الرسم لانها ارادت التعبير عما بداخلها و عقلها ووجدانها .. مما يتعارض مع مناهج التربية الفنية التى تعرض انماطا محفوظة ومكررة وتعاليم مدرسية .
**فن البورتريه
- وعندما التحقت بالمدرسة الثانوية.. بدات علامات التفوق والنبوغ فى الرسم.. برسم صور شخصية لاساتذتها .. اثارت اعجابهم ودهشتهم فى ذلك الوقت ..وقد تمرست بفن البورتريه فى هذه السن الصغيرة .
- بعد حصولها على الثانوية العامة ` البكالوريا ` ارادت لها العائلة ان تكون ` ست بيت ` و تتزوج ..وكان هذا باجماع الاخوال والاعمام بعد وفاة والدها وهى فى الرابعة عشر .. وتحت تلك الضغوط اضطرت للبقاء عاما باكمله بالمنزل .. وبعد ذلك التحقت بالمعهد العالى للفنون الجميلة للمعلمات..` ولم تكن كلية الفنون الجميلة قد فتحت ابوابها بعد للبنات الا عام 1954` .. وتخرجت فى عام 1946 .. تقول :`ورغم ان اخوالى كانوا يمارسون الرسم كهواة .. الا انهم اعتبروا اننى اخترت مهنة دون المستوى .. حتى عمى سامى الذى كان له اتيليه ` مرسم ` مع الفنان الرائد احمد صبرى نظر الى بنفس المفهوم `.
- كانت البداية الحقيقية للفنانة`جاذبية ` عندما عرضت لاول مرة فى صالون القاهرة عام 1950 وعندما اشتركت مع جماعة` شباب الفن `التى كانت تضم كمال يوسف وموريس فريد وسيد عبد الرسول وغيرهم.. استفادت وافادت كثيرا فى الحوار والتفاعل الجماعى .. ولكن تفككت الجماعة بعد عام واحد ..فانضمت الى جماعة `الفن المصرى الحديث`.. التى اقامت اول معارضها عام 1946 واستمر نشاطها حتى عام 1955..و ضمت :جمال السجينى وزينب عبد الحميد وعز الدين حمودة ويوسف سيدة وصلاح يسرى .. كما عرضت اعمالها ايضا مع جماعة `الفن المعاصر` وكان من اعضائها حامد ندا وعبد الهادى الجزار وسمير رافع وابراهيم مسعودة وماهر رائف .. وفى ذلك الوقت تاملت كل الفنون المصرية .. من الفن المصرى القديم و القبطى و الاسلامى والفن الشعبى .
** عالمها
- فى فترة الخمسينيات من القرن الماضى ظهرت لوحات `جاذبية` ذات البعد الاجتماعى عندما قدمت ` ام رتيبة ` وام عنتر`` وام صابر ` وتجلت فى ملامحهن القسمات المصرية الاصيلة .. كما تجلى نقدها الاجتماعى فى تصوير وضع المراة فى لوحتها ` الزوجتان ` .. فقد صرخت اللوحة بملامح الحزن البادية على الزوجة الاولى.. التى اعطاها الزوج ظهره هى واولادها وتصدرت اللوحة الزوجة الثانية الدلوعة المقربة مع وليدها .. ولوحاتها هنا كانت تطالب بتغيير اجتماعى حقيقى .
- ثم انطلقت فرشاتها بعد 1952.. تصور وضع المراة الجديد ورسمت العازفة التى تعزف لحن الثورة والمعلمة تحيط بها الطالبات ..وحررتهن من المنظور والنسب.. وانطلقت تحلق وترسم امال الوطن وامال المواطن المصرى والامه . . وجاءت لوحتها المراجيح 1956.. بداية للتغيرات الاجتماعية والسياسية فقد رسمتها من زاوية عليا مع الايحاء بانها ترسمها من المقدمة وبعدها بثلاث سنوات عام 1959 رسمت لوحتها` الطيارة الورقية ` التى رمزت فيها الى الانطلاق والتحليق والطيران الى اعلى .. خاصة وقد انطلقت الطائرة بعيدا عن الارض.. تشق اعنان السماء داخل منطقة مختلفة جدا عن الواقع وعن الطفلة الممسكة بها بعيدا عن كل قواعد المنظور .. حيث نرى السماء مفتوحة وكل شىء لايخضع للمنطق الارضى .
- وفى الرحلة التاريخية الى النوبة سافرت جاذبية مع من سافروا من فنانى مصر ومثقفيها عام 1962وكان من بينهم `حبيب جورجى` فنان المائيات و تجربة النحت التلقائى مع الاطفال والمعمارى حسن فتحى والدكتور` لويس عوض` والمفكر الفنان `حامد سعيد رائد مدرسة الفن والحياة و`تحية حليم `و`ادم حنين` و`رمسيس يونان` و`حامد ندا`و `حسين بيكار ` .. وظهرت النوبة بكل مكنوناتها وملامحها البيئية ..مثيرا كبيرا لجاذبية اضاف الكثير الى تعبيراتها .. وقدمت العديد من الاعمال من وحى الهامها مثل ` شروق فى النوبة ` و ` استشهاد بلاد النوبة ` وصورتها فى مجموعة لوحات ..من بينها لوحتها`الام واطفالها ` التى تلخص فيها بكثافة تعبيرية امراة بطول اللوحة ..بشال من النسيج الشعبى وفى اماميتها اربعة اطفال مع مساحة من الاحمر النارى ..على خلفية من بوابة بيت نوبى تزدان واجهته بالنقوش والزخارف الشعبية من زهور ونباتات وعصفور مفرد ..وتعد تعبيرا رمزيا عن الام او الوطن.
- يقول الناقد` ايمى ازار` :جاذبية سرى فنانة مصرية اصيلة فقد تحررت شيئا فشيئا من الصياغات التشكيلية التى تعترف بها المدرسة الاوروبية ..ونزعت الى تجديد شباب رؤيتنا للتراث المصرى القديم ..اذ وفقت بينه وبين ابحاثها فى مجال اللون ..ولنسارع بالقول ان هذه الابحاث تستلهم هى الاخرى تراثا قوميا هو النسيج القبطى ..ولكى نفهم هذا الفن اذن علينا ان نسلم بشىء اخر عما سبق ان رايناه او سبق ان عرفناه ..هذا الى انها تتخذ نسقا فنيا زخرفيا هو ليس من الزخرفى بشىء.. ولايمت بصلة الى الارابيسك ولا الى موضوعات مجازية او تاريخية ولكنه مزيج من الخبرة الداخلية الحميمة ..و`الفولكلور` فى نسق تتقارب فيه الخطوط ..دون ان تنضوى تحت استخدام البعد الثالث ..الذى تسعى جاذبية الى التحرر منه .`
- وعندما جاء الخامس من يونيو من عام 1967.. اصاب الفنانة الكبيرة اصابة بالغة .. كانت بمثابة صفعة قوية جعلتها تعزف عن الحياة لفترة طويلة تعيش الحزن والصمت وجاءت لوحاتها انعكاسا لتلك الفترة واكثر تعبيرا .. فقد شعرت ان الانسان المصرى تحول الى حجارة .. بمعنى اخر انسخط بتعبيرها كما فى حكايات الف ليلة وليلة .. ورسمت الانسان على شكل بيت يعطى ايحاء بتحجر مشاعره واحاسيسه ..ومزجت البيوت بالاشخاص والطبيعة ..لكن بدت البيوت مفككة وخائفة وعاجزة تطل منها الاعين البشرية .
** الباليتا الزرقاء
- الا ان اعمالها فيما بعد ..اصبحت تغنى لمصر وتتغنى بسحرها ..فى كل مكان حيث تمزج البيوت بالبشر بصخب الحياة ..من الواقع الى الرمز ومن التجريد الى التعبير فى خصوصية الزمان والمكان .
- فى كتاب د.لويس عوض : الفنون والجنون فى اوروبا 1969 ..يشير المفكر الكبيرعند زيارته لباريس عام 1968.. الى معرض جاذبية سرى المقام هناك فى ذلك الوقت بصالة الباليتا الزرقاء بشارع سين..وكان لقاؤه بها ومع سعادته بالاعمال من داخل المعرض ..قراب الكتالوج كلمة الاديب الفرنسى الكبير ميشيل بيتورالتى قال فيها :` سعيد انا بان اراك ثانية فى فرنسا مع كل منازلك ..وفى اللحظات الاخيرة من اقامتى بمصر ..كانت كل قرى الوادى ..وكل ضواحى القاهرة تذكرنى بك ..كل هذا الطوب ..وكل هذه الابواب و الشبابيك بمن فيها من السكان ..وكل هذه النظرات والاشباح واشجار البرقق والروائح ..والصرخات والهمسات والخطى الحثيثة ..يجب ان تجىء كل هذه الاشياء لتلازم جدراننا وفاتريناتنا وارصفتنا ..وانى لارجو ايضا ان تقع بيوتنا فى فخاخ عينيك وان تعودى برؤاها حتى القاهرة وان توشوش لنا لوحاتك يوما بهذه الرؤى `.
- واعمالها تؤكد دائما ان فن التصوير فن حداثى يتجاوز الفن الاكاديمى ..خاصة وهى تقول فى معرضها الذى اقيم حول `البحر والبيوت ` : رحت للبيوت والبحر بطريقة فيها غموض وتفاؤل فى نفس الوقت .. تعكس مانعيشه حاليا من متغيرات واحداث على مستوى العالم .. وماسوف يحدث بعد ذلك من تداعيات العولمة والخوف على الناس داخل البيوت والبحر` .
- وتكمن قيمة اعمال جاذبية الحديثة.. بتكثيف مراحلها الفنية بلغة تشكيلية تعتمد على الرمز والايحاء والتلميح.. مع التحرر الاكاديمى وتعبيرية اللون الذى ينطلق بقوة.. تجمع بين الوعى وحكمة التشكيل .. وهى تفسر احدث اعمالها والتى تنتمى للعقد الثانى من الالفية الثالثة :` البيوت عبارة عن رموز .. مجرد اشارات تجمع بين الشكل الهندسى المتمثل فى الشرائط والشكل العضوى للبيوت وما تضم من بشر ..والشرائط هنا موجودة فى كل مكان فى الشارع من اشارات وعلامات والتى تعنى التوقف والحركة وتحديد الاتجاهات .
- ولقد جاء معرضها ` تجسيد ` فى ثلاثية من البحر والوادى والناس ..وهو مساحة متسعة تمثل تراكما لعالمها ممتدا باللمسة والمشاعر والاحاسيس .. كما فى لوحتها `المراة والرجل `على خلفية تجريدية من الازرق الصافى الذى يمتزج بالاخضر الزرعى ..كما يتوحد البشر مع البيوت فى لوحتها التى تضم ثلاثة شخوص.. مابين الوجوه الجانبية والوجه الامامى مع بوابة عتيقة رمزا للبيت .
- لقد اختزلت الفنانة عالمها ولغتها التشكيلية و باحت ايضا بدنيا تشخيصية .. تموج بالناس فى مصر .. والبحر والوادى .. وتشرق بالبيوت التى تطل بعيون شاخصة ..وتنقلنا جاذبية فى اعمالها الى مرحلة الوادى والصحراء.. مع مجموعة من الصور الشخصية ` البورتريه `ذات الطابع التعبيرى من بينها صورة ` من الشرفة ` للسيدة والدتها جالسة بالشرفة وسط الخضرة ..وصورة للفنانة تحية حليم واخرى لزوجها ورفيق مشوارها السيد `عادل ثابث `رحمه الله الذى قال عنها :`جاذبية انسانة وثروة وطنية كان زواجنا لاكثر من 50 عاما .. جمعنا اول لقاء فى `خان الخليلى` بمقهى الفيشاوى الشهير وكان معنا المرحوم `لطفى الخولى` وخطيبته فى ذلك الوقت وتحية حليم وحامد عبد الله` .
- حصلت جاذبية سرى على الجائزة الشرفية لبينالى فينيسيا عام ..1956والجائزة الاولى من بينالى الاسكندرية والجائزة الكبرى الرابعة للفن العالمى بموناكو 1998.. واخيرا جائزة الدولة التقديرية عام 2000.
- وقد اهدت وزارة الثقافة 20 لوحة تمثل مراحل مختلفة من اعمالها ..مع عشر لوحات مائية للنوبة قبل انشاء السد العالى .. و لها اربع لوحات موجودة حاليا بالصالة الكبرى بدار الاوبرا المصرية .
سلام عليها وتحية الى روحها ..ولنا الله ..جاذبية اخر الكبار .
بقلم : صلاح بيصار
جريدة القاهرة 16 - 11- 2021
جاذبية سرى وفرحة الحياة
- .. إنك لا تلتقى كل يوم بفنانة مثل : جاذبية سرى (65 سنة ) رسامة ملونة تحتضن الحياة احتضاناً بإبداعها الفريد وثقافتها العريضة وبكل كيانها الإنسانى . حددت رسالتها منذ البداية ثم مضت فى الطريق المثير الصعب لا تلوى على شئ . لا ترسم وتلون كمعظم الفنانين، إنما تتدفق بروحها وموهبتها وذكائها من أطراف فراجينها على صفحة قماشها . فقد ولدت لتكون ضمير شعبها بآماله وآلامه .. وأفراحه ومآسيه ..
- فى أحد معارضها فى قصر عائشة فهمى بالزمالك ، عرضت فى مطلع إبريل الماضى ما ينوف على الأربعين لوحة زيتية عبرت بها عن فرحة الحياة تحت عنوانها الدائم المعروف: الزمان والمكان . ذلك الاسم الذى صاحب معارضها الفردية التى تعدت الخمسين ، فى مصر ومختلف البلدان شرقاً وغرباً ، وهو رقم قياسى لم يبلغه إلا القليل النادر، وينبغى أن نسرع فنردف أن جميع عروضها بدون استثناء ، متغيرة الفكر والموضوع ( التيمة )، مع الأحتفاظ بشخصية لا تخفى بالرغم من تأرجح أسلوبها بين حافتى الواقعية والتجريد. أعمالها مذهب فنى قائم بذاته لا ينسج على منوال أحد. الألوان والخطوط عندها لغة جميلة، تكمن أبجدياتها فى الإيقاعات والتوافقات والملامس التى تكسو عناصرها التائهة فى لجة التكوين ،متفجرة بالحيوية . يشع منها ما يشبه المجال المغناطيسى لا نملك منه فكاكا . إنه إبداع يلبى احتياجنا إلى الجمال وإثارة الخيال والأفكار، مهما بدت الموضوعات عادية بالغة البساطة، لا تخرج عن مناظر البحر والسماء والمصطافين على الشاطئ أو الزهريات وأطباق الفاكهة . فمثل جاذبية كمثل الموسيقار والمحنك الفنان ، تتجلى موهبته فى أبسط التقاسيم والارتجالات ، كما فى أعقد السيمفونيات . فتكوينات ومعالجات وموضوعات لوحاتها الحديثة ضرب من السهل الممتنع، تلخص فى بلاغة ويسر مشوارها قرابة الخمسين عاماً . استخدمت ألوان الزيت والفراجين وسكين المعجون فى سلاسة العارف وقدرة المتمكن بلا تردد أو تفكير. لاتزال تضع لمساتها فى سرعة وإنفعال وإسقاط لفيض عواطفها الهادرة. ولذلك لا نكاد نلتقى بإبداعها حتى نستشعر الحركة ، بالرغم مما يتسم به من إتقان واستقرار، وكأن منظوماتها اللونية من الفسيفساء . لا تفاضل بين موضوع الخطاب وأسلوبه ، إنما تخاطبنا بلغة الجمال الصامت : لغة الشكل واللون والخط وهى لغة الطبيعة التى تهز أرواحنا - كما يقول فاسيلى كاندينسكى ( 1866 - 1944 ) .
- كانت منذ صباها الباكر كالنبتة القوية ، تشق الأرض شقاً لتورق وتثمر ، كأنما تدرى أن لديها ما تعطيه لهذا العالم . وقد أصبحت بالفعل من رائدات فن الرسم والتلوين فى بلادنا من الجيل الثانى، بعد يوسف كامل وراغب عياد ومحمد ناجى ومحمود سعيد . ساعدها على استكمال أدوات البروز على الساحة الثقافية ، ما ورثته عن والدها من مكتبة ضخمة حافلة بمجلدات العلوام والآداب التى كانت زادها المعرفى . وقد ذكرنا فى مناسبات سابقة ، كيف أن ثقافة الفنان هى الأجنحة التى يحلق بها عالياً . وحين دخلت الضوء سنة 1949 مع أول معارضها ، لفتت أنظار النقاد والمعنيين والمتابعين بلوحاتها الشهيرة ` أم رتيبة` و` المراجيح` و` أم عنتر` و` أم صابر`.. وغيرها من الموضوعات التى كانت تموج بها الحياة الإجتماعية فى ذلك الزمان. كانت تكشف بأسلوب بالغ الجدة والحداثة عن أصالة المرأة المصرية صانعة الرجال. وقد حظى معرضها الأول بمساندة الأوساط الثقافية ، واستجابت لها مختلف الدوائر الإجتماعية لأنها كانت كرجع الصدى لما يجتاح البلاد من رياح الثورة التى تدق الأبواب ..لم تكن لوحة ` أم صابر` مجرد تصوير لشهيدة ريفية مصرية اغتالتها يد الاحتلال الإنجليزى ، بل رمزاً للقوى المكبوتة الوشيكة الانفجار.
- واكبت جاذبية سرى بإبداعها المعاصر حياة شعبها بحلوها ومرها شأن كبار الفنانين منذ فجر التاريخ.فحين أبدع المثال الإغريقى` فيدياس` رائعته: زيوس ملك الألهة،نحتها باسم الشعب اليونانى ومعتقداته التى كان يدين بها قبل الميلاد بمئات السنين. وحين رسم الفنان الفرنسى
` يوجين دولامروا` لوحته الزيتية الشهيرة` الحرية تقود الشعب` إنما كان يصور مشاعر شعبه وأحاسيسه وفرحته بإنجازات الثورة الفرنسية. وهكذا أبدع بابلو بيكاسو` جيرنيكا `و` فرانشيسكو جويا` : صورة ` إعدام الثوار` . لقد صاحبت جاذبية سرى مشاعر شعبنا بعد هزيمة 1967 ، فصورت فتاة عارية تنكفئ على وجهها تخفيه براحتيها حتى لا ترى الخطب الجلل. تتزاحم حولها بيوت متواضعة متهالكة الجدران معتمة النوافذ خالية من السكان على النقيض من أعمالها فى أحدث معارضها، حيث عبرت بألوانها المرحة ولمساتها البهيجة عن فرحة الحياة فى زمن السلام . مثل هذا المناخ الفنى السعيد ، تنضح به لوحات ما بعد نصر أكتوبر 1973 . ففى ثنايا الخطوط ومنظمات الألوان وتآلفات الأشكال ، تطالعنا وجوه نساء ورجال وأطفال، مرحة فرحة بين القباب والمآذن والنوافذ المشعة بالأضواء، فى إيقاعات وتوافقات موسيقية تشعرنا بالأمن والأمان .
- جاذبية سرى فنانة بطبعيتها. تمزج الحلم بالواقع والحقيقة بالخيال . عاشقة لمصر قبل أى شئ أخر، طافت بالعديد من بلدان العالم حيث احتفت بها المؤسسات الثقافية، واقتنت أعمالها وأهدتها رموز التقدير بمختلف أشكالها. إلا أنها لا أنها تكاد ترجع إلى مصر حتى ترتمى فى صدرها. فحين عادت من رحلة إلى كندا ذات مرة هرعت فى اليوم التالى إلى قلب الصحراء: إلى الواحات الخارجة والداخلة والبحرية، حيث تجولت ورسمت ولونت فأبدعت لوحات أطلقنا عليها فى حينها اسم ` حديث الرمال`.
- صخور وجبال وصحارى، يظن من يراها لأول وهلة أنها محض تشكيلات مجردة بلا معنى، لكنها تحمل كل طاقة الشوق والحب والحنين، الذى عانت منه إبان غربتها فى كندا. حدث ذلك فى عام 1975 حين خطر ببالها أنها استجابت أخيراً لموضة التجريد واللاتشخيص. إلا أنها لا تعنى بالصياغة إلا بالقدر الذى يجسد خيالها. ويبلور خطابها لروح المتلقى وعقله. يكشف المتأمل المتعمق بعد قليل المضمون الذى بالغت فى إخفائه، كأنه لؤلؤة فى محارة. فقد أخفت موضوعها العاطفى خلف غلاف كثيف من الملامس والخطوط والألوان، مما يستلزم من المشاهد عينا مدربة وخيالاً خصباً، فقد زادت إبداعها غموضاً بعدم إطلاق أسماء على لوحاتها . ولكنها فى بعض زواياها كانت تعبر عن حيرة الإنسان فى مواجهة قوى الطبيعة التى لا يملك إزاءها تبديلاً . وكيف يستشعر العزلة فى العالم المعاصر ، الذى ينشغل فيه الإنسان عن الآخرين .
- كان معرض `حديث الرمال` مهرجاناً من الخيال الرمزى والإيماءات والإشارات البليغة . وكان يندرج تحت مسمى` الزمان والمكان` كالعادة . فكل لوحة تعبير عن حالة وجدانية محددة بوقت وموقع معينين. كانت فى فجر حياتها الإبداعية تسمى لوحاتها فرادى، حين كانت شديدة الموضوعية ، تعكس على قماش صورها ما يدور على مسرح الحياة من حولها . ثم بدأت تدخل فى ذاتها، وتعيش حياة جوانية لا تبدى من أماراتها إلا النزر اليسير . كما لو كانت تخفى نفسها فى شرنقة من الفتنة اللونية والإيقاع السريع البهيج والخطوط الموسيقية الشجية وبراعة الأداء المبهر. اختفت الأسماء التفصيلية وانبثق عنوان` الزمان والمكان` ليتصدر جميع المعارض ، مع ازدياد الشحنة العاطفية والقيمة الشعرية والجمالية، حتى عادت لتجمع بين الحسنيين فى أحدث عروضها، حيث وضعت عناوين الصور التى انتظمت جدران سرداب قصر عائشة فهمى بالزمالك ، بينما تصدر الكتالوج العنوان التقليدى وهو` الزمان والمكان` مضافاً إليه عبارة : بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية ` واشنطن العاصمة`.
- يتميز إبداع جاذبية سرى فى كل المراحل التى مر بها ، بأنه عمل درامى من الدرجة الأولى . يتيح للمرء أن يتلقى الرسالة عبر الشكل المفهوم والرمز الواضح والصياغة المصقولة . يسبح بخياله ويغوص داخل العناصر المتشابكة وتهتز مشاعره وكأنما تعزف الفنانة بألوانها على أوتار روحه، فتجذبه إلى عالمها الداخلى، المفعم بالتوتر والإنفعال والعاطفة الجياشة، والعالم الأسطورى الذى تنضح به لوحاتها، مع أنه يلمس الحقيقة بكل أبعادها .،،
بقلم : مختار العطار
مجلة : إبداع (العدد 7) يــوليو 1994
ورحلت الفنانة التشكيلية الرائدة `جاذبية` صعدت إلى السماء
- رحلت الفنانة الرائدة جاذبية سرى عن عمر ناهز 96 عاماً، الأسبوع الماضي، وهى آخر جيل الكبار الذين شكلوا الحركة الفنية المصرية فى معتركها الفنى فى الخمسينيات والستينيات واستمرت فى إبداعاتها بعد رحيل الفنانتين الكبيرتين إنجى أفلاطون وتحية حليم اللواتى شكلن معاً ثلاثياً ذهبياً من الجيل الثانى فى حركة الفن المصرى وبلغن العالمية من داخل معتركهن الإبداعى بحركة التشكيل المصري. وكانت أسماؤهن الثلاثة تذكر مجتمعة فى كل المحافل الفنية داخل مصر وخارجها.. وحصلت جاذبية سرى على الجائزة الشرفية لبينالى فينيسيا عام 1956، والجائزة الأولى من بينالى الإسكندرية، والجائزة الكبرى الرابعة للفن العالمى بموناكو 1998، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1970، وأخيرا جائزة الدولة التقديرية عام 2000.
- وبدأت الفنانة الراحلة مشوارها الفنى برسم لوحات تصور الواقع الاجتماعى للمرأة المصرية، بدءاً من لوحاتها الشهيرة فى الخمسينيات `أم عنتر` 1953، و`أم رتيبة` 1953، و`أم صابر` 1952، و`الزوجتان` تلك اللوحة التى صورت فيها ما يصيب الزوجة الأولى وأولادها من أذى نفسي، بينما تصبح الصدارة فى اللوحة للزوجة الأولى، فكانت هذه اللوحة تحديداً صرخة للمطالبة بحقوق المرأة.
- ووصلت لوحاتها إلى مكانة متميزة لقربها من مشكلات المرأة فى صورة واقعية تعبيرية، وامتدت تعبيريتها إلى لوحات رمزية كبداية للتغيير والانطلاق الاجتماعى مثل لوحة `المراجيح` 1956، ولوحة `الطائرة الورقية`1960 التى اقتناها متحف `المتروبوليتان` أحد أشهر متاحف الفن العالمى بأمريكا، فكانت هذه المرحلة تضىء بسمات الشخصية المصرية والهم الاجتماعى معاً، ثم امتدت بلوحات فى الخمسينيات تمثل نهضة اجتماعية بلوحات أبدعتها مثل `الإصلاح الزراعى` 1961، و`التصنيع`، وفى الوقت نفسه أخذت لوحاتها تهتم بالمرأة الجديدة مثلما فى لوحتى `العازفة` و`المعلمة`.
- وحدثت ثورة فى أسلوب جاذبية الفنى الاجتماعى بعد نكسة يونيو 1967، مثلما حدث مع كثير من فنانى مصر، فأصابتها بصفعة قوية هجرت على إثرها الحياة والفن لفترة وجيزة عاشتها بين حالتى الحزن والصمت، وفى تلك الفترة جمعت شتات نفسها وعادت أقوى تعبيراً وأداءً فنياً معبرة عن شرخ النكسة داخل النفوس وداخل كل البيوت فصورت مرحلتها الهامة `الناس والبيوت` ومزجت بين بيوت الحجارة المفككة المتكئة على بعضها البعض فى خوف تطل منها عيون البشر وأجساد ساكنيها وقد بدت كأنها على وشك التهاوى.
- وفى هذه المرحلة بدا الرمز واضحاً فى أعمالها وقوة التعبير اللونى فى امتزاج البيوت الحجرية المادية الهندسية بأجساد ساكنيها العضوية مشكلين معاً توحدا ورسوخا متضامنا بين البيت الرمز للوطن وبين الإنسان ساكن الوطن حتى لا ينهارا مع هذه النكسة، فكانت هذه المعالجة الفنية التى دعمت من مزج جاذبية سرى بين فنها وقضايا وطنها بوعى فكرى وفنى وتقنية رائعة أوصلت أعمالها للعالمية، وقبلها كان اهتمامها بقضايا وطنها وحقوق النساء الاجتماعية والإنسانية.
- ومع السنوات خرجت بأسلوبها الفنى أكثر تفكيكا فى المساحات اللونية والشرائطية بديلاً عن التكدس المتراكم بين البيت والإنسان فى مرحلتها الأسبق، فكانت انسيابيات المساحات، وقد خرجت بلوحاتها لـ`البحر` و`الصحراء` و`الوادى` و`الأهرامات` فى تجريدات شعورية ورمزية لحرية الإنسان، ثم مع كل سفر لها فى ضواحى مصر كانت ترسم الإنسان المصرى خارج البيت فى المقاهى والأسواق بألوانها المائية السريعة التأثير بضوء اللون، حيث ترسم فى احتكاك واستمتاع بالحياة متكاملاً مع رمزية لوحات البحر والصحراء فى الحرية والانطلاق بنفسه وبحياته.
- وكانت الفنانة ترسم بألوان زيتية ومائية ونفّذت بعض اللوحات الصغيرة بتقنية الجرافيك، وأبدعت أعمالها التى تمثل علامات فى تاريخ حركة الفن المصرى والعربى على مدى سبعين عاماً من الإبداع لتشكل ركناً وعموداً أساسياً فى حركة التشكيل المصرى الحديث امتد إلى المعاصر أثناء سنواتها الأخيرة.
- وقال عنها الناقد الكبير إيميه آزار: `جاذبية سرى فنانة مصرية أصيلة تحررت شيئاً فشيئاً من الصياغات التشكيلية التى تعترف بها المدرسة الأوروبية، ونزعت إلى تجديد شباب رؤيتنا للتراث المصرى القديم، إذ وفقت بينه وبين أبحاثها فى مجال اللون ولنسارع بالقول إن هذه الأبحاث تستلهم تراثا قوميا هو النسيج القبطى، ولكى نفهم هذا الفن علينا أن نسلِّم بشيء آخر عمّا سبق أن رأيناه أو عرفناه.. فهى تتخذ نسقاً فنياً زخرفياً هو ليس من الزخرفى بشيء ولا يمت بصلةٍ إلى الأرابيسك ولا إلى موضوعات مجازية أو تاريخية، لكنه مزيج من الخبرة الداخلية الحميمة و`الفولكلور` فى نسق تتقارب فيه الخطوط دون أن تنضوى تحت استخدام البعد الثالث الذى تسعى جاذبية إلى التحرر منه`.
- ولدت جاذبية سرى فى أكتوبر 1925، وحصلت على دبلوم الفنون الجميلة عام 1948، ودبلوم التربية الفنية عام 1949، ودراسات عليا فى باريس 1951، ودراسات عليا من روما فى التصوير عام 1952، ودبلوم دراسات عليا فى التصوير من كلية ميلد بجامعة لندن 1954-1955، وعملت أستاذة بكلية التربية الفنية حتى 1981، وأستاذة تصوير بالجامعة الأمريكية بالقاهرة 1981-1982، وأقامت أكثر من سبعين معرضا خارج مصر فى العالم العربى وأوروبا وأمريكا، وعرضت لوحاتها فى كبريات متاحف الفن فى العالم وحصلت على العديد من منح الزمالة من جامعات مختلفة حول العالم.
- رحلت الفنانة الكبيرة، إحدى رائدات الفن المصرى بعدما أهدت منذ سنوات قليلة 20 من لوحاتها تمثل مراحلها المختلفة لوزارة الثقافة المصرية، و10 لوحات ألوان مائية للنوبة قبل بناء السد العالى أنجزتها فى رحلة الفنانين والأدباء الشهيرة إلى بلاد الذهب فى الستينيات، ولا تزال الصالة الكبرى بدار الأوبرا تتجمل وتزداد بهاءً بأربع لوحات ضخمة تحمل توقيع الفنانة الرائدة.
بقلم : فاطمة على
جريدة: آخر ساعة (15 -11- 2021 )
جاذبية سرى الزمان والمكان بين الناس والبحر والبيوت
- يعد المثلث الذهبى للفنانات الثلاث تحية حليم وإنجى أفلاطون وجاذبية سرى العلامة الثانية بعد رائدة التصوير المجسم عفت ناجى . وقد شبه المفكر كامل زهيرى أعمالهن بصوت الموسيقى ، مع اختلاف النغمات ` وبينما كانت تحية حليم قمة الشجن والحنان أشبه بعازفة الناى الشجى الحنون ، تعد إنجى أفلاطون أقرب إلى الموسيقى الوترية وعازفة الكمان والفيولا ، وظلت آلحان الكمان العذب والمعذب تعلو من لوحاتها الجميلة .بينما تبدو جاذبية سرى أقرب في لوحاتها إلى الموسيقى النحاسية ، بألوانها الرنانة والفصيحة والصريحة والصارخة `.
- يعد هذا أجمل تشخيص لأعمال الفنانة جاذبية وعالمها الفوار الذى يمتد لأكثر من 65 عاماً بالتنوع والثراء ، فى تحولات وحالات وآفاق ، خصوصاً أن جاذبية سرى فنانة أناملها متوهجة بسحر الفن ، تحترق من أجل أن تشدو لمستها في فضاء لوحة التصوير .
- ومازالت رحلتها مع الإبداع تتدفق في دنيا من الأنغام والألحان بين التجريد والتشخيص ، وهى رحلة كانت بداياتها مع لوحات يمتزج فيها الواقع بالتعبير ، كما في أم عنتر وأم رتيبة وأم صابر ، والطيارة، والمراجيح ، تؤكد بداية فنانة تضىء على الشخصية المصرية بكل مكنوناتها الروحية والاجتماعية.
- وتمتد فى أعمالها بلا انتهاء ، لتجعلها لا تحتاج إلى التوقيع على لوحاتها من فرط خصوصيتها وتميزها ، فهى أغنية مصرية طويلة متعددة النغمات . تنوعت في مراحل عديدة من الواقعية الاجتماعية إلى التعبيرية ، إلى التلخيص الشديد الذى اختزلت فيه الزمان والمكان ، وهو اسم معرض لها ، وانطلقت في قوة تعبيرية وفوران شديد ، حتى تحولت أعمالها الحالية إلى أصداء وعلامات على مشوارها الفنى بمنزلة شفرات تجريدية ، جعلت منها رائدة من الجيل الذى تلى الرواد.
- الطفولة و` الحلمية `
- في قلب حى الحلمية بالقاهرة، وبالقرب من السيدة زينب والقلعة ، الذى ينتسب إلى عباس حلمى باشا بعد أن بنى قصره بها ، وأنشأ ميداناً أطلق عليه ميدان الحلمية ، ولدت جاذبية في شهر أكتوبر عام 1925 ، ونشأت وقضت طفولتها وبداية الشباب حتى العشرين في بيت عتيق يتكون من ثلاثة طوابق تفصله عن العالم الخارجى بوابة كبيرة ، وكأنه حصن أو قلعة من قلاع الزمن الماضى الذى يدخل في عمق التاريخ.
- تحيط بجدران البيت مشربيات من الأرابيسك ، ومن الداخل يتوسطة صحن واسع تطل عليه المناور والأجنحة للخدم ، بيت كل ما فيه يحرض على الإبداع ويدعو إلى التأمل .
- وفى مدرسة الحلمية ، بدأ حب جاذبية للرسم وولعها الشديد بالتكوين ، وقد كلفها هذا حصولها على 6 درجات من عشرين درجة في مادة الرسم، لأنها أرادت التعبير عما بداخلها وعقلها ووجدانها ، مما يتعارض مع مناهج التربية الفنية التى تعرض أنماطاً محفوظة ومكررة وتعليمات مدرسية.
- فن البورترية
- عندما التحقت جاذبية بالمدرسة الثانوية ، بدأت علامات التفوق والنبوغ في الرسم ، خاصة حين بدأت برسم صور شخصية لأساتذتها أثارت إعجابهم ودهشتهم في ذلك الوقت ، وقد تمرست بفن البورترية فى هذه السن الصغيرة.
- وبعد حصولها على الثانوية العامة ( البكالوريا) أرادت لها العائلة أن تكون ست بيت ، يعنى أن تتزوج ، وكان هذا بإجماع الأخوال والأعمام بعد وفاة والدها وهى في الرابعة عشرة من عمرها .
- وتحت تلك الضغوط اضطرت إلى البقاء عاماً بأكمله في المنزل ، وبعد ذلك التحقت بالمعهد العالى للفنون الجميلة للمعلمات.
- لم تكن كلية الفنون الجميلة قد فتحت أبوابها بعد للبنات إلا عام 1954 - وتخرجت في عام 1946 ، تقول جاذبية : ورغم أن أخوالى كانوا يمارسون الرسم كهواة ، فإنهم اعتبروا أننى اخترت مهنة دون المستوى ، حتى عمى سامى الذى كان له أتيلية ( مرسم) مع الفنان الرائد أحمد صبرى نظر إلى بنفس المفهوم .
- كانت البداية الحقيقية للفنانة جاذبية عندما عرضت لأول مرة في صالون القاهرة عام 1950 ، وعندما اشتركت مع جماعة شباب الفن، التى كانت تضم كمال يوسف وموريس فريد وسيد عبد الرسول وغيرهم ، استفادت وأفادت كثيراً في الحوار والتفاعل الجماعى .
- لكن الجماعة تفككت بعد عام واحد ، فانضمت إلى جماعة الفن المصرى الحديث ، التى أقامت أول معارضها عام 1946 ، واستمر نشاطها حتى عام 1955 ، وضمت جمال السجينى وزينب عبد الحميد وعز الدين حمودة ويوسف سيده وصلاح يسرى .
- كما عرضت أعمالها أيضاً مع جماعة الفن المعاصر ، وكان من أعضائها حامد ندا وعبد الهادى الجزار وسمير رافع وإبراهيم مسعودة وماهر رائف.
- وفى ذلك الوقت تأملت كل الفنون المصرية مع تنوعها وثرائها من الفن المصرى القديم والقبطى والإسلامى والفن الشعبى .
- عالم جاذبية
- في فترة الخمسينيات من القرن الماضى ظهرت لوحات جاذبية ذات البعد الاجتماعى عندما قدمت أم رتيبة وأم عنتر ، وأم صابر ، وتجلت في ملامحهن القسمات المصرية الأصيلة .
- كما تجلى نقدها الاجتماعى في تصوير وضع المرأة في لوحتها الزوجتان.
- فقد صرخت اللوحة بملامح الحزن البادية على الزوجة الأولى ، التى أعطاها الزوج ظهره هى وأولادها ، وتصدرت اللوحة الزوجة الثانية الدلوعة المقربة مع وليدها.
- ولوحاتها هنا كانت تطالب بتغيير اجتماعى حقيقى ، ثم انطلقت فرشاتها بعد 1952 ، لتصور وضع المرأة الجديد ، ورسمت العازفة التى تعزف لحن الثورة ، والمعلمة تحيط بها الطالبات ، وحررتهن من المنظور والنسب وانطلقت تحلق وترسم آمال الوطن وآمال المواطن المصرى وآلامه .
- وجاءت لوحتها ( المراجيح 1956 ) ، بداية للتغيرات الاجتماعية والسياسية فقد رسمتها من زاوية عليا ، مع الإيحاء بأنها ترسمها من المقدمة ، وبعدها بثلاث سنوات عام 1959 رسمت لوحتها الطيارة الورقية ، التى رمزت فيها إلى الانطلاق والتحليق والطيران إلى أعلى ، خاصة أن الطائرة انطلقت بعيداً عن الأرض ، تشق عنان السماء داخل منطقة مختلفة جداً عن الواقع وعن الطفلة الممسكة بها ، بعيداً عن كل قواعد المنظور ، حيث نرى السماء مفتوحة ، وكل شىء لا يخضع للمنطق الأرضى.
- وفى الرحلة التاريخية إلى النوبة ، سافرت جاذبية مع من سافروا من فنانى مصر ومثقفيها عام 1962 ،وكان من بينهم حبيب جورجى ، فنان المائيات وصاحب تجربة النحت التلقائى مع الأطفال، والمعمارى حسن فتحى والدكتور لويس عوض والمفكر الفنان حامد سعيد ، رائد مدرسة الفن والحياة ، وتحية حليم وآدم حنين ورمسيس يونان ، وحامد ندا وحسين بيكار .
- وظهرت النوبة ، بكل مكنوناتها وملامحها البيئية ، مثيراً كبيراً لجاذبية أضاف الكثير إلى تعبيراتها ، وقدمت العديد من الأعمال من وحى إلهامها ، مثل الشروق فى النوبة واستشهاد بلاد النوبة ، وصورتها في مجموعة لوحات ، من بينها لوحتها الأم وأطفالها ، التى تلخص فيها ، بكثافة تعبيرية، امرأة بطول اللوحة ، بشال من النسيج الشعبى وفى أماميتها أربعة أطفال مع مساحة من الأحمر النارى ، على خلفية من بوابة بيت نوبى تزدان واجهته بالنقوش والزخارف الشعبية من زهور ونباتات وعصفور مغرد، وتعد تعبيرًا رمزياً عن الأم أو الوطن والأبناء.
- يقول الناقد إيمى إزار : جاذبية سرى فنانة مصرية أصيلة ، فقد تحررت شيئاً فشيئاً من الصياغات التشكيلية التى تعترف بها المدرسة الأوربية ، ونزعت إلى تجديد شباب رؤيتنا للتراث المصرى القديم ، إذ وفقت بينه وبين أبحاثها في مجال اللون ، لنقول إن هذه الأبحاث تستلهم هى الأخرى تراثاً قومياً هو النسيج القبطى.
- ولكى نفهم هذا القرن إذن، علينا أن نسلم بشىء آخر عما سبق أن رأيناه أو سبق أن عرفناه، وهو أنها تتخذ نسقاً فنيا زخرفيا هو ليس من الزخرفى بشىء ... ولا يمت بصلة إلى الأرابيسك ، ولا إلى موضوعات مجازية أو تاريخية ، لكنه مزيج من الخبرة الداخلية الحميمة والفولكلور في نسق تتقارب فيه الخطوط دون أن تنضوى تحت استخدام البعد الثالث الذى تسعى جاذبية إلى التحرر منهب.
- وعندما جاء الخامس من يونيو من عام 1967 ، أصاب الفنانة الكبيرة إصابة بالغة ، فقد كانت النكسة بمنزلة صفعة قوية جعلتها تعزف عن الحياة فترة طويلة، تعيش الحزن والصمت ، وجاءت لوحاتها انعكاساً لتلك الفترة وأكثر تعبيراً .
- فقد شعرت أن الإنسان المصرى تحول إلى حجارة ، بمعنى آخر انسخط ، بتعبيرها ، كما في حكايات ألف ليلة وليلة .
- ورسمت الإنسان على شكل بيت، وهو ما يعطى إيحاءاً بتحجر مشاعره وأحاسيسه ، ومزجت البيوت بالأشخاص والطبيعة، لكن البيوت بدت مفككة وخائفة وعاجزة تطل منها الأعين البشرية .
- وما أبلغ تلك اللوحة التى صورت فيها فتاة منكفئة من شدة السقوط مع نوافذ مغلقة.
- الباليتا الزرقاء
- إلا أن أعمالها فيما بعد أصبحت تغنى لمصر وتتغنى بسحرها فى كل مكان ، حيث تمزج البيوت بالبشر بصخب الحياة ، من الواقع إلى الرمز ومن التجريد إلى التعبير فى خصوصية الزمان والمكان بكل البقاع.
- في كتاب د.لويس عوض ( الفنون والجنون في أوروبا ) 1969 ، يشير المفكر الكبير عند زيارته إلى باريس عام 1968 إلى معرض جاذبية سرى المقام هناك في ذلك الوقت بصالة الباليتا الزرقاء بشارع سين كثير المعارض هناك ، وقد أمه الكثيرون في المساء عند الافتتاح ، وكان لقاؤه بها ومع سعادته بالأعمال من داخل المعرض ، قرأ بالكتالوج كلمة الأديب الفرنسى الكبير ميشيل بيتور التى قال فيها : اسعيد أنا بأن أراك ثانية في فرنسا مع كل منازلك.
- وفى اللحظات الأخيرة من إقامتى بمصر، كانت كل قرى الوادى وكل ضواحى القاهرة تذكرنى بك ،كل هذا الطوب ، وكل هذه الأبواب والشبابيك بمن فيها من السكان... وكل هذه النظرات والأشباح وأشجار البرقوق والروائح ، والصرخات والهمسات والخطى الحثيثة ، يجب أن تجىء كل هذه الأشياء لتلازم جدراننا وفاتريناتنا وأرصفتنا ، وإنى لأرجو أيضا أن تقع بيوتنا في فخاخ عينيك ، وأن تعودى برؤاها حتى القاهرة ، وأن توشوش لنا لوحاتك يوماً بهذه الرؤبب والمنازل التى يشير إليها الأديب الفرنسى بيتور هى صور البيوت الكثيرة التى تميزت بها موضوعات جاذبية.
- البحر والبيوت
- أعمال جاذبية تؤكد دائماً أن فن التصوير فن حداثى يتجاوز الفن الأكاديمى ، خاصة وهى تقول في معرضها الذى أقيم حول البحر والبيوت : رحت للبيوت والبحر بطريقة أخرى في التشكيل .. طريقة فيها غموض وتفاؤل في الوقت نفسه ، تعكس ما نعيشه حالياً من متغيرات وأحداث على مستوى العالم، وما سوف يحدث بعد ذلك من تداعيات العولمة والخوف على الناس داخل البيوت والبحر.
- وتكمن قيمة أعمال جاذبية الحديثة، ليس فقط من أجل تكثيف مراحلها الفنية بلغة تشكيلية تعتمد على الرمز والإيحاء والتلميح ، ببلاغة شديدة مع التحرر الأكاديمى وتعبيرية اللون الذى ينطلق في قوة تجمع بين الوعى وحكمة التشكيل ، وهى تفسر أحدث أعمالها ، التى تنتمى إلى العقد الثانى من الألفية الثالثة : البيوت عبارة عن رموز لبيوت مجرد إشارات تجمع بين الشكل الهندسى المتمثل في الشرائط والشكل العضوى للبيوت وما تضم من بشر ، والشرائط هنا موجودة في كل مكان بالشارع من إشارات وعلامات ، والتى تعنى التوقف والحركة وتحديد الاتجاهات.
- تراكم لعالم متسع
- جاء معرض الفنانة جاذبية التجسيد في ثلاثية من البحر والوادى والناس ، وهو مساحة متسعة تمثل تراكماً لعالمها المتسع بلا حدود ، ممتدًا باللمسة والمشاعر والأحاسيس ، كما في لوحتها المرأة والرجل على خلفية تجريدية من الأزرق الصافى الذى يمتزج بالأخضر الزرعى .
- كما يتوحد البشر مع البيوت في لوحتها التى تضم ثلاثة شخوص ، ما بين الوجوه الجانبية والوجه الأمامى مع بوابة عتيقة ترمز للبيت.
- لقد اختزلت الفنانة عالمها ولغتها التشكيلية ، لكنها باحت أيضا بدنيا تشخيصية ، تموج بالناس في مصر ، والبحر والوادى وتشرق بالبيوت ذات الفتحات ، والتى تطل بعيون شاخصة.
- وتنقلنا جاذبية في أعمالها إلى مرحلة الوادى والصحراء من حيوية الزروع إلى حركة الصحراء بكثبانها الرملية ، كما نطالع مجموعة من الصور الشخصية ( البورترية ) ذات الطابع التعبيرى ، من بينها صورة من الشرفة للسيدة والدتها ، جالسة بالشرفة وسط الخضرة ، وصورة للفنانة تحية حليم ، وأخرى لزوجها ورفيق مشوارها في الفن والحياة عادل ثابت، يرحمه الله، الذى تقول عنه : زوجى عادل وراء كل أعمالى ، كأنه قد تبنانى ، هو منتهى الإنسانية ، شىء غير عادى يدعو إلى الافتخار ليس للرجال المصريين فقط ، ولكن لكل رجال العالم ، وفى الحقيقة نحن أصدقاء ، وكان المسؤول عن أمورى كلها ، الفنية والمالية ، وثقتى به كاملة.
- أما هو فقال عنها : جاذبية تستحق الاهتمام من كل إنسان ، هى إنسانة وثروة وطنية ، وقد تعرف كل منا إلى الآخر على أساس صداقة الفن التى توجت زواجنا لأكثر من 50 عاما ً وقد جمعنا أول لقاء في خان الخليلي بمقهى الفيشاوى الشهير ، وكان معنا المرحوم لطفى الخولى وخطيبته فى ذلك الوقت ، وتحية حليم وحامد عبد الله.
- قال عنها الناقد الإيطالى اكارمينى سينيسكالكو : أنظر إليها وهى تذهب وتجىء ومعها لوحات ذات حجم أكبر منها شخصياً، وأدرك أن هناك أمرًا مهما في هذه الظاهرة الطبيعية من القوة ، التى هى محبوسة داخل جسد أنثوى صغير ، لكنه قوى ، ولن تستطيع الاستغناء عنه أبدًا ، ألا وهو الرسم ، الذى تتنفسه مع الهواء.
- تحية إلى لمسة توهجت بسحر الإبداع وعمر من الفن الجميل .
بقلم : صلاح بيصار
مجلة : العربى الكويتية ( العدد 738) مايو 2020
جاذبية سرى .. الأميرة تنتظر فى قصر عائشة فهمى
- تشهد القاهرة حدثاً فنيا كبيرا، يتمثل فى المعرض الاستعادى لأعمال الفنانة جاذبية سرى ، الذى ينظمه قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة بقصر عائشة فهمى فى حى الزمالك ، ويستمر المعرض حتى يوم 22 ديسمبر 2022.
- ضم العديد من المقتنيات ، التى كانت لدى متاحف وزارة الثقافة ، أو كانت ضمن المجموعة التى تقتنيها الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وتوضح تلك الأعمال الأنتقادات التى خاضتها جاذبية سرى ، وأعطت لتجربتها الزخم الكبير ، فهى عندما رحلت العام الماضى تركت خلفها إرثا فنيا ، كان من الصعب استيعابه ، لولا هذا المعرض الذى يبدو مثل شريط سينمائى يتحرك أمام الرائى ، ليؤكد حقيقة واحدة ، وهى أن جاذبية فعلت كل ما يمكن فعله فى الفن وتحولت ليس فقط إلى أيقونة ، بل إلى أسطورة تنتمى لزمن غنى وخصب.
- الناقد الإيطالى كارمينى سينسكالكو كتب فى تقديم أحد معارضها بإيطاليا ` إنها من معالم البانوراما المصرية للفن النسائى`
- فى معرض أقامته الفنانة فى 1996 كتبت أمتلك الأساطير الخاصىة بى منذ الطفولة - أشعر فى أعماقى إنى أمتزج بكل شيء / البشر والصحراء والبحر والنبات والطبيعة ، كله احتيال أشياء التى من صنع الإنسان كالبيوت ، أردت أن أعبر عن جوهر الإنسان برؤية ذاتية للعالم ، متعلقة بأساطيرى الخاصة وعالمى الداخلى .
- وأن أحاول أن أحرر ذاتى وأجرب المستحيل ، مثل الجرى فوق العالم بجنون حتى أصل إلى حافته وأنا ألهث فأجلس وقدماى تتأرجحان فى الفضاء.
- والشاهد أن جاذبية المولودة فى 11 أكتوبر 1925 ، والتى توفيت فى نوفمبر من العام الماضى ، فعلت ما تمنته بالفعل طوال عمرها الذى بلغ 96 عاما.
- ومن المثير أن السياق الزمنى لتجربتها . أفرز فنانتين كبيرتين على نفس القدر من التميز ، وهما إنجى أفلاطون وتحية حليم .وكانت فاعلتين فى المجال العام . واستطاعنا تحقيق حضور يتجاوز فضاء الحركة التشكيلية .لتصبح أعمالهما جزءاً من الوجدان الثقافى العام . ولأنهما رائدتان فى العالم العربى .حملاً عبء مواجهة التقاليد الاجتماعية ، والتأسيس لحضور المرأة فى هذا المجال.
- وفى كل الأحوال بدت جاذبية إمرأة مختلفة فقد عاشت عمرا أطول من رفيقاتها ،امتد ليقارب المائة عام ، وهى من ناحية أيضا ، اختلفت عن أفلاطون وحليم .لأنها بالإضافة إلى عملها بالفن مارست دورا تربويا وتعليميا . وأنتجت أكثر ، والأهم أن إنتاجها اتسم بالتنوع بحيث تبدو مسألة تصنيفية عملية بالغة الصعوبة ، فالراغب فى تصنيفها يبدو كمن يحاول وضع البحر فى زجاجة .
- ويبدو وصف الدكتور أشرف رضا ، الرئيس السابق لأكاديمية الفنون المصرية فى روما ، هو الأدق فى التعامل مع أعمالها .حيث وصفها بصاحبه المشروع الفنى الطويل ، الذى عبر مراحل متعددة ووثق تاريخ مصر وفق رؤيتها .
- درست جاذبية بشكل أكاديمى ولم تعتمد على الدراسة الحرة مثل رفيقاتها ،بل امتد شغفها بالدراسة إلى حد الحصول على بعثات تعليمية متتالية طافت بها عواصم العالم ، لكن دراستها فى لندن وإقامتها فى باريس ساعداها أكثر من أى شىء أخر .على صياغة عالم أكثر جاذبية وأوسع تأثيرا.
- بدأت رحلة تقليدية بالدراسة .داخل المعهد العالى للمعلمات الذى كان نواة لتأسيس كلية التربية الفنية فى مصر .وهى الكلية التى ظلت حريصة كل الحرص على التواصل مع طلابها .وتقديم جائزة سنوية تحمل اسمها لأفضل الأعمال التى يقدمها الطلاب.
- ولدت بحى بولاق فى 1925 ، ونالت دبلوم الفنون الجميلة ، عام 1948 .ثم دبلوم التربية الفنية عام 1949 ، واستكملت دراستها العليا فى فن التصوير باريس ، لدراسة الرسم بالألوان عام 1950 ثم انتقلت إلى روما عام 1952 ثم إلى كلية سليد بلندن ، حيث حصلت على دبلوم الدراسات العليا عام 1955 .كلية ميلد بجامعة لندن عام 1954/ 1955 ، وبعد عودتها من أوروبا عملت مدرسة تربية فنية بمدارس المعلمات العليا ، إلى أن أصبحت أستاذة للتصوير بكلية التربية الفنية ، جامعة حلوان حتى عام 1981 ، ثم بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عامى 1981 ، 1982 .
- برزت جاذبية كمصورة رائدة ، وأقامت طوال حياتها التى امتدت لنحو قرن ما يزيد على 75 معرضا ً فردياً بخلاف العديد من المشاركات بمعارض جماعية فى مصر وخارجها .
- نقل رضا على صفحته بــــــ` فيسبوك ` رأيا للناقد الإيطالى الراحل ` كارمينى سينسكالكو ` فى أعمال الراحلة حيث كتب مؤكداً فى تقديم أحد معارضها فى إيطاليا ` إنها من معالم البانوراما المصرية للفن النسائى ` مضيفا ` اختارت أن تبقى أعمالها مسطحة ،مما يعطى اللوحة إيحاءً بالتجسيم ، ودعمت لوحاتها بالألوان الخافتة الهادئة ، وحددت رسومها بخطوط داكنة ، وبهذا الأسلوب الخاص تستطيع أن تقنع المتلقى بالشكل الظاهر والمضمون الخفى .
- من الصعب حصر إنتاج الراحلة حصراً دقيقاً ،لأنه كان غزيرا بشكل غير مخيل ، بالإضافة إلى أنه كان مثار إعجاب ومجالاً للإقتناء الشخصى ، غير أن سعداء الحظ هم من شاهدوا هذا المعرض الاستعادى ، الذى ضم أعمالاً لها تمثل مراحلها المختلفة .
- شمل المعرض العديد من لوحاته التحضيرية ` سكتشات ` و` لوحات بالألوان المائية ، والجرافيك ، وبدأ من خلالها أن أعمالها اتسمت بالإستجابة الواعية لتحولات التصوير المصرى الحديث ، وأبقت على أصالة فنية لا يمكن تفاديها .فإلى جانب نزعة واقعية طغت على إنتاج أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات بسبب الالتزام بالقضايا القومية ، مالت تدريجيا إلى السوريالية ، وفى مرحلة أخرى نحو التعبيرية التجريدية .
- تنتمى سرى إلى جيل المصورين المصريين المتميزين ، وتقف فى المكانة نفسها التى تصنف فيها أعمال حسن سليمان وحامد ندا وعبد الهادى الجزار ، ومثل هؤلاء كانت ابنه المناخ السياسى ، الذى أوجدته ثورة يوليو 1952 وشعاراتها التى دارت حول العدالة الإجتماعية وبالتالى فهى ابنة مفهوم للإلتزام الفنى ، حيث عبر هؤلاء عن قيم الثورة ، لكن بأساليب فنية مبهرة ، أظهرت قدراتهم فى التفاعل دون إنتاج فن تبشيرى .
- تولى فنانو هذا الجيل ، مهمة الانتقال من التأثيرية التى كانت بلغت قمتها مع راغب عياد ، إلى التعبيرية الإنسانية ، واستثمار ما أنجزه محمود سعيد ، كمصور رائد فى تمصير التشكيل ، وبالتالى العمل على توسيع جماهيرية الفن التشكيلى .والتعبير عن مشروع دولة يوليو ، كدولة راعية للفن بعد أن تبلور مشروع التفرغ الذى أوجده وزير الثقافة المصرى الشهير ثروت عكاشة، وأتاح خلاله للفنانين والمبدعين فرصة التفرغ لإنجاز أعمالهم وكانت جاذبية واحدة من هؤلاء لعدة سنوات كما كانت من بين الفنانين الذين طلب منهم عكاشة ، توثيق الحياة فى القرى النوبية قبل بناء السد العالى .
- اتجه فنانو تلك المجموعة نحو الواقعية التعبيرية وشغلهم السؤال حول الالتزام بالقضايا القومية والتعبير عنها فنيا ، إلى جانب تناول موضوع الهوية ، وظهرت لوحات تنتمى إلى ما يسمى بـ ` الفانتازية الشعبية ` ، وهو الخط الذى أنجزه بامتياز عبد الهادى الجزار .
- وفى السياق شهدت لوحات سرى ، تطورات وانتقلت من التأثيرية التعبيرية إلى استلهام الموضوعات الشعبية لكن من دون حصرها في الإطار الفلكلورى ، وخلقت ما يسميه الناقد فاروق بسيونى ` الحداثة الواعية ` التى تضع فى اعتبارها موضوع الهوية ، ومكاسب التعاطى مع المخيلة الشعبية وخلق الروح المصرية `، والأستناد على مكونات وثيقة ثقافية أصيلة ، ولذلك ظهرت فى أعمالها ما يسمى بـ ` التعبيرية المصرية ` ، الخالصة ، وتعطى مجموعتها الشهيرة ` الألعاب الشعبية `دليلا على ذلك ( الحجلة / والأستغماية ، والطفلة والطائرة 1960 ). وهذه اللوحة بالذات نالت شهرة كبيرة بعد أن حصلت صاحبتها على بطاقة العضوية البلاتينية بمتحف ` البتروبوليتان ` بنيويورك ، وهو من أكبر وأهم المتاحف العالمية المخصصة للفن الحديث.
- لم تخل لوحات الراحلة من حيوية ، وصخب وطزاجة وروح مصرية بارزة فى شكل اللوحة ومضمونها ، مع تأثر واضح بتوجهات المدرسة السوريالية المصرية . خصوصا أعمال سمير رافع ، لكنها مضت أكثر باتجاه التخلص من الطابع التجريدى الخالص ، والبحث عن صلات للتزاوج بين التعبيرية المصرية ومعطيات الحداثة الغربية.
- ويرجع النقاد هذه القدرة بسبب الروافد التى غذت مخيلة الفنانة .ويركز بسيونى فى الكتيب الذى أعده لصالح هيئة الاستعلامات على تأثر جاذبية بفنون الأرابيسك العربية ، وفهمها العميق للإيقاع فى بناء اللوحة ، فضلاً عن الارتباط بالطبيعة .وما تمثله وبد هذا التأثر عميقاً فى المراحل الأولى لإنتاج جاذبية حيث برزت العلامات الزخرفية قبل أن تتمرد عليها لتخلق واقعية خشنة ، تنسحب منها تصاوير الشخوص إلى الخلفيات للتحول إلى عناصر مهمة داخل أبنية تجريدية ، ينتقى فيها التسطيح الزخرفى تماما، إلى لمسات تصويرية غنية ، وتعد تجربة البيوت هى الأغنى فى تجربة الراحلة ، حيث بلورت فيها رؤيتها التشكيلية بوضوح ، وشملت أيضا بحثا فى التجريد والتكعيبية وعلاقتهما بالطبيعة ، وبعد ذلك جاءت مرحلة الصحراء بسكونها وإيحاءاتها الصوفية .
بقلم : سيد محمود
مجلة : الأهرام العربى ( 19-11- 2022 )
مصر فى لوحات الفنانة.. جاذبية سرى
- إن جاذبية سرى من القلة القليلة بين فنانينا.. هؤلاء الذين صنعوا من لوحاتهم أوتارا تعزف عليها مصر.. تحس أملها وآلامها..
- من يصدق أن فنانتنا الكبيرة: جاذبية سرى كانت ترسب وتطرد من حصصها طوال سنوات التعليم العام، قبل ألتحاقها بمعهد التدبير المنزلى؟ التربية الفنية فى ذاك الزمان منذ نيف وثلاثين عاما.. كانت محصورة فى رسم النماذج الموضوعة أمام التلاميذ رسما فوتوغرافيا. كان المدرس يضع أمامهم قلة وكوبا وربما بعض المكعبات الخشبية.. ثم يطلب إليهم رسمها بالقلم الرصاص..
- كل هذا تغير الآن. لكن المهم أنه أمر لم يتفق مع طبيعة الطفلة.. ثم الفتاة: جاذبية المتدفقة المتفجرة.. التى تشعر بأن ثمة أشياء تعتمل بداخلها وتهزها.. فتعبر عن كل ذلك رغما عنها فى كراسات الرسم فكان جزاؤها الرسوب والطرد - كانت كالبذرة الصالحة القوية.. تريد أن تشق الأرض شقا لتورق وتثمر.. كأنما تدرى أن لديها ما تعطيه لهذا العالم فجاذبية سرى تعتبر من رائدات فن الرسم التصويرى الحديث فى بلادنا، جنباً إلى جنب مع كبار فنانينا وفناناتنا. إنها واحدة من أبرز شخصيات الجيل الثانى.. بعد يوسف كامل وراغب عياد وأحمد صبرى ومحمد ناجى.
- رحل والدها منذ نعومة أظافرها: ولكنها ورثت عنه مكتبة ضخمة.. بالإضافة إلى مكتبة عمها الحافلة بمجلدات العلوم والآداب ودائرة المعارف البريطانية.. هكذا شب عقلها في رحاب علوم الإنسان وخصب خيالها في عالم التأمل الذى تعلمته من وصايا اليوجا. لقد ساعدها كل ذلك على التوجه إلى طريق الرسم التصويري، وبخاصة وأن أعمامها وأخوالها وإخواتها كانوا يهوون هذا الفن بدورهم.
- إن جاذبية فى إبداعها الفنى مصرية نادرا ما نرى لها مثيلا بين مصورينا، من حيث إنها ارتبطت بالحركات الإجتماعية والوطنية التى خاضتها بلادنا قبيل النصف الثانى من القرن.. وتخوضها حتى الآن، فما كادت تبلغ الثامنة عشرة حتى كانت قد استوعبت دروس الحياة ومعارفها، وأصحبت مستعدة عقليا ونفسيا وجسديا لأحتراف الرسم التصويري درست هذا الفن في القاهرة.. وباريس.. وروما ولندن، وتلقت الكثير من المنح الدولية والمحلية وآخرها منحة التفرغ الفنى لمدة ست سنوات من وزارة الثقافة ونالت جائزة الدولة التشجيعية فى 1970: كما اقتنت الولايات المتحدة بعض روائعها لمتحف العلوم والفنون.. أما محليا فيضم متحف الفن الحديث بعض أعمالها إلى جوار أعمال كبار فنانينا.
- ولجاذبية سرى طابع خاص فى إبداعها لا تخطؤها عين المشاهد مهما اختلطت لوحاتها بمئات الأعمال في المعارض الكبري. لا يخطئ المشاهد تلقى رسالة الفنانة.. أو الاستجابة لإحساسها الشرقى المصري. يرجع ذلك إلى موضوعيتها الواضحة فى مطلع مشوارها الفنى حين أقامت أول معارضها سنة 1949. قدمت حينذاك لوحاتها الشهيرة التى وضعتها فى دائرة الضوء وبشرت ببزوغ نجمة جديدة فى أفق الحركة الثقافية المصرية. قدمت بعد ذلك لوحات: أم رتيبة - أم عنتر - أم الولد - أم صابر - المراجيح الطيارة، وغيرها من الموضعات الريفية والشعبية. لفتت الأنظار بما حققته من تكامل بين الخطوط والألوان والموضوع المرسوم، لتكشف في عنف عن أصالة المرأة المصرية صانعة الرجال.. كانت لوحاتها كأنها رجع الصدى لما كان يجتاح بلادنا من رياح الثورة والصحوة والتحرر. حتى أن لوحة `أم صابر` لم تعبر ببساطة عن شهيدة مصر التى أغتالتها براثن الأستعمار وإنما عكست مشاعر الملل من القيود.. والتحفز للأنفجار.
- أما لوحاتها بعد النكسة فاكنت بكاء مرا وعويلا وشعورا بالخزي.. من بينها رائعة لفتاة عارية منكفئة علي وجهها تخفيه براحتيها حتى لا ترى الخطب الجلل.. ومن حولها تزاحمت بيوت متواضعة نوافذها مغلقة وجدرانها مفككة متداعية. بيوت خاوية.. إلا أنها تبدو كأنها كائنات حية تحملق فى رثاء نحو الفتاة الطفلة التى لا تجد ما تفعله سوى البكاء والنحيب. وفى قاع اللوحة حشد من الوجوه الحزينة الحائرة وكأن الفتاة العارية الباكية تجسيد مرئى لأفكار تلك الوجوه.
- المأساة عند جاذبية ليست بتلك البساطة الظاهرية. فلا شك فى أن ثقافة الفنان وذكائه وسعة مداركه على علاقة أكيدة بما يبدعه من أعمال.
- وككل فنان ينطوى على طاقة هائلة مهما بدا عليه من هدوء، وكانت جاذبية فى يفاعتها، لا تدرى أين توجه تلك الطاقة العارمة التى تتفجر بداخلها. كانت ترقص.. وتغنى. وتهرع إلى سطح بيتها فى شارع نور الظلام بحى الحلمية القديمة بالقاهرة، لتنحت التماثيل من قطع الصابون والحجر وكانت تقضى أجازتها في الفيوم حيث ولدت تملأ عينيها النهمتين من مشاهد الريف.. وتختلط بالقوم البسطاء.. وإذا توافد العرسان على بابها يطلبون يدها.. هربت من لقائهم وكأنها تدرى أن ثمة طريقاً آخر رسمه لها القدر، لم تتزوج إلا بعد أن وضع قدمها على أول الطريق الصعب.. وحين تزوجت.. تخيرت العالم المفكر الذى يتيح لها الاستمرار.
- ألحقتها الأسرة بمعهد التدبير المنزلى حتى تحسن الطهو وإدارة البين وتربية الأطفال. لكن القدر كان له قرار آخر. فسرعان ما تم تحويلها إلى المعهد العالى للفنون الجميلة. ولم يكن ذلك المعهد فى ذاك الزمان ملاذا للفاشلين فى الحصول على مجموع عال فى الثانوية العامة: بل كان يتطلب إجتياز مسابقة تكشف عن المواهب والاستعدادات، فتفوقت جاذبية على كل أترابها.. وأصبح معهدها الجديد كل عالمها الذى حلمت به.
- اختلط الفكر بالفن بالفلسفة.. وإختلطت المشاعر الوطنية بالحياة الاجتماعية.. التجارب الإنسانية بالتأمل الذاتى.. الأسلوب المصقول بالموهبة الخلاقة، ليسفر كل ذلك فى النهاية عن تلك الروائع التى تجمع بين الواقع والخيال.. إستطاعت جاذبية أن تحل المعادلة الصعبة التي تربط بين المضمون الإنساني والصفة الجمالية - بأسلوب متميز ينتمى إلى تراثنا الفنى.. فى شكل معاصر يلقى نجاحا خارج الحدود.
- بعد أن ذاعت شهرتها.. دعتها مؤسسة التفرغ بكاليفورنيا بأمريكا لتقيم بأمريكا ثلاثة أشهر فى خاصة مزودة بكل خامات الرسم وأدواته. فأبدعت مجموعة من المناظر الطبيعية لاقت نجاحا واسعا حين عرضتها في مدينة سان فرانسيسكو.
- والمناظر الطبيعية بالنسبة لجاذبية ليست أشجارا وأنهارا ووديانا.. إنها كل ذلك ممزوجا بحديث الخطوط والملامس.. وضربات الألوان المغموسة فى الأنفعال والإسقاط الفوري والحنكة التقنية. فبالرغم من عشقها للموضوعات الإجتماعية إلا أنها سريعاً ما تركن إلى أحضان الطبيعة - تتأملها - وتتأمل ذاتها على طريقة اليوجا التى درستها فى يفاعتها.. إنها تدرك حديث الطبيعة شأن كبار الفنانين. فالطبيعة - كما يقول ماكس أرنست - `تحدثنا بلغة صامتة.. هي لغة الأشكال` لذلك فجاذبية دائمة الترحال. لم تكد تعود من أمريكا حتى غادرت القاهرة إلى النوبة سنة 1965، حيث عاشت تجربة الموت والحياة تجربة التضحية بالغالي من أجل ما هو أعلى. فأبدعت مجموعة من اللوحات تشتهر من بينها رائعة (النوبة الغريقة) التى أقتناها متحف الفن الحديث.
- صورت فى تلك الرائعة سيدة نوبية جميلة متزينة بالحلى.. مغمورة حتى الوسط بالماء.. تحوطها العمائر والنجوم والأقمار ومعالم الخير والمنتظر.. كأنها عروس النيل فى الأسطورة المصرية القديمة.. تضحى بحياتها من أجل كل الناس.
- .. من ورما إلى لندن إلى كاليفورنيا.. إلى كندا إلى الواحات المصرية إلى الفيوم.. إلى ساحل البحر الأحمر حيث ترسم وتصطاد السمك.. إلى كل مكان تنطلق الفنانة بجسمها الضئيل ونشاطها الجم.. حاملة ألوانها واقلامها - وقلبها الكبير - ومشاعرها المرهفة ومقدرتها الإبداعية والتقنية وأسلوبها المتميز.. وبعض المؤلفات الأدبية والفلسفية. تلك هى حياة جاذبية سرى طوال نيف وثلاثين عاما خلال مسيرتها الإبداعية انتقلت جاذبية من أسلوب فنى إلى أسلوب آخر لأكثر من مرة. لكنها أبدا لم تفعل ذلك عامدة متعمدة، ولا محاكاة لصيحات العصر على سبيل الموضة. إنها تفعل ذلك استجابة لمكتشفات تقنية جديدة ترى أنها أكثر ملائمة لإخراج خيالها وأفكارها إلى عالم الواقع المرئى. فبينما كانت لوحاتها الأولى تعتمد على الموضوع الواضح، والمعالجة الصريحة للألوان والخطوط.. والرمز الملموس. نراها تحولت إلى التلخيص البليغ.. والإيجاز الفصيح - والإشارة المفعمة بالمعانى.
- فى لوحاتها ما بعد النصر، فى خطوطها وألوانها ووحداتها.. نتبين أشكال نساء ورجال وأطفال، تطالعنا فى مرح وفرح بين القباب والمآذن والنوافذ المشعة بالنور، ونشعر بالألفة نحو تلك البيوت المتجسدة فى أنحاء اللوحة. هكذا لوحات جاذبية دائما كأنها رجع الصدى لما يغمر شعبنا من أمل وتشوف. ولا شك في أن عظمة الفنان تكمن فى أن تكون لوحاته كالأوتار التى يعزف عليها شعبه أنشودة الأمة وآماله.. لم تكد جاذبية تعود من كندا حتى مضت/ من فورها إلى الواحات المصرية: الخارجة والداخلة والبحرية.. صورت خلال رحلتها تلك عشرات اللوحات: سميناها فى حينها `حديث الرمال` كانت مجرد صخور وجبال. ورمال وتلال - ظن بعض النقاد أيامها أن الفنانة غرقت فى موضة التجريد. إلا أن المتأمل المتعمق: كان يكشف فكرة الموضوع الذى بالغت فى إخفائه كأنه لؤلؤة فى محارة. إختفى الموضوع خلف غلاف كثيف من الملامس والألوان والخطوط مما يتطلب من المشاهد عينا مدربة وخيالا خصبا. ست وثلاثون لوحة.. عرضتها جاذبية آنذاك `1975` لم تطلق عليها أسماء مما زاد فى بلبلة المتتبعين لإبداعها - ولكنها فى الواقع كانت تشف عن حيرة الإنسان في مواجهة قوي الطبيعة التى لا يملك إزاءها تغييرا.. وشعوره بالوحدة فى هذا العالم المعاصر الذى ينشغل فيه الإنسان عن الآخرين - كان معرض حديث الرمال مهرجاناً من الخيال الرمزى.. والإيماءات والإشارات البليغة.
- لا أسماء لتلك اللوحات أو `الكائنات` إنما هو اسم واحد تندرج تحته جميعاً `الزمان والمكان` كل لوحة تعبير عن حالة وبخاصة زمن محدد ومكان معين بالإضافة إلى حالة مزاجية لذات الفنانة. فالعمل الصادق يحمل دائماً روح الفنان وإبداع الفنانة هذا العام.. وغيره من خمس سنوات غيره من عشر. الزمن يتغير - ومصر تتغير - والعالم يتغير والفنانة ذاتها تتغير - لا يدوم سوى القيم التشكيلية المستخلصة من الحياة المحلية: المناظر - أشكال المبانى - التقاليد الموروثة - القرى - الآثار الطبيعية الزراعية - البيئة الشعبية - ملامح الناس والأزياء والأصوات - حتى الروائح - رائحة الحلية ورائحة البخور - إلخ. كل هذا الذى نسميه مصر، هو ما تصوره الفنانة الآن بالأسقاط المباشر حتى يصبح حقيقة مرئية. لكن الخلفية التى تتحكم فى هذا `الإسقاط` هى الدراية.. والدربة.. والحنكة. والأسلوب المصقول.
- الواقع أننا لو رجعنا بالذاكرة إلى السبعينيات، نجد أن الفنانة كانت تسمى لوحاتها. وأنا اعتبر أن الأسم بمثابة مفتاح الصول للمعزوفة التشكيلية إن صح التعبير.غير أن جاذبية الآن: تطلق على جميع لوحاتها عنوانا واحدا: `الزمان والمكان`. وهو عنوان مطلي مجرد، وكأنها تترك للمشاهد أن يرى الموضوع الذى يريده، وهو طريقة ماكرة يخفى بها بعض الفنانين مشاعرهم الخاصة جداً أثناء العملية الإبداعية. وربما تعبر جاذبية فى لوحاتها الأخيرة عن اختلاط المجتمع المصرى.. بل والعالمى. إختلاط الحابل بالنابل - واختلاط القيم والأخلاقيات، فى تلك الحقبة التاريخية فنحن نفهم أن المجتمع الإنسانى فى حالة انتقال من مرحلة الأستقرار التى عاشها طويلاً وجاذبية فى أحد جوانبها تعكس هذا الوضع الأنتقالى الذى يتسم بالهرولة وتزاحم الآمال وتسارع الإنجازات. أنها تعبر عن التغير المتسارع للمجتمع والبيئة، والتغير المادى الذي يصحب معه عادة التغير المعنوى، فتختلف الأشكال والمفاهيم. حتى أن آخر لوحاتها لا تتيح للمشاهد بيسر أن يفرق فيها بين رأس إنسان ورقبة مسجد أو برج كنيسة. توزعت أجزاء الشكل الإنسانى بين أجزاء الشكل المعماري والمنظر الطبيعى.
- إنها نوع من التجريد لأنه من حيث إنه تحريف الشكل الفوتوغرافى. لكن جاذبية لا تؤمن بالتجريد لأنه في رأيها محروم من البعد الإنسانى. والواقع أن اللوحة التصويرية ينبغى أن تكون عملاً درامياً، حتى تلعب دوراً في الحياة الثقافية، ولا تصبح مجرد عنصر من عناصر الديكور والزينة. وإبداع جاذبية سرى درامي من الدرجة الأولى، يستطيع المشاهد أن يتبين فيه الشكل المفهوم والرمز الواضح فضلاً على الأسلوب المصقول. ولا يكاد يتأمل لوحاتها حتى يسبح خياله ويغوص داخل الأشكال والعناصر، وتستمتع عيناه بالنظم اللونية والتقاسيم الخطية.. ويعيش فى عالم جديد هو عالم جاذبية سرى.. الذى تحياه فى داخلها ثم تمنحنا سعادة مشاركتنا إياه، حين تخرجه فى لوحاتها.
- ومسكن الفنانة بزمالك القاهرة كأنه استديو، تزاحم فيه مئات اللوحات الأثاث الفاخر الذى لا تستطيع أن تتبينه بوضوح. صحيح أنها حولت إحدى الغرف إلى مرسم.. لكنه مرسم طماع.. يمد نفوذه إلى كل مكان فى البيت ويستحوذ على الجدران جميعاً. لا تترك اللوحات أي جدار إلا حين تبرز رفوف الكتب الحافلة بأنواع المعرفة.. أو رفوف التحف التى تعود بها الفنانة من رحلاتها. ثم ركن الصوتيات حيث تقبع روائع النغم الشرقي والغربى والكلاسيكيات، مسجلة على اسطوانات أو داخل الكاستات وشرائط التسجيل القديمة. كل ذلك يحتاج إلى تنظيم وترتيب لكن.. لا وقت إلا للإبداع والحب.
- آخر معارضها كان فى عام 1994 فى مجمع الفنون بالزمالك وتعد لمعارض أخرى فى مصر والخارج. وقد عرضت لأول مرة لوحات ملونة من الحفر على الزنك إلى جوار لوحاتها الزيتية الجديدة.. ومن المعروف أن الفنانة درست الطباعة على الحجر أو الليتوجراف.. وهو نوع من فن الحفر. لكن لوحاتها القادمة ستكون إبداعاً تقليدياً، أى حفراً بالإبر على ألواح الزنك.
- لم تحاول جاذبية أن تكون إنسانة أخرى غير نفسها أو تندرج تحت اتجاه فنى معين.. عالمياً كان أو محلياً. إنها تعبر عن نفسها بصدق.. وتعلم أن هذا الصدق هو دليلها إلى سجل التاريخ.
الناقد: د./مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول )
 
السيرة الذاتية  | الأعمال الفنية  | حول رؤية الفنان  | تعديل سيرتك الذاتية  | الرجوع لشاشة البحث