الفنان الناقد يسرى القويضى:الحداثة التشكيلية لم تأتى لتحل محل القديم.. وإنما لتُثرى المشهد وتضيف إليه
- حوارات `القاهرة` مع فنانين يُشكلون علامات فى حركة التشكيل المصرى المعاصر (3)
- من الأشكال الحداثية التى لم تلق اهتماما فى مصر
- فى الستينيات كانت التجهيزات فى الفراغ اول صور الحداثة التي شاعت في مصر
- فن البيرفورمانس أول من قدمه الوشاحى
- فى عرضه فى بينالى فينيسيا عام 1980.
- نواصل حوارات `القاهرة` فى صفحة `أتيليه` مع فنانين فى مختلف مجالات التشكيل شكلوا بمشاريعهم الفنية علامات مؤثره فى حركة التشكيل المصرى المعاصر.. نقدمهم لنقرأ من حواراتهم أفكارهم وتوجهاتهم الفكريه والفلسفيه والفنيه التى شكلت هيكل مشوارهم الفنى.. ونقدم هذا العدد الحوار حول الحداثة فى الحركة الفنيه المصريه مع الكاتب الفنان يسرى القويضى.
- العمل الدبلوماسى وممارستك لفن المجسم ونقد فنون المعاصره وكتابة سير الفنانين.. ما الخيط الرابط لتعدد هذه الإهتمامات..؟
- القويضى: نشأت في مناخ عائلي يقدر الفن شجعتني اسرتي علي تنمية حبي للرسم.. فأصبح امتع وسائل التعبير عندي.. كان والدي وخالي يهويان تصوير لوحات زيتية تعلمت منهما الكثير وعمري 9 سنوات.. وظلت هوايتي للرسم والتصوير تلازمني أثناء دراستي الجامعية بكلية التجارة جامعة القاهرة.. بعد تخرجي من الجامعة عام 1961 انتظمت في الحصص المسائية بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة.. ورتبت حياتي بين العمل بوزارة الاقتصاد بالصباح ودارسا للفنون بالمساء.. وداعبني القدر فسلط والدتي تحثني بإلحاح علي التقدم لامتحان وزارة الخارجية فتقدمت فقط لإرضائها.. وبعد انتظامي بالسلك الدبلوماسي عام 1962 نقلت للعمل بالخارج.
- وزمانياً.. متى حدثت نقطة التحول تجاه فن الوسائط والخامات غير التقليدية.. ومن أول فنان أثار إنتباهك لهذا الإتجاه؟
- القويضى: قضيت ثلثي عمري الوظيفي دائم الأسفار لمدد طويلة وممتدة أتاحت لي الفرصة لأنهل وارتوي من فيض حداثي ثقافي وفني واسع أدهشني وأثار اعجابي.. وجذبتنى مشاهدتي لأول مرة أعمال الفنان الفرنسي فرنانديزآرمان (1928-2005) في بنيالي فينيسيا عام 1968 وكيف صاغ عملا فنيا من آلة كمان مهشمة.. من وقتها ظلت فكرة الخروج عن القديم واستخدام الخامات غير التقليدية تشغل بالي ومما زاد من ترسيخ الفكرة لديّ هو مشاهداتي لأعمال كل من الفنانين جوزيف كورنيل (1903-1972) وتوم ويسلمان (1931-2004).. فاستهوتني فكرة الوسائط غير التقليدية وتسربت الي نفسي.
- الوسائط غير التقليدية إذن كانت مدخلك للبحث فى تاريخ فنون الحداثة؟
- القويضى: ارتبط ظهور الحداثة بعوامل سياسية ومجتمعية.. بالإضافة الي التقدم الصناعي والتقني فقبل نشوب الحرب العالمية الأولي عام 1914 كسر الأدباء والمفكرون والفنانون في أوروبا القواعد الحاكمة السائدة لعدم رضائهم عنها.. فظهرت الحركة المستقبلية وحركة الدادا.. ومدرسة الباوهاوس.. واتجاهات التعبيرية والتكعيبية.. وكل تلك التغيرات بذرت بذورا فكرية وفنية متمردة لم ترض عنها السلطات الحاكمة.. وكمنت بذور تلك الحركات تحت السطح خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين.. وعادت لتنبت ثمارها من جديد في خمسينيات القرن العشرين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. والتي نضجت في أجواء سادت فيها أجهزة البث الإلكتروني.. والرقمية.. ومفاهيم المحافظة علي البيئة.. واجتياح المد الديموقراطي.. كل تلك المظاهر غيرت من فكر المثقفين المعاصرين وفنهم وبدأنا نشاهد صنوفا جديدة من الف أساليب التعبير الفني بجانب التصوير والنحت التقليديين.
- وما دافع تحولك للكتابه خاصة عن الإتجاهت الحداثية العالمية؟
- القويضى: منذ ستينات القرن العشرين كنت أنفذ أعمالاً مجسمه وإلى الآن بإستخدام وسائط غير تقليدية ومعها فى نفس التوقيت كرست جانبا من وقتي للكتابة عن الاتجاهات الحداثية العالمية التي خبرتها عن قرب لأني شعرت أن المهتمين بالفن في بلدنا يحتاجون للتعرف عليها.. وتحدثت في كتاباتي عن الحداثة والفنون البصرية المعاصرة.. فقد شعرت أن ذلك واجبا الزم به نفسي لتنبيه الحركة البصرية المصرية لما جري وما زال يجري في الحركة الفنية العالمية من تطورات.
- هل اشكال الفن الحداثيه وما بعدها تدفع لحالة تأمل.. أم لفقدانها الجماليات أصبحت تمثل ضغط شديد على المشاهد العربى وربما الأجنبى؟
- القويضى: لم تعد الفنون البصرية المعاصرة مقصورة علي ابراز الجوانب الجمالية للأشياء والالتزام بالقواعد الكلاسيكية المألوفة.. لكنها صارت وسيلة للتعبير عن الأفكار والمفاهيم تستخدم وسائطا غير تقليدية وأساليبا غير مألوفة.. وعلي سبيل المثال فحتي التدمير وتهشيم الأشياء اصبح أحد وسائل التعبير كما وأن الصمت أعتبر من اعمال البرفورمانس.. ولا ننسي عمل الفنان جون كيج (1912- 1992) المعروف باسم (33و4) الذي أنجزه عام 1952، وهو عبارة عن عازف بيانو يتهيأ ليعزف مقطوعة من ثلاث حركات.. فكان يحرك يده وكأنه يعزف.. ويستمر المشهد صامتا (لا تصدر أصواتا من البيانو) لمدة أربعة دقائق وثلاثة وثلاثون ثانية.. وبعد انقضاء تلك المدة يحيي العازفا لجمهور وينصرف.
- وقد قوبلت تلك المقطوعة بسخط واستهجان في عرضها الأول.. ويبدو أن الهدف كان هو تحفيز المتلقي للتأمل والتفكير وقد قال جون كيج أن صمت البيانو جعل الجمهور يستمع الى ما يفكر ونفيه وينصتون لصوت البيئة المحيطة بهم.
- هل إذن أى شئ يمكن أن يكون فناً بما يقرره الفنان.. مثلما قرر الفنان `كاتلان` أن يجعل موزته الملتصقة فوق الجدار عمل فنى؟.. هل تراها فوضى الرؤيه أم هى بالفعل فن؟
- القويضى: من الأمثلة الصارخة عرض الفنان كاتلان (1960) لموزة ملصقة علي الحائط.. إن ما فعله كاتلان يماثل مع ما عرضه الفنان مارسيل ديشامب (1887-1968) لمبولة علي أنها عملا فنيا.. كلاهما يباغت المشاهد بصدمة لمراجعة التفكير والتدبر في أحوال عالم اختلطت فيه المفاهيم وتعقدت لقد اصبح للفن وظيفة جديدة وهي العمل كجرس إنذار ينبه للمخاطر التي تحيط بعالمنا المعاصر لعلنا نتدبر.
- ما موقع الحداثة وتمددها فى مجالات مختلفه مع تجارب المفاهيمى؟
- القويضى: بدءا من السبعينيات أصبح هناك نوعا مختلفا من الفن لا يعتمد علي الشكل والخامة فقط وإنما يعتمد علي الأفكار والمعاني.. أعمالا لا يمكن الاحتفاظ بها.. لا يمكن اقتناؤها.. واعمال تشاهد لمرة واحدة فقط.. وأخري لا يمكن وضعها داخل القاعات لضخامة حجمها وحاجتها لأماكن عرض خاصة بها.. بل أن بعضها اصبح ملتصقا بالمكان كجزء من الطبيعة.. ولا يمكن إنكار أن الحداثة في الفنون البصرية هي بمثابة مظلة متسعة تنضوي تحت ظلها اشكالا متعددة.. منها فن البرفورمانس/ وفن الحدث/ والفن الحركي/ والتجهيزات في الفراغ/ والتجهيزات الصوتية/ وتجهيزات الفيديو/ وفن البيئة/ وفن الأرض وغيرها.. وتعتمد تلك الأشكال في التعبير علي وسائط غير مألوفة وغير تقليدية ومنها الأشياء العادية في حياتنا اليومية من أدوات وسلع وصور فوتوغرافية وخرائط وشرائط فيديو ونماذج بيانية وإحصائية بل وحتي النصوص اللغوية..
- الحداثة المصرية
إن ارتبط ظهور الحداثة فى الخارج بعوامل سياسيه وإجتماعية.. فبما إرتبط ظهور أو وصول للحداثة إلى مصر؟
- القويضى: ارتبط ظهور الأشكال الحداثية في العالم الغربي مع التطورات السياسية بشكل عام.. وتفاعل الفنانون بالأحداث والتعبير عنها بحرية.. والملاحظ والواضح فى مجتمعاتنا إحجام الفنانون لدينا عن التعبير عما يشعرونه تجاه الأحوال السياسية والاجتماعية.. فيما عدا محاولة جريئة قامت بها الفنانة `أمال قناوي` بعرض فيديو لبرفورمانس عام 2010 يصور مجموعة من الناس من (الشعب) تزحف في الطريق العام كالأنعام.. مما عطل حركة الشارع.. وقد تعرض هذا العمل لتدخل مباشر من الشرطة وتم إيقافه.. لقد كان هذا هو العمل الحداثي الوحيد - حسب ما أتذكر - الذي تناول واقع سياسي في بلدنا ولم يجرؤ أحد من الفنانين بعد ذلك ليخوض مثل تلك الأعمال.
- الفن الحداثى فى مصر يخفت صوته حالياً أم يرتفع؟
- القويضى: لقد شهدت الفترة التي قاد فيها الفنان الراحل محسن شعلان (1951-2014) حماسا ورواجا لتشجيع الفنانين الشباب لتقديم أعمالا حداثية مفاهيمية.. فنظم عروضا تختص فقط بالأعمال الحداثية المعاصرة.. لكن للأسف ضعف الحماس برحيله وفضل من خلفوه عدم التوسع في الانفاق علي الأنشطة الحداثية سواء بإرادتهم أو بحكم الظروف الاقتصادية الضاغطة التي خفضت من ميزانية وزارة الثقافة.
- هل من مجالات حداثية لم نتعامل بها فى مصر.. ربما بدت مؤجله؟
- القويضى: `فن الأرض` و`الفن البيئي` من الأشكال الحداثية التى تعنى بالأعمال الصرحية التي تقام فى بيئات طبيعية ولها في الغرب نماذجا مهمة ومشهورة لكن لم يلق هذا النوع اهتماما في مصر.. ربما لأن تشييدها يتطلب نفقات مادية كبيرة.. ولصعوبة الحصول علي التراخيص والموافقات الأمنية اللازمة لتشييدها.. فضلا عن عدم تيقن الجمهور من جدواها.. ويعتبرها ترفا لا داعي له وهدرا للموارد في وقت يمكن الاستفادة منها فى نواحى اخرى.
- والمدهش أن لدينا جذورا لـ`فن الأرض` بمصر القديمة. فإذا نظرنا من الناحية الفنية (بغض النظر عن الناحية الوظيفية) للأهرامات وأبو الهول ومعابد أبوسنبل سنجد أنها لا تخرج عن كونها تدخلا وتفاعلا فنيا من الإنسان مع الطبيعة لتشييد تلك المعالم الصرحية العظيمة.
- وأشكال فنون الميديا كيف بدت كنشاط إيجابى داخل حركة التشكيل المصرى؟
القويضى: في الستينيات بدأ عدد من الفنانين بالغرب في استخدام الفيديو كوسيط للتعبير الفني.. وانتقلت تلك الظاهرة الينا في اوائل التسعينيات علي يد الفنان حسن خان (1975) والفنان شريف العظمة (1975) ومن بعدهما برزفنانون منهم (آمال قناوي/ وائل شوقي (1971)/ هالة القوصي/ معتز نصر (1971)/ خالد حافظ (1963)/ سوزان هيفونا (1972) شادي النشوقاتي (1971) حسام هدهد (1978) وآخرون.
- والملاحظ أن فورة استخدام الفيديو كوسيط في الفنون البصرية خَفُتَتْ لدينا.. وتقديري أن ذلك يرجع للتكلفة الباهظة وعدم وجود مردود مادي لتلك الأعمال وانصراف الجمهور عنها وعدم تشجيع المؤسسات الثقافية لهذا النوع من النشاط.
- ومكان فنون البيرفورمانس فى الحركة المصرية؟
- القويضى: اسهم الفنانون المصريون في استقدام الأشكال الحداثية وتضمينها في حركة الفنون البصرية لدينا، ففي مجال فن البرفورمانس كان الفنان عبد الهادي الوشاحي (1936-2013) أول من قدمه في عمل عرضه في بينالي فينيسيا عام 1980.. عندما جلس داخل قفص عاري الصدر بشعره الكثيف ومعه أشياء مما يحتاجها الانسان العصري وكتب لافتات تقول `ممنوع الدخول` و`ممنوع الانتظار` و`ممنوع الخروج` وصاحب العرض شريطا مسجلا لسمفونية (إرويكا) لبتهوفن متداخلة مع أصوات مسجلة من الشارع المصري، ووضع علي بعد تسعة امتار من القفص تمثالا يصور الإنسان المنكسر المهزوم، وربط رمزيا بين القفص والتمثال ببصمات حمراء لكفيه وقدميه طبعها علي الأرض، ليعطي الانطباع بان الانسان سيخرج من القفص للضياع والانكسار الذي سيصير عليه انسان القرن الحادي والعشرين.. ورغم تحفظ هيئات الدولة والنقاد والجمهور وعدم قبولهم لفن البرفورمانس في الثمانينيات، فقد استكملت المسيرة بعد ذلك باستحياء علي يد بعض شباب الفنانين ومنهم علي سبيل المثال: الفنانة `رشا رجب (1971) والفنان حسام هدهد (1978) لكن لا يشيع البرفورمانسفي يومنا الحالي لانعدام التشجيع من قبل المؤسسات الثقافية والجمهور.
- وفن التجهيز فى الفراغ قوبل كما قوبلت الوسائط الأخرى؟
- القويضى: في الستينيات كانت التجهيزات في الفراغ هي اول صورة من صور الحداثة لتي شاعت في مصر.. بعد التمهيد لها علي ايدي كل من الفنانين (عفت ناجي/ كنعان/ صلاح عبد الكريم) ثم ظهر فريق ادخل التجهيزات في الفراغ ضمن منظومة الاعمال الفنية في مصر ومنهم كل من الفنانين (رمزي مصطفي/ عبد السلام عيد/ فاروق وهبة/ فرغلي عبد الحفيظ/ مصطفي الرزاز/ أحمد نوار/ محمد عبله) وبعدها انفتح الباب امام أجيال اخري شابة طورت شكل التجهيزات في الفراغ باستعانتهم بالوسائط الالكترونية السمعية والبصرية ضمن مكونات العمل الفني بل وأدمجوا أحيانا البرفورمانس كعنصر مصاحب للتجهيز.
- يعتقد البعض ان المفاهيمى هز من مكانة الفن التقليدى داخل المشهد المصرى؟
- القويضى: تعددت اشكال الفنون المفاهيمية وصارت تعرض بجانب الأشكال التقليدية فلم يعد هناك خوف علي اللوحة والتمثال فالوافد الجديد وهو `الحداثة` لم تأت ليحل محل القديم وإنما جاء ليثري المشهد الفني ويضيف اليه..ومما نلاحظه فما زالت اللوحات والتماثيل هي صاحبة الغلبة في المعارض العامة وقاعات العرض.. ولم تختف اللوحات لكنها تطورت وأصبح لكل مصور أسلوبا فريدا خاص به.. فعلي سبيل المثال تتميز لوحات الفنان سمير فؤاد بتسخيره تقنية وضع الألوان علي السطح لتصوير اهتزاز المرئيات.. أما الفنانة نازلي مدكور فقد غاصت في ثنايا الطبيعة النباتية وخرجت علينا بلوحات غير تقليدية.. بينما اتجهت فنانة أخري وهي الفنانة ايفلين عشم الله لتبهرنا بشخصيات فلكلورية اسطورية خزعبلية مصحوبة بكتابات عامية ذات رنين شعبي.. وتتعدد الأمثلة.
- المكان المحايد والمكان الممتد فى الأعمال الحداثية.. اين يوجد الفنان داخل ذلك التمدد؟
- القويضى: انطوت بعض الأعمال الحداثية علي ظروف المكان والزمان.. لقد صار بعضها كالمؤلفات الموسيقية تكتب نوتتها لتعزف في عدة أماكن في نفس التوقيت.. أو في أوقات مختلفة بمثل ما فعله الفنان الأمريكي سول لويت (1928) الذي كان يرسل لقاعة العرض كروكي مرفقا به بيانا بخطوات التنفيذ ليقوم فريق من الفنانين الشباب بإنجاز العمل.. ولقد استخدم الفنان داوستاشي هذا الأسلوب فأرسل بيانا مكتوبا بخطوات تنفيذ عمله `الحق اشرب` وقامت الفنانة ريم حسن بتنفيذه وعرض بالمعرض العام السادس والثلاثون سنة 2014.
- النقد والنقاد فى مصر
- لماذا يتعرض النقاد فى مصر على وجه الخصوص لهجوم هجائى على فترات متقاربه؟
القويضى: النقد في مصر بعافية (كما نقول بالعامية) يلزمه الكثير لينصلح حاله.. صحيح لا يمكن أن نحجر علي الراغبين في الإدلاء بالرأي.. وخاصة وأن وسائل التواصل الاجتماعي وفرت سبيلا لكل من هب ودب في عرض وجهة نظره.. إن قضية النقد في مصر تحتاج الي وقفة وتأمل.
فى الثلاثة عقود الاخيرة مع صالون الشباب تزايد تدريجياً عدد الفنانين الشباب الذين غادروا ملعب الأعمال التقليدية بينما لم يغادر النقاد حتى الآن ملعب الاشكال التقليدية.. هل يؤدى هذا الى عزلة تلك المجالات للميديا المعاصره أم الى عزلة النقد والنقاد؟
- القويضى: يقف الناقد المصري في وقتنا الحاضر حائرا.. هل تنطبق مقاييس الماضي علي الأعمال الحداثية والمفاهيمية؟.. الإجابة بالطبع لا لكنه اذا تفهم تاريخ حركة الفن العالمي وابعاده السياسية والاجتماعية فسيجد من اليسير تقييم تلك الأعمال ونقدها والحكم عليها.. فقد لاحظت بعد انتهاء خدمتي بوزارة الخارجية عام 2000 واستقرارى بالقاهرة متفرغا لنشاطي الفني لاحظت عدم اهتمام من (غالبية النقاد) بالأعمال المفاهيمية الحداثية لعدم معرفتهم بها.. لقد تجمد فكرهم عند المدرستين الواقعية والتأثيرية معتبرين أن الفن يقتصر علي اللوحة والتمثال رافضين أية أساليب غير التقليدية.. ويهاجمون الحداثة علي اطلاقها.. لهذا السبب خطر ببالي كتابة مقالات تشرح الاتجاهات الحداثية وتقدمها بأسلوب سلس فابتكرت الشخصية الافتراضية (الأستاذ ربيع) الذي لجأ لي وطلب مني تعريفه بالجديد في حركة الفنون البصرية العالمية..وقد اسفرت حواراتي مع الأستاذ ربيع عن سلسلة كتابات تضمنت التعريف بالاتجاهات الحداثية وقد نشرتها تباعا بقصد توسيع دائرة المهتمين (فنانين/ نقاد/ متذوقين) وتقريب المفاهيم الفنية المعاصرة.
- إلى أى قدر كفنان وكاتب تقيم حركة نقد الفنون فى الفن المصرى المعاصر؟
- القويضى: حقيقة القليل فقط من النقاد في بلدنا يعتد بكتاباتهم ويعتمد عليهم.. أما الغالبية فينقصهم الكثير من العلم والخبرة.. فلا تخرج كتاباتهم عن مجرد عرض توصيفي للأعمال الفنية.. إن الناقد يحتاج للإلمام بثقافة عريضة متنوعة في شتي مجالات الحياة (سياسية واقتصادية واجتماعية) وعليه دراسة شاملة دقيقة لتاريخ الفن عالميا وداخليا ومراعاة البعد عن الإفراط في المديح أو الهجوم والالتزام في كتاباته بموضوعية محايدة ودون اللجوء لنصوص أدبية ومحسنات لفظية عند تفسيره للأعمال الفنية وتحاشي المفردات والمصطلحات المقعرة التي غالبا ما يتستر وراءها الناقد لإخفاء ضعفه.. كما يجب عدم التعصب لاتجاه بعينه والانفتاح علي كافة الاتجاهات ومن الواجب عدم تسفيه أي عمل فني أو التقليل من شأنه فالجهد المبذول فيه يستحق التقدير حتي لو اختُلِفَ مع المقبول والمتعارف عليه من المجتمع.. ويجب الا ننسي أن التغيير والتطور يتحققان عندما يجرؤ فنان علي كسر القواعد السائدة المتفق عليها.
- الحركة التشكيلية المصرية
- هل ترى حركة الفن المصري رغم حداثتها لا زالت أسيرة اليد فإما مغله لها او قابضة عليها؟
- القويضى: واكب عدد من فناني مصر من داخل الحركة المصريه - بدءا من ستينيات القرن العشرين - التطورات الحداثية العالمية ولم يتخلفوا عنها لكنهم اخذوا بتلك التغيرات بتمهل وحرص،نتيجة عدم تقبل قطاعات واسعة من المجتمع لها لعدم اقتناعهم بها نتيجة الطبيعة المحافظة من جانب الفنانين والنقاد خشية بعضهم من تضرر الموروث الثقافي (الاصالة) بتلك الأفكار والأساليب الجديدة ورغبتهم في تحصين حركة الفن المصري ضد التأثيرات المستحدثة القادمة من الغرب.
- هل المجتمع التشكيلى المصرى بأساتذته وفنونه المتعددة المجالات مؤثر ومنفتح بالفعل ثقافيا وفنيا على كامل المجتمع؟
- القويضى: كانت حركة الفن البصري في مصر تسير كتفا بكتف مع التطورات والتغيرات الفنية العالمية حتي خمسينيات القرن العشرين.. ثم حدث تباعد نتيجة التطورات السياسية والمجتمعية في مصر،فتجمد حماس تطوير النشاط الفني لها.. ولكن رغم هذا التأثيرالسلبي حاول نفر قليل من الفنانين المصريين إحياء الأمل لبث النشاط والتجديد في الحركة الفنية المصرية فأخذوا بأفكار جديدة حديثة ومنهم الفنانة الرائدة عفت ناجي (1905-1994) في مرحلتها الأخيرة.. وكذلك الفنان منير كنعان (1919-1999).. والفنان صلاح عبد الكريم (1925-1992).. لقد مهدوا الطريق أمام فناني أجيال لاحقة.. برز منهم من الفنانين فاروق وهبة (1942-2019) عصمت داوستاشي (1943-2025) رمزي مصطفي (1926-2015) عبد السلام عيد (1943) فرغلي عبد الحفيظ (1941-2023) وأخرين.
- وفي جيل لاحق لهؤلاء الأوائل برز فنانون عبر صالون الشباب.. استأنفوا مسيرة الحداثة ومن بينهم كل من الفنانين:`أمال قناوي (1974-2012) شادي النشوقاتي (1971) أحمد بسيوني (1978-2011)حازم المستكاوي (1965-2024) هاني راشد (1975) وآخرين`.
- هل الحركة التشكيلية المصريه جزء متفاعل إيجابي من نشاط كوزمولوجى حقيقى ام أنها تدور حول نفسها؟
- هذا قول مردود عليه.. إن كل ما وصل اليه الغرب له جذور نبعت في الشرق وعلي وجه الخصوص فى مصرنا الحبيبة فالحضارة البشرية هي سلسلة حلقات متصلة بدأت حلقاتها الأولي لدينا وأذكر خلال خدمتي بسفارتنا بواشنطن كنت أعبر بسيارتي كل يوم نهر البوتوماكف يذكرني بنهر النيل وأجد أمامي علي الضفة المقابلة مبني النصب التذكاري للرئيس لينكولين، المقام بشكل يشبه معبد الأقصر، وعلي مدى البصر من جهة اليمين يقع النصب التذكاري للرئيس جورج واشنطن علي هيئة مسلة مصرية ضخمة، تلك الحقيقة تؤكد أن عاصمة الحضارة الإنسانية المعاصرة لم تجد أبلغ وأصدق ما تخلد به زعمائها سوي رموزا من حضارتنا القديمة.
- فلا داعى إذن لخشية الأخذ بالاتجاهات الحداثية التي قَدُمَتْ الينا عبر الغرب فالحقيقة إنها لا تخرج عن كونها بضاعتنا ردت الينا بعد الإضافات والتطورات التي لحقت بها عبر حلقات السلسلة الحضارية المتصلة.
بقلم :فاطمة على
جريدة: القاهرة 7-10-2025