Page 21 - Ahmed- Nawar
P. 21
دفعتـه هـذه الحالـة للتعبـر عنهـا فـي عمـل فنـي " "اسـتعداد وترقـب "‪ ، 1968‬يصـور فيهـا مسـاحة محتشـدة بالوجـوه وقـد تحولـت‬
‫فيهـا العيـون إلـى فوهـات بنـادق ومدافـع‪ .‬شـارك بالعمـل فـي معـرض دولـي بإسـبانيا " بينالـي إي�بيثـا الدولـي" فـي بدايـة عـام‬
‫‪ 1968‬وفـاز العمـل بالجائـزة الأولـى وبـدأ التجهيـز للسـفر واسـتلام الجائـزة التـى كانـت تشـمل مبلغـ ًا ماليـا وميداليـة تذكاريـة بجانـب‬
‫منحـة دراسـية لمـدة أربـع سـنوات بإسـبانيا ‪ ،‬وكان قـد تخـرج مـن الكليـة وعـن معيـد ًا بهـا وانتهـاء تاريـ�خ ت�أجيـل تجنيـده ‪ ،‬وفـي طريقـه‬
‫لإنهـاء اجـراءات السـفر واحضـار موافقـة القـوات المسـلحة علـى السـفر وبوصولـه لمنطقـة التجنيـد بالإسـكندرية تـم اعتبـاره مجنـد ًا‬
‫مـن تلـك اللحظـة ‪ ،‬ارتـدى زيـه العسـكري و تسـلم متاعـه ومعداتـه وألغـي سـفره لاسـتلام الجائـزة ومنحتـه الدراسـية ‪ .‬وانضـم بعـد‬

‫تدري�بـه إلـى " سـاح القناصـة " ليصبـح قناصـ ًا بارعـ ًا ‪ ،‬وليدخـل نـوار بعدهـا معـرك ًا أخـر بـدأ معـه يـرى العالـم مـن فوهـة بندقيتـه ‪.‬‬

‫عنــد وصولــه للجبهــة كجنــدي قنــاص تعمقــت مفاهيمــه حــول الحــرب‪ ،‬إن تلــك الحــرب التــي اكتشــفها فــي قريتــه ثــم عــر قراءاتــه‬
‫فـي المرحلـة الجامعيـة تختلـف عـن الحـرب التـي عاشـها و واجههـا علـى الجبهـة جـزء ًا مـن آلتهـا القاسـية وهنـا تقـوده ت�أملاتـه‬
‫لمـا أسـماه " قانـون الظلـم" الـذي كان يبحـث مـن خلالـه عـن العـدل وحقـوق الإنسـان ‪ .‬العبقريـات التـي تصنـع أدوات الدمـار بـدلا مـن‬
‫صناعـة أدوات الحيـاة ‪ ،‬و ُتدخـل الإنسـان فـي حلقـة مفرغـة ليتـورط الجميـع فـي لعبـة الحـرب فالظالـم يسـتخدم السـاح والمظلـوم‬
‫أيضـ ًا يسـتخدم السـاح ولا سـبيل لدحـر السـاح إلا بالسـاح‪ .‬مـن هنـا تحـول الفنـان المرهـف الحـس إلـى قنـاص يحركـه معنـى الثـ�أر‬
‫للمظلـوم مـن الظالـم ‪ .‬ألتصـق نـوار بسـاحه وأصبـح القنـص عنـده حرفـة مقدسـة فـي قضيـة المواجهـة مـع العـدو الصهيونـي ‪،‬‬

‫لقـد اندمـج تمامـ ًا فـي قضيتـه حتـى نسـي قريتـه ومدينتـه وكل مـا هـو خـارج سـاحة القتـال‪.‬‬

‫وهكـذا عـاش نـوار قضيـة الحـرب باحثـ ُا عـن أفـق إنسـاني يدعـم المظلومـن وضحايـا الحـروب ‪ ،‬حتـى وصفـه بعـض النقـاد الإسـبان بأنـه‬
‫" أسـر الحـرب" مـرة ‪ ،‬و" مطـوق الحـرب " مـرة أخـرى ومـازال نـوار مختزنـ ًا لفكـرة الحـرب التـي أثـرت معطياتهـا علـى مفـردات الصـورة‬
‫عنـده بدايـة مـن معرضـه عـن الحـرب الـذي أقامـه عـام ‪ 1970‬فـي نفـس عـام انتهـاء خدمتـه بالقـوات المسـلحة والـذي ضـم سـبعين‬
‫عمـاً مسـتعين ًا ببعـض الشـظايا التـي اسـت�أذن فـي اصطحابهـا مـن الجبهـة لت�كـون جـزء ًا مـن هـذه التجربـة الفنيـة ‪ .‬لقـد تحولـت الشـظايا‬
‫وهـي الدمـار نفسـه إلـى تماثيـل ضـد الدمـار ‪ ،‬والحقيقـة أن نـوار غـادر الجبهـة بجسـده بينمـا لـم تغادرهـا روحـه ‪ ،‬وظـل محتفظـ ًا‬
‫بـروح المقاتـل وظلـت أعمالـه سـاحات يعلـى فيهـا شـأن الوطـن ويقـدم فيهـا قضايـاه بـأداة القتـال التـي يملكهـا ولا تشـيخ ‪ ،‬التـي‬
‫لاتحدهـا فـرة تجنيـد أو موقـع معركـة ‪ :‬فنـه الـذي حملـه بقضايـا الوطـن ونسـتطيع ت�تبـع ذلـك بيسـر مـن خـال عناويـ�ن معارضـه "‬
‫جبـل أبوغنيـم ‪ ،‬الشـهيد ‪ ،‬الحـرب والسـام ‪ ،‬وأسـماء لوحاتـه ومنحوتاتـه الميدانيـة ( تمثـال الحريـة ‪ ،‬تمثـال الإرادة ‪ ،‬تمثـال التحـدي )‬

‫وأعمالـه التجهيزيـة ( فلسـطين ‪ 54 ،52‬عـام مـن الاحتـال ) وكذلـك أفلامـه ( العبـور ‪ ،‬الصراعـات والأحـام ‪ ،‬فلسـطين ) ‪.‬‬

‫إن ذاكـرة الحـرب لـم تفـارق نـوار حتـى الآن ؛ لقـد جعلتـه يـرى فـي كل مشـهد ليلـي الكتلـة السـوداء لموقـع الديفرسـوار وفـي كل‬
‫مجـرى مائـي قنـاة السـويس‪ ،‬وجعلـت مـن جميـع أحـداث الحـرب شـريط سـينمائي فـي عـرض موصـول لا ينقطـع مـن ذاكرتـه صـورة‬
‫وصوتـ ًا فقـد احتفـظ نـوار بحاسـة المقاتـل فـي تمي�يـز الأصـوات بـل واسـتقبالها عنـد لحظـة صدورهـا رنانـة مـن مصدرهـا‪ ،‬تلـك الحاسـة‬
‫الســمعية الفائقــة التــي اكتســبها مــن ترقــب غــارات الطــران وأصــوات القنابــل والرصــاص الطنانــة‪ ،‬والتطــور فــي درجــات الصــوت‬
‫وشــدته وقــراره كصــوت الدانــة منــذ خروجهــا مــن ماســورة المدفــع واختراقهــا الهــواء مقتربــة حتــى تســقط علــى الأرض‪ .‬تحولــت‬
‫أصـوات الحيـاة العاديـة إلـى معمعـة مـن الفـزع وأصبـح الليـل مرتعـ ًا للكوابيـس السـوداء‪ .‬إن الخـوف الـذي كبتـه ومنـع نفسـه مـن‬
‫الإستسـام لـه أثنـاء فـرة تجنيـده تحـول لحالـة مرضيـة وإحسـاس دائـم بمطـاردة المـوت ‪ ...‬إنهـا تبعـات الحـرب التـي لـم تفـارق نـوار‬

‫لسـنوات عديـدة ‪.‬‬

‫لـم يكـن سـرد قصـة الحـرب فـي حيـاة نـوار بهـدف التعريـف بـه كقاتـل وقنـاص بـارع أقـض مضجـع أعدائـه وشـهد قـواده بشـجاعته‬
‫وتفوقـه بـل لطـرح ت�أثـر حيـاة الحـرب علـى تجربتـه كفنـان وهـذا مـا سـنوجه إليـه بعضـا مـن الإشـارات الاجتهاديـة‪.‬‬

‫بين ذاكرة الحرب وذاكرة اللوحة‬

‫وضعـت الحـرب نـوار فـي حقلهـا الخـاص بمفاهيـم جديـدة للمـوت والحيـاة ‪ ،‬وزرعت في ذاكرته أشـكالا جديدة ارتبطت بكل مكان عايشـه‬
‫وبـكل زاويـة راقبهـا بدقـة وبـكل تفصيليـة فـي سـاحه ‪ ،‬كان تلسـكوب البندقيـة هـو البلـورة السـحرية التـي يـرى مـن خلالهـا العالـم‬
‫‪ ،‬علمتـه بندقيـة القنـص حسـاباتها المعقـدة و جبلتـه علـى التنظيـم الدقيـق ‪ :‬المسـافة ‪ ،‬البـؤرة ‪،‬الاتجـاه ‪ ،‬حسـبة الريـاح ‪ ،‬وحسـبة‬
‫حركـة الهـدف‪ ،‬ضبـط محـور تلسـكوب مـع محـور ماسـورة البندقيـة ‪ ،‬دقـة انضبـاط السـاح فـي مركـز الهـدف وسـرعة اتخـاذ القـرار‬
‫والجاهزيـة بعـد تدريـب بصـري حـاد تسـتلزمه مراقبـة دقيقـة لموقـع العـدو وفـك شـفرات تمويهاتـه المتبدلـة والمتطـورة دومـا‪.‬‬

‫لقـد أثـرت تلـك المواقـف علـى ضبـط مفـردات عملـه الفنـي ؛ فالأشـكال عنـده كتـل محـددة بدقـة لكنهـا تفيـض مـن الداخـل كعاطفـة‬
‫يسـيجها العقـل ‪ ،‬فقـد كان عليـه كقنـاص أن يضبـط مشـاعره ويفتـح قنـاة الاهتمـام فـي عقلـه علـى هـدف واحـد فقـط حتـى ولـو‬

‫اشـتعل المـكان مـن حولـه بالقصـف والانفجـارات ودانـات المدافـع وألسـنة النـران ‪ :‬أي قـوة تلـك التـي يسـتلزمها هـذا الفعـل‪.‬‬
‫ونجـد ملمحـ ًا مشـرك ًا فـي العديـد مـن أعمـال نـوار المرتبطـة بموضوعـات الحـرب والصـراع أن الت�كويـ�ن فيهـا يتخـذ شـكل كتلـة مركزيـة‬
‫محوريـة تعتمـل داخلهـا مفـردات العمـل وعلاقاتـه؛ تمامـا مثلمـا كان يـرى الأشـياء مـن خـال تيلسـكوب بندقيتـه‪ ،‬إذ تقتضـي حالـة‬

‫‪19‬‬
   16   17   18   19   20   21   22   23   24   25   26