Page 33 - Ahmed- Nawar
P. 33
عندمـا يقـدم لهـا فـي بدايـة العمـل بمسـاحات صريحـة مـن الضـؤ والظـل الـذي يتجـه إليهـا ‪ .‬وحتـى فـى تعامـل الفنـان مـع المشـاهد‬
‫التـي تقـوم فقـط علـي تصويـ�ر العمائـر التقليديـة بجـدة يختـار أحدهـا ليصبـح هـو قائـد المشـهد ثـم يبـدأ فـي تهدئـة الأجـواء مـن‬
‫حولـه‪ .‬إن الفنـان لايرغـب لنـا أن نـرى الأشـياء كلهـا فـى ذات التوقيـت وبنفـس القـوة حتـى لات�تحـدد رؤيتنـا للعمـل بميـزان واحـد وإلا‬
‫فقدنـا إحساسـنا بالعمـق والإمتـداد وأبعـاد المـكان وفقدنـا معهـا أبعـاد الزمـان أيضـ ًا فـي حـن كان الفنـان حريصـ ًا علـى وجودهمـا‬

‫معـ ًا فـي آن واحـد دومـ ًا ‪.‬‬

‫وفـي مشـهد أخـر يذكرنـا بمشـهد وقـوف الحجيـج علـي جبـل عرفـات ت�تحـرك العـن مـن الجبـل الداكـن أعلـى اليسـار إلـى جبـل الحجيـج‬
‫الـذي تناثـروا فوقـه بكثافـة ثـم إلـي حركـة خـط قوسـية تشـدنا نحـو السـماء فـي موائمـة بـن الرمـز والشـكل كأنـه يشـر ببلاغـة‬

‫لحتميـة العـودة للسـماء مـرة أخـرى ‪.‬‬

‫وكظاهــرة غالبــة فــي مشــاهد نــوار الطبيعيــة نجــد فــي الخلفيــات طبقــات مــن المشــهد تــ�تاوح بــن التحقــق والوجــود وبــن‬
‫التلاشـي والذوبـان وصـولاً لأن يتحلـل وجودهـا لمجموعـة مـن الخطـوط الدقيقـة الواهيـة التـي ت�تحـول لخيـالات بصريـة تبـدو كأنهـا‬
‫تـ�تاءى لنـا فـى الذاكـرة البعيـدة ‪ ،‬فننتقـل بذلـك مـن البنيـة الراسـخة فـى مقدمـة العمـل إلـى البنيـة الضبابيـة الأثيريـة فـي خلفيتـه‬
‫ذهابـ ًا وإيابـ ًا ممـا يتيـح لـه تقديـم صيغـة بصريـة للإحسـاس بالمـكان دون إفسـاد للمشـهد بمنظـور مخروطـي يخـرق عمـق الصـورة‬

‫ويكسـر المـدى الأفقـي الممتـد للمشـهد ‪.‬‬

‫وفـي أعمـال أخـرى فـي هـذه التجربـة نجـد الفنـان يسـتخدم طريقـة الأنهـر العرضيـة أو السـجلات كمـا اسـتخدمها الفنـان المصـري‬
‫القديـم ‪ ،‬علـى سـبيل المثـال فـي مشـهد خيـم الحجيـج نجـدة يتنـاول المشـهد مـن زاويـة رؤيـة مرتفعـة ويقسـمه لمجموعـة مـن‬
‫الأنهـر العرضيـة غـر المباشـرة تحتضـن الشـكل الهرمـي للخيمـة والجبـل لت�تحـرك العـن فـي المشـهد متجولـة برحابـة كـرى خاصـة مـع‬

‫وجـود بعـض الخطـوط والأشـكال المائلـة التـى ت�أخذنـا بصـورة غـر مباشـرة لعمـق العمـل ‪.‬‬

‫وفـي مجموعـة مشـاهد نـوار " رسـوم الصـن " نتذكـر الرؤيـة الشـرقية للطبيعـة تلـك الرؤيـة التـي نمـت و تطـورت عـر المفاهيـم‬
‫الروحيــة التــي طرحتهــا الطاويــة والبوذيـــة التــي ســعت دائمــا لربــط عناصــر الطبيعــة وتفاصيلهــا بدلالاتهــا علــى مغــزى الحيــاة‬
‫والانسـجام الكونـي الشـمولي الـذي يربـط الإنسـان فـي علاقـة جدليـة بالمنظومـة الكونيـة ككل ‪ ،‬وأكـدت علـى الصـات بـن البشـر‬
‫والطبيعـة ولـم تميـز بـن الإنسـان والطبيعـة أو الحــيوان والجمـاد ‪ ،‬وكانـت تـرى أن كل شـئ حتـى الصخـور والأحجـار تسـرى فيــها‬
‫الحــياة ‪ .‬تلـك الصـات التـي لا يمكـن التعبـر عنهـا بشـكل أحسـن ممـا هـو فـي تصويـ�ر المناظـر الطبيعيـة ‪ .‬مـا دامـت الطبيعـة نفسـها‬

‫رمـز ًا بالـغ الوضـوح لهـذا الكـون ‪.‬‬

‫وت�تضـح لنـا تلـك الرؤيـة فـي المشـاهد الصينيـة للفنـان حيـث تصـور العمـارة الصينيـة القديمـة ت�توسـط الهضـاب كمنحوتـات متصلـة‬
‫مـع عناصـر الطبيعـة لات�تنافـر معهـا بـل يكونـا معـا وحـدة مت�كاملـة ‪ ،‬ويدمجهـا أيضـ ًا اشـراكها معـ ًا فـي المعالجـة الخطيـة والظليـة‬
‫بالأبيـض والأسـود ‪ .‬وكذلـك ت�تضـح فـي المنـازل الصينيـة العتيقـة التـي رسـمها الفنـان مزروعـة داخـل الجبـال ت�تخـذ سـالمها فـي‬
‫الأوديـة والممـرات الجبليـة ‪ ،‬تحيطهـا الأشـجار والنباتـات الوارفـة ‪ ،‬تسـتقبل ضـوء الشـمس السـاطع وتظلهـا السـموات الواسـعة‬
‫فيصبـح سـكن الإنسـان فـي قلـب الطبيعـة يسـمع أصواتهـا ونداءاتهـا الأبديـة ويسـتعيد صلتـه بهـا ويندمـج مـع روحهـا التـي تبثهـا‬
‫فــي جميــع الموجــودات ‪ .‬وهنــا نتذكــر مقولــة ووســيوس وونــج " إن الفنــان لــم يســتهدف مــن تصويــ�ر المنظــر الطبيعــى مجــرد‬

‫المشـاهدة ولكنـه كان يسـتهدف حـث المشـاهد علـى ارتيـاد رحلـة روحيـة لـم يكـن الغـرض هـو أن يـرى اللوحـة بـل أن يقرأهـا " ‪.‬‬

‫لقــد قــدم نــوار مشــاهدا خاليــة مــن الهفــوات فهــو يدعــو المشــاهد للدخــول فــى اللوحــة والتجــول فــى ممراتهــا ‪ ،‬وفــى كل‬
‫مـرة يشـاهد اللوحـة كانـت هـذه المشـاهدة ت�أخـذ شـكل رحلـة جديـدة لاكتشـاف المـكان مقرونـا بارتباطاتـه الروحيـة ‪ .‬و نسـتطيع أن‬
‫نقـول الكثـر عـن الجانـب التقنـي فـي تجربـة الفنـان وامتلاكـه لقـدرات مهاريـة كبـرة كمـا أسـلفنا ‪ ،‬إلا أننـا يجـب أن نشـر لجانـب آخـر‬
‫أكـر أهميـة وهـو أن هـذه المهـارة قـد ارتبطـت بتنـاول ذي صبغـة تجريديـة علـى الرغـم ممـا يبـدو ظاهريـ ًا مـن واقعيـة للمشـهد‬
‫المرسـوم ‪ ..‬فهـو يحـاول أن يخلـص المشـهد مـن التفاصيـل الماديـة الزائـدة ليقتصـر علـى أنقـى سـماته حتـى يعـرض العالـم المـادى‬
‫فـى إي�جـاز بـدلاً مـن هيئ�تـه الواقعيـة‪ ،‬وهـو يبـذل جهـد ًا إبداعيـا موازيـا ليربـط نفسـه مـن كل النواحـى بمـا يرسـمه حتـى يصـل إلـى‬

‫جوهـره ‪.‬‬

‫إن أحمـد نـوار يلتقـط مـن المشـهد الواقعـي مـا يـراه جديـر ًا بالحيـاة داخـل أعمالـه ومـا هـو فاعـل فـي بنيـة العمـل التـي قامـت‬
‫بشـكل أساسـي علـى الاحتفـاظ بالجوهـر الثابـت للأشـياء بعيـد ًا عـن العـوارض المتغـرة ‪ ،‬إنـه يقـوم بعمليـة إزاحـة لـكل مـا هـو مـن‬
‫شـأنه أن يعيـق اتصالنـا بالمـكان كمـا أراد أن يطرحـه علينـا لنصبـح وكأننـا نـراه للمـرة الأولـى ‪ .‬وفـي النهايـة نسـتطيع أن نقـول أن‬
‫الشــطوط الممتــدة لفكــرة التجريــد تصــل بنــا لتلــك المشــاهد التــي لايمكننــا أن نراهــا فــي الطبيعــة بشــكل مباشــر بــل نراهــا فقــط‬
‫عندمـا يقـوم الفنـان بذلـك الإنتقـاء الواعـي فيخلـع عليهـا سـحر ًا خاصـ ًا ينقـل لنـا حالـة مـن الحبـور والمتعـة فـي ت�أمـل مشـهد يتوسـط‬

‫المنطقـة التـي تقبـع مـا بـن جغرافيـا المـكان وجغرافيـا الـروح ‪.‬‬

‫‪31‬‬
   28   29   30   31   32   33   34   35   36   37   38